«التصوف يجعل العبودية في أجمل شكل بأحاسيس المراقبة والإحسان ضمن إطار الكتاب والسنة. والتصوف ليس شيئا آخر سوى إلغاء الموانع التي تعوق العبودية وتعطلها وتأكيد الإمكانيات التي ستصبح وسيلة للعبودية».
– ألتون أولوق: سيدي أعددتم كتاباً باسم «التصوف من الإيمان إلى الإحسان».
وحتى يومنا هذا ظهرت كتب كثيرة جداً تدور حول التصوف فلماذا أحسستم بالحاجة لتأليف كتاب جديد؟.
-المؤلف: في الحقيقة هذا صحيح لقد أُلفت كتب كثيرة جدّاً تناولت موضوع التصوف. ولكن المد والجزر الذي في داخل تيار الحياة المتحرك – أي انقياد المجتمع للمادة – يحيل الهدوء والسكنية الإجتماعية فسادًا. وتظهر كل يوم أمام البشر مجموعة من الحاجات الجديدة، ومع تشابه جوهر المسائل تنشأ مع الوقت آراء ورغبات جديدة.
ومثلما توجد حاجة لتأليف كتب شرعية وتاريخية لتقييم هذه الآراء والرغبات ومواجهة تلك الإحتياجات، توجد حاجة أيضًا في كل عصر لكتابة المسائل الصوفية من جديد كضرورة للتربية الروحية تبعًا لمقتضيات العصر وحاجاته. أي أنه من اللازم للغاية التعبير عن حقيقة الصوفية وحقائقها بلغة تلائم العصر وتُصحّحُ المفاهيم والتجاوزات الخاطئة.
ومن المؤكد أن هذا ليس هو السبب فقط، بل لكي يتمكن الميدان الصوفي من تقديم الجماليات الواسعة التي يشملها التصوف إلى القلوب كلها -بحسب الزمان والمكان- لابد أن يكون حاله تشبه تقريبًا بحرًا من المؤلفات.
ولهذا فنحن سعينا لتقديم قطرة قلبية قاصرة عاجزة إلى هذا البحر لتحقيق نفس الغايات. ولأن التصوف حال أكثر منه مَقالاً فسوف نغبط أنفسنا لو استطعنا أن نكون جسرًا لتوجيه القلوب إلى ذلك الحضور العالي.
أي أننا لم نكتب كتابنا هذا بدعوى تجاوز ما كُتب حتى الآن، هذا ما يقتضيه حال الأدب مع السابقين. بل إن عملنا عبارة عن نقل التصوف من جديد إلى روزنامه الحياة اليومية بخطوطه العامة بشكل يناسب المصلحة تبعًا لمقتضيات وظروف عصرنا مع الإستفادة من المؤلفات الصوفية التي أُلفت حتى يومنا هذا، والحياة النورانية لِأَحبّاء وأولياءِ الحق -عز وجل-.
وهذا الكتاب أساسًا هو جرة ماء رشحت من التراث الصوفي لأحبّاء الحق وقدمت لإنسان هذا العصر.
فأحباء الحق ينظرون إلى الشمس المشرقة وإلى اللوحات المتداخلة الألوان التي ترسمها حزم الضوء عند الغروب بصورة تدعو إلى الإنبهار والدهشة، ويحلقون بكل وسيلة إلى آفاق معرفة الله تعالى. وهؤلاء عندما ينظرون بعيون مليئة بالمحبة حتى إلى إحدى الحيات ينبهر بالتموجات والخطوط الجميلة على جلد ذلك الحيوان بدلاً من الفزع والرعب الذي يصيب الآخرين، ويفتنون بسرعته عند الحركة رغم أنه ليس لديه أقدام. أي أن هؤلاء الخواص ينظرون بنظر المحبة والحكمة إلى المخلوقات كلها .
مرة أخرى فإن هذا الكتاب قد تم تأليفه بغرض بيان عدم صحة المفهوم الذي يرى التصوف أسلوبًا ونظامًا منفصلاً عن الإسلام، وللتعبير بشكل واضح عن ضرورة أن يُعاش الدين داخل نورانية وحضور في كل أحواله الظاهرية والباطنية. ولنؤكد على هذه الغاية بالأساس أَسمينا الكتاب باسم «التصوف من الإيمان إلى الإحسان».
والغاية من تأليف هذا الكتاب هو تتويج الإيمان والإسلام بتاج «الإحسان». أي إنبات شعور المراقبة الإلهية في القلب، لأن التصوف الحقيقي هو أن تعيش وقد أخذت نصيبًا من الأسرار والحكم الوجدانية التي في عمق الكتاب والسنة. وكل قول أو حال أو سلوك يخالف ما جاء به الكتاب والسنة باطل، وللتعبير عن هذه الحقيقة قيل: «الشريعة قدم الفرجار الثابتة».فقد قال مولانا جلال الدين -قدس سره-:«نحن مثل الفِرْجَار قدمنا الثابتة في الشريعة ونحن نطوف بقدمنا الأولى على اثنين وسبعين أمة».
«والشريعة تشبه شمعة تنشر الضوء وتنير الطريق مع الإعتناء بالشمعة والبحث عنها لن تضل الطريق. ولكن لن تستطيع أن تسلك الطريق دون الإعتناء فهل بدأت في سلوك الطريق في ضوء الشريعة. وهكذا التصوف هو ذلك الطريق».
ومن ناحية أخرى فإن الإحسان الذي يجعل المشاهدة الإلهية حالة شعورية ثابتة في القلب. ويجعل العبد كأنما يرى الله تعالى في كل لحظة ويجعله ينظم حياته على هذا المنوال هو في النهاية المعراج الروحي لعباد الله تعالى المقربين إليه. وهو حقيقة معنوية وروحية وإلهية خفية. وهدف المتصوفة الوصول إلى هذه الحقيقة. وهذا أيضًا يوضح الرابطة الروحية الداخلية الباطنية التي تأسست مع الله تعالى.والشخص الذي أسس هذه الرابطة بشكل صحيح يتحول إلى ولي لله تعالى وهذا هو التخلق بالأخلاق الإلهية.
أما هذه الحال فهي العبودية لله تعالى في أجمل صورة والإستعداد الجدّي للعالم الأبدي. أي أن التصوف هو إمكانية أن تعيش العبودية في أجمل صورة. لأن الخالق -عز وجل- قد خلق الإنسان لعبادته فقط.
وعلى هذا فالتصوف يمكن أن يجعل العبودية في أجمل صورة بأحاسيس المراقبة والإحسان ضمن إطار الكتاب والسنة. والتصوف ليس شيئا آخر سوى إلغاء الموانع التي تعوق العبودية وتعطلها وتأكيد الإمكانية التي ستصبح وسيلة للعبودية.
وهو تحويل الأراضي اليابسة والأماكن الميتة التي ليس بها حياة أو روح إلى حديقة غناء خضراء منبتة زاهية الألوان. ويجعل كثيرًا من القلوب الخربة قصورًا معمورة.
باختصار فإن التصوف هو طريق منير يجعل العباد جديرين عند الخالق -عز وجل- بمقام «نعم العبد»، وهم ذاهبون من عالم الغربة ذلك إلى عالم الوصول الأبدي الخالد، وهذا أيضًا بلا شك يكون ممكناً بتحول الإيمان إلى قوام الإحسان.
-ألتون أولوق: إن ما ذكرتموه على كل حال يعكس في نفس الوقت إطار الكتاب ومحتواه. فمن نفس الزاوية ما هي الأشياء التي تكلمتم عنها بشكل عام في الكتاب؟ وما هي الأشياء التي اكتسبت أهمية خاصة في الحديث عنها ؟
– المؤلف: بعد أن عرضنا في كتابنا محتوى التصوف بشكل عام، سعينا لإيضاح المسائل -التي تشكل موضوعه الأساسي- مثل معرفة الله ومحبة الله تعالى، وتزكية النفس، وتصفية القلب، والأسلوب والطريقة الصوفية.
واجتهدنا لتقديم نماذج من سِيَر عظماء الإسلام وعلى رأسهم رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، ومن تبعه بإحسان. وعرضنا مرارًا وتكرارًا المعلومات التي تجيب على مجموعة من الآراء والشبهات المختلفة المتعلقة بأعماق التصوف ودقائقه من ناحية الفكر فقط دون أن نستهدف الأشخاص.
فضلاً عن ذلك فقد أشرنا في الكتاب إلى عدم وجود أية علاقة لهذا الطريق المبارك بتلك الأفعال والتطبيقات غير اللائقة التي يقوم بها أشخاص بعيدون عن التربية المعنوية التي يقدمها التصوف، أو بسبب جهلهم وغفلتهم فقط مع توافر النية الحسنة. لأن التصوف يهدف إلى إنضاج الإنسان عن طريق تزكية النفس تلك النفس التي تحدث عنها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة بخاصة، والتماس السعادة الأبدية بهذه الطريقة. وهذا الأمر هو حقيقة يشير إليها الحق -عز وجل- ويؤكد عليها المرة تلو الأخرى. يقول الله -عز وجل- في كتابه الكريم:
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا. وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا. وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا. وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس، 1–10)
وقد أقسم الله بما أقسم به ليبين شرف الموجودات التي يقسم بها وقيمتها، وليظهر أهمية وعظمة وعلو المراد الإلهي والغاية الإلهية التي وضحها بعد ذلك القسم. وهكذا الوضع في الأَيْمان التي وردت في هذه الآيات، مع ملاحظة أن الله تعالى قد أقسم سبع مرات كاملة المرة تلو الأخرى في هذه الآيات الكريمة فقط، واستعمل كلمة قد مما يزيد المعنى قوة وتأكيدًا. لذا قال الحق تعالى بعد تلك التأكيدات: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}.
ومما يوجب الملاحظة ويلفت الإنتباه أنه لم يرد في القرآن أبدًا القسم سبع مرات متتاليات بخصوص أمر آخر سوى تزكية النفس. وهذه الحقيقة تكفي لبيان أهمية وضرورة تزكية النفس -إلى هذا الحد- من أجل نجاة الإنسان وخلاصه.
وهكذا فإن هذا الكتاب الذي نشرناه تحت اسم «التصوف من الإيمان إلى الإحسان» هو عبارة عن إيضاح أحبّاء الحق وأوليائِه لهذه الحقيقة – أي تزكية النفس – بأقوالهم وأحوالهم وجمال سلوكهم.
– ألتون أولوق: كل ذلك كان بلا شك جواباً لسؤال عن «كيفية التصوف». وتبعا لهذا كيف يجب علينا تعريف التصوف بشكل جامع لمفرداته مانع للخلاف حوله؟ فلو أمكن الإجابة من شخصكم الكريم عن طريق ذكر تعريف أو تعريفات للتصوف وأهم التقييمات بشأنه؟.
– المؤلف: إن التصوف هو علم يُتذوق ويُدرك بالمعايشة، لذا كل شخص بشكل عام يتناول الأمور والنواحي التي تذوقها وأدركها فيه. وكنتيجة لهذا كان من الطبيعي أن تظهر تعريفات كثيرة جدّاً للتصوف.
ويمكننا القول إن أعلام هذا الطريق قد سلكوا طريقًا لتوضيح القَسم الذي انعكس عليهم فقط كبلورة تعكس الأضواء المختلفة من كل مقطع تقريبًا.
وهذه بعض تعريفات التصوف اللامحدودة -التي صاغها أحبّاء الحق بحسب التجليات الروحانية التي نالوها- ومنها:
-التصوف هو الأخلاق الجميلة والأدب.
-التصوف هو تزكية النفس وتصفية القلب.
-التصوف هو معركة معنوية لا هوادة فيها.
-التصوف هو الأخلاص.
-التصوف هو الإستقامة.
-التصوف هو الرضى والتسليم.
-التصوف أن تكون حبيباً ولا تكون حملاً ثقيلاً أي أن تحمل عن الأشخاص أثقالهم وفى المقابل لا تحمل عليهم أي شيء.
وباعتبار الجوانب المشتركة لهذه التعريفات المختلفة يمكننا أن نقول: إن التصوف هو تصحيح عالم المؤمنين الداخلي، وجعلهم يكتملون معنويّاً، وتوصيل العبد إلى الأخلاق الحميدة، وتقريبهم للخالق -عز وجل-، وبهذه الصورة هو علم يوصل إلى معرفة الله -عز وجل-.
ومنظومة التصوف المشهورة للشيخ إبراهيم أفندي شيخُ تكيةٌ «أُوغْلانْلَرِ» الموجودة في حي «آق سراي» تشرح لنا التصوف وتعرِّفه، ومن هذه التعريفات:
«التصوف أن تنخلع عن وجودك المادي في البداية
وأن تجعله سلطانًا على عرش القلب في النهاية.
التصوف أن تحمل بكليتك مسؤولية العروة الوثقى
وأن تكون مظهرا لآيات الغفران.
التصوف هو التصرف بالأسم الأعظم مع الكون كله
وهو أن تكون قرآنًا حيًّا يمشي على الأرض.
والتصوف في ضوء هذه التعريفات هو تطهير القلب من الأدران المادية والمعنوية، واكتساب الأخلاق والأوصاف الجميلة.
وهو السعي لأن تعيش الدين بالأخلاق والنورانية بكيفية تناسب جوهره. والتصوف بهذا الإعتبار هو الوصول إلى نضج وكمال في الرؤية يحيط بالأسرار والحكم والخفايا العالية -التي في الأحداث المادية والمعنوية- والتي لا يكفي العقل لحلها بمفرده.
وهو السعي لتحييد مانع النفس- وهو عائق وحاجز مؤكد- الذي يمنع القلب من الإنبهار والإفتتان بالحظوظ الروحانية التي لا تنتهي. أي أن التصوف هو تجاوز ميول ورغبات الجسد الشهوانية التي تحبس الروح. وبعد ذلك فهو مجموعة المعارف والأحوال المعنوية، والمشاعر والسوانح والتجليات القلبية التي تدعم مشاهدة الحقائق الخفية التي في جوهر الحوادث كلها، وصفحات العبرة والحكمة التي تجري خلف تلك الحقائق بأسلوب عرفاني.
والتصوف بهذا الإعتبار هو الإمتزاج بمحبة واسعة، والتكامل ظاهرًّيا وباطنيًّا مع حياة رسول الله -صلي الله عليه وسلم- المباركة، لأن تلك هي التجليات الظاهرية والباطنية الداخلية والخارجية لرسول الله -صلي الله عليه وسلم- أي حاله -صلي الله عليه وسلم- .
ومن أجل ذلك يمكن الحصول على جزء من روحانية رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وذلك بأن تكون روحيًًّا معه بشكل مجازي. وبعبارة أخرى فالتصوف هو الإيمان المتحد مع العشق والعبادة التي تؤدي بالوجد وجمال السلوك.
والخلاصة إن التصوف هو قطرات ندى نورانية انعكست على القلوب الممتلئة بالمحبة والتي بدأت بنفخ الروح في آدم -عليه السلام- ووصلت إلى الكمال في نبي آخر الزمان محمد -صلي الله عليه وسلم- .
-ألتون أولوق: هل يمكننا أن نعتقد أن العلاقة الأكيدة التي كانت في ساحة التصوف طوال التاريخ قد تحققت بسبب الحياة الإيمانية والعرفانية الخالصة التي عيشت حول تلك التعريفات التي تفضلتم بذكرها؟. وحقيقة فإن التصوف اليوم مثلما كان بالأمس– وعلى الرغم من النفور منه أحيانًا بسبب الإتهامات المتعمدة – فإنه كلما مر يوم يشعر الناس بالحاجة أكثر إلى وجوده في ساحة العمل الإسلامي. وقد رصد كثير من المسلمين وغير المسلمين علاقة متزايدة مع هذا الميزان الذي يمكن أن تسميته بـِ «البعد المعنوي للإسلامي». فما هي أسباب هذه العلاقة؟
-المؤلف: إن التصوف يوجه الإنسان إلى الروح. ويفتح للروح طريق الطمأنينة المعنوية المناسبة للإستعداد الفردي. ومن أجل هذا فإن كل ما يتعلق بنفس الإنسان وروحه يكون موضوع اهتمام. أي أن المسافات كلها التي يقطعها العبد في رحلته المعنوية والعوالم كلها التي هي حال ارتباط به وآلاف الأحوال والنهايات التي عاشها تكون متعلقة ومرتبطة بأمور لا حصر لها، مثل القدرة على إدراك وجود الله تعالى الذي هو رب العالمين ومعرفته قلبيًّا، والعبودية له -عز وجل-.
ومن أجل أشياء كهذه، فإن التصوف -الذي يُخاطب كل فرد في المجتمع- يمنع الضعف والتكاسل في أوقات الراحة الإقتصادية والإجتماعية، ويزيد من الحيوية المعنوية ويجعلها تستمر ولا تتوقف.
ومن ناحية أخرى يفتح نافذة علوية على القلوب المختنقة بين نزاعات الأوقات الصعبة المملوءة بالظلم والإنشغال والقهر، ويجعلها تتنسم أنفاس التجلي النورانية. ويكون مرهمًا للقلوب الجريحة، وماء الحياة للعقول المتعبة والأرواح الظمآنة.
والتصوف من ناحية أخرى هو حماية من الغرور والكبر والعجب، وتلقين التواضع والإنكسار للذين بلغوا الذروة في الأخلاق الجميلة والعبادة. وهو أيضًا يمد أطواق نجاة الروح مثل العفو والغفران والرحمة الواسعة إلى العباد الذين اختنقوا في مستنقعات الذنب. فمثلاً من الحقائق التاريخية في هذا الشأن اكتساب تيارات التصوف قوة وظهور عدد كبير جدّاً من المتصوفة الكبار في تلك الفترة التي أعقبت هجمات المغول، وكان في ذلك تسكين وعزاء للاضطرابات والقلاقل التي سببت الفتنة والفساد الذي هز الأناضول كلها لفترة.لأن التصوف يمس القلب بصدمة كهربائية، ويُحْيِيه بالتسليم في المشاكل التي لا يكفي فيها العقل. وتتجلى المشاكل وتستبين بالتجليات التي في القلب مثل الكشف والإلهام الموافقة للكتاب والسنة.
ولعل تلك الكلمات لمحمد حميد الله أحد علماء الإسلام البارزين في هذا القرن الذي نعيش فيه والذي قضى حَيَاتَه كُلَّها في نشر الإسلام وخاصة بمؤلفاتِه باللغات الغربية وهي كلمات ذات مغزى ومعبرة للغاية فيقول: «لقد كانت العقلانية هي النمط الذي تربيت عليه، وكانت الدراسات والبحوث الشرعية بالنسبة لي ترفض كل شيء لا يمكن تعريفه وإثباته بشكل مقنع إيمانيًا. ومن المؤكد أنني كنت أؤدي فروض الإسلام مثل الصلاة والصيام ليس لأسباب صوفية، بل لأسباب شرعية.
وكنت أقول لنفسي: إن ربي وحبيبي هو الله تعالى. وقد أمرني أن أفعل هذه الأشياء. وفى تلك الحال يجب عليّ أن أقوم بتلك الواجبات. فضلاً عن هذا فإن الحق والواجب يرتبط كل منهما بالآخر. والله تعالى قد أمرني «لتنتفع وتستفد من هذه الأشياء» وفي تلك الحال فإن واجبي أن أشكره.
ومنذ فترة كنت قد بدأت أعيش في مجتمع غربي في محيط مثل باريس، وكنت أشعر بدهشة وحيرة، ذلك أن ما دفع مسيحيي هذه البلاد إلى اعتناق الإسلام ليست آراء علماء الفقه والكلام، بل هم الصوفيون أمثال ابن عربي، ومولانا جلال الدين الرومي. وكنت في هذا الموضوع شاهد عيان، فعندما طلب مني إيضاح في أحد الموضوعات الإسلامية فإن الجواب الذي أعطيته والمستند على الأدلة العقلية لم يكن مقنعًا أو مرضيًا بالنسبة للسائل، ولكن التصوف لم يتأخر عن إعطاء ثمرة الإيضاح. وبالتدريج فقدت قوة تأثيري في هذا الموضوع. والآن أنا أؤمن وأعتقد أن الذي يخدم الإسلام اليوم في أوربا وأفريقيا ليس هو السيف أو العقل، بل هو القلب -أي التصوف- كما كان الحال في زمن قزان خان عقب الدمار والخراب الذي سببه هولاكو.
وبعد هذه المشاهدة بدأت في دراسة بعض المؤلفات التي كُتبت في موضوع التصوف، وهذا فتح عيون قلبي، وفهمت أن التصوف الذي كان في عهد النبي -صلي الله عليه وسلم- وطريق متصوفة الإسلام الكبار لم ينشغل بالكلام فقط، أو بأشياء لا معنى لها، بل كان يسير في أقصر طريق بين الإنسان والله تعالى وكان يبحث عن تنمية الشخصية وتطورها.
والإنسان يبحث عن أسباب الواجبات التي كُلف بها. لكن الشروح المادية في المجال المعنوي تبعدنا عن الهدف، أما الشروح المعنوية فهي التي يطمئن إليها الإنسان»
وهذه الكلمات توضح أن التصوف أصبح له أهمية كبيرة جدّاً في عصرنا الذي زادت فيه الأزمة الإجتماعية والإقتصادية رغم وصول الصناعة الثقيلة والنهضة التقنية إلى ذرى متقدمة وتحول الإنسان فيه إلى ما يشبه ترساً في آلة.