شيخَنا الكريم: في بداية لقائنا هذا، هلَّا تعِّرف لنا التصوف وتوضِّح هذا المفهوم.
إن هدف الإسلام الأساسي هو أن يكون الإنسان كاملًا مستقيمًا، والسبيل إلى ذلك هو أن يحيا الإنسان دينه ظاهرًا وباطنًا، في إطار ينسجم العقل فيه مع القلب، ويتحد الجسد مع الروح.
وليس التصوف إلا سعياً لبلوغ هذا الهدف، ومقصوده الوحيد وغرضه الفريد أن يكون العبد عبدًا مؤمنًا صالحًا يرضى الله عنه.
وهذا ما يُوجِب على المرء أن يسعى ليدرك الإسلام إدراكًا سليمًا بعيدًا عن الشبهات، ويحياه في جوٍّ تتكامل فيه العناصر الأربعة: الشريعة، والطريقة، والحقيقة، والمعرفة.
وإذا أردنا أن نضرب هنا مثلًا عن هذه العناصر ابتغاء توضيحها نقول:
الإسراف في الشريعة هو الأكل بعد الشبع.
والإسراف في الطريقة هو الأكل حتى الشبع.
والإسراف في الحقيقة هو الأكل بالقدْرِ الكافي، لكن بغفلة عن ذكر اللّه -عز وجل- .
والإسراف في المعرفة هو كل ما سبق، وألا يرى العبد التجليات الإلهية في النِعَم التي بين يديه؛ ذلك أن كل كائن خلقه ربنا سبحانه وتعالى دليل على عظمته وربوبيته وقدرته المطلقة.
إن التصوف هو البُعد الداخلي للدين وجوهره وقلبه، فهو كاللبِّ من كل شيء. وحين نُهمل هذا الجانب من الدين الذي لا ينفك البتة عن التقوى، لن يبقى بين أيدينا إلا مجموعة من القواعد الفقهية الجامدة.
لكن ينبغي أن نذكر هنا أنَّ ثمة أناس لم يدركوا حقيقة التصوف –لا سيما في هذه الأيام التي كثُر فيها من يدَّعي التصوف- فرأوا كل أمر من منظور الأحكام الباطنية، واستخفوا بالأحكام الظاهرية؛ فتراهم يرفعون شعار:
«لا ضير في عملك ما دام قلبك طاهرًا»
مُطلقين العنان لغرائزهم ونفسانيَّاتهم، وساعِين لإظهار التصوف على هذه الصورة البعيدة أشد البعد عن التصوف الحقيقي.
ويؤسفنا أشد الأسف أن نجد في هذا الزمان من يهمل الجانب المتعلق بالتقوى في المولوية، إذ يحاول أن يُظهِر السَّماع -وهو في الأصل ذكرٌ للّه تعالى- على أنه موروث شعبي ومجلس للموسيقى؛ ومثل هؤلاء بالطبع ليس لهم صلة بروح «المثنوي الشريف» لا من قريب ولا من بعيد.
فالتصوف الحقيقي هو الاقتداء بحياة النبي -صلي الله عليه وسلم- بكل تفاصيلها الظاهرة والباطنة. فرسول الله -صلي الله عليه وسلم- كان أتقى البشر وأقربهم إلى اللّه تعالى، ومع ذلك قام بالتكاليف الشرعية الظاهرة وحمل المسؤولية وأدى الأمانة، لذلك ينبغي لكل مسلم يقتدي بهذا النبي الكريم -صلي الله عليه وسلم- أن ينجز مهامه وجميع الفروض والواجبات، مهما كان موقعه الروحاني ومكانته بين الناس.
فالشريعة التي نَصِفها بأنها الأحكام الظاهرة للإسلام هي كالهيكل الذي يُقيْم الجسد، غير أن دين الإسلام إن كان قائمًا على هيكل دون روح فسيبدو ناقصًا منفِّرًا، وهناك بالطبع من يريد عن عمد أن يظهره على هذا الشكل.
والتصوف الحقيقي هو فهم الإسلام بالطريقة التي فهمها رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- وصحابته، والتي تحفُّها الفيوضات والروحانيات، ثم السعي للعيش بسلام وعشق ومحبة. هو رحلة تسمو بالإنسان لتوصله إلى أعلى درجات الروحانية التي وصلها الصحابة الكرام بفضل تربية رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وتزكيته إياهم. وهو مدرسة معنوية تتربى فيها النفوس، وتتطهر على أعتابها القلوب، على أيدي المربِّين ورثة خاتم المرسلين. والداخلون هذه المدرسة، والمجاهدون لقطع المسافات للوصول إلى أعلى الدرجات، والساعون إلى مرتبة «الإنسان الكامل»، هم أهل «السير والسلوك».
لقد جعل ربنا جلَّ جلاله أصغر طاقة وضعها في عبده أساسًا في تحديده التكاليف الشرعية الملقاة على عاتق الإنسانية جمعاء، ولا ريب أن هذا الأمر يدل على رحمته المطلقة بعباده. ولم يقتصر فضله ومنُّه على ذلك فقط، بل فتح سبحانه سبلًا وأبوابًا لمن لديه استعدادات وقدرات فطرية ليست عند غيره على أداء التكاليف العامة، كي يترقى في طريق السير إلى الله -عز وجل-، ويروي أشواق الروح وتطلعاتها الإيمانية، عبر النوافل من العبادات، والفضائل مثل الزهد والتقوى والإحسان، إضافة إلى المهام الشرعية، فكان من الطبيعي والضروري وجود طريق يضمن للمؤمنين كل ذلك، وهذا الطريق هو التصوف.
والتصوف قبل أي شيء هو العمل على تنظيم الحياة على أساس الكتاب والسنة؛ هو حرب ضَروس لا هوادة فيها ضد النفس، فهذي النفس طاقة مليئة بالأسرار والألغاز يجب تربيتها تربية يمكن لنا أن نصفها بأنها «الجهاد الأكبر».
والتصوف نظامٌ لتطهير النفس من شوائبها كلها، وطريق الوصول إلى التقوى عبر الحذر من كل شيء يبعد المرء عن ربه سبحانه وتعالى.
والتصوف يوضِّح لنا مع كل طرفة عين ونَفَس نتنفَّسه قواعدَ العبودية لله تعالى -عبر الفيوضات والروحانيات- ويُشعِرنا بأننا في امتحان، فيكشف لنا أسرار هذه القواعد.
وهو سعي المرء كي يكون عبداً صالحاً لله -عز وجل- من خلال معرفته ومحبته.
والتصوف هو معرفة الحق تعالى بالقلب، والارتواء من ينبوع التسليم لله تعالى، ونقل «الإيمان» إلى مقام أعلى وأسمى، إلى مقام «الإحسان».
والتصوف هو فن حُب الله تعالى من خلال الرضا بقضائه في كل زمان ومكان. وهو مهارة الحفاظ على توازن الفؤاد أمام تقلبات الحياة وما تحويها من مفاجآت وظروف ونائبات، فيكون العبد في كل أحواله عبدًا صالحًا طيِّبًا بتركه الشكوى والتذمر.
والتصوف مدرسة يتعلم فيها العبدُ الزهدَ؛ فهو تخليص الفؤاد من الرغبات النفسانية والنزوات العابرة في هذه الدنيا بإدراك العبد أن لا عيش إلا عيش الآخرة.
وخلاصة ما فهمناه عن التصوف هي أن التصوف معرفة رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عن قرب، والتخلق بأخلاقه الرفيعة، والسعي لعيش الإسلام بأسلوب يناسب روحانياته. وهو «حياة التقوى» التي عاشها رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وصحابته الكرام في جوٍّ من الوجد والحب والمحبة.
أما ما بقي خارج إطار ما ذكرناه ولم يأخذ جوهره ومعياره من القرآن والسنة فهو باطل مهما ألصق بالتصوف.
إذا تصفحنا تاريخ التصوف سنجد تعدد المدارس وتشعب الطرق وتنوع المفاهيم، حال التصوف في ذلك كحال العلوم الإسلامية الأخرى مثل التفسير، والحديث، والفقه. فهلَّا تخبرنا عن السبب وراء ظهور الطرق الصوفية والحكمة من ذلك؟
لقد ذكرتم في سؤالكم تعدد المذاهب والمدارس في العلوم الإسلامية الأخرى، والتصوف ليس بمعزل عن تلك العلوم، إذ كان نشوء الطرق فيه نتيجة طبيعية للحاجات والظروف.
إن ظهور التصوف كعلم وطريقة نظرية وعملية يعود إلى القرن الثاني للهجرة. ففي عهد رسول الله -صلي الله عليه وسلم- لم يكن هناك أي مذهب من مذاهب الكلام أو الاعتقاد أو الفقه، ولم تكن هذه العلوم مدونة، لكن الأحكام العقائدية والفقهية وغيرها كانت تطبق آنذاك، وكان رسول الله يعلمها لأصحابه. وبعد مدة من الزمن بدأ طلاب كبار العلماء، مثل علماء الفقه الإسلامي بجمع اجتهادات المجتهدين ووضعها مع بعضها بعضًا، وشكلت هذه العملية بداية ظهور «المذاهب» حيث جُمعت آراء كل عالم كبير تحت اسمه.
لقد كان محتوى التصوف كما هو محتوى العلوم الإسلامية الأخرى موجودًا في عصر النبي -صلي الله عليه وسلم-، المحتوى القائم على مشاعر «الزهد» و«التقوى»، وآفاق «الإحسان» و«الربانية» التي أراد أن يوصل الناس إليها. وكل الأسس التي يقوم عليها التصوف الصحيح موجودة في القرآن الكريم وفي حياة رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وأصحابه. ومع مرور الوقت ركن المسلمون إلى الدعة، وتركوا جهاد النفس، فقست قلوبهم إلا من رحم الله، فثبت على الحق ثلة من الأفذاذ لم يجرفهم تيار الدنيا وخضم الحياة، ووقفوا سدودًا منيعة أمام سيل المادية العارم لينقذوا البشرية. ولم يكن مقصود هؤلاء العلماء اصطناع طرائق أو جعل البدع في الدين، بل تمثل الإسلام بصورة تناسب جوهره، وأداء العبادات بـ «الإحسان» و«الخشوع» في ضوء مبادئ القرآن وهدي السنة.
فكان ذاك السلوك من العلماء العاملين، وذلك الاتِّباع من المريدين السالكين، وتلكم الجلسات والحلقات من التوجيه والإرشاد والوعظ والإمداد، فجُمعت هذه الكلمات والمواعظ والسلوكيات والمجاهدات، وتشكَّل من خلالها نظام روحي، هذا النظام كان هو الطرق الصوفية التي كانت كالمدارس والمناهج التربوية حملت أسماء مشايخها وأصحابها، فظهرت الطرق التالية: النقشبندية، والقادرية، والرفاعية، والمولوية، والخلوتية، والجلوتية، وغيرها.
إن الطريقة مصطلح للأصول التي يتَّبعها قسم من المتصوفين ابتغاء الوصال مع الله تعالى. وما السبب وراء ظهور الطرق المتنوعة في هذا الميدان مع مرور الوقت، إلا الحاجة لذلك، لا من باب الاختلاف والفرقة، فالناس مختلفون في مزاجهم وشخصياتهم وطبائعهم، لهذا فإن تنوع الطرق -بناءً على هذه الحقيقة- يضمن تربية النفس بحسب ما يوافق طبيعة الشخص، وتطهير القلب والوصول إلى الكمال الروحي.
فعلى سبيل المثال؛ يجد الشخص ذو المزاج الجيَّاش سهولةً في الارتقاء وفق الأصول المتبعة في الطريقة القادرية؛ في حين يجد الشعراء والفنانون والرومانسيون ضالتهم في المولوية؛ أما من يسيطر عليه الوقار والمزاج الهادئ، ولديه استعداد داخلي عالٍ، فيتوجَّه تلقاء النقشبندية، فيجد سهولة في تلقي الفيوضات باتباع هذه الطريقة، والسير وفق أصول التربية فيها، وهذه القاعدة تُطبَّق على الطرق كلها حسب خصائصها.
وهكذا نجد أن تنوع الطرق الصوفية هي رحمة من الله -عز وجل-، فمن الكلمات المشهورة قولهم: «إن عدد الطرق إلى الله تعالى كثير كثرة عدد أنفاس كل مخلوق». لكن المهم في هذا الشأن هو أن تكون وفقًا لحدود القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.
لقد علَّم رسول الله -صلي الله عليه وسلم- الذكر الخفي لسيدنا أبي بكر -رضي الله عنه-، والذكر الجهري لسيدنا علي -رضي الله عنه-. ينبغي أن نعلم أنه -صلي الله عليه وسلم- قد أعطى أورادًا مختلفة لعدد من الصحابة،[1] شكل أحيانًا حلقات ذكر جماعية منهم. فكان تنوع تطبيق واختيار الأوراد والأذكار -التي هي أهم وسائل التربية الصوفية- هو السبب الأساسي في تنوع أصول وطرائق التربية المعنوية، وهذا يُظهر لنا جميعًا أن مصدر الطرق الصوفية هو نفسه مصدر المذاهب الفقهية؛ ألا وهو الكتاب والسنة.
لا يخفى على أحد أنه حين تُذكَر كلمة «التصوف» في أي وسط كان، فإن أول ما يرد العقل مواضيع خلافية جدلية مثل «وحدة الوجود» و«وحدة الشهود» و«الرابطة». فما هي وجهة النظر الصحيحة في مثل هذه المواضيع؟
دعني أولًا أخبرك أن لا علاقة لـ«وحدة الوجود» و«وحدة الشهود» بالشرك والكفر كما يدعي بعض من الناس؛ لا بالعكس تمامًا، هما الإحساس بلذة التوحيد في أعماقك، ثم مشاهدة مظاهر التوحيد في هذا العالَم والتفكر فيها. وليس لهذَين المفهومَين أي صلة بمذهب أفلاطون الحلولي القائم على الشرك تمامًا.
إن «وحدة الوجود» مفهوم صوفي وضعه الشيخ محي الدين بن عربي ونظَّمه، وأما «وحدة الشهود» فقد وضعه مجدِّد الألف الثاني الإمام الربَّاني السرهندي. والمفهومان في الأصل يوضحان الموضوع نفسه ولكن من وجهتي نظر مختلفَتَين، أي إن الاثنين إيضاح للفرق بين صفة الله تعالى «الوجود»، و«الوجود أو الكينونة» في عالم الشهادة. والفارق الوحيد بينهما هو أن مفهوم «وحدة الوجود» هو الإحساس بالتوحيد، أما «وحدة الشهود» فهو التعمق في التفكير في تجليات التوحيد عبر مشاهدتها وتأملها.
والكائنات في هذا العالم الذي نسميه عالم الشهادة موجودة وجودًا نسبيًا، أي إنها لا توجد في وجودها لوحدها، بل هي موجودة على أنها مظهر من مظاهر صفات الوجود المطلق وآثاره وأحكامه وقدرته وإبداعه. ومع أن الذات الإلهية تُظهِر إبداعها وقدرتها وحكمتها وتدبيرها وتصرفها وصفاتها في الكائنات كلها، إلا أن هذه الذات لا تَظهَر أبدًا في عالم الوجود، أي أن عالم الوجود هو ظهور للصفات لا للذات؛ ونستنتج من ذلك كله أن الذات الإلهية مقدسة ومنزهة عن كل شيء.
ولتوضيح هذه الفكرة نضرب المثل التالي: إن انعدام الشمس يصاحبه انعدام ضوئها، وعلى الرغم من أن ضوء الشمس لا ينفصل عن الشمس، إلا أن هذا الضوء ليس الشمس ذاتها.
غير أن الاعتقاد بأن كل شيء هو الله سبحانه، وأن الكون هو الإله، اعتقادٌ يقود إلى المادية التي تصور «الواحد» كأنه «الكل». ومذهب الحلولية الذي وضعه أفلاطون مصدره هذا الوهم والهاجس البعيد أشد البعد عن الصواب، وقد أراد بعض ممَّن ضلوا وضع فكرة «وحدة الوجود» داخل خانة الاعتقاد هذه وقبولها، لكن المتصوفة الحقيقيين دائمًا كانوا يرفضون مثل هذا الاعتقاد المنحرف.
ففكرة «وحدة الوجود» الحقيقية تقول إن كل شيء موجود بوجوده سبحانه وتعالى، أما ذاته فهي منزهة عن الأشياء كلها. أي أن الكون مظهر لصفات الحق تعالى، أما ذاته فهي ليست الكون، لأن الخالق لا يمكن أبدًا أن يظهر على شكل المخلوق، ومن لديه قناعة عكس ذلك فهو واقع في الكفر الصريح، لأن الله جل جلاله «مخالف للحوادث»، أي لا شبيه ولا نظير ولا شريك له، لذلك فهو منزَّه عن الصفات البشرية جميعًا.
وإذا انتقلنا الآن إلى موضوع الرابطة الذي ذكرتموه في سؤالكم نقول: الرابطة هي الحفاظ على المحبة تجاه المحبوب. ولعل خير مثال هو تلك المحبة التي كانت في قلوب الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- للنبي -صلي الله عليه وسلم-، وأبرز هؤلاء في محبة النبي -صلي الله عليه وسلم- هو سيدنا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-.
وبفضل ذلكم الارتباط القلبي بين الصحابة ورسول الله، حدث الانعكاسُ والانصباغ في أرواحهم، وعنهما انتقلت أحوال النبي إلى صحابته. ولهذا السبب كان الصحابة الكرام يتلذَّذون لذة كبيرة حين كان يقول أحدهم للنبي: «فداك أبي وأمي يا رسول الله!» قولًا صادقًا نابعًا من قلبه. فتطهرت قلوبهم وسكنت جوراحهم حين افتدوا بكل شيءٍ في سبيل الله ورسوله. ولأنهم فهموا معنى الحديث الشريف «المرء مع من أحب» وعملوا به، صاروا في معية النبي حالًا وفعلًا، وإحساسًا وفكرًا.
ويشير سيدنا الحسن -رضي الله عنه- سبط النبي -صلي الله عليه وسلم- إلى عِظَم موقع الرابطة في التكامل المعنوي، فيقول واصفًا حالته الروحية التي كان فيها حين سأل خاله هند بن أبي هالة عن حلية النبي -صلي الله عليه وسلم-:
«سألت خالي هند بن أبي هالة -وكان وصَّافًا- عن حلية رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئًا» [2]
إن كلام سيدنا الحسن -رضي الله عنه- يدل بالفعل على الرابطة، لأن الاستماع إلى وصف النبي -صلي الله عليه وسلم- هو من أفضل الوسائل لتأسيس رابطة قلبية معه، وهذا يعني أن الرابطة التي هي من أصول التصوف مأخوذة من تطبيق النبي -صلي الله عليه وسلم- وأصحابه إياها.
والرابطة لغةً هي الربط والعلاقة، ومن هذا المنطلق لا يوجد كائن حيٌّ في هذا الوجود إلا وله رابطة، فالرابطة تشمل المخلوقات كلها، وكل الأشياء مرتبطة ببعضها بعضًا. وهذه الرابطة رابطة قلبية شعورية موجودة لدى الحيوان تجاه صغيره، والوالدَين تجاه أولادهم، والأولاد تجاه والديهم، والشاب تجاه خطيبته، والمرء تجاه من يتَّخذه قدوة لنفسه. وإذا كانت هناك رابطة محبة طبيعية في مثل هذه الأمور الدنيوية الفانية، أفلا تكون هناك رابطة في العالم الروحاني؟
وليس أنفع ولا أنجع ولا أروع للمسلم من صحبة الأولياء والصالحين، وإلا يكن الحال كذلك، وجَدْتَ على الجانب الآخر صحبة الفارغين الضائعين والغافلين؛ لأن الطبيعة البشرية تبحث دائمًا عمَنْ تصاحبه، وتعيش في كنفه، وعن جماعة ترتبط بها، وتحيا في ظلالها، وهو ما عبر عنه المثل القائل: «الطبيعة لا تعرف الفراغ».
ومن رحمة الله سبحانه لنا أن حدَّد لنا الاختيار الصحيح، وترك لنا حرية اتباعه، فقال في القرآن الكريم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119).
وعندما تمعن النظر والتأمل في بلاغة الأمر القرآني ودلالاته، تجد الحق تبارك وتعالى لم يأمر المؤمنين بأن «كونوا صادقين» بل قال: {كُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} لأن النتيجة الطبيعية لصحبة الصادقين هي أن يصبح المرء صادقًا، مثلما هي النتيجة الطبيعية لصحبة الفاجرين هي أن يمسي المرء فاجرًا.
وهناك منطق آخر يفكر به الرافضون لمبدأ الصحبة، المتعالون على اتباع الصالحين، المهووسون بهوى النفس، إذ يقولون:
«لا حاجة لنا للعباد الصادقين، فالقرآن يكفينا، ولدينا العقل الذي نعرف به معاني القرآن ونفسره».
والخطأ الفادح الذي ارتكبته الحداثة والعلوم الوضعية بأن أخضعت الحقائق كلها للاختبار والتجريب لم يقدم للإنسان إلا الهلاك المادي والمعنوي. فليس كل شيء يمكن إخضاعه للبحث والتجربة والاختبار المادي، ولا حتى للتفكير العقلي أو المنطق العلمي، فعقل الإنسان محدود، وحواسه قاصرة، وعليه أن يستفيد من تراكم الخبرات التي سبقته، والتي استغرقت دهورًا طويلة، وتجارب مديدة، وعقولاً وقلوبًا لا حصر لها.
ويقول الشيخ عبيد الله أحرار: «إن الأمر الإلهي في قوله تعالى:{كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} تعني الصحبة والمعية دائمًا. أي أن للمعية في هذه الآية وجهين لأنها ذُكرت بصراحة: أحدهما فعلي والآخر اعتباري، أما المعية الفعلية فهي وجود العبد فعلًا في مجالس الصادقين بقلب حاضر، وأما المعية الاعتبارية فهي تخيُّل أحوال الصادقين في غَيْبَتهم».
إن غاية الرابطة هي التعلق بحبل الله، والاتصال بالسند النبوي عبر السلسلة الطاهرة من أولياء الله الذين توارثوا النور والأخلاق والصحبة كابرًا عن كابر، في سلسلة تمتد إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، فيما يشبه نور الشمس التي تعكسها الأقمار على كواكب المجموعة الشمسية، على حسب درجة قرب الأقمار وبُعدها من الشمس والكواكب. وإذا ما كانت هناك صحبة بالجسد إلى جانب الصحبة المعنوية مع أولياء الله، فهي «نور على نور». إلا أن الاقتصار على الصحبة الفعلية الجسدية في التربية الصوفية غير مقبول، لأن الإنسان قد يلازم المرشد الكامل، ولكنه لا يحظى بنصيبه بسبب غفلته. في حين نرى أن المريد الحقيقي وإن كان في بلاد بعيدة عن مرشده ينال ما يناله من فيوضات كثيرة وذلك عبر مشاعر الاحترام والتبجيل التي يكنُّها لمرشده، والعشق والشوق له، والارتباط معه. ومن أقوال كبار أهل الدين:
«من في اليمن بجانبي، ومن في جانبي في اليمن».
فالأمر المهم هو عدم فقدان مشاعر الصحبة القلبية مهما كان المكان الذي أنت فيه. يقول رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا».[3]
إن الرابطة التي تُعدُّ من الأصول المهمة جدًا في التربية الصوفية موجودة في الطرق كلها تقريبًا مهما كان الاختلاف بينها في الاسم والأسلوب. بيد أن الرابطة- بدءًا من القرن التاسع عشر- وضعها بعض الأشخاص ضمن مسائل الإيمان والكفر، وهذا ما عرَّضها للانتقاد الشديد. مع أن الرابطة- كما ذكرنا سابقًا- حالة طبيعية أثبتها علم النفس، ولا علاقة لها أبدًا بالاعتقاد.
يقول عبيد الله أحرار في هذا الموضوع:
«ألا يقع المرء في الكفر حين يكون قلبه معلَّقًا بالمال والملك وما شابههما من الرغبات الدنيوية النفسانية؟ وهل يكون مخطئًا حين يكون قلبه مرتبطًا بمؤمن ويشعر بالمحبة تجاهه؟»[4]
وصفوة الكلام هي أن المريد يسعى لتقليد مرشده في أعماله الصالحة وأحواله الحسنة عبر المحافظة على المحبة التي يشعر بها تجاه مرشده في قلبه دائمًا وأبدًا. والمحافظةُ على نضج هذه المحبة والاحترام والتبجيل للمرشد دائمًا على هذا النحو، يُحيي فؤاد المريد. وإذا كان لصحبة الصالحين أثر عظيم، فما بالنا بالتأثير الذي تُحدثه محبتهم.
والمحبة هي إحدى أزواد السفر، وإحدى مطايا الطريق؛ بيد أن التجاوز في مقدار المحبة التي تُعدُّ أساس الرابطة، تجرُّ المرء إلى الإفراط. لهذا السبب، ليست الرابطة تجاوز الحدود في السلوك لدرجة إضافة الألوهية إلى المرشد المُتَّبع. فمثل هذه المحبة –والعياذ بالله- تُوقِع العبد في مصيدة الشرك، لأن المرشد ما هو إلا «واسطة» بالنسبة للمريد، وإيصال الواسطة بالمحبة الزائدة إلى مرتبة «الغاية» هو خطأ ما بعده خطأ.
وينبغي ألا ننسى أن كل عبدٍ ما خلا الأنبياء عاجزٌ وناقص، وحتى الأنبياء أنفسهم قد يقعون في زلَّات بسبب طبيعتهم البشرية، لكنهم يُوجَّهون إلى الطريق الصحيح بسبب تلقِّيهم التأييد الإلهي والمدد الربَّاني. ومهما كان من الضروري إظهار المحبة والاحترام والتبجيل لكبار أهل التصوف والروحانية، فمن الضروري مراعاة الحدود الشرعية في تعظيمهم.
إذا نظرنا في التاريخ سنجد الكثير من المناظرات والمناقشات والجدالات في المواضيع التي تتعلق بالدين والعلم في بلاد المسلمين كلها، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها الجدال الذي كان بين طريقة قاضي زاده والطريقة السيواسية، وفي الحقبة الأخيرة من الحكم العثماني المجادلة التي دارت بين الشيخ صفوت أفندي والمفكر إسماعيل حقي الإزميري، فماذا ينبغي أن يكون موقفنا في هذا الشأن؟ وهل ثمة منافسة بين التكية والمدرسة أو هل يمكن استبدال إحداهما بالأخرى؟
في الواقع لا توجد أي منافسة بين المدرسة والتكية، بل كلُّ واحدة تكمِّل الأخرى، فالعلم يكون قيِّمًا إن صاحبه تقوى، وعلم بلا تقوى لا يوصل الإنسان إلى الحق والخير.
فليست العبادات –على سبيل المثال- مجرد حركات تُؤدَّى ولا طقوس محفوظة، إنما غايتها الخشوع، ووسيلتها الخشوع، وهذا الجانب القلبي الأصلي فيها أكَّده المولى جل جلاله في كثير من آياته. حتى الإيمان نفسه، من شروطه التصديق بالقلب والإقرار بالجوارح بعد الإقرار باللسان، فالإقرار باللسان لا يكفي لتحقيق الإيمان، بل لا بدَّ من نفوذه إلى القلب؛ والتصوف هو الذي يهتم بذلك التواصل ما بين الجانبين الظاهري والباطني من أعمال العبادات. ولا سبيل إلى تحصيل حقيقة العلوم الظاهرية دون الاعتماد على المشاعر القلبية بجوار القواعد العقلية والأساليب العقلانية، فالعلم الذي يفتقد الخشوع كجسد فاقد للروح، علم لا ينفع، وها هم علماء بني إسرائيل حصَّلوا علمًا جمًّا لم يتجاوز عقولهم إلى مشاعرهم ولا إلى قلوبهم، فكانوا كما قال الله تعالى:
{…كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا…} (الجمعة، 5)
إن الفلسفة تصل إلى الحقيقة عبر وسيلة وحيدة وهي «العقل». ومع أن جميع المدارس الفلسفية لا تضع العقل في مرتبة عالية مثلما تفعل المدرسة «العقلانية» الفلسفية حين تُوصِلها إلى درجة القداسة، فإن هذه المدارس كلها تعتمد على العقل وسيلةً وحيدةً للبحث عن الحقيقة، جاهلة أن لكل شيء حدودًا، فلرؤية العين حدود، ولسمع الأذن حدود، وكذا لإدراك العقل حدود يقف عندها؛ لذلك ترى الفلاسفة الساعين لحل ألغاز الكون بعقولهم يفنِّد كلٌّ منهم الآخر.
وهناك تلاقٍ بين علم الكلام والفلسفة في المنهج العقلي إثباتًا للحق ودحضًا للباطل، لكن علم الكلام منضبط بضوابط الشرع، مبنية قواعده على القرآن والسنة، يزاوح بين «العقل» و«النص». غير أن علماء الكلام يقفون عند النقطة التي تنفد فيها طاقة العقل في إدراك الحقائق، وهنا يأتي دور التصوف ودور القلب عبر وسائله الخارقة للطبيعة في المعرفة مثل التسليم، والكشف والإلهام، والسوانح القلبية والتجلي.
وأما الاعتراضات على التصوف من الجانب العلمي فلها سببان أساسيان لا ثالث لهما: الأول هو البعد عن حقيقة التصوف، والثاني هو التركيز على ممارسات بعض من الناس ممن هم ليسوا أهلًا للتصوف والنظر إلى تلك الممارسات على أنها ممارسات صوفية.
ولكل مضمار مستغلُّوه، فلا عجب أن نرى بين الحين والآخر من يحاول استغلال التصوف، فيخرج علينا أحدهم ويدعي قائلًا: «أنا قطب هذا الزمان، أنا غوث هذا الزمان».
وقول مثل هذا بعيدٌ أشد البعد عن روح التصوف الحقيقي، وطلبٌ للشهرة والرياء. وإن نحن قلبنا صفحات التاريخ سنجد أن المتصوفة الحقيقيِّين قد نقدوا مثل هؤلاء، كما فعل رجال العلوم الإسلامية الأخرى.
وليس في التصوف وحده من يحيد عن الطريق ويخرج عن الصراط المستقيم، فها هم بعض من علماء الظاهر يرتكبون الخطأ نفسه. والسبب في ذلك هو ظنهم أنهم قد بلغوا قمة العلم وذروة المعرفة نتيجة الغرور والأنانية، متشبِّهين بإبليس في تكبره وقارون في عجرفته.
إن هدف المعركة التي يخوضها التصوف هو قلع جذور الأنانية والغرور والكبر داخل الإنسان كي يدرك عجزه وفناءه. فانظر -على سبيل المثال- إلى الشيخ خالد البغدادي الذي لُقِّبَ بـ «شمس الشموس» في العلم حين ذهب لزيارة الشيخ عبد الله دهلوي في زاويته، فلم يقم الشيخ عبد الله لاستقباله، وما أذِن له في التدريس في محرابه أو منبره، بل كانت أولى مهمَّاته هنالك تنظيف بيت الخلاء. وكذا فعل الشيخ عزيز محمود هُدائي حين كان قاضيَ بورصا وذهب إلى زاوية الشيخ أفتاده، كل ذلك كي يصل إلى إدراك فناءه وعجزه. وكان الشيخ شاه نقشبند من كبار أهل العلم وأساتذتهم، وكان في بدايات انتسابه مكلَّفًا بمهمَّات خدمية مثل تنظيف الطرق، ورعاية الحيوانات المريضة.
ولا ننسى أن الأنبياء أنفسهم قد خضعوا لهذه التربية المعنوية، فأكثر الأنبياء رعوا الغنم، فكانت هذه المرحلة مرحلةً تعلموا فيها التواضع، وأدركوا وسائل الإدارة والحكم، وعرفوا الرحمة بإحساسهم بالمخلوقات.
ومن أسباب الجدال والنقاش بين التصوف والعلوم الأخرى هو عدم إدراك مراتب العلم إدراكًا صحيحًا. ذلك أن العلوم على ثلاثة أقسام:
علم يعود للعوام.
وعلم للخواص.
وعلم لخواص الخواص.
وهذا القسم الثالث (علم لخواص الخواص) قسم خفي لا يدركه إلا أهله، وخير مثال عليه تيك الحادثة التي جرت بين موسى والخضر عليهما السلام وذُكِرت في القرآن. وثمة أمثلة أخرى كثيرة من عصر الرسول -صلي الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، فبينما كان معاذ بن جبل -رضي الله عنه- رديف رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يومًا، أخبره النبي -صلي الله عليه وسلم- أمرًا وأمره بكتمانه.[5] وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
«حفظت من رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم».[6]
أي ينبغي الحذر أشد الحذر من تبليغ بعض من العلوم الخفية التي تعود لخواص الخواص لمن ليس أهلًا لها، إذ قد لا يفهمونها فهمًا صحيحًا؛ ويقول الشيخ محي الدين بن عربي في هذا الشأن:
«من لم يعلم حالنا فلا يقرأ كتبنا».
وكثيرًا ما أُسيء فهم الكلام الذي نطق به بعض من السالكين المجذوبين أثناء سكرتهم المعنوية، لذلك ترى المرشدين الكاملين يمدون يد العون لمريديهم في مثل هذه الحالات، ويكونون خير سند وخير مدد لهم كي يتجاوزوا هذه المرحلة. غير أننا نجد في التاريخ من بقي محرومًا من حماية المرشد الكامل الفطن، فكانت أقوالهم وكتاباتهم موضوعًا للجدل والجدال.
وها هو الشيخ بهاء الدين نقشبند أحد علماء الحديث الشريف ومن أولياء الله تعالى، والذي ذاع صيته في مدارس بخارى حتى أقبل على دروسه الكثير من العلماء والطلاب والمريدين، حتى اشتكت بقية المدارس من قلة الطلاب فيها، وازدحامهم عند الشيخ بهاء الدين، وضجَّ العلماء -علماء الظاهر- قلقًا من هذا الأمر، فخاطبهم شيخنا بهاء الدين النقشبندي:
«دعوني أخبركم بطريقتنا، وإذا ما كان هناك شيء مخالف للقرآن والسنة، فأعلمونا كي نكفَّ عنه».
وبعد أن تلقَّى العلماء أجوبة مقنعة على الأسئلة كلها، واستمعوا له لمدة طويلة، لم يجدوا ما يمكن الحديث عنه فقالوا:
«إن طريقتكم طريقة استقامة (أي وفق القرآن والسنة)، ولا اعتراض لنا عليها».
وحين قال أحدهم:
«العمامة التي ترتدونها سبب للشهرة».
أجاب سيدنا بهاء الدين:
«إذا ما صارت العمامة موضوع جدل، فإن عدم ارتدائها أنسب». ثم خلع عمامته وأعطاها لفقير[7].
وبعد هذه الحادثة ارتفعت مكانة شيخنا النقشبندي لدى العلماء كلهم.
فما أعظمه من خطأ أن ينكر المرء حقيقة التصوف بالنظر إلى أحوال وأفعال بعض من الجهال الذين يظنون أنفسهم من أهل التصوف، أو بالنظر إلى سلوك مدَّعِي التصوف الذين هدفهم هو النيل منه وصدُّ الناس عن سبيله. وليست العلوم الدينية بمعزل عن المجالات الأخرى، ففيها أيضًا تحدث الأخطاء والمغالطات، لكن من اليسير على أهل العلم والدراية أن يكشفوها. وكما أنه تظهر مذاهب باطلة تحيد عن الحق، فمن الطبيعي أن تظهر طرق باطلة فاسدة تحيد عن التصوف الحقيقي، وكما أنه من الخطأ توجيه أصابع النقد إلى الإسلام بسبب وجود بعض من المسلمين ممن لم يفهموا الإسلام فعاشوا حياتهم بصورة خاطئة، كذلك من الخطأ رفض التصوف بالنظر إلى ممارسات من أساء فهم التصوف.
إن هدف التصوف الحقيقي هو تطهير العالم الباطني والظاهري كليهما استنادًا إلى القرآن والسنة، واجتهاد الأئمة، والطرائق التي يستحسنها المرشدون الكاملون، وإصلاح القلب كي يكون قاعدة للوصول بالإيمان إلى مرتبة اليقين والعيش بمحبة ووجد.
فالتصوف إذًا جزء من العلوم الإسلامية لا ينفكُّ عنها، وله علاقة خاصة مع الفقه، فهما مثل نصفَي التفاحة، جزءان يكمِّل بعضهما الآخر، إن كان الحديث عن اتباع أوامر الله ونواهيه ظاهراً وباطناً.
فالأصل هو أن العلوم الإسلامية مثل التصوف والفقه والاعتقاد والكلام، كلها لها المحتوى نفسه ولكنها تختلف في مجالاتها، فالإمام الأعظم أبو حنيفة يعرِّف الفقه بقوله: «معرفة النفس ما لها وما عليها».
وتُشكل «معرفة الله حق المعرفة» الجزء الأهم في هذا العلم، وهذه المعرفة هي من أكثر الأمور تأثيرًا في سعادة المرء وهلاكه، ولهذا السبب تطلق كلمة «الفقه الأكبر» على المسائل العقائدية التي وضحها الإمام الأعظم أبو حنيفة. وكان هذا هو حال الفقه في البداية، ولكن حين توسعت مجالات هذا العلم فيما بعد، ابتعدوا عن فقه الأحكام العقائدية والأخلاقية، واقتصروا على الأحكام العملية للعبادات، والأمور القضائية للعبادات، والشروط الظاهرية لصحة العبادة؛ وهذا هو المعنى المفهوم من كلمة الفقه في أيامنا هذه.
وفي الجهة الأخرى يتابع التصوف الشروط الباطنية لصحة العبادات والمعاملات، والشروط القلبية لصحة السلوكيات، ويعد القواعد الباطنية التي تصحح ذلك كله، ولهذا فإن التصوف يُطلق عليه اسم «فقه الباطن» لأنه يمثل القاعدة الروحانية لعلم الفقه، وهو كنهه وجوهره. فالله -عز وجل- يقول في كتابه العزيز:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}
ثم يتبعها بقوله:
{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [8]مؤكِّدًا على الجانب القلبي في كل عمل.
التصوف إذًا مدرسة تربوية تعليمية تستند إلى الكتاب والسنة في تعليمها الإنسان تحقيق الأعمال القلبية مثل التقوى والخشوع والتوبة والرضا، واجتثاث جذور الأمراض القلبية مثل الرياء والعجب والكبر والحسد.
ويقول محمد بن عبد الله الخاني في كتابه «الآداب»:
«وتعلُّم علم الظاهر لا يغني عن تعلم علم الباطن، وقد ثبت ذلك عن كثير من العلماء الأكابر المتقدمين والمتأخرين: فمِن الحنفية كابن الهمام، وابن الشلبي، والشرنبلالي، وخير الدين الرملي، والحموي محشي الأشباه وأمثالهم؛ ومن الشافعية كسلطان العلماء العز ابن عبد السلام، والإمام الغزالي، وتاج الدين السبكي، والسيوطي، وشيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري، والعلامة الشهاب ابن حجر الهيتمي المكي وأضرابهم؛ ومن المالكية كالعارف أبي الحسن الشاذلي، وخليفته الشيخ أبي العباس المرسي، وخليفته الشيخ ابن عطاء الله الاسكندري، والعارف ابن أبي جمرة، وناصر الدين اللقاني، والشيخ العلامة المحقق العارف أحمد زروق البرلسي وغيرهم؛ ومن الحنابلة كالشيخ عبد القادر الجيلي، وشيخ الإسلام الشيخ عبد الله الأنصاري الهروي، والشيخ ابن النجار الفتوحي وغيرهم. [وثمة علماء مشهورون منتسبون للنقشبندية، مثل السيد الشريف الجرجاني، والملا الجامي، وعبد الحكيم السيالكوتي، وعبد الغني النابلسي، وابن عابدين، وشهاب الدين الآلوسي]. وهؤلاء العلماء الأجلَّة بعد التضلع من علوم الظاهر، اشتغلوا بتحصيل علوم الباطن واستفادتها من أهلها بالصحبة والخدمة والسلوك وحسن الاعتقاد والإخلاص والتخلية من الرذائل والتحلية بالفضائل».[9]
وهناك أيضًا الكثير من الشخصيات العالمة في السلسلة النقشبندية، مثل يوسف الهمداني، والشيخ نقشبند، وعلاء الدين العطَّار، ويعقوب الچرخي، ودرويش محمد، والإمام الرباني، وخالد البغدادي، قد وصلوا إلى الذروة في العلوم الظاهرية ونالوا إجازات فيها. وقد أطلق أهل العلم في السلسلة النقشبندية على هؤلاء الشخصيات اسم «خواجكان» أي «الأساتذة» لأنهم تعلموا في المدارس الدينية.
وما أعظم قول الإمام مالك رحمة الله عليه:
«من تفقَّه ولم يتصوف فقد تفسَّق، ومن تصوَّف ولم يتفقَّه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقَّق».[10]
ويذكر عبد الخالق غجدواني أن المرء الذي يصل إلى مرتبة فناء النفس هو من يحمل القرآن الكريم بيده اليمنى والأحاديث الشريفة بيده اليسرى، ويسلك سبيل الهداية بنوريهما[11]، وينصح أحد مريديه قائلاً:
«تعلم علم الفقه والحديث، وابتعد عن الجهَّال من المتصوفة»[12].
وصفوة الكلام هي أن الزاوية والمدرسة ليستا في موضع المنافسة، ولا يمكن استبدال إحداهما بالأخرى، بل كل منهما تتم الأخرى؛ ذلك أن إدراك الإسلام بالمعنى الكامل والحياة في نوره لا يمكن إلا بتكامل العلم والعرفان.
ثمة حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها، وهي دور التصوف في بث نسمات الإسلام التي تبعث الحياة في المجتمعات غير المسلمة عبر التبليغ، وكذلك دوره في الإرشاد في المجتمعات المسلمة والحرص على استقامتها. ولا يخفى على أحد دور الجمعيات والأوقاف ذات الجذور الصوفية في الداخل والخارج، سواء أكان في الأنشطة العلمية والاجتماعية التي يمتد أثرها لأجيال قادمة، أم المساعدات التي تقدمها في المناطق التي تعرضت للكوارث، والمشاريع التي تقوم بها هناك إلى جانب المؤسسات المختلفة الأخرى. وكل هذه الجهود والمساعي يقودنا إلى أمرين:
إن أهل التصوف قد وسَّعوا مجال نشاطاتهم، إضافة إلى المحافظة على المهمات الأساسية.
دخولهم المجالات الدنيوية، وهو ما يعني بداية عصر جعل الأعمال الصوفية دنيوية.
فما هو تعليقكم على هذا الأمر؟
ينبغي لنا أن نعرف في البداية أن التصوف يُعلِّم المرء التخلص من الأنانية والنفسانية، ويقدم له وصفة تجعله مؤمنًا خدومًا يتحلى بالقيم النبيلة مثل التضحية والإيثار. فالتصوف من هذا الجانب تغلُّبك على نفسك وبذلُك الجهد في سبيل التخلص من قيودها. والتصوف يجعل من الأفئدة أمكنة تتنزل عليها الرحمات والفيوضات وتجد فيها المخلوقات الطمأنينة، ويحث الإنسان كي يكون مؤمنًا طيبًا يكون الخير والفائدة في أحواله وأقواله وأفعاله. لذا فإن الخدمات الاجتماعية أكانت خدمة للإنسان أو الحيوان أو النبات موجودة أصلًا في جوهر التربية الصوفية ولبِّها، وليست أمرًا جديدًا في مضمارها.
لذلك فإن انتقال هذه الخاصية الموجودة في لبِّ التصوف من القول إلى الفعل في أيامنا هذه ستجعل العقول ترى توسع مجال اهتمام التصوف ونشاطاته.
إن التصوف مسؤوليةٌ يحملها أولئك الربَّانيون تجاه عباد الله الغافلين الشاردين التائهين، فيعاملونهم ويخدمونهم ويرشدونهم بالشفقة والرحمة والمحبة لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته.
فالتصوف ليس حياة يضع فيها المرء نفسه في تكيَّة من أجل كماله المعنوي، لا بل إن تقديم الخدمات لمدة محددة بقلب واعٍ مدرك يماثل طرائق التربية التي تتبعها بعض الطرق الصوفية مثل العزلة والإنزواء ابتغاء تطهير العالم الداخلي.
وليس التصوف انعزال المرء في تكية أو زاوية وعدم التدخل في الأمور الدنيوية، بل الخدمة من أجل تنوير العالم الخارجي وتنظيمه بفيوضات الفؤاد التي تتجلى في التكايا والزوايا، وتعليم الناس أن النجاة في دار الخلود سبيلها خدمة الآخرين من أجل نجاتهم.
وكان من أقوال والدي الشيخ موسى رحمة الله عليه في هذا الشأن:
«إن طريقتنا ليست الانزواء في زاوية، بل هي السير على نهج الصحابة الكرام…هي الخدمة ليل نهار. إننا نداوم بكل محبة على أورادنا، ونستمر في مجالسنا، ونبذل أيضًا كل جهدنا في سبيل خدمة المجتمع».[13]
والحق أن مجال الخدمة الذي يعمل التصوف فيه ليس كما يفهمه الكثير من الناس حين يظنون أنه مجال يتنعم فيه المرء بالهدوء والسكون؛ بل مجال فيه الجد والكد، مجال يتنوع ويتغير بتغير ظروف الزمان والاحتياجات والضرورات، فإن كان في المجتمع تقصير في النشاطات العلمية أو نقص وفتور في خدمات التبليغ والإرشاد، فإن الخدمة في هذا المجال تكون على رأس جدول الأعمال. وحين تتعرض البلاد لكوارث مثل السيول أو الحرائق أو الزلازل أو (تسونامي)، أو تعصف بها مشاكل اجتماعية واقتصادية مثل الحروب أو المجاعات، عندها تظهر التضحيات المادية والبذل والإنفاق والإيثار. فليس المقصود إذًا البقاء في مكان محدد والاقتصار على خدمة معينة، بل التشمير عن السواعد في زمن الحاجة وحين يكون هناك نقص وتقصير في موضوع ما.
ونحن إن تصفحنا التاريخ سنجد أن المؤسسات ذات الأصل الصوفي كانت تحمل المسؤوليات الاجتماعية في الإسلام منذ زمن طويل وليس هو بالأمر المستحدث، فالأولياء الصالحون الشجعان والدراويش البواسل هم أول من توجهوا إلى بلاد الأناضول ابتغاء إدخال أهلها الإسلام. والدراويش هم أيضًا من حملوا راية الإسلام في البلقان، وزرعوا في الأفئدة بذور الإيمان. أما في أفريقية فكانت الطرق الصوفية هي التي حفظت الإسلام مع وجود كل البعثات التبشيرية النصرانية هناك. وإذا توجَّهنا تلقاء روسيا سنجد أن التيارات الصوفية هي التي أبقت الإسلام حيًّا في القلوب طوال سبعين سنة تحت نير الإلحاد وظلم الملحدين. ففي كل مكان انتشرت فيه الطرق الصوفية حافظ الناس على هويتهم الإسلامية على ما تعرضوا له من جور واضطهاد. وحيثما حلَّ التصوف كان الإسلام شامخًا كالشجرة الباسقة لا يضيرها شيء، والدليل على ذلك ما نقرأه في كتاب «الصوفي والضابط» الذي يبحث في أثر الإسلام -أو التصوف على وجه التحديد- في محافظة إخوتنا على هويتهم ووجودهم تحت ظلم النظام السوفيتي.
ولا بد لنا أن نذكر هنا طريق كبار العلماء والأولياء الذين جعلوا طريقتهم قائمة على المفهوم السني للإسلام، فصانوا المنسوبين والمريدين من التيارات الباطنية والحروفية. ولم يقتصر العثمانيون على السعي في سبيل تحقيق غاية دولتهم الأساسية، وهي تنفيذ الأحكام الشرعية، بل سعوا لتربية القلب وتطهيره إلى جانب إخضاع العقل والإرادة -لاسيما العلماء ورجال الدولة في الحقبة الأخيرة- ففضَّلوا الطريقة النقشبندية التي استوعبت العلوم الظاهرية والأحكام الشرعية كما ينبغي، فانتشرت هذه الطريقة انتشارًا واسعًا في البلاد التي كانت تخضع للدولة العثمانية العليَّة.
ولكن الإيمان بدأ يفتر في القرن التاسع عشر والتمسك بالدين بات ضعيفًا في بلادنا نتيجة تأثير الغرب الذي ابتعد عن الدين بسبب المذاهب العقلية الوضعية. فكان لانتشار الطريقة النقشبندية الخالدية المتمسكة بالشريعة الغراء آنذاك دورٌ كبير وعظيم في إيقاف هذه التيارات الفكرية السيئة، على يد المرشدين الكاملين الذين يعود كل فضلهم لمولانا خالد البغدادي.
فقد قدَّم مولانا خالد البغدادي خدمة عظيمة جليلة حين ربَّى مئات المرشدين والمريدين، ونشرهم في البلاد الخاضعة للعثمانيين، ساعيًا إلى زيادة عدد المسلمين الواعين الناضجين. ولعل هذا الانتشار الروحاني للطريقة كان عاملًا كبيرًا في تجاوز أمتنا المصائب الكبرى، وصون ديننا وعزنا وشرفنا.
وكان للتصوف من جانب آخر وظيفة حياتية عظيمة في سبيل طمأنينة الفرد والمجتمع ونشر السكينة والهدوء، فتوسَّع وزاد انتشاره، لاسيما إن كان حديثنا عن حالتين:
حين كان التصوف عزاء للأرواح في الأوقات العصيبة.
وحين كبح جماح النفوس في أوقات الراحة والسعة.
والحق أن التصوف على مدى التاريخ قد وقف حاجزًا منيعًا أمام الكسل والخمول في أوقات الرخاء الاقتصادي والترف الاجتماعي، واستطاع خلال الأوقات العصيبة المليئة بالاحتلال والظلم أن يُوجِد متنفَّسًا روحانيًا يتسامى بالأفئدة فوق حطام الدنيا وظلامها الكئيب، وقدم بلسمًا للأفئدة الجريحة.
وهذا السلوك سلوك نبوي بالتمام، فقد كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- حين تنزل عليه نعمة أو يحقق نصرًا يقول:
«اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ…»[14]
فيمنع ميل القلوب إلى الدنيا، ويحميها من الغرور والأنانية. وحين تصيبه مصيبة أو يحل به همٌّ كان يكرر قوله:
«اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة» فيحذِّر القلوب المؤمنة من الوقوع في مستنقع اليأس والشكوى والأسى بسبب الهموم المادية، ومن الابتعاد عن حال الرضا بقضاء الله وقدره؛ وبذلك قدَّم لأمَّته الوصفة المعنوية كي تحيا في سكينة وأمن وأمان في كل حال.
ولن ينجو الإنسان من الأزمات والضيق سواء أكان في سرَّاء أم ضرَّاء ما دام بعيدًا عن الروحانية؛ فهو بحاجة لكبح هواه في السرَّاء، وللمواساة في الضرَّاء.
لذلك يجب عليه في كلا الحالين أن يتَّبِع التصوف القائم على الأصول النبوية في التربية.
وثمة جانب آخر في التصوف لا بد أن نذكره هنا، وهو أسلوبه وطريقته في إصلاح الناس. ففي عالم غارق في شهوات النفس واستعباد العقل وسيادة المادة، وفي وسط أناس قد أسرَتهم الدنيا، وأهلكتهم الذنوب، ولم يعد لديهم أمل في النجاة؛ تبرز أهمية المحبة والرأفة والعفو والمسامحة أسلوبًا للإنقاذ والعلاج والهداية. فتهب نسائم الإسلام على الأرواح الخاضعة لسلطان العقل والنفس كنفحة تسكِّن الآلام، وتحملها بوداعة إلى سبيل النجاة والفلاح. فالتصوف يقبل على المذنب -لا الذنب- بالرحمة والمسامحة، ويراه كالطير المكسور جناحه يحتاج الرأفة والاهتمام.
ولا ريب أن نجاح جهود أهل التصوف وأعمالهم على مدى التاريخ هو السبب في إبقاء الإسلام حيًّا في القلوب وانتقاله إلى الأجيال القادمة، وفي إرشاد الناس وتبليغ الدين الحنيف.
ويبيِّن محمد حميد الله وهو من أبرز علماء الإسلام في القرن الماضي هذه الحقيقة بقوله:
«ومنذ أن بدأت العيش في مجتمع غربي في محيط مثل باريس، كنت أشعر بدهشة وحيرة من قبول المسيحيين للإسلام، ذلك أن ما دفع هؤلاء إلى اعتناق الإسلام، ليست آراء علماء الفقه والكلام، بل هم الصوفيون مثل ابن عربي، ومولانا جلال الدين الرومي.
وكنت في هذا الموضوع شاهد عيان، فعندما طُلب مني إيضاح في إحدى الموضوعات الإسلامية، لم تكن أجوبتي وأدلتي العقلية مقنعة للسائل، ولكن الإيضاح الصوفي لم يتأخر عن إعطاء ثمرته. وبدأت أفقد بالتدريج قوة تأثيري في هذا الموضوع، والآن أنا مؤمن أن الذي سيخدم الإسلام اليوم لا سيما في أوربا وأفريقيا، ليس السيف أو العقل، بل هو القلب –أي التصوف- كما كان الحال في زمن (قزان خان) عقب الدمار والخراب الذي سبَّبه هولاكو.
وبعد رؤيتي الجديدة في هذا الموضوع، بدأت في دراسة بعض المؤلفات التي كُتبت في موضوع التصوف، وهذا فتح عيون قلبي، وفهمت أن التصوف الذي كان في عهد النبي -صلي الله عليه وسلم- وطريق كبار متصوفة الإسلام، لم يكن الانشغال بالكلام فقط أو بأشياء لا معنى لها، بل كان السير في أقصر طريق بين الإنسان وربه سبحانه وتعالى، والبحث عن تنمية الشخصية وتطويرها.
ويبحث الإنسان بطبعه عن أسباب الواجبات التي كُلف بها، لكن الشروح المادية في المجال المعنوي تُبعدنا عن الهدف، أما الشروح المعنوية فهي التي تُقنِع الإنسان»[15]
ونفهم من هذا التوضيح أن رفض التصوف المطابق تماماً للقرآن والسنة هو كُفرانٌ بالنعمة؛ عاقبته وبالٌ كبير.
فاليوم لا تقتصر معاناة العالَم على الجوع البدني فحسب، بل ثمة جوع روحي وتعطش قلبي يجعل الناس في ضيق وهمٍّ؛ فخير ملجأ هو ملجأ التصوف الذي تهب فيه نسمات تسعد الأرواح الحائرة.
ولا يخفى على أحد أن كتاب المثنوي لمولانا جلال الدين الرومي هو في مقدمة الكتب التي تهتم بروح الإنسان وأكثرها انتشارًا في القارة الأمريكية.
ومن المواضيع التي تجذب انتباهنا هو إعلان (اليونسكو) عام 2007 «عام مولانا»، وهو العام الذي يوافق ذكرى مرور 800 عام على ولادته.
وإذا انتقلنا إلى القسم الثاني من سؤالك حول بداية ميل التصوف إلى الأمور الدنيوية، فاعلم أن التصوف الحقيقي هو تربية القلوب لحمايتها من الوقوع في أسْرِ الدنيا، وإبعادها عن الغفلة بالذكر والصبر والشكر والقناعة والتفكر. والتصوف سعي لإخراج كل ما سوى الله من القلب كي لا يكون فيه إلا هو سبحانه وتعالى.
ولكن هذا لا يعني العزوف عن الدنيا بما فيها، بل الانشغال بالدنيا تحت قاعدة «اليد في الكسب والقلب مع الرب».
والحذر الحذر من جعل القلب مرتبطًا مع الله تعالى وكيسًا للمال في الوقت نفسه. وخير قدوة نقتدي بها في هذا الشأن حالُ سيدنا سليمان عليه السلام حين أُعطي من المُلك ما لم يُعطَ مثله إنس ولا جان لا قبله ولا بعده. فليس المقصود قطع الارتباط بالدنيا، بل الحيلولة دون إشغالها قلب الإنسان.
ويحذِّرنا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أشدَّ التحذير فيقول:
«فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لاَ الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».[16]
وقوله عليه الصلاة والسلام:
«مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ [الأمة الإسلامية] عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ».[17]
«مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ -عز وجل- لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».[18]
فاستغلال الدين والإسراف والمفاخرة والفخفخة طلبًا للدنيا ليست من حياة المسلم، وهدف التصوف هو إبعاد العبد عن مثل هذه الأمور التي تزيد من النفسانيات، وهنا لا بد أن يكون أرباب التصوف في غاية الحذر والحيطة.
وكان من أقوال والدي موسى أفندي رحمة الله عليه:
«إن الإنسان في البداية يحب المال حبًّا جمًّا، ثم يأتي عليه زمان تنعدم فيه كل محبة حتى محبة المال. ثم يأتي عليه زمان يحب فيه الدنيا والمال مرة أخرى، لكن بمعنى آخر، إذ تكون غايته الكسب والعطاء في سبيل الله، وعندها يصبح إنفاق المال عبادة، ويغدو كل عمل ذا نفع وفائدة له ما دام لم يكن لنفسه فيه نصيب».[19]
وخلاصة القول هي أنه ينبغي للمسلم أن تكون نيته العبادة حين ينشغل بالدنيا، كي يدرك حقيقة عالَم الفناء ويستعد لعالَم البقاء. ولا بد أن تكون غايته السعي والعمل كي يمنع قلبه من الميل إلى الأمور الدنيوية المادية الفانية، ويسعى لشق طريق يأخذ قلبه إلى الروحانية عبر كل أمر مادي.
[1]. انظر: البخاري، فضائل أصحاب النبي 9، الدعوات 11؛ مسلم، الذكر 79، 80؛ ابن ماجه، الأدب.
[2] الترمذي، الشمائل، ص10.
[3]. أحمد بن حنبل، جـ،5، 235.
[4]. علي بن حسين صافي، رشحات عين الحياة (قارن: علي أصغر مُعينيان)، طهران 2536/1977، جـ2، 636-637.
[5]. انظر: البخاري، العلم، 49.
[6]. انظر: البخاري، العلم، 42.
[7]. صلاح الدين بن المبارك البخاري، أنيس الطالبين، ص 278-279؛ أبو القاسم، الرسالة البهائية، الورقة: 74ب- 75ب.
[8] انظر: المؤمنون، 1-2.
[9]. محمد بن عبد الله الخاني، الآداب، إسطنبول 2009، ص8-9.
[10]. علي القاري، مرقاة المفاتيح، بيروت، 1422، جـ1، 335.
[11]. عبد الرحمن الجامي، نفحات الأنس من حضرة القدس (تحقيق: محمود عبيدي)، طهران 1375، ص384.
[12]. عبد الخالق غجدواني، الوصايا، مكتبة بيازيد العامة، قسم ولي الدين أفندي، رقم: 3229، الورقة: 11أ.
[13]. صادق دانا، مجالس ألتن أولوق، 5، ص40.
[14]. البخاري، الرقاق، 1.
[15]. محمد عزيز لحبابي، شخصية الإسلام، ترجمة إسماعيل حقي آقن، ص 114-115، هامش8، اسطنبول، 1972. وهذا الهامش هو نص الرسالة المؤرخة في27 سبتمبر/أيلول 1967 والذي كتبه محمد حميد الله إلى المترجم.
[16]. البخاري، الرقاق 7، الجزية 1؛ مسلم، الزهد 6.
[17]. أحمد، جـ5، 134.
[18]. انظر: أبو داوود، العلم، 12/3664؛ ابن ماجه، المقدمة، 23.
[19]. مجلة التون أولوق، نيسان، 1997، عدد 134، ص28.