مقالات متنوعة

الرحلة الأبدية

تبدأ الرحلة الأبدية بعقد “ألست بربكم”، أي بالوعد الذي أعطاه العبد لربه وهو في عالم الأرواح. ولاختبار صدقنا ووفائنا لهذا العقد أُرسلنا إلى مدرسة الدنيا. وبعد مدرسة الدنيا هذه توجد حياة القبر، وثم الانفجار العظيم والقيامة والحشر، والحياة الآخرة غير القابلة للرجوع. والحاصل؛ “الرحلة الأبدية” هي في قدر الإنسان.

لم الأبدية؟

لأن الآخرة ستكون اليوم الذي لا موت، واليوم اللانهائي الذي لا غد له… والعالم الذي لا نهاية لله بالشكل الذي عبر عنه القرآن الكريم {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} … فحياة الإنسان الدنيوية محكوم عليها بالفناء. وأما الآخرة التي هي الحياة الأصلية فهي العالم الأبدي.

إن الإحساس الرافض للفناء الموجود في فطرة الإنسان، والرغبة بالأبدية والخلود، والتوق للبقاء كل ذلك نابع من وجود رحلة أبدية له. إلا أن الإنسان الغافل يبحث عن هذه الأبدية في المكان والعنوان الخطأ؛ حيث يحاول العثور عليها في الدنيا الفانية. بينما الدنيا ما هي إلا واحدة من العوالم التي سيمر بها الإنسان في طريقه إلى الأبدية. ولأن الإنسان يتوق للأبدية في هذه الدنيا الانتقالية فإنه ينفق ثروته وعمره على المزيد من الأبحاث، والأدوية، وطرق وعمليات التجميل. إنه يبحث عن طرق النجاة والخلاص من الموت، ويوم القيامة. وبالتأكيد فإن كافة العنوانين التي سيصل إليها عبارة عن طرق مسدودة لا منفذ لها…

هناك قول جميل لأحد الصالحين:

«لا تطلب الأبدية من الدنيا، فإنها لا تملكها حتى تعطيك إياها».

إذاً؛ إن البحث عن شيءٍ في مكان لا وجود له فيه عبارة عن عبث لا طائل منه. فمثل هؤلاء ليسوا إلا كما أخبر عنهم القرآن الكريم {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} (الغاشية:  3)، حيث يعملون ويرهقون أنفسهم ولا يحصِّلون في النهاية إلا الخسران.

ومن جهة أخرى؛ فإن البشرية كلها بمؤمنها وكافرها مسافرة على طريق الأبدية. إلا أن المؤمن الذي يوفي بواجب العبودية للحق سبحانه وتعالى مسافر على طريق سعادة أبدية، وأما العصاة وإن كانوا مؤمنين فإنهم مسافرون على طريق سعادة أبدية ولكن بعد عقاب وجزاء مؤقت يتعرضون له أولاً؛ وأما أهل الكفر فإنهم مسافرون على طريق كارثة وطامّة أبدية…

ولذلك فإن البحث عن السعادة الأبدية في الدنيا كالجري في الصحاري الجرداء خلف السراب بحثاً عن الماء، فهو ليس إلا خسران عظيم. وإن ظن واعتقاد الكائنات الفانية بالحصول على الأبدية في الدنيا ليس إلا حماقة كبيرة.

إن ما يقتضيه العقل السليم هو طلب السعادة الأبدية من الحق سبحانه وتعالى القادر الوحيد على إعطائها. ولذلك يمكن تجميل الموت أيضاً بالاستعداد له ولما بعده…

فالنفس الأخير “الموت” عبارة عن مرحلة فقط من مراحل الرحلة التي لا نهاية لها.  “الرحلة الأبدية” فلا بد من التيقظ للموت وعدم التغافل عنه، وعدم الوقوع بين براثنه دون الاستعداد له، وتسليم النفس الأخير بإيمان سليم، وفي النتيجة تجميل الموت بتبديد المخاوف التي تدور حوله والقضاء على جانبه المرعب.

يعرف الحافظ الشيرازي الإنسان في أحد أشعاره فيقول:

«يَك قطره خونست، هزار انديشه» أي قطرة دم واحدة، وآلاف من  الفكر ومشاعر القلق والاضطراب.

وفي الحقيقة فإن الجانب الجسماني للإنسان عبارة عن عدة قطرات من الدم، وأما عالمه الداخلي فساحة من الهواجس،  والاضطرابات، والأفكار، والأخيلة والأحلام، والمخاوف التي لا تُعد ولا تُحصى. وأهم هذه المشاعر والأحاسيس هو الهواجس ومشاعر القلق التي تدور حول الموت وما بعده…

إذ أن الموت حقيقة مثل الحية الرابضة على الأذهان والقلوب تجعل الإنسان مضطرباً وقلقاً ومتوتراً في كل حركاته وسكناته. فكل إنسان سواء كان مؤمناً أو كافراً بحالة خوف وقلق أمام الموت وما بعده. إلا أن محتوى هذا القلق مختلف.

فقلق المنكر يكون بطرح هذا التساؤل: “ترى ماذا سيحل بي إن لم يكن الموت عدماً وفناءً، ماذا لوكان خبر الآخرة صحيحاً، والجنة والنار حقيقة؟!”. أي قلقه أزمة نفسية وروحية نابعة من اضطراب الميل الإيماني الموجود في فطرته…

وأما قلق المؤمن فيكون  بتساؤله: “ماذا سيكون حالي في الآخرة التي هي الحياة الأصلية إذا لم أقم بواجب العبودية تجاه ربي بما يليق به في هذه الدنيا الفانية؟..”.

ولا بد من ضرورة التنبه إلى حقيقة الموت وعدم الغفلة عنها، والاستعداد لها بشكل لائق.

ورحلة الإنسان العظيمة التي تبدأ من عالم الأرواح، ثم تمر برحم الأم، ثم إلى الدنيا، ومنها إلى القبر، ومن القبر إلى القيامة والبعث، ثم إلى المحشر والصراط، لتصل إما إلى الجنة أو النار؛ والحياة الأبدية التي سوف يعيشها في الآخرة.

“الرحلة الأبدية”،رحلة طويلة وشاقة. إذ لا ريب أن لكل رحلة جملة من المشقات. إلا أن الإنسان يجد الراحة في رحلته بقدر استعداده وتحضيره لها.

إننا نعرف ونتعلم عن صفحات الرحلة الأبدية، والمحطات والمراحل التي ستمر بها من تعاليم الله ورسوله. ففي القرآن الكريم والسنة النبوية  عدد لا يحصى من الإرشادات والمواعظ والتعاليم حول الموت وما بعده لكي لا نغفل عن الاستعداد له…

لقد جعل الله سبحانه وتعالى في الرحلة الأبدية التي قدرها على الإنسان الكثير من المحطات والمنازل. حيث أخرج الإنسان أولاً من العدم إلى الوجود، ثم اختاره من بين عدد لا يحصى من الكائنات مثل الحجر، والتراب، والماء، والحيوانات وسائر المخلوقات الأخرى ليكون أشرفها، ويُخلَق “إنساناً” في أحسن تقويم. ثم أبرمت معاهدة في عالم الأرواح. فنحن مقرون بعبوديتنا لربنا سبحانه وتعالى. ثم بعد ذلك انتهت حياتنا في ذلك العالم، وانتقلنا إلى حياة مختلفة في رحم الأم. ثم انتهت حياتنا في رحم الأم، ليبدأ امتحاننا الدنيوي بشأن مدى صدقنا في عبوديتنا لربنا سبحانه وتعالى. ويستمر هذا الامتحان حتى لفظ نفسنا الأخير…

وإذا كان يُطلق على هذا النفس الأخير في الدنيا تسمية “الموت” فإنه في الحقيقة يعني “الولادة “في العالم التالي أي عالم البرزخ. وبعد المساءلة الأولى فإما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. إنه ممر انتظار حتى يوم القيامة. وكأنه قاعة انتظار يقف فيها الناس بانتظار الجلسة الكبيرة في المحكمة الكبرى…

وتأتي بعدها القيامة. فكما أن الله تعالى قد حدد للإنسان “أجلاً”، فإنه قد حدد للدنيا أيضاً موعداً وأجلاً وهو “القيامة”. والقيامة هي الانفجار العظيم للكون وزواله.

عندما يحدث زلزال شديد، أو تنفجر جرة غاز نقول “كأن القيامة قامت”. إلا أن القيامة الحقيقية حيث ستندثر النجوم، وتطوى السماء كطي السجل، وتسير الجبال وتصبح كالعهن المنفوش فإنها انفجار عظيم لا يطيقه الإنسان… سيكون يوماً يشيب من هوله الولدان، وتضع فيه كل ذات حمل حملها، ويُرى الناس سكارى وما هم بسكارى.

وحتى في ذلك اليوم الشديد والعصيب سيكون هناك عباد سعداء في ظل الحماية والعناية الإلهية بمأمن من الخوف والحزن. ويبشرهم ربنا سبحانه وتعالى فيقول:

{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 62- 63)

وكذلك وفقاً لما جاء في القرآن الكريم أن الملائكة سوف تنزل على العباد الذي عاشوا على التقوى في المراحل الثلاثة، وذلك عندما يكون في النزع الأخير، وفي عالم القبر، ويوم القيامة، وتبشرهم قائلة:

{… أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت : 30)

يدعونا الحق سبحانه وتعالى نحن عباده إلى الالتزام بالإيمان والتقوى في هذه الدنيا. ويعدنا أننا سنكون بقدر استجابتنا لهذه الدعوة من عباده السعداء الذين ولا يخافون ولا يحزنون، بل وتمتلئ قلوبهم فرحاً وسروراً عند اجتياز ممرات القبر، والقيامة، والآخرة المحفوفة بالمخاطر والملآى بمظاهر الخوف والرعب.

إذ أن أحوال الموت، والقبر، والقيامة، والآخرة سوف تتجلى لكل إنسان حسب الطبيعة المعنوية التي اكتسبها في الدنيا. فالله سبحانه وتعالى سوف يهون ويخفف على عباده الصالحين تلك الممرات الشاقة والصعبة. إلا أنه سوف يشددها ويصعبها لأقصى درجة على المنكرين وبالشكل الذي استحقوه. ولمولانا جلال الدين الرومي ـ رحمه الله ـ بيان جميل في هذا الشأن، حيث يقول:

«يا بني! إن موتة كل إنسان مصبوغة به. فالموت في نظر الذين ينفرون منه دون التفكير بأنه وصل إلى الله ويعلنون العداوة تجاهه يُعد عدواً مرعباً. وعلى العكس تماماً فيمن يعتبر الموت صديقاً يكن له صديقاً»

«يا من تخاف من الموت وتهرب منه! لو سألت عن الأمر لما خفت من الموت أبداً؛ فأنت تخاف من معاصيك وغفلتك…».

إذاً؛ إن العبد إذا انكبّ على الدنيا الفانية، وعاش حياته أسيراً لأهوائه وشهواته النفسانية، فإن القبر، والآخرة سوف تبدو له زنزانة مظلمة مليئة بالأحزان والكوابيس. وأما إن استطاع العبد التغلب على رغباته وأهوائه الدنيوية والنفسانية، وسعى جاهداً لاتباع أوامر ربه بتسليم تام، فإن القبر والآخرة سوف يتجليان له وصلاً لجمال يفوق الخيال. سوف يبدو له الموت وفقاً لتعبير مولانا جلال الدين الرومي مثل سعادة “شب العروس أي ليلة الزفاف”.

وكذلك سوف نشهد بعثاً يوم القيامة بكل تفاصيله. وقد ذكر الكثير من الأمثلة على ذلك في القرآن الكريم والأحاديث النبوية بهدف تثبيت وتمكين عقيدة البعث بعد الموت في القلوب. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من وعظ وإرشاد الصحابة الكرام بشأن هذا الأمر.

فمثلاً ذات مرة سأل أحد الصحابة عن كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:

«أما مررت بوادي أهلك مَحْلاً؟». قال الصحابي: بلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما مررت به يهتز خضراً؟»

قال الصحابي: بلى.  فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم مررت به مَحْلاً؟» قال الصحابي: بلى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

«فكذلك يحيي الله الموتى، وذلك آيته في خلقه» (أحمد، مسند، 4، 11)

وكذلك سوف نساق بعد البعث إلى أرض المحشر لنتواجه مع أعمالنا في الميزان. وسوف نحاول الوصول إلى الجنة باجتياز الصراط المنصوب فوق جهنم. وسوف يجتاز كل إنسان الصراط بسرعة مختلفة حسب درجة إيمانه وأعماله. وأما المحرومون من الإيمان فلن يستطيعوا اجتيازه، وسوف يهوون في عذاب شديد.

إن دار السلام التي دعا الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين إليها، أي الجنة، هي دار سعادة أبدية مليئة بنعيم لا عين رأت مثله، ولا أذن سمعت به، ولا خطر على قلب بشر… وهناك ما هو أعلى وأعظم من كل هذه السعادة والنعم، ألا وهو عيد بلوغ رضا الله تعالى الأبدي، والنظر إلى جمال وجهه الكريم.

نسأل الحق سبحانه وتعالى أن يكرمنا جميعاً بلطفه وإحسانه ببلوغ هذا العيد…

وهناك أمر مهم من محطات الرحلة الأبدية. فعوالم القبر، والقيامة، وأحوال الآخرة هي من العوالم التي تدخل ضمن ساحة “الغيب” بالنسبة لنا. ومن ثم فليس لدينا معلومات حول تلك العوالم سوى ما ورد من بيان وتصوير لها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ويمكن أن نقول هنا باختصار:

كما أنه ليس بالإمكان إحياء وتصوير الألوان بشكل تام في ذهن وإدراك إنسان أعمى، فإنه كذلك ليس بإمكاننا في هذه الحياة الدنيا  إدراك كيفية عالم القبر الذي لم نره أبداً بشكل تام.

وكيف أن الإنسان مر حتى وصوله إلى الدنيا بعوالم مختلفة الظروف والأحوال مثل عالم الأرواح وعالم الأرحام، فإنه كذلك سوف يخطو بوفاته في الدنيا نحو عالم القبر الذي يتميز بظروف مختلفة تماماً أيضاً. وإن عالم الآخرة أيضاً عالم له ظروف مختلفة كثيراً بالمقارنة مع عالم القبر. وإن ربنا سبحانه وتعالى سوف يعطي الإنسان في القبر، ويوم القيامة، وفي الجنة، والنار أموراً ومزايا مختلفة عن تلك التي كان يتمتع بها في الدنيا.

لمولانا  جلال الدين الرومي– رحمه الله – مثال جميل حول ذلك. حيث يقول:

«لو أن أحداً قال لجنين/طفل وهو في بطن أمه: يوجد في الخارج عالم جميل ورائع. حيث يوجد فيه براري وصحاري واسعة، وبساتين وحدائق تفيض بالبركة، وجبال وبحار عظيمة، وسماء عالية منورة، وفي السماء شمس، وقمر ونجوم متلألئة. وإن وجه الأرض مزينة بمختلف أنواع الجمال والزينة، حيث تجد فيها أطعمة وأشربة لذيذة المذاق، وآثار القدرة والعظمة الإلهية التي تدهش وتحير العقول.

وقيل له أيضاً:

أما أنت، فإنك الآن في ضيق وشقاء داخل رحم الأم الضيق والمظلم. وتعاني من الشدة والأذى وكأنك مسجون داخل زنزانة…

فإن ذلك الطفل ما كان  ليشتكي ويتذمر من حاله رغم كل هذا، وحتى أنه كان سيواجه هذا الكلام بالإنكار والاعتراض، ولقال: هل تريد أن تخدع طفلاً صغيراً؟ إن ما تقوله أمور غير قابلة للحدوث، فهل تعمل على التغرير بي؟».

فإدراك ووعي الإنسان بالعوالم التي سوف يرحل إليها من الدنيا هو مثل إدراك الطفل بشأن الدنيا وهو في بطن أمه… لأنها عوالم مختلفة كلياً لم يرها، ولم يعرفها أبداً…

فلا تُدرك ماهية وطبيعة حياة البرزخ، والآخرة بشكل تام إلا بمعايشتها ومعاينتها. وإن ما ورد في القرآن والسنة من بيانات ومعلومات  وتفاصيل حول تلك الحياة هي حسب مستوى إدراك البشر الدنيوي، حيث يمكنهم التفكير بها وفق التصورات والانطباعات الدنيوية…وأما فهم وإدراك الحقيقة الأصلية لعوالم البرزخ والآخرة فشيء فوق طاقة البشر. وعلى كل الأحوال فإن وظيفة المسلم ليست البحث عن ماهية وكيفية حياة القبر، والآخرة، وإنما الاستعداد لهما بما يليق بهما.حيث سأل أحد الصحابة الكرام النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله متى الساعة؟

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «وما أعددت للساعة؟» (مسلم، البر، 163)

أي انظر إلى ما أعددت لها وفكر بذلك، فأنت لست مسؤولاً عن زمان الساعة، ولا عن مكانها، ولا عن كيفيتها، ففكر بالجانب الذي أنت مسؤول عنه.

إذاً إن واجبنا كمؤمنين هو الانشغال بفصل “الإعداد والاستعداد” لحياة القبر، والآخرة المكلفون بها، بدل إشغال أنفسنا بالتفكير بماهيتها وكيفيتها، أي بالجانب الذي لسنا مسؤولين عنه ومكلفين به.

رحلتنا الأبدية و كيفية الاستعداد لها:

لقد جاء في القرآن الكريم:  {…وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة : 197)

أي أن أفضل وخير زاد الآخرة هو “التقوى“. والتقوى هي التغلب على الأهواء والرغبات النفسية، والكشف عن الطاقات والاستعدادات الروحية. وإبداء حرص وحساسية شديدة تجاه أوامر الله تعالى ونواهيه خشية فقدان محبته ورضاه، والتعرض لغضبه وعذابه. ويمكن للعبد بهذه الحساسية والحرص قطع المراحل القلبية، والتقرب إلى الحق سبحانه وتعالى.

يدعونا ربنا سبحانه وتعالى إلى دار السلام. إلا أنه لكل دعوة شرط قبول واستجابة. وإن شرط دعوة الجنة هو مرتبة القلب السليم، والقلب المنيب، والنفس المطمئنة التي يتم تحصيلها ب “التقوى“. وعندها يلتفت الحق سبحانه وتعالى إلى عبده بخطابه:

{فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: 29-30)

بعد وفاة الشاه الشيخ بهاء الدين نقشبند -رحمه الله- رآه رجل صالح في منامه، فسأله: سيدي؛ ما أفعل للخلاص الأبدي؟

فأجابه الشاه نقشبند قائلاً:

«اِنشغلْ بما يجب الانشغال به في النزع الأخير!، أي كما أنه يجب عليك في النزع الأخير حصر التفكير تماماً بالله تعالى، فينبغي أن تكون أيضاً متنبهاً ومتيقظاً هكذا طيلة حياتك!».

وقد جاء في الخبر أيضاً:

«يموت الرجل على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه». (المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، 5، 663)

إن الأنفاس التي نتنفَّسها في العبادة والمعاملات التي نعيشها في هذه الحياة الدنيا هي كالبوصلة لأنفاسنا الأخيرة، وهي في الوقت نفسه ترجمان لحالنا التي سنكون عليها في الآخرة.

إذاً؛ يجب علينا الاستمرار بعبوديتنا للحق سبحانه وتعالى بقلب يقظٍ حتى النفس الأخير. والعيش بقلب متقلب بتوازن بين الخوف والرجاء، أي الخوف من غضب الله، والأمل بنيل رحمته.

وعلينا أن لا ننسى أيضاً أن هناك ما يزيد عن مائة وأربع وعشرين ألف نبي، والصحابة الكرام، والصادقين، والشهداء، وعدد لا يحصى من الأولياء، والأصفياء، والصالحين في عالم البرزخ.

وجاء في الحديث الشريف:

«المرء مع من أحب».(البخاري، الأدب، 96)

فكان كل سعي وجهد الصحابة الكرام y بهدف استمرار صحبتهم التي نالوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة أيضاً. وقد قدموا مختلف أشكال التضحية في سبيل ذلك.

وإذا كنا بدورنا نريد أن نُحشر مع الصالحين، فلا بد لنا من السير على خطى الصالحين واتباع آثارهم.

يقول الحسن البصري رحمه الله:

«يا ابن آدم! لا يغرنك قول من يقول (المرء مع من أحب)، فإنك لن تلحق الأبرار إلا بأعمالهم. فإن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم وليسوا معهم -بأحوالهم، وأخلاقهم، وأعمالهم-».

إذاً؛ إن كنا نحن بدورنا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحق، ونريد صحبته يوم القيامة فينبغي أن نثبت هذه المحبة بالسير على نهجه اليوم وتقديم التضحيات في سبيل ذلك. وذلك لأن التضحية مقياس المحبة.

وإن كنا نريد معية نبينا عليه الصلاة والسلام في الآخرة، فينبغي أن نكون معه اليوم، بمعية الحال، والعمل، والأخلاق، والشعور والفكر؛ والحاصل ينبغي أن نجهد لتحقيق معية الاستقامة والصدق.

كما ويجب الإكثار من مراجعة أحوالنا والتدقيق فيها لنرى:

هل نحن معه في حرصه على أمته؟

هل نحن معه في حالة خشوعه في العبادات؟

هل نحن معه في لطفه ولين جانبه في المعاملات؟

أي لكي نتمكن من اللقاء برسول الله عليه الصلاة والسلام في الدار العقبى هذا اللقاء الذي حرمنا منه الدنيا، فينبغي أن نسعى جاهدين لأن يسري في قلوبنا اليوم فيض من أحاسيس قلبه، وأن نتخلق بأخلاقه الكريمة.

وكذلك ينبغي أن لا ننسى أن الحق سبحانه وتعالى يدعونا وبشكل متكرر إلى التفكير بالموت، والقيامة، والآخرة. حيث يتحدث القرآن الكريم كثيراً وخاصة في الأجزاء الثلاثة الأخيرة عن مشاهد يوم القيامة

والآخرة عما سيحدث للأرض، والسماوات، والإنسان… فينبغي علينا أيضاً أن نسعى لقطع مراحل على طريق التقوى من خلال التعميق بالتفكير والتأمل في هذه الحقائق.

والحاصل؛ يجب أن تنعكس الحقائق المتعلقة بالموت وما بعده بشكل لائق على قلوبنا وعلى حركاتنا وسكناتنا. وفي سبيل تحقيق ذلك ينبغي أن نجعل توصية

التفكر بالموت” التي قدمها لنا رسول الله عليه الصلاة والسلام جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وأن ننظر إلى الدنيا من نافذة الآخرة. أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتيقظين للموت وما بعده، وأن يرزقنا عاجلاً لا آجلاً زاد الآخرة الذي يلزمنا على طريق هذه الرحلة الأبدية.

وأسأل ربنا سبحانه وتعالى أن يكرمنا جميعاً بواسع فضله ومنه باستعمال نعمة الحياة بما يحقق رضاه، وبعمر محفوف بفيض وروحانية القرآن الكريم، وبالموت مسلمين، والوصول إلى الحضرة الإلهية ونحن مظهر لتجليات الرحمة والغفران، والتشريف بالجنة والنظر إلى جمال وجهه الكريم…