-ألتون أولوق: يُفهم مما ذكرتموه بوضوح أن أسلوب التصوف له أهمية في تبليغ الإسلام. وفى تلك الحال فلو سألنا ما هو سر ثمرة أسلوب التصوف في إعطاء نتائج إيجابية كثيرة في تبليغ الإسلام، وإكمال وهداية الناس بالتوازي مع تبليغ الإسلام؟
-المؤلف: إن الجانب المهم للتصوف في يومنا الحاضر هو أنه أسلوب ومنهج يمكن اتباعه وتطبيقه في إصلاح البشر. فالأحكام الظاهرة للشرع الشريف غايتها حفظ الناس ووضعهم على صراط الله المستقيم سواء بالعقاب أو الثواب في الدنيا والآخرة.
أما التصوف الذي يمكن أن نسميه الأحكام الباطنية فهو يستعمل المحبة والشفقة والحب -إضافة إلى الثواب والعقاب- لتحقيق تلك الغاية. والبشر في عصرنا يعيشون في أزمة روحية بسبب ابتعادهم عن الدين، وارتكابهم المعاصي طاعة لشهواتِهم في أغلب الأحيان، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن إمكانية إصلاح هؤلاء ونجاتهم يمكن أن تتحقق أكثر بالعفو والتسامح والشفقة.
ومن هذه الناحية فإن عصرنا هو عصر تحمل فيه الحقائق الصوفية أهمية كبيرة، كما تحمل القواعد التي تتناول أسلوبه وأصوله القدر ذاته من الأهمية.
ومثلما يوجد في بلادنا من ينظر بالعفو والتسامح والشفقة، فإنه يمكن أن نشاهد في عالم الغرب توفيقًا ونجاحًا أكثر في أية فتوحات معنوية. وبدلاً من تقديم الإسلام -الذي هو نفحة تجلي إلهي- بنية العقاب والغضب إلى الأرواح المتأزمة تحت سلطان العقل والنفس في الغرب، فإن المنهج الأكثر نورانية في كل وقت أن تعرض لهم السلوكيات الممتلئة بالشفقة والرحمة.
لأن الإنسان ينال شرف كونه إنسانًا على قدر قربه أو بعده من الغاية الحقيقة التي خلق من أجلها. وإن الإنجرار من العظمة التي في جوهرالإنسان وفطرته إلى مستنقع الذنب هو تمامًا مثل سقوط الحجر الأسود الذي في الكعبة المشرفة ليختلط بتراب الأرض وغبارها. ولا يمكن أن نتصور أن يبقى وجدان أي مؤمن هادئًا أمام سقوط ذلك الحجر ولا يثور لها وينفجر غضبًا. وسقوط الحجر الأسود لن يصرف المؤمنون نظرهم عن احترامه، ولا يقلل أدنى درجة من قيمته في نظر المؤمنين.
بل على العكس فإن المؤمنين يفصلونه عن تراب الأرض، وينظفونه بدموع عيونهم ويتسابقون مع بعضهم من أجل وضعه في مكانه العالي القديم بكل الإحترام والتبجيل.وهذا الإحترام والتبجيل لذلك الحجر الذي ينبع من أنه قد هبط من الجنة، فما بالكم بالإنسان الذي حمل أسرار:
{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} (الحجر، 29)
والذي هو بؤُبؤُ عين المخلوقات وأعزها. وعلى هذا النحو فإن قدر الإنسان وقيمته باقية في جوهره وأصله حتى ولو انحط إلى أسفل الدرجات بارتكاب المعاصي والآثام.
إن روح الإنسان كما قال مولانا جلال الدين -قدس سره-تشبه ماءً براقًا صافيًا، لكن عندما تتلوث بالأعمال السيئة والذنوب لا يمكن أن ترى أي شيء.
وفي هذه الحال لابد أن نصفي ذلك الماء لكي نستطيع أن نرى اللآلئ المعنوية وأنوار الحقيقة. وعلى هذا فإن غاية التصوف هي تهذيب أحاسيس الأنانية والشهوة وإيصال الأفراد والمجتمعات بالتبعية إلى الهدوء والسكينة والأمان.
وعلى هذا النحو فإن أي إنسان مهما كان حجم ما ارتكبه من الشرك والكفر والذنب فإنه لا يمكن أن يحرم من أن يكون مدعوًا للهداية مخاطبًا بها في كل وقت.
وهذا مثال على ذلك من عصر السعادة، ذلك أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قد أرسل إلى وحشيّ قاتل حمزة -رضي الله عنه- يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه وحشيّ يقول : يا محمد! كيف تدعوني إلى الإسلام وقد نزلت في القرآن آية تقول:
{وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} (الفرقان: 68 ،69)،
وإني قد فعلت هذه الأشياء الثلاثة فهل لي من توبة؟
فنزلت هذه الآية:
{إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان، 70)
فكتب بذلك إلى وحشي، فكتب إليه: إن في الآية شرطاً وهو العمل الصالح ولا أدري هل أقدر على العمل الصالح أم لا، فنزل قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} ( النساء، 48 )
فكتب إلى وحشيّ، فكتب إليه: إن في الآية شرطاً أيضاً، فلا أدري أيشاء أن يغفر لي أم لا ؟
فنزل قوله تعالى
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} ( الزمر، 53)
فكتب إلى وحشيّ، فلم يجد فيها شرطًا ففرح وقال 🙁 يا ربي ما أعظم رحمتك) وقدم المدينة وتاب توبة نصوحًا وأسلم، فقال الناس: يا رسول الله! إنا أصبنا ما أصاب وحشيّ قال: “هي للمسلمين عامة“[1]
ولعل أهم خاصية للأسلوب الصوفي -الذي استلهم حقائق هذه الحادثة وأمثالها– هو طبيعة النظرة إلى الإنسان. فالإنسان تبعًا لهذا قد نال تجليات الصفات الإلهية وأصبح منتبهاًً للخطاب الإلهي. ومن هذه الناحية حمل سراً من ربه كبؤرة العالم وبؤبؤ الكائنات. وعلى ذلك وكما قلنا قبل قليل، فإن الإنسان مهما انحط إلى أسفل الدرجات بارتكاب المعاصي والآثام تبقى القيمة في جوهره وأصله، ولكن عندما نقول ذلك فمن المؤكد أننا لا نعني أن التصوف بلا ضوابط.
ولكن ما يقوم به التصوف باختصار هو: «ألا يقل تسامحنا مع المذنب بسبب ما ارتكبه من ذنب، وألا تنتقل عداوتنا وبغضنا للذنب إلى من ارتكب الذنب».
والتصوف بهذا الجانب يشكل أكثر الوسائط فائدة وإثمارًا في تبليغ الإسلام في وقتنا الحاضر؛ لأن البشر يشتاقون دائمًا إلى حضن أحبّاء الحق الحنون الدافئ أمثال عبد القادر الجيلاني، عزيز محمود هدائي، يونس أمره، بهاء الدين نقشبند ومولانا جلال الدين الرومي وأمثالِهِم.
-ألتون أولوق: لقد عرّفتم التصوف بما ذكرتموه بأنه الكيفية التي توصل الإنسان من الهُوية الخشنة الفجة إلى الهوية الكاملة. وبناء على هذه الحقيقة فما هي مكانة التصوف في حياة المسلم؟، بتعبير آخر هل التصوف ضروري؟.
-المؤلف: لقد سألتم سؤالاً مهمّاً للغاية، ذلك أن التصوف هو نعمة نورانية وتجل إسلامي- ببنيته ومحتواه الباطني الواسع- لا يمكن التخلي عنه من يد أهل الإيمان. ومن هذه الناحية فالتصوف يحمل أهمية كبيرة للغاية سواء لتوصيل المسلمين إلى الكمال، أو إلى أن يكون وسيلة لهداية غير المسلمين وأن يعكس لهم الإسلام بشكل صحيح.
لأن المعلومات المكتوبة في الكتب كلها تشبه في الحقيقة بذرة. فانظر كيف أن البذور عندما تبقى في المخزن فقط دون أن تبذر في الأرض لا تكون شيئا آخر سوى أن تكون بذورًا رغم مرور السنوات. وكذلك الحال عندما تبقى المعارف مكتوبة على الأسطر فقط ، أو موضوعه على الأرفف فلن تثمر شيئًا.
وفى مقابل ذلك فإن البذور التي تدفن في الأرض تنمو وتكبر حسب أوصافها وخصائصها. وقد تتحول إحداها إلى شجرة دلب ضخمة للغاية. ويشبه هذا تمامًا بذور العلم التي تبذر في أرض القلب فيصير كل قلب منها حديقة معنوية. فتثمر في ذلك الوقت الأسرار والحكم التي هي الثمار الحقيقية للعلم والعرفان.
ومن هذه الزاوية فإن جانب الفتوى في الدين يمثل الأعمدة الأساسية لبناء ما، أما جانب التقوى فهو عناصر الرقة والجمال التي تزين تلك الأعمدة وتكملها. والتصوف يجمع هذين الجمالين، ومن ناحية أخرى يضيف الأخلاق والعمل الصالح والجمال إلى هذا التكامل فيوضح ويفسر الإنسان والقرآن والكائنات، ويدعم إدراك المسؤوليات وأدائها بحكمة واسعة. وعلى هذا النحو فالتصوف هو بمثابة نافذة معنوية مفتوحة للعباد في باب محبة الله تعالى ومعرفته، وهى مفتوحة من قلوبهم نحو المعراج.
وعلى ذلك فالتصوف هو حاجة قلبية وروحية لا يمكن تجاهلها. وعندما يكون الأمر هكذا، فإن ضرورة وجوده في حياة كل مسلم قل أو كثر هو حقيقة لا يمكن الجدال فيها. وبشكل أدق فأينما وجد الإنسان في أي مكان يكن التصوف هو موضع المناقشة والحديث.
وإذا لم نلتفت إلى هذه الحقيقة وسألنا هل التصوف ضروري؟ فكأننا نسأل سؤالاً من قبيل هل التفسير والحديث وعلم الكلام والفقه والعلوم الأخرى التي هي أساس الإسلام ضرورية؟.
وإن من يرى أن التصوف لا فائدة له ولا ضرورة له كمن يرى أنه لا ضرورة للأخلاق والتقوى والعرفان وتزكية النفس وتصفية القلب ووصول العبودية إلى مقام الإحسان إلى الله تعالى، لأن هذه الحقائق كلها تُستهدف وتُقصد بالتصوف.
وعلى ذلك فإن الشخص الذي يعيش هذه الحقائق فهو بالنسبة لنا يعيش التصوف حتى لو لم يقبل اسم التصوف، لأن التقوى والزهد والإحسان والتصوف هي مصطلحات قريبة من بعضها البعض من ناحية الحقيقة والمحتوى وتدل على نفس المعنى والغاية. وفى مركز هذه المصطلحات كلها وفى وسطها يأتي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- -النموذج الفريد الذي لا نظير له- كـ «أعظم مرشد كامل» للبشرية كلها، والصحابة الكرام الذين تربوا في حضنه التربوي العظيم، وكان كل واحد منهم شخصية علوية ونجمًا في سماء المعنى والوجدان والقلب.
ومن ناحية أخرى فإن وصول القلب إلى الطمأنينة وإدراك الهدوء والسكون والسعادة يرتبط بالمستوى المعنوي الذي وصل إليه الإنسان.
ومن أجل ذلك يجب أن يتلقى العبد تربية معنوية، لأن امتلاء القلب بالعلم والحكمة وإطلاع المرء على حقائق الدين العالية، وتكامل العبد معنويّاً يكون ممكنًا فقط في نهاية مجموعة من العمليات.
فحتى الأنبياء الذين بُعثوا نموذجًا وهداية للبشرية كانوا يمرون بفترة تحضير واستعداد قبل تلقي الوحي. لأنه من الضروري تطهير القلب وإكسابه حساسية ورقة والوصول به إلى قوام واضح محدد.
وذلك من أجل أن يتحول ذلك القلب إلى متلق وجاذب للطف الإلهي والتجليات المعنوية. فرسول الله -صلي الله عليه وسلم- كان يصعد إلى غار حراء ويعتكف قبل تكليفه بالرسالة والنبوة، وموسى -عليه السلام- ذهب إلى طور سيناء في رياضة روحية قبل أن يكلمه الله تعالى، ويوسف -عليه السلام- ظل في السجن اثني عشر عامًا قبل أن يصير عزيز مصر، وفي ذلك السجن تجاوز مراحل المشقة والرياضة الروحية والمجاهدة والمعاناة.
وهكذا انسلخت تلك القلوب المباركة تمامًا عن العلائق كلها وعن كل سند سوى الله -عز وجل-.
وكان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- مظهرًا لسر «ألم نشرح» قبل أن يصعد إلى المعراج، وشُق صدره الشريف ليغتسل قلبه الطاهر بماء الود والمحبة، وامتلأ بروحانية العلم والحكمة، لأن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في المعراج شاهد حوادث عجيبة وغريبة، ولوحات لطيفة وأسرار إلهية لا يستطيع أن يراها في قوامه البشرى.
وإذا كان الأنبياء -وهم عباد الله المخلصين- قد تعرضوا لتصفية القلب فما أكثر حاجة البشر الآخرين إلى تطهير القلب، لأن القلب الغليظ لا يستطيع أن يقترب من اللطيف -عز وجل-، فالذي فقد حاسة الشم لا يستطيع أن يكون له نصيب من رائحة زهور القرنفل، وإذا كان الزجاج مغبشًا بالبخار فلن تكون الرؤية واضحة من خلاله. ومن ناحية أخرى فإن اختلاط الحلال ببذرة من حرام أو شبهة يفقده قبوله ونقاءه، واختلاط جرة ماء من نبع صاف بقطرة من نجاسة يفقدها صفاءها وطهارتها.
ولهذا السبب يجب تطهير القلب من غلظته وزيادة حساسيته وقابليته المعنوية ليتحول إلى متلق للأسرار والحكم الإلهية، كما يجب أن يتزمل القلب ويلتحف باللطافة والرقة والصفاء، لأن الحق -عز وجل- يقول في كتابه العزيز:
{يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ. إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء، 88 –89)
وتحول القلب إلى قلب سليم مرتبط فقط باكتساب وتحصيل التربية المعنوية وصفاءها، لأن القلب قبل التربية المعنوية يكون مثل الحديد البارد. ولكي نستطيع تشكيله كما نحب ونرغب يجب أن يتم تسخينه أولا، ويتم تطهيره من الصدأ والأوساخ، وبعد أن يخرج عن قساوته وشدته يتم طرقه وتليينه، وبعد هذه المراحل فقط يمكن أن يأخذ الشكل الذي نريده. وهذا بالضبط ما يحدث مع القلب، فبدون تطبيق هذه العمليات كلها لا يمكن أن يتحقق الكمال القلبي.
أما بعد تحقيق هذا الكمال القلبي فإن عالم الحقائق -الذي لا يمكن أن يرى بالعين ولا يمكن إدراكه بالعقل- سوف يُحس قلبيّاً ويُدرك ذوقيًّا، ومن أجل ذلك يجب إكمال وإنضاج الطاقة والدراية القلبية. وفي صدد إيضاح أهمية هذا الإنضاج والإكمال فقد وصف مولانا جلال-قدس سره- الدين حاله عندما كان مدرسًا في المدرسة السلجوقية في ذروة علوم الظاهر فقال: «كنت فجّا غليظًا فلما تحولت الكائنات -المملوءة بتجليات معرفة الله تعالى- إلى كتاب، وصارت الأسرار المكنوزة فيه عيانًا ظاهرًا وصفتُ حالي فقلت: لقد نضجت . ولما فنيت وتلاشيت في محبة ذاته وصفت حالي عندها فقلت: لقد احترقت».
وهذا يوضح أيضًا أن العبد يحتاج إلى تربية معنوية كاملة لكي يصل القلب إلى الكمال. ذلك أن قبول العبد لدى ربه تعالى يرتبط أكثر بالكشف القلبي. وقد قدم الصحابة الكرام أمثلة مجسدة لا حصر لها على هذه الحقيقة، فكثير منهم كانوا يدفنون بناتهم أحياء -كأن قلوبهم قدت من صخر- ولكن في ظل تربية رسول الله -صلي الله عليه وسلم- المعنوية صاروا معالم للرحمة والشفقة، ندية قلوبهم، دامعة عيونهم، وبذلوا أرواحهم وما يملكون في سبيل الله تعالى ورسوله. نحن نريد أن نقول باختصار :
إنه يمكن أن يكون هناك تدين بلا تصوف، ولكن هذا التدين يصبح محرومًا من قوام الإحسان. أي أن حياة إسلامية مجردة من التصوف- الذي هو تربية معنوية- لا يمكن أن توصل أي شخص إلى قوام وحال العبودية التي شعارها:« اعبد الله كأنك تراه».
-ألتون أولوق: سيدي أن قراء التون اولوق هم أحباب لشخصكم الكريم قلبيّاً، وهؤلاء الناس يعدّون أنفسهم سعداء لتواجدهم معكم في رحاب القلب. فماذا تريد أن تقول لهم عن التصوف في الختام؟
-المؤلف: إضافة إلى ما قلناه حتى الآن فأنا أريد أن أذكر طائفة من النصائح والمواعظ التي تمسك بها أهل الله بإصرار ومنها:
إن التصوف هو تربية معنوية تعني السعي إلى اكتساب أخلاق رسول الله -صلي الله عليه وسلم-. وهو حال الوجد في العبادة، وحال الفضيلة في المعاملات. وهو أيضًا التوجه بعشق إلى خالق الكائنات -عز وجل-، وإلى رسوله الكريم -صلي الله عليه وسلم- ، لأن أحبّاء الحق الذين جعلوا المولى -عز وجل- ورسوله -صلي الله عليه وسلم- في مركز المحبة -بتوجه وعشق خالص حقيقي- قد أصبحوا أحباب الإنسانية كلها إلى الأبد.
الألفة والصحبة مع الصالحين تصلح المؤمن، لأن السريان بين الشخصيات هو من خواص الطاقة النورانية. فالصالحون الذين طعّموا الأرواح بالنظام والمعنوية هم أشخاص قد طهروا نفوسهم، وصرفوا أنظارهم عن زخرف الدنيا وزينتها، وامتلأت قلوبهم بنور إلهي. والألفة معهم تجعل العبد عبدًا تستفيد المخلوقات كلها من يده ولسانه.
المحبة خط يمتد بين قلبين، والإنسان يفتن ويندهش بمنح القلب، وعلى هذا النحو يجب على المؤمن استعمال إكسير “المحبة” في سعيه في كل مجال وبكل وسيلة.
إن تبديل العلم إلى عرفان هو الوسيلة لمعرفة الحق -عز وجل- في القلب. والكائنات هي جعبة الحكم والأسرار. والمعرفة ليست المشاهدة، بل هي معرفة الحكمة والأسرار.
إن تخلص القلب من غلظته الجسدية وتلحفه باللطافة والرقة هو سبيل القرب من الله تعالى. فالمؤمن الذي يحيي قلبه يتلمس طريقًا للخلود. أما الفرد الذي يتلحف قلبه بالشهوة يفقد صفة الإنسان على قدر ما أحيط بقلبه من شهوة.
أساس أخلاق الإسلام هو عشق الرب -عز وجل- والتوجه إليه بإخلاص ومما لاشك فيه أن الخدمة هي العلامة الوحيدة الفريدة لهذا التوجه.
المحبة هي أكثر الوسائل سحرًا فهي تقلب المشقات رحمات.ومهما كان ثقل الخدمة التي تؤدى بالمحبة فإنها تقبل بسهولة وتتم بيسر. وفى نفس الوقت فإن قيمة أي خدمة ترتبط بحجم التضحية التي تبذل للوفاء بها وترتبط بأدائها كأنها عبادة.
والخدمات الخالصة الحقيقية هي رأس مال النضوج والإكتمال القلبي، والقلوب التي وصلت إلى هذا الكمال هي: «محل نظر الحق -عز وجل-».
إن أسماء «الرحمن والرحيم» التي ذُكرت كثيراً في القرآن الكريم هي من صفات جماله -عز وجل-، لذا يجب أن تتحول الرحمة والشفقة إلى خصلة أصيلة في الإنسان المؤمن.
الشخص المحروم من الشفقة والذي لا يعرف التأسي والرحمة هو شخص فقد مفتاح باب أكبر خزائن السعادة كلها، ويجب علينا أن نتألم أكثر للذين حرموا من الرحمة، ولم يعرفوا معنى التأسي والمواساة.
إن سبب الظلم هو الحرمان من المحبة. فالإنسان الذي لا يحب يتحول إلى وجود قاس متوحش طوال الوقت، فثمرة العشق الحقيقي هي الشفقة والرحمة. ولا يمكن الإعتقاد أن هناك قلبا أو بلدا على وجه الأرض تستعصي على الفتح بالشفقة والرحمة، لأنه لو كان في مقدور الشمس ألا ترسل الضوء والدفء لكان في مقدور الأرواح القوية ألا ترحم وتتأسى للمخلوقات.
وقد نُقل عن الحلاج صاحب المكانة الفريدة في القلوب العاشقة أنه قدم نموذجًا كبيرًا في الإيثار القلبي عندما كان يتوسل إلى الله متضرعًا قائلا: «يا رب أعف عمن يرجمني قبل أن تعفو عني»
لو أردنا أن نعرف درجتنا في الطريق المعنوي يجب علينا أن نحلل سلوكياتنا وحالنا وتصرفاتنا.
إن الأنانية والخيلاء هما سرطان الطريق المعنوي. وقد ابتلي إبليس باللعن والخسران بسبب أنه شعر بالخيلاء والعجب.
يقول مولانا جلال الدين-قدس سره-: «من المهم أن تكتسب طبيعة الوردة، أي أن تكون وردة إلى هذا العالم كله تحتضنهم في رحاب الربيع وتنسيهم عذابات الشتاء، لا ليروا أشواكها ويتألموا مثلها».
ولعل نصيحة السيد عبد الخالق اَلْـ كُجْدُوانيِّ القيّمة الخاصة بالصلاح الروحي وبجماليات السلوك هي أفضل دستور للقلب وأجمله لطريق التصوف إذ يقول:
«أي بني هذه وصيتي إليك: لتكن على علم وأدب وتقوى في أحوالك كلها. اقرأ كتب السلف، وامض في طريق أهل البيت وأهل السنة والجماعة. تعلم الفقه والحديث واهرب من الصوفية الجهلاء. أقم صلواتك دائمًا مع الجماعة. لو وجدت ميلاً إلى الشهرة في قلبك فلا تؤذن ولا تُصَلِّ إمامًا. ابتعد عن الشهرة بقدر ما تستطيع. فالشهرة آفة. لا تتعالى أبداً، بل وطن نفسك على التواضع. لا تتول عملاً لن تستطيع أن تقوم به لأنه فوق طاقتك.
لا تتدخل في أعمال أناس ليسوا على علاقة بك. لا تقم أو تقعد أبدًا مع الفاسقين، وحافظ على الإعتدال في كل أمر. تجنب التخمين والظن، ولا تنخدع أكثر بسماع الصوت الجميل، لأن هذا يُظلم الروح، ويجلب النفاق في النهاية. ومع هذا لا تنكر الصوت الجميل؛ لأن الأذان والقرآن الذي يُقرأ بصوت جميل يحيي القلوب والأرواح. كُل قليلاً وتكلم قليلاً، ونم قليلاً. فِر من الحمقى والغافلين فرارك من الأسد.
اختر العزلة في أوقات الفتنة. ابق بعيدًا عن الذين يعطون الفتوى طلبًا للمنفعة فيضيعون الدنيا، وعن الأغنياء المتكبرين وعن الجهلاء. كُل حلالاً واحذر الشبهات وتمسك بالتقوى عند الزواج؛ لأن عكس ذلك تمسك بالدنيا ومخالفة للدين في ذلك الطريق.
لا تضحك كثيرًا واجعل ضحكك تبسمًا لا قهقهة، فالضحك الكثير يميت القلب. ولكن لا تكن عابس الوجه، لأن التبسم صدقة. وانظر لكل شخص بعين الشفقة، ولا تحقرنّ أحدًا.
لا تتطرف في التزين والتجمل الظاهري. وارتدِ البسيط الجميل؛ لأن الإعتناء بالمظهر الخارجي يأتي من خراب الداخل وفساده. لا تجادل ولا تطلب شيئاً من أحد.
واستغن عن الناس، وكن غنياً بالقناعة وحافظ على وقارك. عظِّم ووقِّر من علموك وقاموا بتربيتك وتركوا أثرًا فيك، اخدمهم بروحك وبكل ما تملك، واجعل حالك تبعًا لحالهم. ولن يفلح الغافلون الذين يستهزؤن بهم ولا يحترمونهم. لا تمِل إلى الدنيا وإلى أهلها الغافلين.
رقِّق قلبك بالحزن وبلِّل عيناك بالدموع ليقوى بدنك على العبادة. اخلع عملك والجأ إلى الدعاء وصاحب الصالحين.
واجعل التواضع لباسك. اجعل علوم الدين الظاهرة والباطنة رأس مالك واجعل منزلك مسجدًا أو قريبًا من ذلك تكن من أحبّاء الحق -عز وجل-..اللهم اجعلنا ممن يتقيدون بهذه النصائح والوصايا آمين…
[1] الهيثمي، جـ. 01، 412-512.