التعليم من أولويات الإسلام
الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- كان شغلهم الشاغل التعلم والتعليم.
رسول الله -صلي الله عليه وسلم- لقد سَعَى لنشر الكتابة والقراءة بين المسلمين واستغل أية فرصة متاحة لهذه الغاية، ففي غزوة بدر مثلاً جعل فداء الأسير أن يعلّم عشرة من أطفال المسلمين القراءة والكتابة. وقد بنيت مدرسة لتعليم القراءة والكتابة وكان المعلمون إما من الأسرى أو من الصحابة، وقد دعيت هذه المدرسة بالكُتّاَب[1]، وقد تم افتتاح عدة كتاتيب[2] في المدينة المنورة في ذلك العصر.
حوَّلَ الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- بيوتهم إلى كتاتيب. وعندما امتلأ المسجد النبوي والصُّفَّة بالطلاب فتحت مدارس في بعض بيوت المدينة ودعيت بِدُور القراء، وبحسب الرواية فإن الصحابي الجليل محرمة بن نوفل قد خصص بيته كاملاً أو جزءً منه لتعليم القرآن، وكان الصحابي الجليل عبد الله بن أم مكتوم ضيفاً في هذا البيت وعلّم القرآن.[3]
وهذه رائطة بنت حيان من سبى هوازن، وهبها رسول الله -صلي الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فعلمها شيئاً من القرآن. (انظر: ابن الأثير، أسد الغابة،جـ6، ص105؛ ابن حجر الإصابة، 4-292)
الأمانة والذمة في التجارة لا مثيل لها
من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- لما أراد أن يشتري حصاناً، طلب البائع خَمسمئَةِ درهمٍ، الحصان كان أصيلاً ونال إعجاب جرير فرفع السعر بين ست مائة درهم وثمان مائة درهم، وعندما سئل لماذا رفعت سعر الحصان وكان بمقدورك شراءَه بخمسمائة درهم؟ أجاب: لقد عاهدنا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- على أن لا نحتال في الشراء، والبائع لا يعرف قيمة الحصان.[4]
سيطر رسول الله -صلي الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون في عصر السعادة على السوق التجاري وسدّوا كل منافذ الغش والفحش والكسب غير المشروع، حتى أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- منع التمركز في السوق واستملاك النقاط الهامة فيه حتى لا تتكون الامتيازات لبعضهم. وكذلك أمر بهدم خيمة البائع الذي خالف أوامر رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وأسّس خيمة في السوق بعد أن منع رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ذلك.[5]
في المؤاخاة ذاع صيتهم
كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له وإن كان شاهداً (الماكث في بيته) زاره وإن كان مريضاً عاده، ودعا له بالشفاء.[6]
آخى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بين المهاجرين الذين هاجروا من مكة وبين الأنصار من أهل المدينة، فالمهاجرون تركوا أعمالهم وأموالهم وممتلكاتهم في سبيل دينهم، وهاجروا إلى المدينة، هذا البذل العظيم في العطاء من المهاجرين قابَلَه كرم الأنصار الجزيل.
وذلك عندما طلبوا منهم الحضور إلى المدينة ومشاركتهم في التجارة والربح، اقترح الأنصار على رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أن يقسم الأراضي الزائدة بين المهاجرين ولم يكتفوا بذلك بل اقترحوا تقسيم بساتين النخل بينهم وبين إخوانهم المهاجرين، فقالت الأنصار للنبي-صلي الله عليه وسلم-: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: “لا”
فأشار عليه الأنصار أن يعمل المهاجرون في السقاية والحرث مقابل المشاركة في المحاصيل، فوافق نبينا -صلي الله عليه وسلم- على هذا الإقتراح ونال رضا جميع الحاضرين وقالوا: سمعنا وأطعنا. (انظر: البخاري، حرث، 5/2325)
وعندما حل موسم الحصاد سارع الأنصار إلى جمع المحصول وتقسيمه إلى ثلثين وثلث وزادوا على الثلث جريد النخل حتى زاد عن حجم الثلثين، ثم طلبوا من المهاجرين أن يختاروا أحد هذين القسمين، طبعاً اختار المهاجرون القسم الذي يظهر أنه الأقل ليبقى للأنصار القسم الظاهر أنه أكبر، ولكنهم في الحقيقة أخذوا الحصة الكبرى من التمر، وأخذ الأنصار الحصة الصغرى وهو عكس الظاهر وبذلك نجحت خطة الأنصار في تفضيل المهاجرين على أنفسهم. (انظر: الهيثمي، جـ10، ص40/16526 )
ذات يوم نادى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- على الأنصار أولاً لتقسيم أراضي البحرين، ضحّى الأنصار واستغنوا
وقالوا: يا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- إما أن تقسمها ثلثين لإخواننا المهاجرين وثلثا لنا أو لا تعطينا شيئا أبدا، عندها قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“إِمَّا لاَ، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي، فَإِنَّهُ سَيُصِيبُكُمْ بَعْدِي أَثَرَةٌ“
وفي رواية اخرى:
“إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي وَمَوْعِدُكُمُ الحَوْضُ“. (انظر: البخاري، مناقب الأنصار، 8/3793/3794)
في الحقيقة والواقع إن ما ظهر من الأنصار من الإيثار يعتبر درجة متقدمة من الكرم ويدل على حسن أخلاقهم، وأنهم يفضلون إخوانهم على أنفسهم مع حاجتهم الشديدة إليه، لذلك فقد مدحهم الله تعالى في كتابه العزيز فقال:
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحشر، 9-10)
وفي عصر السعادة تحلى المؤمنون كُلّهُم بحسن الأخلاق وليس الأنصار فقط، لذلك فقد مدحهم الله تعالى[7] لمراعاتهم الأخوة التي أقامها النبي -صلي الله عليه وسلم- بينهم في الحضر والسفر.
كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يأخذ معه أحد الأخوين ويترك الآخر ليقوم بتلبية حاجات العائلتين والدفاع عن المدينة.[8]
وكم هو معبر قول حضرة علي -رضي الله عنه- عن قضاء الحوائج، وهذا القول يعكس مفهوم الأخوة عنده فيقول:
((ما أدري أي النعمتين أعظم علي منة من ربي، رجل بذل مصاص وجهه إلي فرآني موضعاً لحاجته وأخرى الله قضاءها أو يسره على يدي، ولأن أقضي لامرئ مسلم حاجة أحب إلي من ملء الأرض ذهباً وفضة)). (علي المتقي، جـ6، ص 598/17049)
وصى حضرة أنس ابن مالك -رضي الله عنه- أولاده بتقوية روح الأخوة وزيادة المحبة بينهم فقال: ((يا بني! تبادلوا بينكم؛ فإنه أود لما بينكم)) (انظر: البخاري، الأدب المفرد، جـ1، ص222/ 595)
عن ابن عباس -رضي الله عنهم-، أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، فأتاه رجل فسلم عليه، ثم جلس، فقال له ابن عباس: يا فلان أراك كئيباً حزيناً، قال: نعم يا ابن عم رسول الله-صلي الله عليه وسلم-، لفلان علي حق، لا، وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه، قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك، قال: إن أحببت.، قال: فانتقل ابن عباس -رضي الله عنهم- ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه.، قال: لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر -صلي الله عليه وسلم- والعهد به قريب فدمعت عيناه، وهو يقول: “مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ وَبَلَغَ فِيهَا كَانَ خَيْرًا مِنِ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِينَ، وَمَنِ اعْتَكَفَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ ثَلَاثَ خَنَادِقَ أَبَعْدَ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ” (انظر:البيهقي، شعب، جـ5، ص435/3679؛ الهيثمي، جـ8، ص192)
يتحدث ابن عمر -رضي الله عنهم- عن الأخوة في ذلك الزمن فيقول:
لقد أتى علينا زمان أو قال: حين وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يقول: “كَمْ مِنْ جَارٍ متعلقٍ بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ، يَا رَبِّ! هَذَا أَغْلَقَ بَابَهُ دُونِي، فَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ!” (انظر: البخاري، الأدب المفرد، 111؛ الهيثمي، جـ10، ص285)
الرقة واللطافة والظرافة هي السائدة
مجتمع عصر السعادة مجتمع الرقة والظرافة واللطافة يتعاملون فيما بينهم بها ويعاملون المخلوقات الأخرى، لا يسيؤن إلى أحد ولا يجرحون مشاعرأحد خاصة في أثناء الحج والإحرام، وبعد أن لبسوا ملابسه النقية الشديدة البياض نالوا حصة من لطافة الملائكة.
في الإحرام حفظ المؤمنون والمؤمنات أنفسهم من الرفث بمقتضى الأمر الإلهي، في الطواف والسعي والوقوف دائماً وكانوا يغضون أبصارهم استحياء، وابتعدوا عن الفسق والجدال والصيد.
وأثناء الإحرام كانوا لا يصيدون ولا يدلون على مكان الصيد، لا يقطعون عشباً حتى أنهم كانوا لا ينتفون شعرة عن قصد. وبسبب تحريم بعض ما كان حلالاً والإبتعاد عن الشبهات، وبهذا كانوا يشعرون في أعماق قلوبهم كم أنه من الضروري الإبتعاد عن كل أشكال الشبهات والحرام. وكانوا يعاملون كل المخلوقات ضمن شعور محبة المخلوقات من أجل الخالق ومعاملتها بالمرحمة والشفقة. لأجل هذا دقت قلوبهم وسمَت إلى القمة في اللطافة والظرافة حتى نالوا بشرى الإسلام وهي الإبتسامة والوجه الضحوك.
وصى النبي -صلي الله عليه وسلم- برعاية الحيوانات ونظافتها من الغبار وخاصة الأغنام والماعز فقال -صلي الله عليه وسلم-:
“أَكْرِمُوا الْمَعْزَى، وَامْسَحُوا رُغَامَهَا، فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ” (انظر: الهيثمي، جـ4، ص66/6253)
روى سواد ابن ربيع مثالاً عن الرحمة واللطافة المدهشة فقال: أتيت النبي -صلي الله عليه وسلم- فأمر لي بذود ثم قال لي:
“إِذَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ فَمُرْهُمْ فَلْيُقَلِّمُوا أَظْفَارَهُمْ لَا يَعْبِطُوا ضُرُوعَ مَوَاشِيهِمْ” (انظر: الهيثمي، جـ5، ص 259/7239)
أعلن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- المدينةَ المنورةَ وما حولها حرماً (منطقة محرمة) فلا يضرب على شجرها ولا يقطع أغصانها إلا في الحالات الضرورية فيمكن هزّ الشجرة برفق لإطعام الحيوانات فقال -صلي الله عليه وسلم-:
“لَا يُخْبَطُ وَلَا يُعْضَدُ حِمَى رَسُولِ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-، وَلَكِنْ يُهَشُّ هَشًّا رَفِيقًا” (انظر: أبو داود، جـ2، ص712/ 2039)
روى أبو دعشم الجهني عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، نظر إلى أعرابي وهو يخبط على غنمه، فقال: “ائتوني بالأعرابي ولا تفزعوه“. فلما جاء قال: “يا أعرابي، هش هشاً ولا تخبط خبطاً”، قال: فكأني أنظر إلى الخيط على صلعته. (انظر: ابن الأثير، أسد الغابة، بيروت، جـ 5، ص357/6425)
ويدعو النبي -صلي الله عليه وسلم- دائماً أمته في كل مناسبة وفي كل معاملةٍ أن تتعامل باللطف والرحمة والظرافة.
قال الحبيب -صلي الله عليه وسلم- عن النبات:
“ما من نبت ينبت إلا ويحفه ملك موكل به حتى يحصده، فأيما امرئ وطئ ذلك النبت يلعنه ذلك الملك” (انظر: علي المتقي، كنز، جـ3، ص905/9122)
الحياء والعفة
اتَّصَفَ أهل مجتمع عصرِ السعادةِ بالحياء والعفة واللطافة لذلك قال الله تعالى في كتابه العزيز فيهم:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ( النور، 30-31)
حسب رواية عائشة -رضي الله عنها-: يرحم اللّه نساء المهاجرات الأُول، لما أنزل الله -عز وجل-: ﴿…وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ…﴾ (النور،31)، شققن مروطهن فاختمرن بها.(انظر: البخاري، جـ6، ص161/4758، 24/12؛ أبو داود، اللباس، 31-33/4102)
يُروى عن صفية بنت شيبة -رضي الله عنها- أنه عندما نزلت هذه الآيات الكريمة انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابة، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به، تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله -صلي الله عليه وسلم- الصبح معتجرات، كأن على رؤوسهن الغربان.- وقد تغطين من رؤوسهن حتى أقدامهن- (ابن كثير، تفسير، النور، 31)
الإختلاط بين الرجال والنساء الغرباء في مجتمع عصر السعادة، فكرة دقيقة وحساسة. فقد تم وضع خطة لإجتناب الإختلاط في الحياة الإجتماعية فكانت هناك مسافة أمان مناسبة دائماً بينهماً، وأما التعامل فكان بشكل معين ومنضبط، لأن الإسلام يريد سد باب وسائل الفاحشة كما حرمها سابقاً، هكذا الإسلام أغلق طرق الخطيئة بوضعه مسافة أمان بين الناس والفحشاء، عفا الإسلام النساء من صلاة الجماعة وصلاة الجمعة لأنه يهتم بمنع الاختلاط وأخبر رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من المساجد.
قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: “خَيْرُ مَسَاجِدِ النِّسَاءِ قَعْرُ بُيُوتِهِنَّ” (أحمد، مسند، رقم 26542) ولكنه لم يمنعهن إن أردن القدوم والصلاة في المسجد لكن بدون الإختلاط وفي صفوف خلفية خاصة بِهِنّ.
وبعد الصلاة كان النبي -صلي الله عليه وسلم- ينتظر مدة بسيطة لعودة النساء إلى بيوتهنّ ثم يقوم ويتابعه الرجال وخاصة في صلاة الفجر.فعن عائشة -رضي الله عنها-: «أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- كان يصلي الصبح بغلس، فينصرفن نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس -أو لا يعرف بعضهن بعضا-» [9]
قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عن باب المسجد النبوي: “لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ” فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. (انظر: أبو داود، 53/571)
حضرت النساء إلى مصلى العيد في المكان المخصّص لهن، فلما فرغ نبي الله -صلي الله عليه وسلم- من الخطبة والصلاة نزل، فأتى النساء، فَذَكَّرَهُنَ. (البخاري، العيدين، 7-8/961)
خرج النبي -صلي الله عليه وسلم- مرة من المسجد فرأى اختلاط الرجال بالنساء، فقال النبي -صلي الله عليه وسلم-: “اسْتَأْخرْنَ، فَإنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ“، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. (أبو داود، الأدب، 167-168/5272)
وفي العهد الأموي وعندما رأت حضرة السيدة عائشة -رضي الله عنها- اختلاط الرجال بالنساء في المساجد، قالت: «لو أدرك رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل». (البخاري، أذان، 163/869)
الوجوه المبتسمة
سأل أحدهم حضرة سفيان بن عيينة المزاح هجنة؛ فقال: بل سنّة لأن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: “إنى لأمزح ولا أقول إلا الحق“. (نهاية الأرب في فنون الأدب، القاهرة، 4-2)
المزاح: هو فكاهة مداعبة سنة لكن بدون جرح المشاعر وإيلام القلب والأحاسيس بل لجذب القلوب.
يقول ابن القيم الجوزية: كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يمازح ويقول في مزاحه الحق، ويوري ولا يقول في توريته إلاّ الحق. (ابن القيم، زاد المعاد، جـ 1، ص157)
كان الصحابة الكرام ذا إحساس مرهف وسرور وهم يعرفون جيداً كيف ومتى وأين يمزحون وكذلك هم جديون كانوا في توسط واعتدال دائماً يتجنبون الإفراط والتفريط. قال بكر بن عبد الله: كان أصحاب النبي -صلي الله عليه وسلم- يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال. (انظر: البخاري، الأدب المفرد،جـ1، ص711/ 266)
صور لنا أبو سلمة بن عبد الرحمن حال الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- فقال: لم يكن أصحاب رسول الله -صلي الله عليه وسلم- متحزقين (أي منقبضين)، ولا متماوتين (التخافت والتضاعف)، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله، دارت حماليق عينيه (مايسوده الكحل من باطن أجفانها) كأنه مجنون”.. (انظر: البخاري، الأدب المفرد، جـ1، ص209/ 555)
قال ثابت ابن عبيد:
ما رأيت أحدا أجل إذا جلس مع القوم، ولا أفكه في بيته، من زيد بن ثابت. (انظر: البخاري، الأدب المفرد، جـ1، ص221/ 286)
نظر عمر -رضي الله عنه- إلى أعرابى قد صلى صلاة خفيفة، فلما قضاها، قال: اللهم زوجني بالحور العين؛ فقال عمر -رضي الله عنه-: يا هذا! أسأت النقد، وأعظمت الخطبة.(انظر: النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، 4-3)
يروي أبو بكر الثقفي أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يقرؤون قليلاً من القرآن وقليلاً من الشعر. (انظر: الكتاني، التراتيب، جـ2، ص236)
كان ابن عباس يقول لأصحابه إذا داموا في الدرس: أحمضوا أي ميلوا إلى الفكاهة، وهاتوا من أشعاركم، فإن النفس تمل كما تمل الأبدان؛ و بعدها يعود إلى درسه ويكرر هذا النظام وقت الحاجة إليه. (انظر: الكتاني، التراتيب، جـ2، ص237)
كان أبو الدرداء -رضي الله عنه-، إذا حدث حديثاً تبسم، فقالت زوجته أم الدرداء: لا يقول الناس إِنَّكَ، أي: أحمق،؟ فقال: ما رأيت، أو ما سمعت، رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يحدث حديثاً إلا تبسم (انظر: أحمد، جـ5، ص 891-991/ 23712)
كان عبد الله بن محمد من التابعين وصاحب شخصية فكاهية حتى أقصى الحدود، مازح مرة عمته السيدة عائشة -رضي الله عنها- وهي على فراش الموت، فقال: يا أمه كيف تجدينك جعلت فداك؟ قالت: هو والله الموت، قال: فلا إذاً، فقالت: لا تدع هذا على حال، تعني: المزاح (انظر: ابن سعد، جـ 8، ص76)
[1] انظر: أ.د.حيمد الله بين الإسلام، جـ 1، ص141
[2] انظر: أ. شلبي، تاريخ التربية الإسلامية، القاهرة، 1960، ص 38-39
[3] انظر: الكتاني، التراتيب، جـ 1، ص56؛ ابن عبد البر، الإستيعاب، جـ1، ص247؛ المقريزي، المواعظ، جـ2، ص362 مصر 1270هـ
[4] انظر: ابن حزم، المحلى، مصر، 1389، جـ 9، ص454
[5] انظر: السمهودي الوفا، مصر 1427، جـ1، ص540
[6] انظر: الهيثمي، جـ 2، ص295/3761
[7] انظر: سورة الإنسان، 8-11
[8] انظر: علي كابار، تعامل محمد -صلي الله عليه وسلم- مع المشركين، اسطنبول 1987، ص 145
[9] انظر: البخاري، أذان، 162-166/873