مقالات متنوعة

في معية الله تعالى

إن الله سبحانه وتعالى يعرِّفنا إلى ذاته العليَّة باسمَيه «الرحمن» و«الرحيم» في كثير من المواضع، ومن آثار رحمته الواسعة بعباده أنه يدعوهم إلى دار السلام وأن يكونوا من أهله وأحبابه وأصفيائه، غير أن شرط الاستجابة لهذه الدعوة أن يعبدوه في الحياة عبادةً قائمة على التقوى وفي أنوار محبته سبحانه وتعالى.

والشوقُ «للوصال مع الحق تعالى» الذي عبَّر عنه النبي بقوله: «بل الرفيق الأعلى»، كان وما زال أعظمَ مبتغى للمؤمنين أحباب الله ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.

ونحن في هذا الكون نخضع لامتحان نتنافس فيه بتقديم أفضل الخيرات وأعظم الحسنات. ومن أرفَعِ آداب العبودية لله في هذا العالَم الذي نحيا فيه غرباء أن تكون قلوبنا في وصال مع ربنا ومعية نابعة من محبة حقيقية، وأن نذكره سبحانه وتعالى ونبحث عن رضاه كل حين، فيتحقق وصالنا في عالم الآخرة مع جمال الحق تعالى بمقدار حبِّنا له وقربنا منه.

وذلك يعني أن نسبة معيَّتنا مع ربنا سبحانه تحدِّد سعادتنا وطمأنينتنا في الدنيا والآخرة، لذا علينا أن نجعل حكمة ابن عطاء الله السكندري:

«يا رب، ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟» شعارًا نضعه نصب أعيننا، ولا ننسى أن قلوبنا لن تنعم بالطمأنينة والسكينة ما لم تذكر الله جلَّ وعلا.

إن الله سبحانه وتعالى معنا أين ما كنَّا، لكن السؤال هنا: هل نحن معه دائمًا؟ فلا بد أن يكون هذا مقصودنا وغايتنا. وكلما ازداد اقتراب القلب من ذروة معية الله سبحانه، ازدادت العبادات ثوابًا وعَظُمَت أجرًا. فالعمل الصغير المُحتَقَر إن أدَّاه العبد مدركًا معية الله تعالى، ستعظم قيمته عِظَمَ الجبال؛ وأما إن أدى أعماله- مهما عَظُمَت في عينيه- غافلًا عن الله تعالى، فلن يجد فيها أي خير، وصَلَاته إن صلَّاها دون خشوع، فلن تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وصَدَقَته إن شابها الرياء والعُجب، فستكون هباء منثورًا؛ فعندئذ لا إجابة لأدعيته، ولا أجرَ لأعماله، ولا توبة له إلا أن يتوب توبة نصوحًا. لذلك كله، لا بد من نزع حجاب الأنانية والنفسانية قبل كل شيء لإيجاد طريق نحوَ الوصال مع الحق ذي العظمة والجلال. وما أعظم قول العارفين:

«حين تخرج من بين الخلق، يبقى الخالق وحده في قلبك».

إن هذا الشعور يقتضي نضجًا معنويًّا يجعل المؤمن في رحاب «معية الله» في أحواله كلها. ذلك أنه لا يمكن الارتقاء إلى المراتب المعنوية السامية بقلب غليظ ما خضعَ يومًا لتربية معنوية، ولا يمكن شق طريقٍ نحو آفاق اللطافة والظرافة بقلب لا يعرف إلا الفظاظة. لذلك كانت الغاية من خلق الإنسان في نظر العارفين: «الوصول إلى الجمال بكسب الكمال»؛ أي التنعم بمشاهدة جمال المولى سبحانه وتعالى بالنضج المعنوي.

فالتربية المعنوية في هذه الحال؛ أي تطهير القلب من الشهوات والنفسانيات، حاجةٌ مشتركة لدى الناس أجمعين، فالإنسان هو الكائن الوحيد بين الأحياء كلها الذي يُولَد محتاجًا إلى هذه التربية.

لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسانَ وزيَّنه بمزايا سامية مثل العقل، والإدراك، والفهم، والوجدان، ولكن هذه المزايا لا تكفي وحدها لوصوله إلى الحق والخير، لذلك أنزل ربنا سبحانه الكتبَ السماوية وأرسل الرسل تترى كي نتعلم كيفية استعمال هذه النعم. والنبي خير «مربِّ للإنسان»، فهو الذي يبلِّغ الحقائق في الكتب السماوية، ويشرحها ويفسرها عبر حياته.

فقد استطاع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبر الإصلاح والتربية أن يحوِّل «مجتمع الجاهلية» الذي كان غارقًا في الظلم والجور والوحشية إلى «مجتمع عصر السعادة» الذي بلغت فيه الأخلاق قمتها والفضيلة ذروتها والحضارة أوجها. فغدا الجاهل متعلِّمًا، والوحشيُّ متحضِّرًا، والمجرم تقيًّا؛ أي صار الرجل منهم صالحًا ذا قلب رقيق خاشع بتقلُّبه بين الخوف والرجاء.

وتأمل- يرعاك الله- ذلك الإنسان الجاهلي وهو يئد ابنته كم تحجَّر قلبه واستوحش طبعه… وتأمل ظلمه وهو يرى عبدَه بضاعةً مزجاة يستعمله كأي شيء مادي، معتقدًا أن له حقًّا في أن يعامل عبده معاملة ليس فيها ذرة من الإنسانية! إن هذا الإنسان الجاهل الفظ الذي قُدَّ قلبه من حجر َ بعد أن أخذوا من فيض قلب رسول الله وخضعوا للتربية النبوية بنوا «حضارة من الفضائل» في العلم والأخلاق والأدب؛ أي في الإنسانية.

وليس هناك بدٌّ من البحث والتدقيق في طرائق التربية النبوية إن أردنا فهم التحول الجذري للصحابة، فالذي جعل الصحابة صحابةً ما تلقوه من فيوضات مجالس النبي بإيمانهم الصادق به والروحانيات التي كانت تتغشاهم في صحبتهم إياه. ولقد كان نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أكثر ما يربِّيهم بـ«الصحبة»، فالصحبة تربية تتقابل فيها الوجوه والصدور وتُزال الحجب بينها. ولا ننسى هنا التأثير العظيم لرؤية وجه النبي المبارك و«الأحوال» التي كانت تنعكس منه ويحس بها الصحابة فتعجز ألسنتهم عن التعبير عنها، إلى جانب أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم.

وكما استفاد الصحابة الكرام من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في جو الصحبة، استفادوا أيضًا- على حسب طاقة كل واحد منهم- من أحواله المباركة، فكانت كلماته تدخل في آذانهم لتستقر في صدورهم، فيدركوها حقَّ الإدراك. وبفضل ذلك الانعكاس والانصباغ في تلك المجالس والصُحَب انتقلت أحوال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة الكرام، فغدا كل صحابي متخلِّقًا بأخلاقه ومنفِّذًا أوامره وتاركًا نواهيه. غير أن هذه الأحوال المباركة لم تنقطع بوفاة الصحابة، ذلك أنه إذا كانت حاجتنا ضرورية للأنبياء لنتعلم الحقائق الإلهية ونطبقها، فإننا نجد أن وظيفة الأنبياء في التربية المعنوية باقية على يد أهل الإرشاد من العلماء والعارفين والصالحين والأولياء- على حسب طاقاتهم وقدراتهم- بعد وفاة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف:

«العلماء ورثة الأنبياء» (أبو داود، العلم، 1)

والمرشد الكامل هو المؤمن الكامل الصالح العارف الذي يمثِّل ظاهر الدين وباطنه، والذي سار على طريق الزهد والتقوى فوصل إلى شرف «وراثة الأنبياء» وإلى كمال السلوك؛ وأدرك علَّةَ خلقه في الدنيا وسبيل النجاة في الآخرة، فنال لذة الإيمان وتنعم بشوق الوصال؛ وكان سعيه دائمًا في سبيل تخليص البشر من سيئات طبائعهم وظلمات نفوسهم وغوائلها، فترقَّى ذروة الأخلاق الحميدة وطاف في رحاب النضج المعنوي.

ويعدُّ المرشد الكامل ممثلَ الإرشاد النبوي وكمال السلوك في كل عصر، فهو قدوة لا بد أن يتَّبعها كل من لم ينل شرف رؤية النبي وأصحابه الكرام. ونصائحُ المرشدين وأقوالهم اللينة التي تحيي القلوب الميتة إنما هي كقطرات الروحانية التي تأتينا من منبع النبوة المحمدية؛ أي إن وصاياهم وإرشاداتهم تجليات تنعكس من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو منبع الفيوضات المعنوية. وأولياء الله كالمرآة البرَّاقة تعكس جمال الأخلاق النبوية، لذلك نجد أنه من يتتبع حال الأولياء وسلوكهم بمحبة ورقَّة قلبية، يرى في عالَمهم التجليات اللطيفة للأخلاق النبوية.

ونحمد الله سبحانه وتعالى ونشكره أن جعلنا ممن ينتفعون في آخر الزمان من روحانية «السلسلة الذهبية» النقشبندية وفيوضاتها، هذه السلسلة التي اجتمعت حلقاتها في 14 قرناً بانتقال وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تطهير القلب وتزكية النفس من جيل إلى آخر عبر الوراثة المعنوية.

وببركة هذه السلسلة المعنوية استطاعت الأفئدة أن تتنفس عبقَ عصر السعادة (عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم)، وأنعشتها نفحاتُ الرحمة التي ما فتئت تهب منذ ذلك الزمان إلى يومنا هذا. و«السلسلة الذهبية» كنز معنوي أنعمه المولى سبحانه وتعالى علينا ينتقل عبر رباط المحبة من الصدور إلى الصدور، ويزرع في القلوب المحبةَ والنشاط.

ومن أوضح الواضحات أن الإنسان يعسر عليه دركُ الحقائق المجردة؛ فالإنسان يحتاج دائمًا إلى أمثلة مشخَّصة يتلسمها بيدَيه ويراها بعينَيه ويسمعها بأذنَيه، لذلك يزداد إعجابه حين يرى مَن تتجسد في أحواله وسلوكه الحقائقُ المعنوية، فيسعى لتقليده واتباعه.

إن حياة المرشدين الكاملين الذين كُلِّفوا بالإرشاد بعد أن أتموا «السير والسلوك»؛ أي مسيرتهم في التربية المعنوية، حياةٌ مليئة بالدروس التي يمكن أن ننتفع منها، سواء أكانت خلال تلقيهم التربية أم تربيتهم المنتسبين إليهم. ولا ريب أن أخذ العبر من قصصهم، والاستماع بشغف لحِكمهم ونصائحهم، والتفكر العميق في أحوالهم، أمورٌ سيكون لها عظيم الفائدة في فهم الزهد، والإحسان، والخشوع، والتقوى، والربانية، والروحانية، أي فهم «التصوف» الحقيقي فهمًا صحيحًا.

فالتصوف الحقيقي مرآة برَّاقة تضمن انعكاس أخلاق رسول الله الحميدة وأحواله السامية بالروحانية والفيوضات نفسها على العصور والأجيال القادمة إلى قيام الساعة.

وإننا نضع بين أيديكم كتابًا يُعَدُّ خطوة مهمة في طريق التعريف بـ«الإنسان الكامل» كما يراه الإسلام.

وقد آثرنا التركيز على الحِكَم والأخلاق التي استقيناها من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم- أسوتنا الحسنة- ثم حياة المشايخ الكرام الذين يكوِّنون حلقات «السلسلة الذهبية»، والتي ينبغي لكل مؤمن أن يقتدي بها على حسب طاقته، بدل أن يكون الكتاب كتاب سيرة يقتصر على ذكر تفصيلات حياتهم.

وما الروحانيات والفضائل الموجودة في هذا الكتاب إلا انعكاسات وإشراقات بَلغَتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته الحقيقيين من أهل الله. أما مهمتنا فكانت بذل الجهد- كالنحلة التي تجمع الرحيق من زهور كثيرة كي تملأ خليتها بالعسل- في سبيل جمع هذه الحكم وتقديمها لقرائنا الأعزَّاء

ونتوجه هنا بخالص الاحترام وعظيم المحبة والدعاء لأهل الله الذين ذُكِرت أسماؤهم في كتابنا هذا. ونتقدم بجزيل الشكر لكل من بذل جهدًا في إعداد هذا الكتاب، بدءًا بالأستاذ مراد كايا، ومحمد عاكف غوناي، وإبراهيم حقِّي أُزون، وإخواننا الأكاديمين وطلبتنا جميعًا، وندعو الله أن تكون خدماتهم هذه صدقة جارية في ميزان حسناتهم.

وينبغي لنا ألا ننسى أن إرشادات أولياء الله كالنجوم التي تنير دروبنا، ولا يمكن لكل امرئ أن يحظى بتطبيق ما يطبِّقه الأولياء. لكن ثمة شعار يقول: «ما لا يُدرَك كله لا يُترَك جُلُّه» لذلك لا بد أن يكون منطلقنا في كل أمر فكرة أنَّ: «الغنيمة الاقترابُ من حال الأولياء ما استطعنا». فحين نقرأ مناقبهم ونصائحم، علينا ألا نبقى في مرحلة الإعجاب والدهشة فحسب، بل نخطو خطوة إلى الأمام فنرى حالنا في مرآتهم. ثم ينبغي لنا أن نسعى لتلافي مثالبنا وتصحيح أخطائنا، وأن نعمل بجدٍّ على جعل أحوالنا كأحوالهم لننال الدرجات التي نالوها.

ذات يوم كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه ومعه بعض أصحابه يسيرون في الصحراء قريبا من المدينة، فجلسوا يأكلون، فأقبل عليهم شاب صغير يرعى غنمًا، وسلَّم عليهم، فدعاه ابن عمر إلى الطعام، وقال له: هلمَّ يا راعي، هلمَّ فأصب من هذه السفرة. فقال الراعي: إني صائم. فتعجب ابن عمر، وقال له: أتصوم في مثل هذا اليوم الحار، وأنت في هذه الجبال ترعى هذه الغنم؟!. ثم أراد ابن عمر أن يختبر أمانته وتقواه، فقال له:

فهل لك أن تبيعنا شاة من غنمك هذه بالثمن، ونعطيك من لحمها فتفطر عليها؟

فقال الغلام: إنها ليست لي، إنها غنم سيدي.

فقال ابن عمر رضي الله عنه: قل له: أكلها الذئب.

فغضب الراعي، وابتعد عنه وهو يرفع إصبعه إلى السماء ويقول: فأين الله؟!

فظل ابن عمر رضي الله عنه يردد مقولة الراعي: «فأين الله؟!» ويبكي، ولما قدم المدينة بعث إلى مولى الراعي، فاشترى منه الغنم والراعي، ثم أعتق الراعي. (ابن الأثير، أسد الغابة، 3، 341)

وهذا هو شعور الإحسان والمراقبة في أسمى تجلياته، وإذا كان هذا هو جزاؤه الدنيوي … فما بالك بمكافأته في الآخرة!.

إنّ أول شرط لهذا التحصيل: هو ارتقاب لقاء الله، وأن يغدو القلب في معية الله. إلى أي درجة من المعية؟ هذا ما يبينه الله تعالى في قوله:

{…فَاذْكُرُواْ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ…} [النساء: 103]

يعني معية مستمرة، والشعور الدائم بالوجود تحت مراقبة الكاميرا الإلهية. إنّ ربنا أقرب إلينا من حبل الوريد. فإلى أي درجة نحن منه قريبون؟ إنّ تحقيق هذا القرب يستوجب علينا أن نتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لنا.

الشرط الثاني لهذا التحصيل: ارتقاب لقاء الآخرة. فعلينا تجاوز إطار المفاهيم الفانية، وتخطي حدودها. وكم يعبر حضرة مولانا بشكل جميل عن ذلك فيقول: «إنّ الحياة الدنيا عبارة عن رؤيا، وإنّ امتلاك الثروة في الدنيا يشبه العثور على كنز في الرؤيا، فمال الدنيا يبقى فيها يُتداول من جيل إلى جيل».

أكبر امتحان لنا في الدنيا هو امتحان المحبة والمعرفة. والناجحون في كلا الامتحانين على أفضل وجه يتجاوزون بسهولة جميع الامتحانات والآلام والمشقات والابتلاءات والمصائب. فتغدو دنياهم وآخرتهم جنة وصال. ويعيشون دائماً بفيض وبركة معية الله سبحانه وتعالى.

يقول مولانا جلال الدين الرومي رحمه الله:

«على الذي يريد أن يكون في معية الله تعالى وأن يأنس به سبحانه أن يجلس في حضرة الأولياء الذين هم أحباء الله تعالى. لأن الحبيب عندما يجلس مع حبيبه تُقرأ مئات آلاف من الأسرار التي في القلب».

وهؤلاء العارفون أصحاب القلوب الكاشفة يعيشون في يقين دائم أنهم في معية الله سبحانه وتعالى وحضرته في كل زمان ومكان، مستظلين بظلال قوله سبحانه وتعالى:

{…وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ…} (الحديد: 4)

إنها الإشارة الإلهية لطريق الهداية، ولسبيل المحبة، ولأسلوب الذكر والفكر، ولوسيلة التقوى والإحسان، والعيش الدائم في معية الله ورؤيته تعالى بإدراك أنك دائمًا وأبدًا تحت الرقابة الإلهية.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119)

فالآية الكريمة تحمل إشارة إلهية لطيفة بأن معية الله تعالى تبدأ بمعية الصالحين، والتحصن بتقوى الله يبدأ بمصاحبة الصادقين والتقرب منهم.

فالاستئناس بأهل القلوب ومصاحبة الصالحين والصادقين هو السبيل لتهيئة القلب أن يتلقى الفيوضات والروحانيات، وكذلك هو السبيل لوقاية القلب من خبث المؤثرات وسهام الدنيا، فيكون القلب في مأمن أمين وحصن حصين، لا يناله إلا الخير؛ إذ هو أضعف الأعضاء مقاومة، وأشدها تأثرًا بما حولها، وأميلها إلى اتباع الدنيا وما فيها مهما كان ما فيها.

وقد قيل: «عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة» (أبو نعيم، حلية الأولياء، جـ7، ص285) لكن ذكر الصالحين باللسان وحده لا يكفي لتجلي الرحمات الإلهية تجليًا كاملًا؛ فإذا كان هناك سعي في القلوب للتشبه بالصالحين إضافةً إلى الذكر، فعندئذ يتجلى اللطف الإلهي والفيض اللامتناهي.

وإذا استطعنا أن نقرأ قصص أهل الله ونصائحهم بعيون قلوبنا وبِهمَّةٍ عالية، فسيكون لنا- إن شاء الله- مكان في تلك القافلة؛ فقد جاء في الحديث الشريف:

«المرء مع من أحب» (البخاري، الأدب، 96)

وأعظم دليل على هذه المعية تشابهُ الحال والمعاملة والسلوك، والمعية في الإحساس والفكر والاستقامة. وكل محبة لا تحمل المرء إلى مثل هذه المعية محبةٌ ناقصة مشبوهة.

اللهم أكرم قلوبنا بمحبة من تحبهم، واجعل ارتباطها معهم ارتباطًا دائمًا، واشرح صدورنا، ويسِّر لنا حياةً بصحبة الصالحين، واحشرنا جميعًا معهم يا رب العالمين…آمين!