حوار حول حساسيات حياة العمل عند المسلم
«لا يجوز إضاعة الحدود بين الحلال والحرام بذرائع جوفاء»
سنتاول هذا الموضوع من خلال الحوار التي أجرته مجلة ألتن أولوق في مارس 6002م مع مؤلف هذا الكتاب السيد عثمان نوري طوبَّاش المحترم:
سيدي، هناك مناقشات تدور حول مواضيع كالإسلام والرأسمالية ورسملة الإسلام. ما الذي يمكنكم قوله حول هذه الأفكار، بالخطوط العريضة؟
الميدان الذي وجدت فيه الرأسمالية فرصتها للنمو وأينعت، هي حيثما تعرض التوكل والقناعة للضعف، وقويت شوكة الطمع والجشع والربح بدون وجه حق. من زاوية النظر هذه، على أصحاب القلوب المؤمنة أن يُخضعوا أنفسهم، فيما خص الطمع والجشع، لتربية صوفية، وهذا ما يتحقق بالقناعة والتوكل. أما القناعة فهي الغنى الحقيقي الذي يحرر جميع الناس من عبودية جشع المال والملك.وبالتالي، إذا لم يمر المسلم عبر تزكية النفس وتصفية القلب، فسوف يهلك بين مسننات الرأسمالية التي لا تعترف بأي حدود غير المال.
ذلك لأنه لا محل لفضائل الضمير وروحانيات القلب في النظامين الرأسمالي والإشتراكي، سواء بسواء. ففي أحد هذين النظامين، الملكية للمجتمع، وفي الآخر للأفراد. لكن الذهنية المهيمنة في الحالتين هي النفعية والاستغلالية. ويتم النظر إلى الأفراد على أنهم مسننات في آلة.
أما في الإسلام، فالملك لله. ولا محل فيه للنفعية والإستغلال مطلقاً. يبدأ اقتصاد الإسلام بحل مشكلات الإنسان. التقاسم وإعانة الآخرين، وبخاصة من ذوي الحاجة، هو فريضة في الإسلام، إلى حد أن الله تعالى أعلنها حقاً للفقراء:
﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (الزاريات، 19)
السائل، أي المحتاج، والمحروم الذي يتعفف على السؤال، لهما حقٌ معين في أموال الأثرياء.
هذا الدستور هو، في وقت واحد، تربيةٌ في استخدام النقود، ووسيلةٌ للتأليف بين القلوب. أي أن المال، في الإسلام، ليس مصدراً للجشع، بل هو أمانةٌ ينبغي أن تصرف في محلها. فإذا تم استخدام هذه الأمانة في محلها، وتم صرفها حيثما يجب، مع الإقرار بحق المحتاج والمحروم فيها، فتكون بذلك وسيلة كبيرة من وسائل العبادة. غير أنه من الأهمية بمكان معرفة من أين جاء هذا المال وكيف تم كسبه. فكل مال يتم كسبه، إنما يتم بوسائل معينة، ويتشكل قلب الإنسان بشكل تلك الوسائل. وتتم الإنفاقات أيضاً وفقاً لهذا التشكل. بهذا المعنى يتوجب علينا الانتباه بشدة إلى شكل كسبنا للمال.
ما هي طرق الكسب التي يتجه نحوها الناس؟
بصورة عامة جداً، هناك نوعان من الكسب.
الأول وهو الكسب بما يتفق مع المعايير الدينية والضميرية. تتم هنا مراعاة المعايير الإلهية. وهناك أخلاقيات التجارة. ويشكل الحلال مبدأً لا يجوز الإخلال به. لا وجود للمنافع الشخصية والاحتيال. وإذا كان هذا النوع من الكسب لا يبدي ارتفاعاً ظاهراً، فإن ارتفاعه المعنوي يتواصل باطراد. لأن هذه الثروة فيها الكثير من الإنفاق والخير والحسنات. تبلغ بالفرد راحة الضمير وطمأنينة الرحمة. يتمتع هؤلاء العباد بالرحمة والرأفة نحو كل الكائنات. هذه الرحمة هي الوسيلة الفضلى لنستحق الرحمة نحن أنفسنا. قال سيدنا الرسول -صلي الله عليه وسلم-:
“ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ” (الترمذي، البر، 16)
إن مصير المال يخترق مشاعر الشخص، فكما يقول المثل، المال كالأفعى، يخرج من الجحر الذي دخله. يكفي لمعرفة مصدر أموال الشخص، النظر إلى وجوه إنفاقه.
وماذا عن النوع الثاني؟
أما الثاني فهو المال الذي يتم الحصول عليه بالتوسل بقوة أو سلطة معينة. وهذا عموماً كسب بلا وجه حق. إنه ثروة سرطانية تراكمت من خلال وسائل كالمحسوبية والرشوة. هو مثل بالونة انتفخت فجأة في يد المرء. ينفجر بعض هذه البالونات في الحياة الدنيا، وسينفجر بعضها الآخر يوم القيامة. يبدو التنامي الظاهري لهذه الأموال عذباً كالموسيقى، غير أن جانبه المعنوي هو خسارة مطلقة وإفلاس أبدي. بالتالي لا يتم صرف هذا النوع من الأموال على وجوه الخير والحسنات. ربما قسم صغير منها..
للأسف هذا النوع الثاني من كسب المال، يبدو للناس في أيامنا أكثر جاذبية. ويقوم النظام الرأسمالي بتشجيع الناس عليه بحماسة. إنه من المؤسف أن كثيراً من ذوي القلوب المؤمنة يجرفها هذا التيار. كثير من الناس ينساقون أولاً وراء الاهتمام بالكسب والجشع. في حين أنه من الواجب قبل كل شيء التفكير بحساب الآخرة فيما يتعلق بالكسب. حين تقسو القلوب بفعل الجشع، وتهمل الآخرة، يتحول الإنسان إلى مخلوق غاصب وظالم لا يعترف بأي حق أو شرعة. أي أن النظام الرأسمالي يدفع بالإنسان من الطمع إلى الوحشية. إن نظرة خاطفة لما يحدث في العالم، كافية لرؤية هذه الحقيقة. أية إنسانية يمكنها أن تتحمل ضروب الاستغلال والمظالم التي تحدث في سبيل المال؟ يلقون بقنبلة، فيهلك النبات والحيوان والأطفال والمرضى والمسنون بلا تمييز. ما من رحمة أو رأفة! كيف للنقود المضرجة بدم الأبرياء والمظاليم أن تعمر شيئاً لصالح الإنسان؟
النظام الرأسمالي الظالم، يحوِّلُ الناس كل يوم إلى مجرد عبيد للمال الذي حوّله إلى صنم للعبادة.
وما إطار الحساسيات الذي يقترحه الإسلام؟
كما في كل المسائل الأخرى، يجعل الإسلام العبدَ مسؤولاً أمام الله، في شؤون الثروة. ذلك أن الله تعالى أعطى كل شيء للإنسان بصفة الأمانة. كما تقول الآية الكريمة:
﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ (التكاثر، 8)
على الإنسان إذن أن يحصِّل ثروته في إطار معايير الحساب والمسؤولية. لا يمكن لأي خطوة خاطئة أن تُسَوَّغ بنوايا طيبة. إن القول مثلاً: “أنا أكسب الآن لكي أقوم بفعل الخير في المستقبل” تبريراً لخلط الحدود بين الحلال والحرام، هو من أسوأ أنواع الشر وخداع النفس. لأن الإسلام لا يقبل أبداً مفهوماً قائماً على مبدأ: “اكسب كما تشاء وأنفق كما تشاء”. كذلك يرفض الإسلام رفضاً قاطعاً مبدأ “دعه يعمل، دعه يمر” الذي يشكل أساس النظام الرأسمالي.
في يومنا الذي بات فيه الناس خاضعين للمادة، على كل مسلم أن يمتلك بنية أخلاقية أرفع مما في أي وقت مضى، وأن يسلك ويتحرك بمخافة الله، ويراعي حقوق العباد إلى أقصى الدرجات، وأن يتحلى بروح المسؤولية.
مثلاً فيما خص الصعوبات والأزمات التجارية في أيامنا، على المسلمين ألا يتورطوا في تأمين مصادر تمويل غير مشروعة، بل ينبغي التغلب على تلك الصعوبات بواسطة مؤسسات تمويل. وفي جميع الأحوال ينبغي عدم التلوث بآفة الربا. هذه من الأمور المهمة جداً من وجهة نظر مسؤولياتنا في الدنيا والآخرة معاً.
هناك نقطة أخرى علينا مراعاتها من أجل أن نحافظ على طهارة أنفسنا وأموالنا، وهي تجنب الرشاوى التي يتم دفعها في التعهدات تحت ستار البقشيش(الحلوان). فاختلاف الأسماء لا يغير من كنه الأشياء أو ماهيتها. الأسماء المغايرة الملطفة التي تطلق على المحرمات، لا تعدو كونها وسائل خداع تعمينا عن محاسبة أنفسنا، وتزييناً لجهنم. نقل الصحابي عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، أنه لعن الراشي والمرتشي (أبو داوود، اقضية 4، 3580)
من المؤسف أن الثروات تتعرض اليوم لرشقات سموم من هذا النوع من جميع الجهات. ما لم يكن المسلم مهتماً وحساساً ومتيقظاً وواعياً كمن يمشي في حقل ألغام، فلن يستطيع حماية ثروته من السموم المماثلة.
ما شكل الاهتمام والتيقظ والحساسية التي يمكن أن توصوا بها؟
على حياتنا التجارية أن تتشكل بالانتباه إلى الحدود بين الحلال والحرام، لا بأنانية النظام الرأسمالي وجشعه.
علينا أيضاً أن نحمي أنفسنا من التجارة الموجهة وفقاً لاقتصاد الاستهلاك والإسراف. لأن الإسراف وارتفاع مستوى الرفاه يؤدي إلى هلاك المجتمع. من هذا المنظور تشكل بطاقات الائتمان التي تشجع على الإنفاق غير المتوازن، فخاً اقتصادياً ووسيلة استغلال. الحاجات لا تبرر الوقوع في هذا الفخ.
لأن معايير الإسلام فيما يتعلق بالحاجات واضحة: القرضة الحسنة التي هي دين يهدف إلى الإفراج عن كربة المفلس وتقديم مخرج لمشكلته. في حين أن بطاقات الإئتمان وسيلة لمفاقمة الإفلاس، وهي نظام لم يصمم لمنفعة المستهلكين، بل لمراكمة أرباح المشجعين على الاستهلاك.
إنه نظام رهيب يوقع في فخه الفقراء وهم يضحكون، ليكسب بعض الجشعين. بفضل الدعاية المبهرة، يقع الكثير من الفقراء والمساكين ضحايا أعمال غير مشروعة. مثلاً يتم إغواء فتاة فقيرة بواسطة الحيل الإعلانية المبهرة كالكلام المعسول: “تصبحين أجمل إذا استخدمتِ هذا المنتج، أو تصبحين جذابة ومقبولة اجتماعياً إذا فعلت كذا أو سلكت هكذا” فينقلب عالمها رأساً على عقب. وبالنتيجة تغرق المسكينة في نمط حياة لا تستطيع مواجهة متطلباتها بإمكانياتها المالية المحدودة. وما دامت لم تحقق ما تصبو إليه، ستزداد جشعاً، الأمر الذي سينتهي بها إلى الدمار في دروب السوء..
من هذا المنظور، علينا قبل كل شيء التمسك بكنز الرضا والقناعة الذي يشكل الثرة الأعظم في قلوبنا. لم يأمرنا الله تعالى بالإثراء المادي، بل أمرنا بالكسب الحلال والإنفاق بالحلال والحياة بالحلال، وعدم نسيان المحتاجين. علينا إذن أن نبني حياتنا وتجارتنا على أساس معيار الحلال.
من الممكن، بهذا الخصوص، أن تحدث انحرافات ذهنية حتى عند أولئك الذين يخضعون لتعاليم الإسلام وأوامره.
من المؤسف أن النظام الرأسمالي اليوم قد أفسد عالمنا الروحي إلى درجة أن الأعمال المنافية للقيم الأخلاقية والمبادئ الإسلامية باتت شائعة حتى في الشركات ذات الطابع الإسلامي. ما أكثر من يحجون ويؤدون الصلاة، لكنهم يرتكبون أخطاءً لا يمكن القبول بها بذريعة أنهم يريدون أن يكسبوا أكثر ليقوموا بأعمال الخير أكثر.
أي أن الحلال والحرام يختلطان عندهم. مثلاً هناك إعلانات لا أخلاقية أو استخدام سكرتيرات لجذب الزبائن، هذه من أبرز الأخطاء المشار إليها. فبسبب تقدم المكاسب الدنيوية على مكاسب الآخرة، تتذرع النفس بذرائع من نوع “هذه الأعمال لا تمشي إلا بهذه الطريقة” من غير أدنى اهتمام بجانب الحرام من الموضوع. من المؤسف أن هذه ليست مكاسب، بل هي ألغام إفلاس سوف تنفجر في الآخرة.
من هذا المنظور، ينبغي مقاربة كل موضوع في الشؤون التجارية من جديد وبصورة منفصلة. علينا أن ننتبه إلى كل شيء وكل تفصيل بما في ذلك الأشخاص الذين يعملون عندنا. وينبغي ألا نخالف حساسيات الإسلام لأي سبب كان. علينا ألا نشغِّل المرأة في عمل يخص الرجال، أو الرجل في عمل يخص النساء، مرغمين كلاهما على ما يعاكس فطرتيهما. على أخلاق الإسلام ومبادئه أن تكون دستورنا، فهي التي تحدد معاييرنا على أجمل وجه في مثل هذه الأمور. علينا أن نحرص على حقوق العباد على ضوء تعاليم الله.
قال سيدنا الرسول -صلي الله عليه وسلم-، قبل وفاته:
“الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ” (أبو داوود، الأدب، 123-124\5156؛ ابن ماجة، الوصايا، 1)
سيدنا الرسول -صلي الله عليه وسلم- الذي كان حريصاً، طوال حياته، على حقوق جميع المخلوقات، بما يفوق الطاقة البشرية، لم ينس حقوق العباد حتى وهو على فراش الموت، وقصد المسجد، برغم وهن جسده، ليخاطب المسلمين قائلاً:
“إِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ عِرْضِهِ شَيْئًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَقْتَصَّ وَأَيُّمَا رَجُلٍ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ بَشَرِهِ شَيْئًا فَهَذَا بَشَرِي فَلْيَقْتَصَّ وَأَيُّمَا رَجُلٍ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَهَذَا مَالِي فَلْيَأْخُذْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَوْلَاكُمْ بِي رَجُلٌ كَانَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَخَذَهُ أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ رَبِّي وَأَنَا مُحَلَّلٌ لِي، وَلَا يَقُولَنَّ رَجُلٌ إِنِّي أَخَافُ الْعَدَاوَةَ وَالشَّحْنَاءَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ طَبِيعَتِي، وَلَا مِنْ خُلُقِي…ُ” (ابن سعد، الطبقات، 2، 255)
هذه الجمل التي أغرقت الصحابة الكرام في البكاء، هي في حقيقتها تعليمات لنا تشير إلى أهمية حقوق العباد. بحديثه الشريف هذا، ضرب سيدنا الرسول مثلاً بنفسه لأمة محمد التي ستدوم إلى يوم القيامة. ما يقع علينا، بعد ذلك، هو أن نزين أنفسنا بميزان هذه المعايير.
لأن حقوق العباد هي ظلم وجهالة يلاحقاننا إلى يوم القيامة ويعرضاننا لعذاب أبدي. والنظام الرأسمالي اليوم لا يعترف بحقوق العباد. المسحوقون يُسحقون أكثر وأكثر. يعتبر هذا النظام كل شيء مباحاً. أما في الإسلام، فإن ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام أيضاً.
الخلاصة، نحن بحاجة اليوم إلى محاسبة ضميرنا محاسبة شديدة. انتفاضةً من شأنها أن توقظنا من غفلتنا.. فرأس المال يطبع الأفراد بطابعه، في حين أن على الأفراد أن يطبعوا رأس المال بطابعهم..
كيف يمكن تحقيق ذلك يا سيدي؟ فالمال هو جوهر النظام الرأسمالي الذي يدور كل شيء في فلكه.
من أجل تحقيق ذلك، علينا أن نحكم المال، لا أن يحكمنا المال. ويتحقق هذا بالخضوع لمشيئة حاكم الحكام. يتحقق ذلك بقناعة لا تتحول إلى كسل.
ألقوا نظرة واحدة على المجتمع. سترون كثيرين ممن يملكون إمكانيات مادية كبيرة، لكنهم ما زالوا بعيدين عن الرضا والطمأنينة. والبعض منهم يصيبه الجنون. لقد ارتفع إلى حد كبير مستوى الثراء والرفاه، بالقياس إلى السابق، لكن الأزمات النفسية وحالات الجنون ازدادت كثيراً. الحياة العائلية أصابها الدمار. ارتفع معدل حالات الطلاق. الأطفال تشتتوا. هناك جيل حُرِمَ دفء الأسرة، فأخذ يبحث عن السعادة في الشوارع وتُرِكَ لعدالة الشارع. أي أن النظام الرأسمالي الأناني الذي لا يعرف الحلال من الحرام، لم يجلب الطمأنينة إلى مجتمعنا.
كان الأستاذ نور الدين طوبجو الذي درَّسَنا في الثانوية الشرعية، يطرح علينا السؤال التالي: “هل إنسان اليوم أكثر سعادة أم إنسان الأمس؟”.
وكان يفصِّل لنا بعد ذلك في أسباب سعادة إنسان الأمس وطمأنينته، مقابل مدى اضطراب إنسان اليوم وقسوته.
يبدو الثراء وكأنه امتحان عسير يا سيدي.
وفقاً لشروط كل منهما، فالثراء والفقر كلاهما امتحان عسير. لم يكن أحدهما يوماً أصعب من الآخر أو أسهل. وبالتالي لا ينبغي الاستنتاج من كلامي السابق أنه على المرء أن يفقر لكي يحصل على الطمأنينة. أي أن القول بوجوب الخضوع لمبادئ الإسلام في حياتنا، والتوكيد على مسؤولياتنا في شؤون الأموال والممتلكات، ينبغي ألا يقودنا إلى استنتاجات خاطئة من نوع الإعلاء من شأن الفقر والبؤس. علينا أن نعرف أن الإسلام لا يمنع الإثراء. على العكس، ففي القرآن أكثر من مئتي أمر إلهي بوجوب الإنفاق، وهذا بمثابة التوصية، بمعنى ما، بضرورة الإثراء إلى الحد الذي يتيح الإنفاق. لكن ما نريد التوقف عنده هو عدم معاندة القسمة الإلهية أو الحدود التي رسمها لنا القدر، أي عدم اعتبار كل وسائل الإثراء مشروعة. أي ينبغي الكسب بالحلال ضمن حدود ما قسمه لنا الله، لبلوغ فضيلة القدرة على الإنفاق. فنحن بحاجة اليوم، كما كنا في الأمس، إلى أناس مقتدرين، في قلوبهم رأفة، ويكسبون بالحلال، من شأنهم أن يشكلوا ملاذاً للفقراء والبؤساء وأصحاب الحاجة.
تكمن المسألة في عدم قتل طمأنينة النفس في سبيل الرفاه المادي.. عدم استهداف طمأنينة القلب التي يمكن الحصول عليها في فضائل الإسلام.. القدرة على نبذ الأنانية.. عدم نسيان أن الثراء الحقيقي اللامحدود موجود في الحياة الروحية..
هل يمكن أن نذكر الإمام أبو حنيفة كمثال بهذا الصدد، وهو عالم إسلامي كبير وكان يعمل في التجارة؟
طبعاً. إن الإمام أبا حنيفة -رضي الله عنه-، كان فعلاً قدوةً في العلم وكما في العمل الصالح. إن أخلاقياته في حياته التجارية وسلوكه النموذجي، بصورة خاصة، مملوءة بالصفات الملحمية لشخصية المسلم. يمكننا القول إننا بحاجة اليوم، في مجتمعنا الذي وهنت فيه مشاعر الأخوة، واختفى فيه الاستقرار الاجتماعي، وزادت فيه الأحقاد والخصومات، إلى العمل الجاد من أجل أخلاق تجارية تقتدي بالإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. لدينا المثال التالي من بين أمثلة كثيرة عن أخلاقيات أبي حنيفة التجارية:
كان الإمام أبا حنيفة -رضي الله عنه-، صاحب ثروة كبيرة يعيش من التجارة. لكنه، بسبب انشغاله بالعلم، كان يدير تجارته بواسطة وكيل له، في حين يقوم هو بالمراقبة للتأكد من أن تجارته لا تخرج عن دائرة الحلال. كان حساساً جداً بهذا الخصوص إلى درجة أنه حدث ذات مرة وأرسل شريكه حفص ابن عبد الرحمن لبيع القماش، فقال له:
“يا حفص، في بضاعتنا عيوب كذا وكذا، عليك أن تخبر الزبون بهذه العيوب، وتبيعه بثمن رخيص”.
وباع حفص البضاعة بالسعر الذي حدده الإمام، لكنه سها عن إخبار المشتري بعيوبها. وحين علم أبو حنيفة بذلك، سأل حفص ابن عبد الرحمن: “هل لك معرفة بالزبون الذي اشترى القماش؟”
وإذ أخبره حفص بأنه لا يعرف المشتري، تصدّقَ الإمام بكامل الربح المتحصل من بيع القماش، خشية تلوُّث ربحه بالحرام. هذه التقوى كانت خيراً وبرَكَة على تجارته مادياً ومعنوياً.
لكني نفهم ما إذا كان شخص ما طاهر القلب ومن أهل الإستقامة والصدق، علينا أن ننظر إلى مدى إخلاصه القلبي في العبادات التي يؤديها، أكثر من تلك العبادات بحد ذاتها. أي أننا ينبغي أن ننتبه خاصةً إلى مدى موافقة سلوكه لأخلاقيات الإسلام، وإلى خضوع كسبه لمبدأ الحلال. بهذا الصدد، كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذا امتدح أحدهم شخصاً، يطرح عليه ثلاثة أسئلة:
“هل دخلت معه في علاقات جيرة أو رفقة سفر أو تجارة؟”
فإذا أجابه الرجل بالنفي على الأسئلة الثلاث، قال له -رضي الله عنه-:
“إذن لا تمتدحه، لأنك لا تعرفه بما يكفي”
لذلك فقد قال سفيان الثوري، قدَّسَ الله سرَّه:
“إن مقدار إيمان الشخص، هو بمقدار حلال خبزه”
وسأله أحدهم، في يوم من الأيام: “يا سيدي، هل لك أن تحكي لنا فضيلة الصلاة في مقدم المصلين؟”
فلفت نظر السائل إلى اللقمة الحلال أيضاً، قال:
“يا أخي، عليك أن تهتم بطريقة كسبك رزقك. فإذا كان رزقك حلالاً، فصلِّ أينما شئت، لا عسر في ذلك”
كان والدي، موسى طوبَّاش أفندي، قدس الله سره، يحكي لنا الحادثة التالية، بصدد الإشارة إلى أهمية الانتباه إلى الكسب بالحلال في التجارة، والحرص على عدم خلطه بالحرام:
“كان عندنا جار غير مسلم، اعتنق الإسلام لاحقاً. سألته يوماً عن سبب اهتدائه، فقال لي:
لقد اهتديتُ إلى الإسلام بفضل الأخلاق الجميلة في التجارة للمُولاّ (الشيخ) ربيع، صاحب الحقل المجاور لحقلي. كان المُولاّ ربيع يكسب رزقه من بيع الحليب. جاء إلينا ذات مساء وقال:“تفضلوا، هذا الحليب لكم”، استغربتُ الموقف وقلتُ له: “لكني لم أطلب حليباً منك؟” أجابني ذلك الشخص الظريف مرهف الإحساس قائلاً: “انتبهت إلى أن أحد رؤوس الماشية مما أملك دخل حديقتكم ورعى من عشبها، قبل أن أنتبه إليه. لذلك فهذا الحليب من حقكم. وسأواظب على إعطائكم من حليب ذلك الحيوان إلى أن ينتهي تحول العشب الذي أكله إلى حليب”
فقلتُ له: “وما قيمة ذلك العشب يا جاري؟ أليس ما أكله عشباً؟ حلال عليه”
لكن المُولاّ ربيع لم يوافق. وظل يأتيني بحليب ذلك الحيوان إلى أن انتهى تماماً من تحويل عشب حديقتي إلى الحليب.
هذا السلوك من ذلك الرجل المبارك، أثّر بي كثيراً، فانتهى بي الأمر إلى انحسار حجاب الغفلة عن عينيّ، وبزغت شمس الهدى في قلبي وقلتُ لنفسي:
“لا بد أن دين رجل بهذه الأخلاق الرفيعة، هو الدين الأعظم. لا يمكن التشكك بصحةِ دينٍ يربي أناساً بهذا اللطف والحقانية والطهر والكمال” وأتيتُ بكلمة الشهادة فأسلمتُ”
يبدو أنه لا يمكن بلوغ سلوك بهذا السمو في عالم يتمحور حول المال. ولكن هناك بالمقابل نماذج حية جميلة جداً على السلوك المماثل. نريد أخيراً من حضرتكم جواباً على سؤال “ما العمل؟”
إن تلك القصص المملوءة بالعبر، تبين لنا بوضوح شديد، كم علينا أن نبدي من الحرص والتحوُّط في التمييز بين الحلال والحرام وخاصة ما تعلق بالرزق الحلال. فالرزق الحلال هو من أسس التقوى الرئيسية. جاء في الحديث الشريف:
“التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ” (الترمذي، البيوع، 4/1209)
فالتاجر ذو القلب المرهف الذي تشرف بأن يذكر مع النبيين والصديقين والشهداء، يشيع من حوله الطمأنينة والبركة، ويكسب، في الوقت نفسه، السعادتين في الدنيا والآخرة.
في حين أن من غلبهم الجشع الدنيوي، لن ينجوا بأنفسهم من الفقر والبؤس الأبديين لعالم الخلود، حتى لو بدا أنهم سلاطين متوجين في الحياة الدنيا.
ينبذ سيدنا الرسول -صلي الله عليه وسلم-، التجار الذين يعملون بالطمع والغش، ولا يعدُّهم من أمته. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلي الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ:
“مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟”
قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:
“أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي” (مسلم، الإيمان، 164)
قال الرسول الأكرم -صلي الله عليه وسلم- أيضاً:
“إِنَّ لكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ” (أحمد، جـ3، 160)
“يأتي على الناس زمان، لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام” (البخاري، البيوع، 7، 23/2059)
“إنما أخشى عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من بركات الأرض” (البخاري، الجهاد، 37/2842؛ مسلم، الزكاة، 121-123)
وفي أحد المرات قال سيدنا -صلي الله عليه وسلم-، مخاطباً صحابته الكرام:
“فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم” (البخاري، الرقاق، 7/6425، الجزية، 1؛ مسلم، الزهد، 6)
هذا الحديث الشريف ينطوي على معانٍ تلخص مشكلاتنا الراهنة. مختصر القول، في يومنا الذي ازداد فيه ظهور ضروب الغفلة المشار إليها في الأحاديث الشريفة أعلاه، في يومنا الذي يتشبث فيه الحرام بالقلوب، حتى لو حاولت هذه التحرر منها، يشكل التمسك بمراعاة الحلال، واحداً من أكبر العبادات وأهمها.
على المسلم اليوم أن يسعى إلى حماية نفسه من كل شرور الرأسمالية، وأن يتجنب تحويل المال إلى طمع وجشع، وأن يحوز، مهما كانت الأحوال والشروط، الصفات التي يجب أن يتحلى بها كل مؤمن، كمخافة الله ونشدان رضى الله والرأفة والرحمة نحو المجتمع وأخلاق الإسلام ومراعاة حقوق العباد وعدم خلط الحلال بالحرام بشتى الذرائع الجوفاء..
يجب، في شروط زماننا الراهن، التذكير بأن الرأفة بالضعيف والفقير والمنبوذ والحزين، ينبغي أن تملأ قلب كل ذي رحمة وإنصاف.
لكن منكودي الحظ الذين يستحقون الشفقة حقاً هم ضمائر الظالمين أكثر من المظلومين، وأرواح ذوي الجاه الذين باتوا أسرى نفوسهم وأهوائهم، وقلوب الأثرياء المستغلين المتسخة في النظام الرأسمالي أكثر من ذوي الحاجة. هؤلاء هم المساكين الحقيقيون الذين يستحقون الرحمة والشفقة. هاتان الصفتان الرحمة والشفقة ليستا غير الاسم الآخر لإنقاذهم من درك الشر الذي أوقعوا أنفسهم فيه، ووسيلة هدايتهم إلى سبيل الحق.
قال سيدنا الرسول -صلي الله عليه وسلم-:
“اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا” (مسلم، الذكر ، 73/2722)
“بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تُنْظَرُونَ إِلَّا إِلَى فَقْرٍ مُنْسٍ، أَوْ غِنًى مُطْغٍ..” (الترمذي، الزهد، 3\2306)
كما نرى في الحديث الشريف الأخير، يعدُّ الفقر الذي يدفع إلى نسيان الله، والثراء الذي يغوي، سيان.
فلنحيَ بمشيئة الحق تعالى في الجمال الإلهي، وليجعل الله -عز وجل-من نصيبنا مجانبة كل ضروب الحرام والمريب. آمـين…