يأتي أداء العبادات المستحبة سياجا يحمي العبادات المفروضة ويقويها، ويجعل الشيطان أكثر يأسا من الوسوسة للمسلم بتركها أو إهمالها، فمن كان على المستحبات حريصا كان على الفرائض أحرص، وتكون كذلك وسيلة تقرِّب العبد من ربه عزّ وجّل، وتجبر ما يقع في الفرائض من نقص أو سهو أو خطأ، يخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك فيقول:
«إنَّ أوَّلَ ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاتُه، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئاً، قال الرب تبارك وتعالى: انظروا، هل لعبدي من تطوُّع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك».[1]
إلا أنه ينبغي التنبه إلى عدم الاشتغال بالنوافل عن الفرائض والواجبات، فلا يصح الاشتغال بالنوافل فقط وإهمال الفرائض، كما لا يليق الاستغناء بالفرائض عن السنن والنوافل، ولكن الصواب بذلُ الجهد لأداء العبادات النافلة في طمأنينة إلى جانب إيفاء الفرائض حقها، ثم إن تطبيق النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في حياتهم فريد في هذا الشأن.
ومن ناحية أخرى فمن غير اللائق بالمسلم ترك النوافل بحجة الاشتغال بقضاء الفرائض، إذ إن الفرائض يمكن قضاؤها على مدار اليوم عدا أوقات الكراهة[2]، في حين أن بعض الصلوات المستحبة كالتهجد والضحى والأوَّابين ينبغي أن يكون المرء على بصيرة في أدائها لتعلقها بأوقات معينة. [3]
ولا يتقرب العبدُ إلى ربه بعملٍ كتقرُّبه إليه بالفرائض، لكنه لا ينال درجة المحبة بشيء كما يناله بمحافظته على النوافل، يقول عليه الصلاة والسلام:
«إن اللّه قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه».[4]
فالعبادات المستحبة تحافظ على شعور العبودية حياً، وتهفو بالروح دوما في ملكوت بارئها، وتكسب الوجه نوراً وملاحة، ومن يواصل أداء النوافل بالخشوع والسكينة وتيقُّظ القلب يقوى إيمانه بربه ويشتد شوقه إليه، ومما لا شك فيه أن السعادة والسرور في الآخرة تتحقق على حسبه.
صور الفضائل
كانت أيام النبي عليه الصلاة والسلام ولياليه فياضة بأنواع العبادات المستحبة، كالسنن التي كان يصليها قبل وبعد الفرائض، وكصلاة التهجد التي يداوم عليها في الأسحار، وكالذكر والتفكر وقراءة القرآن الكريم كل يوم، وكصلوات الضحى والأوابين، وكصوم النافلة، وكالإنفاق في وجوه البر المتنوعة، فقد كانت كلها علامات على الحضور مع الله تعالى في كل آن، وكان عليه الصلاة والسلام إن فرح أو وصله ما يسره يخر ساجداً [5]ويصلي شكراً منه على منَّة الله تعالى، [6]وكان سرعان ما يقف للصلاة إن عرضت حوادث خارقة للعادة ككسوف الشمس وخسوف القمر أي أمام تجلي عظمة الله تعالى، [7]وكذلك يلجأ إلى الصلاة إن كانت له حاجة، ثم إن شهر رمضان الكريم يكتسب روحانية مختلفة بعبادات مخصوصة كصلاة التراويح والاعتكاف والإنفاق، إلى جانب حرصه على صيام النوافل بعد رمضان، وخاصة يومي الاثنين والخميس، وأما السبب فيوضحه في الحديث التالي:
«تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».[8]
وقد اهتم بصيام الأيام البيض من كل شهر قمري وهي (13، 14، 15)، وأوصى أصحابه بصيامها، يذكر ابن عباس أن: «رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لا يَدَعُ صومَ أيامِ البيض في سفرٍ ولا حَضَر».[9]
وكان عليه الصلاة والسلام يصوم ستة أيام من شوال، [10]ويصوم التاسع والعاشر من محرم أو العاشر والحادي عشرة وهو ما يسمى صيام عاشوراء. [11]
إلى جانب هذا كان فخر الكائنات عليه الصلاة والسلام في حالة ذكر دائمة لله تعالى، لا يفتر لسانه عن الحمد والتسبيح والاستغفار، ويذبح الأضاحي عن نفسه وعمن لا يطيق من أمته. [12]
يقول ربيعة بن كعب رضي الله عنه: «كنت أبيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: “سَلْ“. فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: “أو غير ذلك؟” قلت: هو ذاك، قال: “فأعني على نفسك بكثرة السجود“».[13]
والمقصود من السجود الصلاة عامة، وبناء عليه يلزم من يريد مجاورة حبيب الله تعالى عليه الصلاة والسلام في الجنة أن يكثر من الصلاة، وزيادة السجود الذي يعتبر أوقات يتقرب العبد فيها من الله تعالى، ثم إن مكانة النبي عليه الصلاة والسلام في الجنة مقامٌ عال يفوق مكانة الأنبياء عليهم السلام، وحسبما فُهم من الحديث يجب تأدية الوظائف التي ألزمتها السنة الشريفة وخاصة الإكثار من أداء الصلاة في خشوع للفوز بقرب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الجنة.
قالت أم حبيبة رضي الله عنها: قال صلّى الله عليه وسلّم:
«من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة بُني له بيت في الجنة ».[14]
بعد أن سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما تركتها.
روي أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لما فتحنا خيبر أخرجوا غنائمهم من المتاع والسبي، فجعل الناس يتبايعون غنائمهم، فجاء رجل حين صلى رسول الله، فقال: يا رسول الله لقد ربحت ربحا ما ربح اليوم مثله أحد من أهل هذا الوادي.
قال: “ويحك، وما ربحت؟”
قال: ما زلت أبيع وأبتاع حتى ربحت ثلاث مائة أوقية [15]، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
“أنا أُنبئك بخير رجل ربح”
قال: ما هو يا رسول الله؟
قال: “ركعتين بعد الصلاة”».[16]
وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد أرسل سرية فرجعوا بغنائم وفيرة في فترة قصير، فقال أحدهم إثر ذلك:
«بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثا فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة، فقال رجل: يا رسول اللّه، ما رأينا بعث قوم أسرع كرة، ولا أعظم غنيمة، من هذا البعث، ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:
«ألا أخبركم بأسرع كرة وأعظم غنيمة من هذا البعث؟ رجل توضأ في بيته فأحسن وضوءه، ثم تحمل إلى المسجد، فصلى فيه الغداة، ثم عقب بصلاة الضحى، فقد أسرع الكرة، وأعظم الغنيمة».[17]
يقول ابن عمر رضي الله عنه:
«قُلْتُ لأبي ذر: يا عمَّاه، أوْصِني. قالَ: سألْتني عمّا سألتُ عنْهُ رسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالَ:
“إن صليتَ الضُّحَى لَم تُكَتَبْ مَن الغافِلينَ، وإنْ صليتَ أرْبعًا كُتبْتَ منَ العابِدينَ، وإِن صليت سِتًا لَم يلْحقكَ ذَنب، وإِنّ صلَّيتَ ثمانيًا كُتبتَ مِنَ القانِتين، وإنْ صلَّيتَ اثِنتي عَشرة ركعة بنُي لكَ بيت في الجنة، وما من يومِ ولا ليلةٍ ولا سَاعةٍ إلا وللهِ فيه صدقةٌ يمنُّ بها على مَنْ يشاءُ من عبادِه، وما مَنَّ على عبدٍ بِمثْلِ أنْ يُلهِمَهُ ذكِرهْ“. [18]
يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
«إنَّ في الجنة باباً يقال له: الضحى، فإذا كان يوم القيامة، نادى منادٍ: أين الذين كانوا يديمون على صلاة الضحى؟ هذا بابكم، فادخلوه برحمة الله عزّ وجّل ».[19] . [20]
إنَّ صلاة ركعتين بعد كل وضوء أو غسل -شكرا للّه تعالى على نعمة الإسلام ومِنَّة الطهارة- فعلٌ حميد وحسن يثاب عليه المسلم ويؤجر. لقد قال سيدنا عثمان رضي الله عنه بعدما توضأ –وهو يعلم الناس-:
«رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم ركع ركعتين لم يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه».[21]
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لبلال عند صلاة الفجر:
“يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملتَه في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة”.
قال: ما عملت عملا أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورا، في ساعة من ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي».[22]
فقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام أن بلالا يمشي أمامه في الجنة، [23]وقد أرى الله تعالى النبي عليه الصلاة والسلام هذه الرؤية تعليما لنا فضيلة صلاة النافلة.
قال أبو قتادة رضي الله عنه: «دخلت المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس بين ظهراني الناس، قال: فجلست، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟”، قال: فقلت: يا رسول الله رأيتك جالسا والناس جلوس؟ قال:”فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين“».[24]
وكان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يسارعون إلى صلاة النافلة إن عرضت حاجة أو أمر يهمُّهم، فعن ثابت، قال: كنت مع أنس رضي الله عنه فجاء قهرمانه، فقال: عطشت أرضنا، قال: فقام أنس فتوضأ، وخرج إلى البرية فصلى ركعتين ثم دعا، فرأيت السحاب تكتام، قال: ثم مطرت حتى ملأت كل شيء، فلما سكن المطر، بعث أنس بعض أهله فقال: انظروا أين بلغت الماء، فنظروا فلم تُعَدِّ أرضه إلا يسيرا..[25]
وقد انعكس اهتمام الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- بالنوافل على أولادهم، تقول ربيعة بنت معوذ رضي الله عنها عن صوم عاشوراء:«فكنا نصومه بعد، ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار».[26]
وختاما فإن الفرائض عبادات يلزم العباد تأديتها كحد أدنى، إلا أنه ينبغي عليهم مواصلة المستحب من العبادات وزيادتها حسب إمكانياتهم سواء في اليسر أو العسر بقصد التقرب من ربهم تعالى وشكره على النعم التي مَنَّ بها عليهم، لأن العبادة في أصلها هي المثول بين يدي الله، وهذه العبادات تحلق بالمؤمن في العوالم الروحية وتملأ القلوب المؤمنة بالتجليات الربانية والمنح الإلهية.
فما يبذله العبد من جهد في أداء المستحب من العبادات يرتقي به إلى درجة الإحسان التي تجعل العبد يعيش مع ربه في كل آن.
إن أداء النوافل تعبير حقيقي عن حكمة خلق الإنسان والغاية من إيجاده ألا وهي العبادة، ولذلك كانت أهم زاد للآخرة.
[1] الترمذي، الصلاة، 188/ 413.
[2] انظر: الهداية للمرغيناني فصل في الأوقات التي تكره فيها الصلاة ص 50.
[3] يؤكد مجتهدو مذهب الحنفية على عدم ترك السنن، لكن إن وصلت السن إلى حدٍ عجز معه عن أداء الفرائض والسنن، يمكن حينها أداء الفرائض بدل السنن.
[4] انظر: البخاري، الرقاق، 38، أحمد، 5، 256، الهيثمي، 2، 248.
[5] سجدة الشكر كسجدة التلاوة، فيشرع فيها بالنية متوضئاً، ويكبر بقول الله أكبر من غير رفع للأيدي، وينحني للسجود، وتكون السجدة طويلة قدر الإمكان، وبعدها يقوم.
[6] ابن ماجة، الصلاة، 192.
[7] البخاري، الكسوف، 2 ـ 4؛ ابن حبان، الصحيح، بيروت 1993، 7، 68، 100.
[8] الترمذي، الصوم، 44/ 747.
[9] النسائي، الصوم، 70.
[10] مسلم، الصيام، 204.
[11] مسلم، الصيام، 115.
[12] ـ أبو داوود، 3 ـ 4/ 2792، ابن سعد، 1، 249.
[13] مسلم، الصلاة، 226.
[14] مسلم، المسافرين، 103.
[15] أوقية: مقياس قديم للوزن والقيمة يقابل 1283غراماً.
[16] أبي داود، كِتَابُ سُجُودِ الْقُرْآنِ، بَاب تَفْرِيغِ أَبْوَابُ السُجُودِ وَكَمْ سَجْدَة رقم الحديث: 2407.
[17] ابن حبان، 6، 276/ 2535.
[18] المالكي، جمع الفوائد، 2211؛ الهيثمي، 2، 236؛ علي المتقي، 7، 809/ 21511.
[19] السيوطي، 1، 355/ 2323.
[20] يمكن تأدية صلاة الضحى من وقت إضاءة الشمس النهار بعد مرور ربع اليوم من أرباعه الأولى إلى أن تكون في وسط السماء وقت الزوال.
[21] البخاري، الوضوء، 24.
[22] البخاري، التهجد، 17، التوحيد، 47؛ مسلم، فضائل الصحابة 108.
[23] انظر: البخاري، أصحاب النبي، 6.
[24] مسلم، المسافرين، 70.
[25] ابن سعد، 5، 21 ـ 22.
[26] البخاري، الصوم، 47؛ مسلم، الصيام، 136.