مقالات متنوعة

رمضان العمر

الحمد لله الذي زين من جديد أيام عمرنا نحن عباده العجّز الضعفاء بشهر رمضان المبارك الذي تتنزل فيه المغفرة والعفو والرحمات الإلهية. الذي فيه ليلة القدر التي هي خير من سنوات العمر كله، والكنز المعنوي والروحي الذي لا يُقدر بثمن…

فما أسعد المؤمنين الذين عزموا في هذه الأيام المباركة على:

–   الاعتناء بصلواتهم، وبذل أقصى جهودهم لأدائها بخشوع.

–   قراءة الأوراد بقلب خاشع فياض .

–   تهذيب الروح وتطهيرها بالصوم للوصول إلى مرتبة التقوى.

–   كسب روحانية الأسحار بالسحور.

–   التقرب إلى الله تعالى بالزكاة، والصدقات.

–   وبالنتيجة الخروج من هذا الشهر وقد نال المغفرة وتطهر من الذنوب والآثام!…

مهما شكرنا ربنا سبحانه وتعالى على هذا الشهر الذي تكرم به علينا فلن نوفيه حقه!..يقول الحق سبحانه وتعالى:

{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: 7)

فالشكر وسيلة لطرح البركة في النعم، ودوامها وبقائها. فعلينا عدم إهمال الشكر المتعلق برمضان المبارك سواء القولي أو الفعلي كي تظهر بركة الشكر في هذه النعمة أيضاً، أي نعمة رمضان.

ولهذا علينا أن نظل محافظين على القيم المعنوية التي نكتسبها في الأجواء الفياضة لرمضان المبارك والتي تربي وتزكي الأرواح حتى بعد انتهاء الشهر، ولا نفقدها أبداً. وذلك لأن إضفاءنا لروحانية رمضان على أيام العام كلها سيكون أجمل تعبير عن شكرنا الفعلي لربنا سبحانه وتعالى.

 

العبودية حتى الرمق الأخير

علينا ألا ننسى بأن حياة  الإسلام، والتدين، والعبودية، والزهد،  والتقوى ليست مخصوصة بشهر رمضان المبارك، ولا فاصلاً من المراسم والطقوس مؤقتة. وإنما هي قيم مصيرية بغاية الأهمية والتي يجب أن يجعلها المؤمن تاجاً على رأسه طوال حياته.

فالله سبحانه وتعالى يأمرنا بالعبودية لذاته العلية في كل وقت وزمان، وليس فقط في رمضان. حيث يقول في الآية القرآنية:

{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر: 99)

فالقرار الإلهي بحق الإنسان يتخذ على أساس الأنفاس الأخيرة. ولكي نلفظ الأنفاس الأخيرة ونحن على إيمان سليم لا بد أن يكون قلبنا متقلباً بين “الخوف والرجاء”، أي الخوف من غضب الله سبحانه وتعالى، والأمل برحمته، مدى الحياة.

ويقول الله تعالى أيضاً:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102)

فلا مناص للإنسان لكي يموت على الإسلام سوى الاستمرار في العبودية لله تعالى دون الوقوع في الغفلة واتباع النفس ولو للحظة واحدة. وقد قدم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجاً منقطع النظير في هذا المجال بتضرعه إلى مولاه سبحانه وتعالى، قائلاً:

«اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» (السيوطي، الجامع الصغير، ج1، ص، 58)

وبذلك علمنا صلى الله عليه وسلم كيف ينبغي أن تكون حالتنا الروحية في العبودية للحق سبحانه وتعالى.

وكما أن الله سبحانه وتعالى قد أخفى ليلة القدر في طيات أيام السنة، فإنه كذلك أخفى الوقت الذي يمكن أن يتجلى فيه رضاه وغضبه بين ثنايا الزمن. وبذلك أراد لنا أن نحرص في كل لحظة من لحظات حياتنا على القيام بالأعمال الصالحة، واجتناب ارتكاب الذنوب والمعاصي. ولذلك فإن الإسلام ينظم ويضبط كل لحظة من لحظات الحياة. فإتباع تعاليم الدين في أوقات معينة، والتغافل عنها أو اجتزائها بتطبيق بعضها وإهمال البعض الآخر يعرض الإيمان للضعف والنقصان.

وبناء على ذلك ينبغي أن نكون خلال حياتنا حذرين حذراً شديداً من الوقوع في الغفلة ونسيان الخالق سبحانه وتعالى ولو للحظة واحدة. لأن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز:

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ  فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر: 19)

ولذلك يجب علينا الإبقاء على ارتباطنا بدين الله تعالى حياً ومتجدداً في كل مكان وزمان حتى الأنفاس الأخيرة من حياتنا. وأن نعيش في كل لحظة من لحظات حياتنا بعشق إيماني يزيد يوماً بعد يوم بموجب الدستور القائل: «من كان يومه كأمسه فهو مغبون».

إن نصائح مولانا جلال الدين الرومي الآتية تُعد أجمل تعبير عن أفق عبودية المحبين والعاشقين للحق سبحانه وتعالى، حيث يقول:

«توضأ وضوءاً لا ينقض، وصل صلاة لا تنتهي أبداً. فالعاشق لا تكفيه خمس صلوات في اليوم، وإنما يريد خمسة آلاف صلاة. إذ هل يريد العاشق الحقيقي انتهاء الوصل؟..».

العبادات تكتمل بأدائها في أوقات محددة. ولكن العبودية دائمة ومستمرة. فالإيمان هو ارتباط القلب الدائم بالحق سبحانه وتعالى. ولذلك فإن العاشقون للحق سبحانه وتعالى الذين يعيشون إيمانهم بعشق يجعلون الفيوض والروحانية التي يحصلونها في العبادة مستمرة مع كل نفس يتنفسونه.

ولا يغفلون عن الحق سبحانه وتعالى في أي زمان ومكان. ولأنهم يشعرون بأنهم في الحضرة الإلهية كل آن ولحظة فإن وضوءهم، وصلاتهم، وبالتالي عبوديتهم تكون دائمة ومستمرة.

إن علامة الملذات والشهوات النفسية هي انطفاء نار الرغبة والانجذاب إليها فور تذوقها. وأما الملذات والمتع الروحية؛ فكلما تذوقها العبد كلما ازدادت الرغبة والشوق إليها بشكل أكبر.

ومثال ذلك؛ الصائم الذي يبقى جائعاً طوال ساعات النهار، فإنه عند الإفطار يشبع من طبق صغير من الطعام، وتنطفئ رغبته وشهوته نحو الطعام مهما كان طيباً ولذيذاً. وأما الملذات الروحية فليست كذلك. إذ أن في الملذات الروحية نشوة لا نهاية لها ومن شأنها أن تزيد من رغبة المؤمن إليها إذا ما تذوقها.

فلأن العباد المقربون من الحق سبحانه وتعالى بدأوا بالإحساس بنفحات ونسائم الملذات الباقية فقد فقدت الملذات والمتع الفانية قيمتها وأهميتها في عيونهم. ولذلك فإنهم بدلاً من استخدام النعم التي تقع بين أيديهم لأنفسهم وإن كانت لهم حاجة إليها يتصدقون بها على المحتاجين لوجه الله تعالى،

ويشعرون بلذة أكبر مما لو أنفقوها على أنفسهم.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهدأ له بال ولا يغمض له جفن، ولا يأكل حتى يشبع جياع الأمة، ويفرج كرب مكروبيهم.

وكأن اللذة والمتعة الروحية التي كانت تجلبها له الشفقة والرحمة بالمخلوقات من الخالق سبحانه وتعالى تنسيه جوعه وآلامه.

إن اللذة الروحية للعبادات التي يتم أداؤها بخشوع، أي بقلب موصول بالله تعالى لا تقبل حتى مقارنتها مع الملذات والمتع المادية الفانية.

وأنّ العبادات، والطاعات، والتضحيات والخدمات التي قام بها العاشقون الذين تذوقوا طعم الطمأنينة والسلام المعنوي والروحي لمعيتهم مع الله تعالى، لم تتسبب لهم بأي تعب أو إرهاق في يوم من الأيام، بل على العكس من ذلك؛ فقد بلغوا حالة من النشوة واللذة التي لا نهاية لها. ولهذا فإنهم يتمنون من كل قلبهم أن لا تنتهي حالة الوصل مع الحق سبحانه وتعالى.

وكذلك فإن المؤمنون الذين يعرفون قيمة وأهمية رمضان المبارك حق المعرفة، ويصومون أيامه ويحيون لياليه بما يليق به لا يتمنون أبداً أن تنتهي أجواء الرحمة هذه، ولا أن ينقطع تدفق الفيوض الكامنة فيها.

فكما قِيلَ: «لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان…» (الهيثمي، 3، 141)

ويصف معلى بن الفضل أحد مظاهر هذه الحقيقة لدى المؤمنين الصالحين بقوله:

«كان السلف الصالح يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم» (قوام السنة، الترغيب والترهيب، 2، 354)

  رمضان قلب العام

ينبغي أن نعلم بأن شهر رمضان بمثابة القلب من السنة. وعلينا أن لا ندع مجالاً لتناقص أو نزول مستوى العبودية التي حققناها في هذا الشهر، إذ ينبغي أن نسعى جاهدين على ربط رمضان الذي مضى برمضان المقبل بوجد قلبي متزايد. ولا ريب أن المؤمن الذي يوفق لمثل هذا الأمر سوف يمضي كامل أيام عامه بروحانية ورحمانية رمضان المبارك.

فما الذي ينبغي علينا فعله والتركيز عليه والانتباه إليه ومراعاته حتى تكون السنة كلها بروحانية وفيض رمضان المبارك؟

أولاً؛ نحقق استدامة حقيقة رمضان إذا ما صبغنا كل أوقاتنا بصبر رمضان وزهده، وحفظنا أنفسنا من الطمع، والشره، والجشع، والإسراف، والغضب، والسيئات والمعاصي.

فاستحباب صوم الأيام الستة من شهر شوال التي تعقب عيد الفطر مباشرة هو من جهة وسيلة لاستعادة الجسم دورته ونظامه الطبيعي بالتدريج، ومن جهة أخرى تعليم لمتابعة الروحانية والمحافظة عليها بالنوافل. والأمر ذاته ينطبق على صيام الأيام البيض،  وصوم يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع.

فالصوم يُعلم الصبر. والصبر من لوازم المؤمن في كل وقت وأمر، فالصبر لازم للاستمرار في العبادة… ولمقاومة المعاصي، ورغبات وشهوات النفس… والصبر لازم عند نزول المصائب والبلايا، والصبر ضروري للوقاية من زلات القدم، والوقوع في وديان الغفلة عندما تهتاج الرغبات والشهوات النفسانية بفعل توفر المال والثروة… والصبر ضروري في حالة الحرمان لحفظ العقيدة من الاهتزاز الذي قد يسببه الفقر، وكذا للامتناع عن سلوك طرق الحرام، ولتجنب التذمر والاعتراض والشكوى… لأن الحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز:

{… وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 155)

ومن جانب آخر؛ هناك عاملان لهما أثر كبير على الإنسان: الصحبة الصالحة، واللقمة الحلال. فإذا ما التزمنا بهما في شهر رمضان، فنكون بذلك قد حافظنا على استمرار الشعور الرمضاني.

وكما أننا نغلق أفواهنا أمام الطعام والشراب خلال الصيام، فينبغي كذلك إغلاق قلوبنا أمام النفاق، والرياء، والعجب، والكبر، والغرور، والتذمر، والحسد والجشع في كل الأوقات. وإغماض عيوننا عن النظر إلى كل ما حرمه الله تعالى. وسد آذاننا عن الاستماع إلى كافة الأصوات والأقاويل السيئة والمنكرة التي نهانا عنها القرآن والسنة.

وإذا استطعنا أن نضفي يقظة السحور على كل الأسحار، أي أن نعتاد على تزيين الأسحار خلال أيام العام بالتهجد، وذكر الله، والاستغفار فإننا نكون قد حفظنا فيوض القلب التي تسود في رمضان المبارك طوال العام.

وإذا تعاملنا مع كل ليلة من أيام العام وفقاً لدستور “انظر إلى كل ليلة على أنها ليلة القدر.” وأوليناها الاهتمام الذي نوليه في البحث عن ليلة القدر في رمضان المبارك، فإن كل أيام السنة تصطبغ بروحانية رمضان وفيوضه.

وإذا تمكنا من تحويل عزيمة  السعي إلى المساجد لأداء صلاة التراويح إلى عشق المداومة على الجماعة طيلة أيام العام، فإننا نكون قد حافظنا على تجدد الأجواء الروحية السائدة خلال رمضان في قلوبنا في سائر لحظات العام بشكل دائم.

تُعد الصدقات وأشكال الإنفاق المختلفة بمثابة باب مفتوح على الدوام للحصول من خلاله على رضا الحق سبحانه وتعالى مدى الحياة. فإذا تمكنا من إظهار الحرص على الوفاء بالزكاة

والصدقات ومختلف ألوان الإنفاق الذي نبديه

خلال شهر رمضان في سائر الشهور الأخرى؛ وإذا استطعنا التخلص من البخل والطمع، وأقدمنا على الخدمة والتضحية بكرم وجود؛ وإذا تمكنا من تذكر الفقراء والمحرومين واعتبرنا أنفسنا مسؤولين عنهم، وزدنا من الرحمة والشفقة عليهم فإننا نكون قد حافظنا على مناخ الرحمة الرمضانية خلال كل أيام العام.

وكان والدي موسى المحترم يشجع بكل وسيلة محبيه وأقربائه على الإنفاق بكرم وسخاء من النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم، وذلك من أجل نيل رضا الله سبحانه وتعالى قيقول:

«يا أولادي؛ عيشوا حياتكم بحالة من الزهد، وأنفقوا ما أكرمكم به الله في سبيل الله! ولا تكونن حالة الزهد محصورة فقط بشهر رمضان المبارك! وإنما اصبغوا بها كل مراحل وأيام حياتكم، وأنفقوا ما زاد عن حاجاتكم في سبيل الله تعالى!..واعلموا هذا جيداً، فإنكم حتى لو عشتم في  قصر فمع ذلك أنتم مجبورون على العيش بقناعة، ومن أجل ذلك أخرجوا أموالكم، وأملاككم من قلوبكم، وإذا لم تنفقوا الزائد عن حاجتكم في سبيل الله سبحانه وتعالى فإنكم سوف تصبحون من الجاحدين لنعم الله تعالى عليكم، ولا تنسوا أن عدم الإنفاق إضرار بالنعم، وإن حساب الإضرار بالنعم عسير، ووبال يوم القيامة.».

إن الشياطين تُصفد في شهر رمضان المبارك، وتبقى النفس لوحدها العائق أمام العبد. وأما بعد انقضاء شهر رمضان فتُحل أصفاد الشياطين التي تعود إلى محاولة إبعاد العبد عن ربه سبحانه وتعالى. ولكن إذا استطعنا تجنب الذنوب والمعاصي، والبقاء بحالة من التيقظ والحذر الدائم تجاه دسائس ومكائد النفس والشيطان، فإننا نكون قد حافظنا بذلك على الصفاء والرقة القلبية التي كانت قائمة في رمضان. إذ يقول الله سبحانه وتعالى في الآية القرآنية:

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (فصلت: 36)

والحاصل؛ إن نسبة فلاحنا في إحياء شهر رمضان المبارك بشكل مقبول متوقفة على نسبة فلاحنا في جعل هذه الأمور التي ذكرناها نهجاً ودستوراً لحياتنا.

علامة العمل المقبول

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف:

«أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل» (مسلم، المسافرين، 218؛ أحمد، 6، 61)

ويقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:

{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (الانشراح: 7-8)

يأمرنا الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين بالمثابرة المستمرة على أعمال الخير، حيث أننا ما إن ننتهي من عمل خير حتى نباشر بغيره دون توقف وتمهل.

يقول مولانا جلال الدين الرومي:

«إن علامة قبول العبادة هي السعي إلى عبادة أخرى بعد الانتهاء من تلك، والسعي للقيام بأعمال الخير واحداً بعد الآخر دون توقف».

وأما علامة عدم قبول العمل الصالح، فهي إتباعه بالمعصية، أي ارتكاب الخطايا والسيئات بعد القيام به. يقول الحق سبحانه وتعالى:

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا

مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا…} (النحل: 92)

فينبغي أن نصغي جيداً إلى هذا التحذير الإلهي، وأن نكون بغاية الخوف من عدم قبول أعمالنا الصالحة وذهابها هباءً منثوراً. إن مثل من يعود إلى المعاصي، والغفلة بعد رمضان كمثل من ملأ كيسه ثم تركه دون أن يحكم ربطه. فينتثر ما جمعه فيه على الأرض، ولا ينال من عمله إلا الخسران.

ولذلك يقول الإمام علي كرم الله وجهه:

«كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل»

فمن أمثلة ضياع ثواب الأعمال الصالحة هي؛ اقتران العبادات بالغرور، والكبر، والعجب، والأنانية، وإدخال حظوظ النفس فيها كأن يقول الرجل: فعلت كذا وكذا.

إذاً يجب الاهتمام بقبول العبادات وأعمال الخير بقدر الاهتمام بإتيانها.

إننا نبذل في شهر  رمضان المبارك بشكل عام جهداً أكبر للتقرب إلى ربنا سبحانه وتعالى بالصيام، وصلاة التراويح، وتلاوة القرآن، وبالصدقات، وزكاة الفطر وغير ذلك من أعمال الخير. بينما ينبغي أن يكون السؤال الأهم الذي يتبادر إلى أذهاننا وقلوبنا هو:

«تُرى؛ هل قوبلت الجهود التي بذلناها لإحياء الشهر المبارك بالقبول عند الله سبحانه وتعالى».

يقدم لنا ميرزا مظهر معياراً في هذا الخصوص بقوله:

«إذا أحيي شهر رمضان بالذكر مع   حضور القلب، فإن هذا الحال  الجميل سوف يستمر بقية أيام السنة.

وإذا ما حدث تقصير أو تهاون في هذا الشهر، فإن أثره سوف  يبدو على مدار العام كله»

أي أن الأجواء المكتظة بأشكال العبادة، ومستوى العبودية الاستثنائي الذي يبلغه العبد خلال شهر رمضان بمثابة البذرة التي يتم زرعها في الأرض. والتي سوف يتبين أثرها وصلاحيتها للنمو من عدمها في الشهور الأخرى.

والحاصل؛ إن حالنا وتوجهنا عقب شهر رمضان المبارك هو أحد العلامات التي تشير إلى قبول  عبادات  شهر رمضان أو عدم قبولها. فالمعيار الذي يحدد مدى الاستفادة التي حققناها في هذا الشهر الفضيل، هو مدى تمكننا من الحفاظ على حالة العبودية التي كسبناها في هذا الشهر.

وقت المحاسبة

ينبغي علينا بعد انتهاء شهر رمضان المبارك محاسبة أنفسنا، وإلقاء نظرة متفحصة على أحوالنا. ونتساءل:

  • لقد رحل رمضان، فما الذي خلفته لنا هذه الأيام المباركة؟
  • هل استطعنا أن نجعل رمضان المبارك وسيلة لتلافي أخطائنا وتقصيرنا، ولزيادة حالاتنا الإيجابية، وللارتقاء بمستوى أخلاقنا وسلوكنا؟
  • ما هي الخطايا التي تبنا عنها؟ وكم هي العادات السيئة التي تركناها؟
  • كم من الأشخاص تسامحنا معهم واعتذرنا منهم؟
  • ما مدى مساهمتنا في تحقيق الصلح بين إخواننا؟
  • كم من القلوب المنكسرة واسينا؟ وكم أعدنا البسمة للوجوه المظلومة المكروبة؟
  • ما مدى استكمالنا لنواقص عباداتنا وقضاءها؟
  • كم قدمنا من الخدمات والجهود التي ستكون وسيلة لإنارة ظلمة قبورنا، وتيسير حسابنا في المحشر، ونيلنا السعادة الأبدية؟
  • هل تلافينا نواقصنا وتقصيرنا فيما يتعلق بمسؤولياتنا تجاه أسرتنا، وجيراننا، وأقربائنا، ومجتمعنا، وأمتنا، وجميع المخلوقات الأخرى؟ وما هي القرارات التي استطعنا اتخاذها بهذا الخصوص؟
  • وإن كنا قد قمنا بعمل خير وإصلاحي؛ فهل بقي محصوراً بشهر رمضان، أم أنه ما يزال مستمراً بعد رحيل هذا الشهر المبارك؟

علينا أن نعلم بأن الرحمة الإلهية تصيب الذين استطاعوا أن يحافظوا على الخصال الحسنة المكتسبة في شهر رمضان المبارك لتهيمن على سائر أيام وسنوات حياتهم. الرحمة الإلهية تتجلى في كل لحظة وآن، والأمر المهم للعبد هو البحث عن الوسائل التي من شأنها إيصاله إلى تلك الرحمة، واستغلال الفرص المتاحة بالشكل الأمثل قدر الإمكان. وإنه لخسران وضياع كبير أن يحرص العبد على إحياء أيام وليال معينة مثل شهر رمضان المبارك، ثم يتصرف بتهاون وإهمال في الأيام الأخرى.

علينا بذل أقصى جهودنا ليكون الحماس الذي نبديه في شهر رمضان الفضيل لأداء العبادات والقيام بالأعمال الصالحة، وإعطاء الصدقات شاملاً لسنوات العمر كلها، كي نستيقظ في الأنفاس الأخيرة في صباح عيد أبدي.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده الصالحين السعداء الذين يخرجون من رمضان المبارك وقد نالوا شهادة العيد الحقيقي. وأن يوفقنا لأن نحيا كل أيامنا وسنواتنا بفيض وروحانية رمضان الفضيل. وأن يجعل لنا جميعاً الدار الآخرة عيد سعادة وسرور أبدي.  آمين!..