إن نعمة الصحة واحدةٌ من أكبر الألطاف الإلهية التي لا يعرف البشر قيمتها بما تستحق من المعرفة. قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ” (البخاري، الرقاق، 1/6412)
مشيراً بذلك إلى الغفلة والإهمال الشائعين بهذا الصدد. فنبهنا بهذه الطريقة من التفريط بهذه النعمة العظيمة التي نملكها، فنندم.
قال ابن عمر -رضي الله عنهما-:
«إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» (البخاري، الرقاق 3/6416)
إن بدننا أمانةٌ من الله -عز وجل- عندنا، وله علينا حقوق. إذ لا يمكن أن يحيا المرء حياة عبودية مقبولة إلا ببنية صحيحة مادياً ومعنوياً. كذلك يمكن أداء العبادات براحة أكثر إذا كان البدن بصحة جيدة. حقاً هل يمكن الصلاة أو الصيام بارتياح وطمأنينة من غير التمتع بصحة جيدة؟ وكثير من العبادات والخدمات التي تقرب العبد قلباً من خالقه، تقوم على نعمة الصحة. فإذا اعتلّت الصحة كادت العبادات والخدمات تفقد قوامها. لذلك ما دامت الفرصة سانحة وصحتنا على ما يرام، علينا الوفاء بحمدنا على هذه النعمة على أجمل وجه. علينا أن نبذل الجهد في عباداتنا ونسعى إلى فعل الخير.
والصحة، كالنعم الأخرى جميعاً، لا يمكن إنقاذها من الوقوع في الإسراف، ما لم نخضع للأوامر الإلهية. إن أكثر ضروب الإسراف في هذه النعمة إثارة للخوف، عن طريق الإضرار بالصحة بواسطة مختلف المحرمات، بدءاً بالسيكارة التي تبدو في غاية البساطة. أضف إلى ذلك أن من واجبنا حماية صحتنا على هدى العقل والأوامر الإلهية، ليس فقط بواسطة الغذاء، بل أيضاً في وجه الحرّ أو البرد أو حوادث السير التي تقع بسبب شرود الإنتباه، ما يعني حماية هذه النعمة الربانية من الإسراف.
لقد أرشدنا ديننا العظيم الإسلام إلى كثير من الوسائل والتدابير المادية والمعنوية لحماية صحتنا. فقد أمرنا بالاعتدال في المأكل والمشرب، وبتجنب دخول أماكن انتشرت فيها الأمراض السارية، وعدم خروج الناس المصابين من هذه الأماكن. بأوامر وتوصيات كثيرة من هذا النوع، حيث وضع الإسلامُ أسس الطب الوقائي.
إلى جانب التدابير المادية المماثلة، أوصانا الإسلام أيضاً ببعض التدابير المعنوية كتقديم الصدقات والقيام بالإنفاق، للنجاة من ضروب البلاء. وبصدد التدابير المعنوية التي من شأنها حفظ صحتنا من المرض، قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الناس صدقة” (البخاري، الصلح ، 11/2707)
حقاً إن التمتع بالصحة والعافية نعمةٌ كبيرة تستوجب شكر الله -عز وجل-. ويمكن أداء هذا الشكر سواء بالصدقات المادية أو بالذكر والعبادة ومختلف الخدمات والأعمال الصالحة التي تؤدى لمرضاة الله -عز وجل-، وهذه جميعاً بحكم الصدقات المعنوية.
الصحابة الكرام الذين تم تقديمهم قدوة لنا بسبب فضائلهم الرفيعة بذلوا كل ما في وسعهم من جهود في سبيل الله -عز وجل-، بوعي منهم أنهم يستخدمون النعم التي أحسن الله إليهم بها كرأسمال للآخرة. وأحسن الله تعالى على جهودهم العظيمة المتدفقة كالسيل، باليمن والبركة. الإستهلاك بإفراط الذي هو واحد من أمراض عصرنا الفتاكة، والشراهة والأبهة الإستعراضية، كلها أنماط حياة لم يعرفها نسل الصحابة. فقد عاش هؤلاء في ظل إدراكهم أن المحطة التالية للنفس هي القبر.
من جهة أخرى، إذا لم نعط البدن، وقد وهب أمانةً لنا لمدة محددة، ما يكفيه من الغذاء، سواء بسبب البخل أو العوز، فمن المؤكد أنه سيتعرض لأمراض وعلل مختلفة. إن إشباعه، على العكس، إلى حد التخمة، يؤدي إلى النتيجة نفسها. وإذا كان الأكل حتى التخمة يمكن أن يكون بطعام حلال، فمن المحتمل أن يكون أيضاً بطعام حرام. وفي هذه الحالة الأخيرة تعتل الصحة المعنوية للشخص إضافة إلى صحته المادية.
تختلف حساسيات الناس فيما خص المأكل والمشرب، بما يتناسب وسويتهم المعنوية. ففي الشرع مثلاً، تناول الطعام بعد الشبع هو إسراف. أما في الطريقة فالأكل حتى الشبع هو الإسراف. وفي الحقيقة، إن أكل مقدار الكفاية مع الغفلة عن حضور الله هو الإسراف. أما في المعرفة، فإضافة إلى كل الحالات المذكورة، الأكل بغير تأمل في التجليات الإلهية فيما أنعم به علينا، هو الإسراف.
الحديث التالي الذي جرى بين خضر-عليه السلام-، والشيخ عبد الخالق غوجدواني، تقدّسَ سره، حين قام الأول بزيارة الثاني، يعرض لنا ذروة الرهافة المعنوية في المأكل والمشرب:
رفض خضر-عليه السلام-، الطعام الذي قدمه له الشيخ عبد الخالق غوجدواني، وابتعد عن المائدة، فسأله مضيفه في دهشة:
«إنها لقيمات حلال، لماذا لا تأكل؟»
فقال له خضر -عليه السلام-: «أعرف أنها لقيمات حلال، لكن من طهاها قد طهاها بغضب وغفلة»
كما نرى، فإلى جانب كون الطعام حلالاً أم حراماً، من المهم أن نعرف أيضاً في أي حالة روحية تم طهوه. فذلك يؤثر على روحانية حال الإنسان وسلوكه وعبادته، الأمر الذي يكشف لنا أهمية طريقتنا في التعامل مع شؤون الطعام.
مع الأسف، لا أحد يفكر هذه الأيام، بالأطعمة التي تباع مكشوفة، ولا يعرف أحد كيف تم طهيها، ويصبح للبؤساء المحرومين حقاً بصرياً فيها كحق العين، وبأضرارها على بنياننا المعنوي. والحال أن مصير الغذاء الذي نتناوله، أي الطريقة التي نحصل بها عليه، يؤثر على إحساساتنا. إن للقمة الحلال مكانة مصيرية في صفاء القلب. قال عبد القادر الجيلاني في ذلك:
«الطعام الحرام يميت القلب، والطعام الحلال يحييه. هناك لقمة تشغلك بشؤون الدنيا، ولقمة تشغلك بشؤون الآخرة. وهناك لقمة تقرِّبكَ من الله تعالى»
ويقول مولانا جلال الدين الرومي-قدس سره-: «دخلت معدتي، مساء البارحة، بضع لقيمات مشبوهة فسدَّت طريق الإلهام».
معنى ذلك أنه علينا الإنتباه إلى حالة ما نتناوله من غذاء، مادياً ومعنوياً على السواء. يقول مولانا جلال الدين في ذلك أيضاً:
«لا تهتم بتغذية الجسد وتنميته بإفراط، فهو ليس سوى أضحيةٍ سيقدم في النهاية إلى التراب. اهتم بتغذية قلبك. فهو الذي سيسمو ويتشرف. قلل مما تغذي به جسدك من أطايب الطعام. لأن من يبالغون بإطعامه ينحدرون نحو شهوات النفس وينتهي بهم المطاف إلى الانحطاط»
إن التصرف بإسراف في موضوع بهذه الحساسية، لا يناسب شخصية المؤمن أبداً. قال السلف الصالحون:
«لقد جمع الله علم الطب كله في آية واحدة: ﴿…وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف، 31) معبرين بذلك عن أهمية مجانبة الإسراف في الطعام والشراب، من أجل حياة صحية مادياً ومعنوياً.[1]
جاء في الحديث الشريف:
“كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة” (البخاري، الملبس، 1)
في إعلان عن الحدود المشروعة في تلبية حاجات الإنسان.
وجاء في حديث شريف آخر:
“إِنَّ مِنَ السَّرَفِ، أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ” (ابن ماجة، الأطعمة، 51/3352)
هذه الحالة التي تسمى في اللغة الشعبية «النهم» رفضها ديننا أيضاً. ويشير ذلك إلى حقيقة أخرى مفادها أن امتلاك إمكانيات كبيرة لا يمنح المشروعية للمبالغة في الإستهلاك.
ومن ذلك أن عمر -رضي الله عنه- التقى جابراً -رضي الله عنه-، مرةً وفي يده قطعة لحم، فسأله عما في يده. فأجاب جابر -رضي الله عنه- قائلاً: «هَذَا لَحْمٌ اشْتَرَيْتُهُ اشْتَهَيْتُهُ» فما كان من عمر -رضي الله عنه-، إلا أن حذره قائلاً:
«أَوَ كُلَّمَا اشْتَهَيْتَ شَيْئًا اشْتَرَيْتَهُ؟ أَمَا تَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون﴾ (الأحقاف، 20)؟» (ابن حنبل، الزهد، ص 124/653)
وما أجمل ما أوجز الرسول -صلي الله عليه وسلم- المعيار الذي يجب اتباعه في المأكل والمشرب، والأثر الكبير لذلك على الصحة، بالقول:
“مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ. بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ” (الترمذي، الزهد، 47/2380)
هذه البيانات النبوية تتضمن وصفة طبيةً لمعالجة كثير من الأمراض الناجمة عن جنون الإسراف والاستهلاك في عصرنا.
وأوصى عمر -رضي الله عنه-، بالوصايا التالية:
“إياكم والبطنة في الطعام والشراب! فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة؛ وعليكم بالقصد فيهما! فإنه أصلح للجسد، وأبعد من السرف؛ وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.”أبو نعيم” (علي المتقي، الكنز، جـ15، 433\41713)
كتب الرحالة الغربي ثيفينو، في كتابه المنشور في باريس في 1665، عن طهارة أجدادنا الذين رفعوا راية الإسلام طوال قرون، وبساطتهم واعتدالهم في المأكل والمشرب، وما أدى إليه هذا المسلك في حياتهم اليومية إلى قيام مجتمع يتمتع بالصحة، فقال في وصف ذلك:
“يعيش الأتراك حياة صحية، وقلما يتعرضون للمرض. لم أر لديهم أمراض الكُلى الشائعة في بلداننا وغيرها من الأمراض الخطيرة. فلا يعرفون حتى أسماء تلك الأمراض. أظن أن أحد أهم أسباب صحة الأتراك الممتازة هو اغتسالهم بكثرة واعتدالهم في المأكل والمشرب. فهم يأكلون قليلاً جداً، وما يأكلونه لا يشبه الأطعمة المنوعة كما هي لدى المسيحيين”
يقول مثل تركي: «على المرء ألا يعيش ليأكل، بل أن يأكل ليعيش». يعبر هذا المبدأ في الوقت نفسه، عن أحد الصفات المهمة في المؤمنين. الحادثة التالية معبرة جداً عن معيار الأخلاق الإسلامية بهذا الخصوص:
جاء ضيف ذات يوم إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وكان وقتها من الكفار. طلب الرسول أن تحلب نعجة من أجله. شرب الضيف الحليب الذي قدم إليه حتى انتهى منه. فقدموا له كمية أخرى من الحليب، أتى عليه أيضاً، فجلبوا له كمية ثالثة أتى عليها أيضاً. وهكذا شرب سبع أواني كاملة من الحليب. وفي اليوم التالي أسلم هذا الضيف. فأمر رسول الله أن يقدموا له الحليب أيضاً. شرب الضيف الحليب. فأمر رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بكمية إضافية لتقدم له. لكن الضيف لم يتمكن هذه المرة من شرب الحليب كله. فقال فخر الكائنات:
“الْمُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ” (مسلم، الأشربة، 186/2063)
يريد لنا الله -عز وجل- أن نعتدل في المأكل والمشرب، وأن نبتعد عن طريقة الأكل عند عديمي الإيمان. ويحذرنا في ذلك بالقول:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ (محمد، 12)
وتدخل جميع التصرفات المخلة ببركة الطعام في دائرة الإسراف. وهكذا فالشروع في تناول الطعام قبل غسل اليدين والبسملة، هو من الجحود والإسراف، مثله مثل القيام عن الطعام من غير الشكر لله تعالى. جاء في الأحاديث الشريفة:
“بَرَكَةُ الطَّعَامِ الوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالوُضُوءُ بَعْدَهُ” (الترمذي، الأطعمة، 39/1846)
“مَنْ نَامَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ” (أبو داوود، الأطعمة، 53/3852)
الحرص الذي أبداه أجدادنا في غسل اليدين قبل الطعام وبعده، يستحق التقدير حقاً. يعبّر كاتب يدعى ريكو، وكان يعمل في سفارة إنكلترة في باسطنبول في القرن السابع عشر، وكان شخصاً معادياً للأتراك، في أحد كتبه، عن حساسية أجدادنا بخصوص النظافة، كما يلي:
«لقد شاعت بين الأتراك عادة غسل اليدين قبل الطعام وبعده، إلى درجة أنهم يتحدثون عن أن الله خلق الأغذية فقط بهدف غسل اليدين، كما لو كان هذا مثلاً يضرب أو حكمة من الحكم»
إذن فهذا الحرص على النظافة في الطعام والشراب، يضفي على النعم البركة، إضافة إلى أنه يؤدي إلى الطمأنينة والصحة مادياً ومعنوياً. كما أن الطعام الذي يبدأ بالبسملة وينتهي بالحمدلة يشكل ينبوع شفاء من الأمراض، في حين يؤدي الطعام الذي تم تناوله بلا بسملة ولا شكر، إلى الغفلة والبلادة. انطلاقاً من هذه الحكمة قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ، وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ، فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ” (مسلم، الأشربة، 103/2018)
تحكي عائشة -رضي الله عنها- فتقول:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-: يَأْكُلُ طَعَامًا فِي سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-:
“أَمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ لَكَفَاكُمْ، فَإِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ” (ابن ماجة، الأطعمة، 7/3264)
على المؤمن أن يبسمل أيضاً قبل شرب الماء، وأن يشربه على ثلاث جرعات، وأن يقول في الآخر: الحمد لله. كان سيدنا الرسول، عليه الصلاة والسلام، يشرب الماء والأشربة الأخرى على ثلاث جرعات، ويقول في ذلك:
“لَا تَشْرَبُوا وَاحِدًا كَشُرْبِ البَعِيرِ، وَلَكِنْ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلَاثَ، وَسَمُّوا إِذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ، وَاحْمَدُوا إِذَا أَنْتُمْ رَفَعْتُمْ” (الترمذي، الأشربة، 13/1885)
كما منع سيدنا الرسول -صلي الله عليه وسلم- النفخ على المشروب قبل شربه، مهما كان السبب.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، «أَنَّ النَّبِيَّ -صلي الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشُّرْبِ» فَقَالَ رَجُلٌ: القَذَاةُ أَرَاهَا فِي الإِنَاءِ؟
قَالَ: “أَهْرِقْهَا” ، قَالَ: فَإِنِّي لَا أَرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ:
“فَأَبِنِ القَدَحَ إِذَنْ عَنْ فِيكَ” (الترمذي، الأشربة، 15/1887)
كذلك فتناول الطعام على انفراد يُذهِبُ ببركته ويؤدي بالتالي إلى الإسراف. قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ” (المناوي، جـ3، ص 470)
وأوصى بتناول الطعام جماعةً.
نقل وحشي بن حرب -رضي الله عنه-، عن بعض الصحابة شكواهم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ، قَالَ:
“فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ؟”
قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:
“فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ” (أبو داوود، الأطعمة ، 14/3764)
كذلك قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ” وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَة فقال:َ
“فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ” (مسلم، الأشربة، 136/2034)
كم من ضروب الإسراف تمارس في الطعام والشراب وفي حياتنا اليومية، وخاصةً في الأعراس والولائم، مما يهز الضمائر. إلى درجة أن مجرد حساب خسائر هذا الإسراف يتجاوز طاقة البشر. إذا اكتفينا بحساب الإسراف في استهلاك الخبز وحده، واعتبرناه معياراً للإسراف، ثم قسنا عليه وجوه الإسراف الأخرى التي نعجز عن تعداد أصنافها، فالأرقام التي سنحصل عليها ستشكل يوم حشر تملؤه صرخات المعذبين.
إن ترتيب ولائم فاخرة، القصد منها استعراض الغرور والكبرياء والقوة، والتشجيع على النهم عن طريق ولائم العشاء المفتوح، وارتداء الملابس ذات الماركات العالمية بهدف التظاهر، ستؤدي جميعاً إلى ندم كبير في يوم القيامة. لأن حساب كل ضروب المغالاة المذكورة سيواجهنا في ميزان الحساب الإلهي.
إن الأعراس والولائم هي مناسبات مهمة لتقوية مشاعر الأخوّة. لكن تلك المراسم التي تقام بهدف الإستعراض ووفقاً لمعايير النفس، لا تقوّي مشاعر الأخوّة، بل على العكس توقظ مشاعر سيئة كالغرور والتكبر والغيرة والحسد، فتنتهي إلى خسران عظيم. كما أن ذلك النوع من التجمعات محروم أيضاً من رحمة الله وبركته.
الخلاصة، ما أكبر الخسارة التي تنتهي إليها حياة أنانية مملوءة بالإسراف، حتى أنه جاء في القرآن الكريم:
﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ…﴾ (الإسراء، 27)
وقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ” (الترمذي، القيامة، 1/2417)
لقد ذكّرنا الرسول في هذا الحديث الشريف بأننا سنحاسب، يوم القيامة، على كل النعم والأمانات، فأراد لنا بذلك أن نستيقظ من غفلتنا.
علينا، في هذا المعنى، ألا ننسى أبداً أن تجاوز الحد في الطعام والشراب هو إسراف، واستخدامنا لنعمة الصحة بفظاظة وخسارتنا لها، إسراف. وهدر العمر سدى هو إسراف كبير.
وعدم حفاظنا على الأمانات المادية والمعنوية التي في أيدينا، والخطأ في توجيه تفكيرنا ومشاعرنا إلى غير مقاصدهما الحقيقية، هو إسراف أيضاً.
وفي التربية والتعليم بخاصة، أي في بناء شخصية الإنسان، إذا لم تتم هذه التربية على هدى أن الإنسان هو أشرف المخلوقات، فهذا أحد أكبر وجوه الإسراف.
بالفعل، إن تربية الأبوين لأولادهم في مناخ القرآن والسنة النبوية الشريفة، واجب ضروري للحيلولة دون ضياع حياتهم المعنوية. الأمر الذي يشير أيضاً إلى مستوى محبتنا وإخلاصنا للقرآن الكريم ولرسول الله -صلي الله عليه وسلم-. قال عليه الصلاة والسلام:
“تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ..” (الموطأ، القدر ،3، 678/3338)
علينا، من وجهة النظر هذه، أن نزيد من ألفتنا مع القرآن الكريم. وعلينا خاصةً أن نبذل جهوداً كبيرة في التربية المعنوية والأخلاقية لأطفالنا، تلك التربية التي طالما تم إهمالها على العموم في حياتهم التعليمية.فالميراث الثمن الذي يمكننا أن نتركه لأولادنا، إنما هو ثقافة القرآن والسنة. علينا أن نبذل الجهد ليكسب أولادنا الاخلاق النبوية التي تعني عشق القرآن والحياة في ظل مبادئه. علينا ألا نضحي بمستقبلهم الأبدي على مذبح هواجس المستقبل الدنيوي الفاني.
من هذا المنظور، إذا كنا نحب أولادنا ونريد أن نحميهم من كل أنواع المصائب، ونرغب ان نكون معهم في الحياة الآخرة، يتوجب علينا أن نبذل الجهد لينشؤا نشأة إيمان. يبين لنا الله تعالى في آيته الكريمة كيف أن تلك الجهود تشكل وسيلة للسعادة الأبدية:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ...﴾ (الطور، 21)
المؤمنون الذين نالوا هذا اللطف الإلهي سيكونون في الآخرة مع ذريتهم المؤمنة. إنه لطف إلهي استثنائي من الله تعالى ليحيوا في الجنة مع أولادهم بطمأنينة.
بهذه الطريقة تكتمل أيضاً سعادة الأمهات والآباء وبهجتهم. إن الطريق لنيل هذا الكرم الإلهي تمر من خلال تربيتنا لأولادنا في مناخات القرآن والسنة كأجيال مؤمنة. لكي نتجنب أحد أهم وجوه الإسراف، ألا وهو الإسراف في الإنسان، علينا أن نفي بواجباتنا تجاه أولادنا، وهي مسؤوليةٌ أخروية في أعناقنا جميعاً.
إذا تم تحليل جميع فعاليات الحياة على ضوء المعايير التي أَكّدْنا عليها بخصوص كل أنواع الإسراف التي أتينا على ذكرها هنا، فسوف نلاحظ مدى شمول واتساع مفهوم الإسراف. فسواء تعلق الأمر بالبغض أو المحبة بما يتجاوز الحد، أو المبالغات في المراسم والولائم، أو غيرها، فالواقع ان تجليات الإسراف المتنوعة موجودة في جميع الميادين.
لقد حاولنا فقط تبيان المعايير الضرورية لمعرفة الاتجاه الصحيح في عدد محدود من المواضيع الرئيسية. ولكن علينا ألا نحصر المعايير والمنطق اللذين سعينا إلى توضيحهما، في هذه المواضيع فقط فنمد شمولها إلى جميع فعاليات الحياة، وعلينا ألا ننسى وجوب مجانبتنا لكل أنواع الإسراف والبخل.
لِيُبْعِدْنا الله تعالى عن كل أنواع الإفراط والتفريط، ويوفقنا لنحيا حياة عبودية ترضيه. وليجعل من نصيبنا أن نستخدم كل النعم باعتدال، وأن نفي بشكرنا وامتناننا له تعالى كما ينبغي.آمـين…
[1] انظر: ابن كثير: التفسير، جـ2، ص 219.