لا ريب أن مجتمع عصر السعادة كان زمناً استثنائياً في تاريخ الإنسانية من حيث الفضيلة والعدالة والإيثار وحسن الأخلاق. وقدسية هذا العصر وسببه وجود الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بينهم.
هذا العصر متشكل من حالِ وحركاتِ وفيض وروحانية النبي -صلي الله عليه وسلم- وأيضاً فإن هذا زمن المعرفة اليقينية باللّه وبرسوله عن قرب، هذه المعرفة كانت معرفة عميقة ووجدانية وفي أجواء التفكير العميق.
لنأخذ مثالاً على ذلك: الجبل العالي عندما ننظر إليه من بعيد فإننا لا يمكننا أن نراه بشكل واضح وحقيقي ويمكننا فقط رؤية ظله، وكلما اقتربنا منه أكثر تتبلور أشجاره وأنهاره وطيوره؛ إذاً كلما اقتربنا من الشيء أكثر استطعنا التعرف على جمالياته أكثر وازداد إعجابنا بها أكثر.
وهكذا فلا يمكن معرفة حقيقة وجماليات رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- بالقراءة عنه -صلي الله عليه وسلم- من السطور بل علينا قراءة ذلك من صدور المحبين.
وكيف تكون علامة ذلك الحب؟ علامته أن يكون الجواب لكل صغير أو كبير “فداك أبي وأمي يا رسول اللّه”.
بالنسبة إلينا فإن علامة محبتنا له -صلي الله عليه وسلم- تكون بمحبة الكتاب الكريم والسنة السنية والتي أشار إليها في حديثه -صلي الله عليه وسلم- الشريف: “تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ” (انظر: مؤطأ، جـ5، ص1323/3338)
لهذا يجب علينا أن نحرص على نيل رضاء اللّه تعالى ومحبة نبيه -صلي الله عليه وسلم-.
ولكن ما هي الطريقة لذلك؟
الطريقة هي في السير على الدرب الذي أناره لنا الكتاب والسنة، وعلينا أن نعيش على حب كتاب اللّه وسنة نبيه، وأن نتخلق بأحسن الأخلاق الإسلامية، وعلينا أن ننشر هذا الحب في المجتمع بأجمل صُوَرِهِ.
التواضع في ذروته
لقد وصل الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- إلى ذروة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد أن تخلقوا بأخلاق الإسلام وهذا مثال على ذلك:
كان سلمان الفارسي-رضي الله عنه- أميراً على المدائن، فجاء رجل من أهل الشام من بني تيم اللّه، معه حمل تين، على سلمان أندرورد وعباءة، فقال لسلمان: تعال احمل وهو لا يعرف سلمان، فحمل سلمان، فرآه الناس، فعرفوه، فقيل للشامي: هل تعرف أن حمّالك هو الوالي؟ اعتذر الشامي من سلمان وقال له عفواً ما عرفتك. أجابه سلمان: لا بأس لن أنزلها حتى بيتك.(انظر: ابن سعد، 4، 88)
لقد مدح اللّه تعالى عباده المتواضعين من أمثال سلمان الفارسي فقال في كتابه العزيز:
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (الفرقان، 63)
الرحمة بحر واسع
كانت الرحمة أبرز صفات مجتمع عصر السعادة وهذه الحادثة تظهر لنا كم كانوا رحماء وكرماء بصغارهم وكبارهم.
روي عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: أنه كان ماراً في بعض حيطان المدينة فرأى أسود، بيده رغيف، يأكل لقمة ويطعم الكلب لقمة، إلى أن شاطره الرغيف، فقال له الحسن: ما حملك على أن شاطرته، فلم يعاينه فيه بشيء؟ قال: استحت عيناي من عينيه أن أعاينه، فقال له: غلام من أنت؟ قال: غلام أبان بن عثمان، فقال: والحائط؟ فقال: لأبان بن عثمان، فقال له الحسن، أقسمت عليك، لا بَرَحْتَ حتى أعودَ إليك، فمر فاشترى الغلام والحائط، وجاء إلى الغلام فقال: يا غلام قد اشتريتك، فقام قائماً ، فقال: السمع والطاعة للّه ولرسوله ولك يا مولاي، قال: وقد اشتريت الحائط، وأنت لوجه اللّه والحائط هبة مني إليك، قال: فقال الغلام: يا مولاي، قد وهبت الحائط للذي وهبتني للّه. لأنك حررتني رضاء له. (ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق، 7-25)
النتيجة: كان هذا الرجل عبداً في الظاهر فقط، ولكنه كان سلطان العارفين حقيقة. فقد قابل ما أصابه من الرحمة والكرم بأجمل وأحسن منه وهذا يظهر فضيلته.
عبد اللّه بن المبارك رحمه اللّه من أكابر علماء التابعين في الحديث ومن الأغنياء، حج مرة مع أصدقائه من مرو، وأثناء الطريق شاهد كوخاً تسكنه امرأتان مسكينتان وبلغ بهما الجوع والحاجة حداً أنهما تأكلان من لحم طير ميت، عَدلَ عبد اللّه بن المبارك عن الحج وتبرع لهما بكل ماله وكان يساوي ألف دينار ولم يترك له سوى عشرين ديناراً أجرة العودة إلى مرو، عاتبه أصدقاؤهُ فقال لهم: ما فعلته أكثر ثواباً من الحج.[1]
الربيع بن الهيثم كان يصلي يوماً فسُرق حصانه وكان ثمنه عشرين ألف درهم أمام عينيه وهو في الصلاة لكنه فضل متابعة الصلاة على اللحاق بالسارق، عَزّاْهُ أصدقاؤهُ فقال لهم: رأيته عندما حل حبل الحصان لكنني كنت مشغولاً بعمل محبوب لدي لذلك لم ألحق السارق. ثم بدأ أصدقاؤه يذمّون السارق فأجابهم لا تقلقوا لم يظلمني فقد ظلم نفسه، يكفيه هذا العمل ظلماً لنفسه، نحن لا نظلمه. (بابان زاده أحمد نعيم، أساس أخلاق الإسلام، ص 85-86)
وكم هو جميل قول الشاعر:
أمد المؤمنين برحمتك لكن ارحم الملحدين أكثر
كان مجتمع عصر السعادة في ذروة الرحمة على الحيوانات والنباتات، لذلك عندما رأى رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- رجلاً يحلب الغنم قال: “أَيْ فُلَانُ، إِذَا حَلَبْتَ فَأَبْقِ لِوَلَدِهَا فَإِنَّهَا مِنْ أَبَرِّ الدَّوَابِّ“. (الهيثمي، جـ 8، ص196/13743)
مرَّ أبو الدرداء -رضي الله عنه- بقوم قد أناخوا بعيراً فحملوه غِرارتين ( أي التبن وهو علف الدّواب) ثم علوه بأخرى فلم يستطع البعير أن ينهض فألقاها عنه أبو الدرداء ثم أنهضه
فقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: إن غفر اللّه لكم ما تأتون إلى البهائم ليغفرن عظيماً إني سمعت رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- يقول: “إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصِيكُمْ بِهَذِهِ الْعُجْمِ خَيْرًا أَنْ تَنْزِلُوا بِهَا مَنَازِلَهَا فَإِذَا أَصَابَتْكُمْ سَنَةٌ أَنْ تَنْحُوا عَنْهَا نِقيِهَا” (انظر: ابن حجر، المطالب العالية، جـ3،ص 336/1978)
لذة العفو
حتى يعفو اللّه عنا لا بد أن نعفو عن الآخرين، كل منا ارتكب الخطايا وهو ينتظر العفو من اللّه والعباد. كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره، وعندما خاض مسطح في حادثة الإفك ضد السيدة عائشة -رضي الله عنها-، أقسم أبو بكر بألاّ ينفق عليه ولا على عائلته، فأنزل اللّه -عز وجل-: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌٌ﴾ (النور، 22)
قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: بلى واللّه إني لأحب أن يغفر اللّه لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: واللّه لا أنزعها منه أبداً، وكفّر عن يمينه. (انظر: البخاري، مغازي، 34/4141؛ مسلم، التوبة، 56)
كتب حضرة الإمام علي -رضي الله عنه- إلى مالك بن حارث واليه على مصر كتاباً نستطيع أن نفهم منه نظرة إنسان عصر السعادة عن العفو، يقول -رضي الله عنه-: لا تنظر إلى الناس نظرة الغول إلى القطيع أشعِرهم بالمحبة والرحمة في قلبك والإحسان في تعاملك لأن الناس إخوتك في الدين والإنسانية، الناس يخطئون أحياناً ويصيبون أخرى، أمسك بيد المتعثر منهم، إن كنت تحب أن يعفو اللّه عنك اعف عنهم وسامحهم واغفر لهم ولا تعص اللّه ولا تندم عن عفو صدر منك ولا تفرح بعتابك.
قال عصام بن المصطلق: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، فأعجبني سمته وحسن روائه، فأثار مني الحسد ما كان يجنه صدري لأبيه من البغض، فقلت: أنت ابن أبي طالب! قال نعم. فبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر إلي نظرة عاطف رءوف، ثم قال: “أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم”
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ . وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف، 199- 201)
ثم قال لي: خفض عليك، استغفر اللّه لي ولك إنك لو استعنتنا أعناك، ولو استرفدتنا أرفدناك، ولو استرشدتنا أرشدناك. فتوسم في الندم على ما فرط مني فتلا قوله تعالى: ﴿قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف، 92)
ففهمت أنه علم أنني من المعارضين لأبيه، ثم سألني أمن أهل الشأم أنت؟ قلت نعم. فقال: شنشنة أعرفها من أخزم، حياك اللّه وبياك، وعافاك، وآداك ، انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك، تجدنا عند أفضل ظنك، إن شاء اللّه. قال عصام: فضاقت علي الأرض بما رحبت، ووددت أنها ساخت بي، ثم تسللت منه لواذاً، وما على وجه الأرض أحب إلي منه ومن أبيه. (انظر: القرطبي، التفسير، الأعراف، 199-201)
إن الإنسان دائماً يُغْلَبُ بالإحسان وأتلو لذلك قوله تعالى في كتابه العزيز:
﴿لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت، 34)
لنتأمل هذه القصة كم هي معبرة وكم استفدنا منها من نتائج هامة وخاصة أن الأخلاق الحسنة نتائجها مباركة دائماً وأن كسب القلوب لا يكون إلا بالعفو والإحسان والأخلاق الإسلامية التي تؤثر تأثيراً كبيراً على الناس. روي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، افعل بمقتضى قوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ (آل عمران، 134). قال لها: قد فعلت. فقالت: اعمل بما بعده ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾. فقال: قد عفوت عنك. فقالت الجارية: ﴿إنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه اللّه تعالى[2] (انظر: القرطبي، جــ4، ص207)
لقب الصادق الأمين انعكس على الصحابة
بعد فتح مكة أعطى رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- المؤلفة قلوبهم من غنائم غزوة حنين عطاءً وجزلاً، انزعج شباب الأنصار -رضي الله عنهم- أجمعين فقالوا: يغفر اللّه لرسول اللّه، يعطي قريشاً ويتركناً وسيوفنا تقطر من دمائهم، وعندما بلغ هذا القول رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- قال: “مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟”
الأنصار استحيوا من رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- ونكسوا رؤوسهم من الخجل وقالوا: نعم قلنا مثلما سمعت لأنهم لا يقولون إلا صدقاً. (انظر: مسلم، زكاة، 134/1059)
يقول حضرة أنس -رضي الله عنه-، واللّه ما كل ما نحدثكم عن رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضاً. (الهيثمي، جـ1، ص153/690)
حتى الأعداء يحسدونهم ويثقون بأخلاقهم الحسنى فهذا أبو سفيان يسأل بعد معركة أحد من بعيد، أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر لقول ابن قمئة لهم: إني قد قتلت محمداً. (انظر: ابن هشام، جـ2، ص93-94؛ الواقدي، جـ1، ص296-297)
إن هذا لهو المنظر العجيب المدهش حقا!! المشرك يصدق قول عدوه ليس قول مشرك مثله، لأن الإنسان المتحير يعتمد على شخص ثقة أمين.
جاء وفد من أهل اليمن إلى رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام والقرآن الكريم فأخذ بيد أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- فقال -صلي الله عليه وسلم-: “هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ” (مسلم، فضائل الصحابة، 54/ 2419؛ أحمد، جـ3، ص 146)
هذه القصة تظهر أن الصفات الشخصية من الصدق والثقة التي في الفرد تكون طريقة لنيل التفات النبي -صلي الله عليه وسلم- إليه.
الكرم والإيثار كرياح الرحمة المباركة
الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- الذين ربّاهم النبي -صلي الله عليه وسلم- نالوا نصيباً كبيراً من كرمه وإيثاره.
يقول جابر -رضي الله عنه-: لم يكن أحد من أصحاب النبي -صلي الله عليه وسلم- ذو مقدرة إلاّ وقفا. (انظر: ابن قدامة، المغني، جـ 6، ص 3)
روى ابن حزم أن عبد اللّه بن عمر وحضرة فاطمة وبقية الصحابة -رضي الله عنهم- وهبوا حال حياتهم أموالاً كثيرة في المدينة، وأن هذا أوضح وأشهر من الشمس ولا أحد إلا ويعرف عنهم ذلك. (عبد اليمان، فاطمة الزهراء، بيروت، 1996، ص330)
لقد وهب قائد الإسلام الكبير خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في سبيل اللّه كل دروعه وأدواته الحربية، قال النبي -صلي الله عليه وسلم-: “أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” (انظر: البخاري، زكاة، 49، 33، جهاد 89؛ مسلم، الزكاة، 11)
يروي لنا أبو الحجاج الفزاري: أن عبيد الله بن العباس خرج في سفر له، ومعه مولى له، حتى إذا كان في بعض الطريق، رفع لهما بيت أعرابي، قال: فقال لمولاه: لو أنا مضينا فنزلنا بهذا البيت وبتنا به؟! قال: فمضى، قال: وكان عبيد الله رجلاً جميلاً جهيراً، (وكان حضرة عبيد اللّه شخصية فريدة ذا وقار) فلما رآه الأعرابي أعظمه وقال، لإمرأته: لقد نزل بنا رجل شريف! وأنزله الأعرابي، ثم إن الأعرابي أتى امرأته ، فقال: هل من عشاء لضيفنا هذا؟ فقالت: لا، إلا هذه السويمة (الشاة) التي حياة ابنتك من لبنها. قال: لا بد من ذبحها! قالت: أفتقتل ابنتك؟ قال: وإن! قال: ثم إنه أخذ الشاة والشفرة ، وجعل يقول:
يا جارتي لا توقظي البنيه .. إن توقظيها تنتحب عليه
ثم ذبح الشاة، وهيأ منها طعاماً، ثم أتى به عبيد الله ومولاه، فعشاهما وعبيد الله يسمع كلام الأعرابي لإمرأته ومحاورتهما، فلما أصبح عبيد الله، قال لمولاه: هل معك شيء؟ قال: نعم، خمسمائة دينار فضلت من نفقتنا، قال: ادفعها إلى الأعرابي، قال: سبحان الله! أتعطيه خمسمائة دينار وإنما ذبح لك شاة ثمن خمسة دراهم؟ قال: ويحك! والله لهو أسخى منا وأجود، إنما أعطيناه بعض ما نملك، وجاد هو علينا وآثرنا على مهجة نفسه وولده، قال: فبلغ ذلك معاوية، فقال: لله در عبيد الله! من أي بيضة خرج؟ ومن أي عش درج؟.فلقد أظهر لنا عبيد اللّه أصله وفي أي بيت كريم تربى وكم هي حسنة أخلاقه!! (انظر: ابن الأثير، أسد الغابة، بيروت 1989، جـ3، ص421؛ ابن عساكر، تاريخ دمشق، 37، 483-484)
هذه القصة تلفت نظرنا ودقتنا وانتباهنا إلى أن عبيد اللّه -رضي الله عنه- هو ابن عم رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- وأبوه العباس.
سأل مسكين السيدة عائشة-رضي الله عنها- زوج النبي -صلي الله عليه وسلم-وهي صائمة . وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيها إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيها إياه، قالت: ففعلت. الخادمة تتابع القصة فتقول: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت، أو إنسان، ما كان يهدي لنا، شاة وكفنها. فدعتني عائشة -رضي الله عنها-، فقالت: كلي من هذا. هذا خير من قرصك (رغيفك).(الموطأ، صدقة، 5/3655)
روي أنّ حضرة ابن عمر -رضي الله عنهما- كان لا يأكل طعاماً إلاّ وعلى خِوَانِهِ (مائدته) يتيم. (انظر: أبو نعيم، حلية، جـ1، ص 299؛ البخاري، الأدب المفرد، 136)
حضرة الحسن البصري كان قد عاصر الصحابة والتابعين يقول: لقد عهدت المسلمين، وإن الرجل منهم ليصبح فيقول: يا أهليه، يا أهليه، يتيمكم يتيمكم، يا أهليه، يا أهليه، مسكينكم مسكينكم، يا أهليه، يا أهليه، جاركم جاركم، وأسرع بخياركم وأنتم كل يوم ترذلون. (البخاري، الأدب المفرد، جـ1، ص16/139)
اجتناب الإسراف
عن عبد اللّه بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم-: “يجزئ من الوضوء مد، ومن الغسل صاع”
فقال رجل: لا يجزئنا، فقال: قد كان يجزئ من هو خير منك، وأكثر شعراً، يعني النبي -صلي الله عليه وسلم-. (ابن ماجه، الطهارة، 1/270 )
يروي لنا كثير بن عبيد مولى أبي بكر وأخو عائشة -رضي الله عنها- من الرضاعة. دخلت على عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، فقالت: أمسك (انتظر في الخارج) حتى أخيط نقبتي، فأمسكت، فقلت: يا أم المؤمنين! لو خرجت فأخبرتهم لعدوه منك بخلاً! قالت: أبصر شأنك (قل ما يحلو لك)؛ إنه لا جديد لمن لا يلبس الخلق”.. (انظر: البخاري، الأدب المفرد، 471)
[1] – م. سعيد خطيب أوغلو، المتصوفة الأوالئل من مفهوم الحديث والسنة، إسلاميات، تموز-أيلول 1999 جـ 2، ، ص 13/ 3
[2] في رواية أخرى أن السيد الذي كظم غيظه هوجعفر الصادق -رضي الله عنه-