مقالات متنوعة

الحج أسراره  وأنواره

إن كافة العبادات التي هي مظهر العبودية للحق سبحانه وتعالى تُعد بمثابة فيتامينات مختلفة تُقدم للروح. وتكمن في كل عبادة من العبادات حكم وعبر ودروس، وقيم أخلاقية ينبغي أن نستخرجها ونأخذها منها. وهذه من علامات قبول عباداتنا.

إن أولى العبادات المفروضة، وعماد الدين هي الصلاة. فالصلاة تؤمن للعبد الوقوف بين الله تعالى، واللقاء القلبي الدائم معه، وتزيد من قربه إلى ربه سبحانه وتعالى بالسجود.

وبعد الصلاة فُرض الصيام. والصيام ليس فقط عبارة عن امتناع عن الطعام والشراب مدة معينة من الزمن. وإنما هو عبادة شاملة تهدف إلى بلوغ العبد الصائم لمرتبة “التقوى” من خلال حفظ سائر أعضائه عن المحرمات وخاصة عينيه، وأذنيه، ولسانه، علاوة على الامتناع عن الطعام والشراب. أي أنها تربية نفسية تعلم العبد مدى أهمية وضرورة اجتناب المحرمات والشبهات عن طريق حظر بعض المباحات عليه لمدة معينة. إنها حالة من الزهد التي توجه العبد إلى استخدام المباحات بحدها الأدنى. إنها تكامل وجداني يحمل العبد على تذكر الجياع والمحتاجين، وتنمي لديه صفات الرحمة، والشفقة، والكرم.

وبعد الصيام فُرضت الزكاة. تُعد الزكاة الحد الأدنى من حقوق الفقراء والمساكين في أموال الأغنياء. ويتوجب العمل على زيادة هذا الحد الأدنى وتجاوزه من خلال أشكال الإنفاق الأخرى. حيث أن هذه التضحية تُعد مؤشراً على شوق العبد وحرصه للتقرب إلى المولى سبحانه وتعالى.

ومن غايات الله سبحانه وتعالى في تشريع الزكاة والصدقات اختبار مدى تضحية العبد بالنعم والثروات التي أكرمه الله تعالى بها واستأمنه عليها. أي أن المولى سبحانه وتعالى يمتحن مدى توكل العبد، وتسليمه، ومحبته، وشكره لربه. وآخر الفرائض هو الحج. وهو عبادة مهمة كسائر العبادات الأخرى، والتي يجب الإيفاء بها بقلب رقيق وحساس، والتعمق في التأمل والتفكير بالحكم الكامنة فيها.

الاستعداد للحج

لا بد لأداء الحج بالمعنى الكامل والوصول إلى حقيقته من القيام بجملة من التحضيرات والاستعدادات المادية والمعنوية قبل الخروج في رحلة الحج. وأهم الاستعدادات المادية هو سداد الديون، وأداء حقوق العباد وطلب العفو والمسامحة. ولأن الحج عبادة بدنية ومالية على حد سواء فيجب تطهير المال بالإنفاق. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:

يا معشر التجار! إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة” ( أبو داوود، البيوع، 1/3326)

وإن كان هذا الحديث النبوي قد خاطب أهل التجارة، إلا أن هناك حالات تقصير وسهو مشابهة تعترض لأصحاب أي ومهنة من المهن الأخرى أثناء عملهم وسعيهم لتأمين معاشهم. ولذلك لا بد لمن يود التوجه إلى الحج بالإضافة إلى أداء ما عليه من حقوق العباد، لا بد له من الإنفاق والصدقات من باب الاحتياط لتطهير ثروته مما أصابها من تلوث، واللجوء إلى التوبة والاستغفار عما يكون قد ارتكبه من أخطاء وذنوب سهواً، وذلك كي يؤدي حجه بمال طاهر حلال. وإلا لا يمكن الوصول إلى الروحانية والفيوض القلبية للحج.

ولذلك يجب أن يبدأ العبد بأداء ما عليه من دين إن كان مديوناً، وطلب العفو والمسامحة إن كان عليه حق من حقوق العباد أو رده، وإخراج زكاة ماله وإعطائها لمن يستحقها من الفقراء والمساكين.

وبعد الانتهاء من هذه الاستعدادات المادية يأتي دور الاستعداد المعنوي والروحي، وهو إعداد القلب وتحضيره لهذه الرحلة المقدسة.

يروي لنا مولانا جلال الدين الرومي حادثة مليئة بالحكم والعبر جرت مع أبي يزيد البسطامي خلال رحلته إلى الحجاز، فيقول:

“لما خرج أبو يزيد البسطامي في رحلته قاصداً الحج رأى شيخاً كبيراً زاهداً تبدو عليه روحانية الأولياء. كان الشيخ أعمى العينين، ولكن بصير القلب. فجلس البسطامي بين يدي ذلك الشيخ. فسأله الشيخ: أين تذهب يا أبا يزيد؟..

فقال أبو يزيد:  نويت الذهاب إلى الحج؛ ولدي من المال مائتا درهم.

قال الشيخ: يا أبا يزيد! تصدق ببعض ذلك المال الدنيوي على الفقراء، والمحتاجين، وأبناء السبيل لوجه الله تعالى! لتدخل إلى قلوبهم وتكسب دعاءهم لك كي تتفتح آفاق روحك! فبذلك يحج قلبك أولاً! ثم تابع رحلتك إلى الحج بقلب رقيق نقي!..

لأن الكعبة بيت بر الله. فهي بيتٌ زيارته فرض على العباد، ووسيلة لنيل الأجر والثواب. ولكن قلب الإنسان بيت الأسرار.

فإن كنت صاحب بصيرة طف قبل كل شيءٍ بكعبة قلبك! إذ أن المعنى الحقيقي للكعبة التي هي عبارة عن صندوق مبني من الحجارة والطين هو القلب.

لقد فرض الله عليك الطواف بالكعبة التي يراها ويشاهدها الناس لتمتلك قلباً مطهراً من الأدران والآثام. واعلم أنك لو جرحت وكسرت قلباً هو محل النظر الإلهي، فإن الأجر الذي تناله لن يساوي أبداً ذنب كسر القلب ولو ذهبت إلى الكعبة سيراً على الأقدام.

فادفع كل ما تملك من ثروة ومال لتكسب قلباً يضيء لك ظلمة القبر. فإذا أخذت معك إلى حضرة الله بجراب مملوء ذهباً، فإن الله سبحانه وتعالى يقول:

إن أردت أن تأتينا بشيءٍ، فاتنا بقلب اكتسبته!..

لأن الذهب والفضة ليسا بشيءٍ ذي قيمة لدينا. فإذا كنت تريدنــــا وتريــــــد رضانا فإن ذلك لا يكون إلا باكتساب قلب!. فلتكن بصيرة الإنسان منفتحة ومتيقظة لرؤية تجلي نور الله الكامن في الإنسان!” ففهم أبو يزيد البسطامي قول الشيخ الزاهد ووعاه، ثم تابع رحلته بوجد وشوق كبير”.

نحن في هذه الدنيا الفانية مسافرون إلى الأبدية. ولا يعلم أحد متى يحين موعد الأجل. وعلى ذلك؛ فكما  ينبغي التحضير والاستعداد مادياً ومعنوياً لرحلة الحج، فمن باب أولى أن نكون مستعدين في كل لحظة للرحلة الأخيرة الماضية إلى القبر والآخرة.

محل النظر الإلهي

نجد كثيراً في كتب التصوف تشبيه القلب بالكعبة. وهذا الأمر نابع من مشابهة قلب الإنسان الذي خُلق كأشرف الكائنات ومركز الكون لموقع الكعبة داخل الكون. وفي الحقيقة فإن كلاهما يتمتعان بموقع مركزي من جهة التجليات الإلهية.

كما أن الكعبة هي أهم محل النظر الإلهي على وجه الأرض، كذلك فإن القلوب السليمة التي تطهرت وتخلصت من كل ما سواه وأصبحت مظهراً لتجليات معرفة الله هي محل النظر الإلهي. وأثناء الطواف يتحد هذا المحلان مع بعضهما.

فقد روي بأن النبي عليه الصلاة والسلام خلال طوافه بالكعبة خاطبها قائلاً:

ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله، ودمه، وأن نظن به إلا خيرا” ( ابن ماجه، الفتن، 2/ 3932)

إذاً إن القلب السليم الذي يكون محلاً للنظر الإلهي يستحق الاحترام والتبجيل مثله مثل الكعبة، بل وأكثر. فينبغي أن يعلم الذين يتوجهون إلى الكعبة للارتقاء بقلوبهم في التقوى والصلاح بأن أول شرط لتحقيق ذلك هو عدم تسببهم بكسر قلوب إخوانهم المؤمنين وإلحاق الأذى بها. لمساواة كسر قلب المؤمن جرماً كبيراً معادلاً لهدم الكعبة.

يقول يونس امره رحمه الله: يجهل الشيخ المسن أن الحج يذهب هباء في كثير من الأحوال، إذا ما تسبب بكسر لأحد القلوب.

وكما أن كسر القلب يُعد جرماً كبيراً لهذه الدرجة، فبالمقابل اعتُبرت مواساة قلب منكسر بدورها بمثابة فضل الطواف بالكعبة.

ثواب الحج الأكبر

إن البحث عن القلوب التي هي محل النظر الإلهي، والإفراج عن كرباتها وإدخال السرور والبهجة عليها يجلب الرحمة الإلهية ويصبح وسيلة لخلاص العبد الأبدي. لأن الأمور التي ستكون وسيلة لنيل العبد رضا الله تعالى كثيرة بعدد نفس المخلوقات. إلا أن الشيء المهم هو أن يكون العبد في حالة بحث وتحرٍّ دائم عن وصل الحق سبحانه وتعالى.

يقول مولانا جلال الدين الرومي:

“على من يتوجهون إلى الحج البحث هناك عن صاحب الكعبة. فهم إذا ما وجدوه وتعرفوا عليه سوف يجدون الكعبة في كل مكان.”

وبناء على ذلك؛ فإن المؤمن الذي يعيش المعية مع الله تعالى بفيض قلبي يحرص في كل مكان وزمان على نيل ثواب الحج الأكثر، ولا يغيب هذا المطلب عن فكره أبداً. ولأنه لا يُعلم على وجه التحديد العمل الذي يرضى الله تعالى بحرمته عن عبده، فإنه يحاول عدم تفويت أي فرصة تتاح له للقيام بعمل من أعمال الخير والصلاح. ويلازمه الشعور بأن العمل على مواساة ومداواة القلوب المهمومة والمكروبة والمحزونة التي هي مظهر خاص لنظر الحق سبحانه وتعالى يُعد أحد أفضل السبل لتحصيل الرضا الإلهي.

وتُعد الحادثة الآتية أجمل مثال على ذلك:

بينما كان التابعي والمحدث والعالم والعارف الرباني المشهور عبد الله بن المبارك بين اليقظة والنوم عند الكعبة بعد أداء فريضة الحج شاهد ملكين ينزلان من السماء. فقال أحدهما للآخر:

“لقد حج هذا العام ستمائة إنسان. وقُبل حج هؤلاء جميعاً بفضل وبركة عمل قام به إسكافي في الشام يُدعى علي بن موفق. فقد نوى هذا العبد الفقير الحج هذا العام، ولكنه لم يستطع، وببركة عمل قام به قُبل حج كل الحجاج.”

دُهش عبد الله بن المبارك من هذا الحديث، وثار لديه الفضول لمعرفة هذا الإنسان. فخرج مع قافلة متجهة إلـــى  الشام. ولما وصل إليها بحث عنه حتى وجده، فسأله:

–  ماذا عملت وأنت لم تذهب إلى الحج؟

لما رأى علي بن موفق عالماً وعارفاً مشهوراً كعبد الله بن المبارك يقف أمامه أصابته في البدء حالة من الارتباك والذهول. وفقد السيطرة على نفسه. وبعد أن استعاد توازنه قال:

منذ ثلاثين عاماً وأنا أرغب بالحج إلى بيت الله الحرام. وقد جمعت وادخرت لهذا الأمر ثلاثمائة درهم. وعقدت النية على الخروج في رحلة الحج. إلا أن امرأتي الحامل جاءتني وقالت لي:

–    أشتم رائحة اللحم من دار جارتنا وأنا امرأة حامل، فهل لك أن تذهب إليهم وتأتيني بقطعة منه؟

فذهبت إلى دار جارتنا، وسألتهم ما طلبت زوجتي. فبكت جارتنا، وقالت: –     منذ سبعة أيام وأطفالي الصغار جياع لم يتذوقوا طعاماً قط، وبينما أسير اليوم في الطريق رأيت ميتة ملقية بجانبه، فتناولت سكيناً واقتطعت منها بعض اللحم وجئت بها إلى الدار. وها أنا أواسي صغاري بطهيها لهم، فأنا مضطرة لإطعامهم وقد عجزت عن العثور على

الحلال فأطعمهم إياه.

وإن شئت أعطيتك منه شيئاً، إلا أنه ميتىة حرام عليكم وحلال لهؤلاء الصغار. فلما سمعت كلامها ضاقت بي الأرض بما رحبت، فجئتها بالثلاثمائة درهم التي جمعتها طوال هذه السنين وأعطيتها إياها، ثم توجهت إلى ربي متضرعاً: “اللهم تقبل نيتي في الحج إلى بيتك الحرام!”

فقال ابن المبارك: “لقد أعلمني ربي بالحق.”

ولذلك فإن المؤمن إذا ما فرج عن أخيه المكروب وأذهب عنه حزنه وكربه بمثل هذه المشاعر، فإنه ينال أجراً عظيماً وكأنه أدى الحج الأكبر.

ولكن ليس إبهاج كل قلب وإدخال السرور إليه يكسب العبد أجر الحج الأكبر. إذ حسبما ورد في الآية القرآنية: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ أي يجب البحث والتحري عن أصحاب القلوب المنكسرة المستضعفة القريبة من الحق سبحانه وتعالى، أصحاب القلوب المهمومة الحزينة الذين يمنعهم أدبهم، وحياؤهم، وعفتهم من عرض أحوالهم وهمومهم على الناس.

ومن جهة أخرى؛ ينبغي فهم هذه العبارات المتعلقة بفضل تملك واكتساب القلب فهماً صحيحاً. حيث أن هذه الحقائق التي ذكرناها ليس من شأنها الإقلال من أهمية فريضة الحج التي هي أحد أركان الإسلام الخمسة؛ وإنما على العكس من ذلك، فهي تعبر عن ضرورة أدائها بالشكل الأمثل والأكمل، بحيث يتحقق الانسجام والتوازن التام بين الظاهر والباطن، وبين المادي والروحي، وبين القلب والبدن. أي لا ينبغي لإنسان مؤمن بحق القول: “إني كسبت قلباً، وصار لي بمثابة الحج الأكبر” ليعفي نفسه من مسؤولية الحج.

ينبغي أن لا يغيب عن بالنا بأن التصوف إنما من أجل إكمال الشريعة. فغاية التصوف هي إيصال القلب إلى المقام اللازم للقيام بالتكاليف والأحكام الشرعية بأكمل وجه، وإلى مقام الإحسان. وإن تجاهل هذه الحقيقة، والاستخفاف بالتكاليف الظاهرية ما هو إلا غفلة وغوص في الباطل. فالذين يتذرعون بمختلف الأسباب للتهرب من أداء الحج مع توفر الإمكانية، لا يمكنهم بشكل من الأشكال التهرب من كونهم مخاطبين بالتحذير النبوي الشديد، والمخيف، حيث يقول رسول الله  عليه الصلاة والسلام:

من ملك زاداً، وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً، أو نصرانياً” (الترمذي، الحج، 3/812)

إن هذا التحذير النبوي بشكل واضح لا لبس أن إهمال فريضة الحج دون عذر شرعي من أكبر الذنوب، وأن عاقبته وخيمة على صاحبه.

الغاية؛ بلوغ التقوى

يقول الحق سبحانه وتعالى في الآية الكريمة:

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة: 197)

إن ما ورد في هذه الآية التي تتحدث عن الحج من تنبيه ولفت للأنظار إلى التحضير ل “زاد التقوى”، وما ورد في نهاية الآية التي تتحدث عن فرضية الصيام “لعلكم تتقون” يظهر بصورة جلية الأمر الذي ينبغي على العبد تحصيله بالعبادات. أي أن الحج أيضاً نوع من تعليم ل “التقوى”. فأكبر علامة على أداء الحج بشكل مقبول هي العيش بتقوىً بعد الحج.

ولا بد لأخذ نصيب جدير بالاهتمام من حكم الحج، ومن الرسائل التي يبعث بها، ومن قيمه الأخلاقية، والحفاظ على ذلك مدى العمر، من التأمل والتفكير العميق بمعنى وماهية الأركان الرئيسية لهذه العبادة العظيمة.

 

الإحرام

الإحرام الذي هو عبارة عن قطعتي القماش التي يتم ارتداؤها في الحج والعمرة تمثيل حي للكفن الذي يُعد اللباس الأخير للحياة الفانية. فالحج من هذا الجانب كأنه محاكاة أو تمرين على حالة البعث في المحشر يوم القيامة، وبالتالي فإنه يكون وسيلة لإدراك سر القول المأثور عن النبي عليه الصلاة والسلام: “موتوا قبل أن تموتوا”. فالموت قبل الموت؛ هو تركنا للأهواء والرغبات النفسية بإرادتنا اليوم، قبل أن نتركها مضطرين عندما يحين الأجل ويطرق ملك الموت أبوابنا. هو إسكاتنا لاعترضات وتذمرات، وشكاوي النفس، وطاعة لله ورسوله بتسليم تام.

والإحرام وسيلة لتفكير العبد بضعفه، وإزالة لكل المظاهر الدنيوية، حيث تُخلع الملابس التي يرتديها العبد في الأوقات الطبيعية، ويتم التجرد من  سائر الرتب، والمقامات، والمناصب، والسلطات الدنيوية. وبالتالي فهو وسيلة لإدراك أن “التقوى” هو السبب الوحيد للأفضلية عند الله تعالى بصورة أوضح وأجلى. ويعلمنا بأن الإنسان يُعرف من خلال إنسانيته وأخلاقه، وليس من خلال لباسه ومظهره، وثروته، وشهرته، ومنصبه، وبالتالي لا بد لنا من الالتزام بالتواضع. وكذلك أثناء الإحرام يحظر: “الرفث، والفسوق، والجدال”.

* الرفث؛ يحدد الإنسان خلال الإحرام علاقاته حتى مع امرأته التي بالأساس حل له، وذلك من أجل تحييد الأمور النفسانية، وتحقيق انكشاف الطاقات الروحانية.

* الفسوق؛ أي يجب على الإنسان المسلم تجنب الذنوب والمعاصي في كل أوقاته، وفوق ذلك عليه الابتعاد حتى عن كل ما لا يعود بفائدة على دينه ودنياه، وملء أوقاته بالانشغال بكل ما هو خير.

* الجدال؛ فمن شروط الإحرام تجنب الخوض في النقاشات والمنازعات التي لا طائل منها. فالمؤمن ينبغي أن يكون ناضجاً، هادئاً، متفهماً، عفّواً، وساتراً للعيوب والأخطاء على الدوام.

وعلينا أن لا ننسى بأن أول جدال بدأ باعتراض الشيطان على أمر الله. حيث لم يعجبه حكم الله تعالى نتيجة لنقص عقله، وأعلن العصيان على الأمر الإلهي بكل تجرؤ ووقاحة. إذاً؛ إن إيلاء الإنسان الاعتبار لحكم عقله في مسألة ما بينما هناك حكم واضح بشأنها من الله ورسوله لا يختلف بشيء عن جدال الشيطان واعتراضه على الأمر الإلهي. وإذا ما نظرنا اليوم نجد بأن المؤرخين يقدمون على وقاحة وحماقة مشابهة لتلك التي أقدم عليها الشيطان، وذلك باعتبارهم الأحكام القرآنية  منحصرة بحدود المكان والزمان التي نزلت فيها.

ولذلك فإن مهمة المؤمن هي طاعة أوامر الله ورسوله بتسليم تام، وليس الجدال والاعتراض. وتُعد هذه الطاعة أكبر رجم للشيطان. ولكن عندما نخرج عن طاعة الله ورسوله فإن الشيطان يبدأ برجمنا.

وانطلاقاً من ذلك؛ فإن رجم الشيطان لا يعد مخصوصاً بالحج فقط. وإنما باعتبار جوهره مهمة يتوجب على العبد القيام بها باستمرار في كل تقلبات ومراحل حياته. وإلى جانب ذلك؛ ينبغي على الإنسان أن يكون في الإحرام بغاية الحذر والانتباه من الإساءة إلى عباد الله وتجريحهم. وذلك لأنه كما يتضاعف هناك أجر وثواب الأعمال الصالحة، فكذلك تتضاعف السيئات.

وكذلك على الحاج ضمن حدود الميقات التي يتم الدخول إليها بالإحرام مراعاة الحدود والحرمات والمحظورات التي بينها الله سبحانه وتعالى وتعظيمها والالتزام بها بأقصى درجات التعظيم والالتزام، فكذلك ينبغي عليه بعد العودة من الحج إلى بلده اعتبار كل لحظة من لحظات حياته وكل مكان على وجه الأرض بمثابة ميقات، وبالتالي عليه أن يكون بمنتهى الشفقة والرحمة في التعامل مع كافة المخلوقات، مبتعداً عن كل ما من شأنه إلحاق الأذى والضرر بها. أي أن المهمة لا تنتهي بانتهاء الحج؛ وإنما الأمر الأهم هو البقاء بحالة الحج إلى النزع الأخير في الحياة.

عيد الأضحى

إن كان عيد الفطر شهادة لحياة “التقوى”، فإن عيد الأضحى شهادة ل “التضحية”. فهو العيد الذي يعلمنا التقرب من الله تعالى انطلاقاً من نموذج التضحية التي قدمها سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

إن المقصود من الأضحية هو التقرب إلى الله سبحانه وتعالى. حيث جاء في الآية القرآنية الكريمة:

{لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج: 37)

ولذلك فإن الأضحية رمز للتضحية بالمال والروح وأساسها التقوى.

إن المكرمات الإلهية العظيمة تأتي دائماً بعد تضحيات كبيرة. فسيدنا إبراهيم عليه السلام لما تخلى عن نفسه في سبيل الدفاع عن عقيدة التوحيد ورضي بأن يُلقى في نار نمرود، جعل الله سبحانه وتعالى تلك النار برداً وسلاماً عليه. ولما أبدى ابنه سيدنا إسماعيل عليه السلام استعداده التام لأن يكون قرباناً أكرمه الله سبحانه وتعالى بأضحية وهدية صارت عبادة للمؤمنين إلى يوم القيامة. وجاء من نسل سيدنا إسماعيل عليه السلام الذي وضع نصب عينيه لأن يكون قرباناً لله تعالى، جاء من نسله فخر الكائنات الأبدي سيدنا محمد عليه لصللاة والسلام.

إن الذين ذُكروا في القرآن الكريم كأعظم أمثلة عمن كانت حياتهم وأرواحهم ثمناً لحفظ وحماية إيمانهم كسحرة فرعون، وأصحاب الأخدود الذين ألقوا في خنادق وأخاديد مشتعلة بالنار، وحبيب النجار الذي استُشهد رجماً بالحجارة على يد قومه، إن هؤلاء نالوا المكافأة الأبدية من الله سبحانه وتعالى من جهة، ومن جهة أخرى صاروا قدوة ونموذجاً لكل المؤمنين في مجال التضحية بالنفس في سبيل الله تعالى.

وفي الحقيقة؛ فإن الصحابة الكرام الذين اتخذوهم قدوة لهم في حياتهم لم يترددوا يوماً عن تقديم مختلف التضحيات. وقد كان جوابهم للنبي عليه الصلاة والسلام عند كل مطلب أو أمر دائماً وأبداً:

“فداك نفسي ومالي، وأبي وأمي يا رسول الله!”.

لقد سارعوا إلى الغزوات والسرايا بعشق الشهادة. وحملوا كتب رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى ملوك الأرض، وقرؤوها عليهم بكل شجاعة إيمانية والجلادون يحيطون بهم من كل جانب دون أن يرف لهم جفن. وتركوا بيوتهم وأوطانهم في سبيل دعوة الإسلام حتى وصلوا إلى الصين، وسمرقند، والقروان بالرغم من ظروف السفر الشاقة في ذلك الزمن.

وكان جنود السلطان محمد الفاتح الذي بشر به النبي عليه الصلاة والسلام مظهراً لهذا العشق والإيمان ذاته عندما كان يقول أحدهم للآخر “حان اليوم دوري في الشهادة.” ثم يقبل بكل بسالة على تسلق أسوار اسطنبول دون أن يأبه بنيران الروم، وسهامهم، والزيوت المغلية التي تتساقط على رأسه كالمطر.

ولما واجه ثالث السلاطين العثمانيين السلطان مراد الخُداوندگار جيش الصليبيين الذي كان ضعف جيشه في كوسوفو تضرع إلى ربه قائلاً:

“اللهم لا تهلك هلاء الجنود المؤمنين على أيدي الكفار!.. اللهم أكرمهم بنصر مؤزر يكون عيداً لجميع المسلمين! وإن شئت يا رب فليكن فداء ذلك العيد عبدك الفقير مراداً هذا!”

وبالفعل فقد أكرمهم الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم بنصر مؤزر عظيم. وصار السلطان مراد الخُداوندكار أضحية عيد النصر ذاك.

فإذا كانت أصوات الأذان لا تزال تصدح في سماء كوسوفو منذ ستة قرون، ومظاهر السجود لا تزال تُشاهد فيها فبفضل التضحيات التي قدمها المحاربون والشهداء الذين لم يترددوا لحظة عن التضحية بأرواحهم في سبيل الله تعالى، كأمثال السلطان مراد هذا وجنوده المؤمنين.

ولا ريب أن التضحية الكبيرة التي أبدتها أمتنا العظيمة في  معركة جناقلعة تُعد مظهراً آخر لهذه الروح ذاتها. إن دولتنا تُعد شعاع أمل لجميع المظلومين من المسلمين نجت بعناية ونصر الله تعالى من هاوية عظيمة كانت على وشك السقوط فيها في تلك المعركة.

وبناء على ذلك؛ يُعد إظهار الوفاء لمحاربينا وشهدائنا الذين قدموا أرواحهم بسخاء في سبيل الله والمقدسات، وفي سبيل حماية وطن يُقام فيه الدين؛ والعمل على أن نكون جيلاً لائقاً بهم؛ والاستعداد للتضحية بالمال والنفس عند الحاجة لحماية الدين والوطن، يُعد دَيناً وجدانياً، ومسؤولية إيمانية في رقابنا جميعاً.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا جميعاً بعمر مزين بالتضحيات والجهود المقدمة لوجهه الكريم في أجواء روحانية الحج والأضحية، وأن يجعل نفسنا الأخير بمثابة استيقاظ في صباح عيد أبدي…آمين!..