لقد عرفت الإنسانية في العصر الجاهلي أشد الفترات ظلمة، هذه الظلمة حالكة السواد كالقطران، حيث ساد المجتمع الظلم والإضطهاد حتى بلغ الذروة في هذا المجال. اشتعلت نار الفتنة والفساد وحولت دعوات الثأر والإنتقام الصحراء إلى بحيرة من الدم.
كان الحق والقانون ملكاً للقوي دائماً، من يملك القوة في يديه يسحق الضعفاء والمساكين، يقول الشاعر المرحوم محمد عاكف:
“(كان) الإنسان بدون الأسنان يأكله إخوانه”.
بهذا الشكل عُرِفت فظاعة ووحشية الحياة فيها، المظلومون الذين سحقوا تحت أقدام المستبد يجادلون في صراخ مؤلم من أجل البقاء على قيد الحياة.
اعتقادات أهل الجاهلية انحدرت بالناس إلى أسفل سافلين:
في العصر الجاهلي فسد الإيمان والإعتقاد وانقسم الناس حسب ذلك إلى فرق فمنهم من كان يؤمن بمظاهر الطبيعة مثل الأحجار والنار والأشجار والتلال، معتقدين بأن القوة الإلهية قد تجلت عليها وأعطتها القدسية.
ومنهم من عبد الشمس والنجوم معتقدين بأن هذه المعبودات لها قدسية خاصة توصلهم إلى تعظيم اللّه -عز وجل-.
ومنهم من عبد الكائنات الغير المرئية مثل الملائكة والجن والشيطان ظنّاً منهم أن المبالغة في تبجيلها وتعظيمها سيُوصلهُم للقربى عند اللّه -عز وجل-.
ومنهم من يدعي أنه يؤمن باللّه -عز وجل- ويشرك معه معبودات أخرى أو موجودات مختلفة أو مصنوعات صنعوها بأيديهم، وعلى الرغم من ذلك هم يدّعون أنهم من سلالة أبناء حضرة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ولكنهم حرّفوا وبدّلوا عقيدة التوحيد الأصلية، وابتعدوا عن الحنفية السمحاء، وهم يشركون مع عبادة اللّه الواحد الأحد كل ما يأتي في عقولهم مِن شيء.
ومنهم من أنكر اللّه -عز وجل- واليوم الآخر، وآمن واعتقد أن كل شيء إنما هو عبارة عن العالم المشخص والمصور فقط.
قصة حارث والد النبي -صلي الله عليه وسلم- من الرضاع:
قدم الحارث بن عبد العزى، أبو رسول الله -صلي الله عليه وسلم- من الرضاعة، على رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بمكة، فقالت له قريش حين أنزلت عليه:
ألا تسمع يا حارث ما يقول ابنك هذا! ، قال: وما يقول؟ قالوا: يزعم أن الله يبعث بعد الموت، وأن لله دارين يعذب فيهما من عصاه، ويكرم فيهما من أطاعه، وقد شتت أمرنا، وفرق جماعتنا، فأتاه، فقال: أي بني مالك ولقومك يشكونك ويزعمون أنك تقول إن الناس يبعثون بعد الموت، ثم يصيرون إلى جنة ونار؟! فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“نعم، أنا أزعم ذلك، ولو قد كان ذلك اليوم يا أبة لقد أخذت بيدك حتى أعرفك حديثك اليوم“
فأسلم الحارث بعد ذلك، فحسن اسلامه، وكان يقول حين أسلم: لو قد أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال لم يرسلني إن شاء الله حتى يدخلني الجنة. (انظر: ابن إسحاق، السيرة، 218، جـ1، ص 235؛ السهيلي، روض الأنوف، جـ1، ص 284، 285)
النتيجة، ان الناس ضلّوا في العصر الجاهلي باعتقاداتهم الفاسدة حتى وصلوا إلى حالٍ مضحكٍ وأي حالٍ مضحكٍ أكثر من أن أفضل المزايا الإنسانية مثل العقل والإدراك والشعور والتفكير انحدرت حتى عاش الناس في مسرحية هزلية حزينة، كان يصعب وجود فكر صائب ومستقيم في ذلك الزمن، حتى أن الأفكار الضالة سيطرت وهيمنت على عقول الناس ونتيجة لذلك فإن المرأة في المجتمع الجاهلي قد سحقت وإن الأمهات قد أهينت وحقّرت، وكان النظر إلى البنات نظرة عارٍ وهوان.
إن رجلاً أتى النبي -صلي الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان، فكنا نقتل الأولاد، وكانت عندي بنت لي فلما أجابت، وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها، فدعوتها يوماً، فاتبعتني فمررت حتى أتيت بئراً من أهلي غير بعيد، فأخذت بيدها فرديت بها في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول: يا أبتاه يا أبتاه، عندما سمع النبي بحر الرحمة هذا الكلام انهمرت الدموع من عينيه النورانيتين، حتى وكف دمع عينيه، فقال له رجل من جلساء رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، أَحْزنْتَ رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، فقال له -صلي الله عليه وسلم-: “كُفَّ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَمَّا أَهَمَّهُ” ، ثم قال له -صلي الله عليه وسلم-: “أَعِدْ عَلَيَّ حَدِيثَكَ”، فأعاده، فبكى حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته -صلي الله عليه وسلم-، ثم قال له: “إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا عَمِلُوا، فَاسْتَأْنِفْ عَمَلَكَ” (الدارمي، المقدمة، 1، ص 1906/2)
لقد وصلت الإنسانية في ذلك الوقت إلى حافة الخندق الناري، وقد تهدمت الحياة الإجتماعية ووَصل الأفراد إلى حافة الهلاك.
أنقذ الإسلام بقدومه الناس من خطر مخدق بهم، وألف منهم مجتمع عصر السعادة النزيه.
يقول اللّه -عز وجل- في كتابه العزيز:
﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ ( آل عمران، 103)
تركوا العبادات والمعاملات مُقابل المصالح الدنيوية
نُسِيَت معظم العبادات وتم تحريف الباقي على حسب مصالحهم الدنيوية. فمثلاً بدّلوا عبادة الحج والعمرة حسب اعتقاداتهم الضالة حتى طمست معالمها، كانوا يرخصون في الرذائل لتسير مع العبادات فمثلاً الحجاج يُطّوفون عراة حول الكعبة ثم يعطونهم الملابس، وبٍهذا وصلوا إلى أقصى درجات التكبر والغرور. كانت القوة هي القاعدة الوحيدة في المعاملات، فالقوي يملك حق الأولوية والتفضيل، والضعيف لا حق له، لا يوجد أي أثر للسكينة والأمن والنظام في المجتمع الجاهلي.
على الرغم من وُجود الصفات الأخلاقية إلاّ أنها ابتعدت عن أصلها:
بعض القواعد من الأوصاف الأخلاقية بقيت حية ولكنها فقدت الغاية منها لأنها استندت إلى المصالح النفسية بين الإفراط والتفريط. فمن الفضائل أن ترى مشاهد القوة تحت مسمى الشجاعة، ومن الفضائل أن يسرف تحت مسمى الكرم، وتحت مسمى الشرف والعفة ارتكبت أسوأ الجنايات في العالم، وكانت البنات توأد وهي حية تحت التراب.
نعم، أهل الجاهلية كانوا شجعان وسلاحهم لا يفارقهم في أي وقت فصفة البطولة والشجاعة كانت من صلب شخصيتهم، لكنها كانت توزن بعدد قتلاهم في سبيل القبيلة والعصبية. مشاهد شجاعتهم نتيجة لأنانيتهم وغرورهم والقصد منها إثبات فضيلة الذات والفرد والقبيلة، وأما الحروب المتلاحقة المستعرة بين القبائل فقد جعلتهم خاسرين مادياً ومعنوياً.
أزال الإسلام التقاليد الخاطئة من المجتمع الجاهلي، وأسّس مكانها دستور الحياة الكامل الفاضل. ألجم الإسلام غضب الإنسان الجاهلي العارم الجامح وأبدله بالأوصاف العالية مثل الصبر والحق والعدالة.
حوّل الإسلام بالتزكية عن النفس والعواطف شجاعة الإنسان الجاهلي من شجاعة حمقاء إلى شجاعة حكيمة عقلية. إذن قوم الإسلام الشجاعة النفسية إلى غايات إيجابية ووجّهه أن يستخدمها لمقاصد علوية وأهداف خاصة مثل إحقاق الحق والعدالة.
الإنسان الجاهلي كان كريماً مِضيافاً لهدف أعلى وهو نيل مدح النفس والقبيلة، واحترام وتبجيل الناس له. هذه الصفات العلوية من الأصالة والسخاء والشجاعة كانت طريقاً موصلاً للشهرة ولنيل إعجاب الناس وإرهابهم، لهذا السبب كان عدد الذبائح يتراوح بين ست إلى سبع أغنام لصنع الكبد المشوية فقط ويرمى الباقي منها.
خص الإسلام على صفة الكرم والضيافة وأثنى عليها ولكنه أضفى عليها محتوى أخلاقياً لأن المسلمين يكرمون الناس طلباً لرضاء اللّه -عز وجل- فقط دون الرياء والسمعة، وهذا ناتج عن أن قلوبهم شغلت بفكرة رضاء اللّه مالك الملك، ولأنهم آمنوا أيضاً بأنهم أمناء[1] على هذا الملك والمال وهم مسؤولون في صلاحية محدودة للتصرف فيه، وأن هذا الملك إنما هو أمانة أودعها اللّه عندهم وعليهم أن يتصرفوا فيه وفق المسلك الضروري الذي رسمه اللّه لهم ولغاية هامة جداً، ألا وهي رضاء اللّه -عز وجل-.
الملك للّه ويجب أن يستعمل في خدمة الخالق وعباده وبهمة وإرادة المخلوق.
قال رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم-: “…اليد العليا خير من اليد السفلى” (البخاري وصايا 9/2750؛ مسلم، زكاة، 97/1036)
إذن الغاية والمقصد السامي في الإسلام من وراء الإنفاق هو رضاء اللّه -عز وجل-، لذا فقد وجب على المسلم الإبتعاد عن الغرور والسعي وراء الأغراض الدنيوية. لقد علَّم وفهَّم القرآن كل الناس هذه الآية الكريمة:
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ ( الإنسان، 9)
كان الإسلام قد نهى عن الإسراف تحت مسمى الكرم ففي مجتمع عصر السعادة لا يبذر أي جزء من الذبائح، وبحسّ وشعور الكرم والإيثار كان الرأس من الغنم يتجول من أسرة إلى أخرى حتى تعود إلى الأسرة الأولى.
حياة الصحراء وجهت الإنسان الجاهلي نحو فكرة الحرية المطلقة أو الحرية بلا قيود وحدود. لا توجد في الصحراء العربية حكومة ولا إدارة مركزية، الناس ما عرفوا أي شكل من السيطرة، ووصفوا بالعصيان والتمرد، الوحدة الإجتماعية تماثلها في هذه الحال غالباً لا توجد المؤسسات والأنظمة لتنفيذ القانون وتأييد الحقوق، تحلّ المشاكل عن طريق مجلس الحكماء الذي يختار عادة بسرعة أو غالباً ما تحل بقانون الغاب أو بالسلاح.
الإسلام رفض فكرة الحرية المطلقة أو الحرية الممنوحة لبعض الأفراد دون غيرهم، وأعلن صراحة أن عبداً مؤمناً أفضل من مشرك حرٍ[2]، هذا الإعلان أزعج وأثار غضب المشركين وجاء الرد السريع من السادات والأحرار الذين أبلغوا رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- أن شرطهم للجلوس معه ومحادثته هو طرد العبيد والضعفاء من حوله.
أخلاق الإسلام: لقد قوّم الإسلام فكرة الحرية على الأسس الأخلاقية، وأعطى الجانب الروحي المقام الأول فيها حيث تم تحضير وتأمين الحلول لإيجاد تحديد ذاتي وداخلي من وجدان الإنسان لحريته، ومن ذلك قوله تعالى:
﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق، 16)
وأيضاً قوله تعالى:
﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ (البقرة، 77)
ففي هذه الحال وجب على المسلم التحكم والسيطرة على حركاته وميوله ورغباته. لذا فقد أحدث المفهوم الجديد لفكرة الحرية الإسلامية انقلاباً سريعاً وعميقاً في نفسية وروح الإنسان الجاهلي وإدراكاته ومفاهيم الحياة وعالم القيم والمثل لديه.
الإنسان من نظرة الإسلام واقع تحت سيطرة خارجة عن حدود البشرية وأخرى وجدانية نفسية وأخرى سيطرة ظاهرية من الحكومة والقانون، فعندما تقع الخلافات أوالمشاكل من أي ناحية كانت، فتُحَلُّ حسب أحكام وشريعة اللّه ورسوله لا حسب شريعة الغاب والسلاح لأنهم قبلوا بإيجاب طاعة اللّه ورسوله وأولي الأمر منهم.[3]
فكرة التعاون والمساعدة ارتبطت في عهد الجاهلية بالعصبية القبلية، ولا يمكن الخروج عنها إذ أن الإنسان الجاهلي لا يرحم أحداً خارج قرابة الدم، في نظره الإنسان والمخلوقات الأخرى تُقَيَّمُ حسب المنفعة والمصلحة منها، لذلك انتشر بينهم غصب أموال الناس، والغبن الفاحش في الأسعار، والإمتناع عن دفع أجرة العمال عند القدرة على ذلك.
الإسلام خَلَّصَ فكرة التعاون والمساعدة من الإرتباط بالقبيلة وقومها على مبدأ وشعور حب الإنسان لغيره والإيثار له، وبناء على دستور الأخلاق وحس الرحمة.
أوجد الإسلام فكرة الأخوة الإيمانية، ونظر إليهم كأنهم أعضاء مختلفة في بدن واحد. قال رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم-:
“انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا…” (البخاري، مظالم، 4/2444)
الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- تعجبوا ودهشوا لأنها قاعدة أساسية في النظام القبلي. فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟، فردَّ عليه النبي -صلي الله عليه وسلم- برد إسلامي يدل على رقة الإسلام ولطفه وقال -صلي الله عليه وسلم-:
“تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُِ” (انظر: البخاري، إكراه، 6/6952؛ مظالم، 4/2444؛ الترمذي، فتن، 68)
هكذا أعاد الإسلام تقويم مفهوم المساعدة الجاهلي إلى جوهره الأصلي وغايته الحقيقية ألا وهو التعاون على البر والتقوى، ومنع الإثم والعدوان، هذا ما صرحت به الآية الثانية من سورة المائدة.[4]
إنسان عصر السعادة، المعجزة الكبرى النبي -صلي الله عليه وسلم-
يقول الدكتور القرافي الباحث في مجال الحقوق الإسلامية: “تكفي معجزة النبي -صلي الله عليه وسلم- الكبرى في تربيته لأصحابه الكرام وحدها دليلاً على صدق نبوته، حتى وإن لم يكن سواها” .
إنَّ تأثير محمد رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- والأخلاق الإلهية والتربية النبوية بمثابة المعرفة السرية (إكسير الحياة) التي حوّلت أهل الجاهلية أنصاف الوحوش إلى الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- الذين لا يزال التاريخ يغبطهم حتى الآن، وأحدثت مدنية الفضائل الخيالية. وصار أهل الجاهلية الجناة مثقفين، والوحشيون مدنيين، تحوّل المجرم صاحب الشخصية السفلية إلى متقٍ، أي تحولت حالهم فعاشوا في ظل حب اللّه -عز وجل- والخوف منه. فصاروا أصحب الرقة القلبية والصلاح فوق العادة.
تخيلوا بأن إنساناً ذا طبيعية وحشية قاسٍ كالحجر، حتى أنه يَشُدُّ ابنتها من صدر أمها ويدفنها وهي على قيد الحياة، حتى أنه يعتبر العبد الذي يملكه كمال بسيط ويعامله معاملة خارجة عن حدود الإنسانية كمعاملة الحيوان.
هذا الإنسان الجاهلي القاسي أحدث بعد الهداية مدنية الفضائل في العلم والأخلاق والأدب من خلال تعميق مشاعر ووجدان الإنسانية لديه وكان الناس في مستوى أسفل من مستويات المدنية والإنسانية، وبعد أن عاشوا في ظل أحكام الإسلام وأخلاقه وصلوا إلى أعلى مستوياتها وإلى قمتها كالوصول مثلاً إلى قمة جبال ايفرست.
التربية على المكارم والمثل
مجتمع الجاهلية ما استطاع أن يربي إنساناً محترماً ذا قيمة طوال العصور، ولم تنتج شخصيات نموذجية مثالية للإنسانية إلا بمعية وتربية وإرشاد النبي -صلي الله عليه وسلم-، هذه الشخصيات المتزينة بالصفات السامية نشرت الفتوحات الإلهية، والفيوضات النبوية في كافة أنحاء العالم حتى صارت مشاعل للإيمان والعلم والعرفان، وما استكانت وما ملّت في سبيل ذلك، الأفئدة منارة وتكية والقلوب كسبت منهجاً تنظر من خلاله إلى المخلوقات بنظر الخالق، واعتباراً لنظر الخالق إلى المخلوق. النور الذي نزل في الصحراء وَزَّعَ على الإنسانية الحقَ والعدالةَ وذلك بأخذ الأزلية تحت جناحي الرحمة.
مؤمنو عصر السعادة الذين ربّاهم النبي -صلي الله عليه وسلم- القدوة الحسنة، عاينوا حقيقة النبي -صلي الله عليه وسلم- الظاهرية والباطنية، كانوا مجمتع العلم والمعرفة والرحمة والرقة واللطافة، يعتبر هذا العصر بحق عصر معرفة اللّه -عز وجل- ورسوله -صلي الله عليه وسلم- عن قرب، وذلك من خلال التفكير العميق الذي ركّز فيه الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- على فكرة التوحيد التي وفّقتهم لإزالة آلة الهوى والهوس من القلوب والحرص النفسي على المصالح الدنيوية، وبذلك انتقل مفهوم المال والنفس من الهدف والغاية إلى الوسيلة.
ذاق الصحابة لذة الإيمان وتوسعت الرحمة وعمت كالبحر، وأصبحت الخدمة مسلك الحياة وشوهدت الشخصية الإسلامية بالفداء والتضحية.
الصحابة -رضي الله عنهم- تحملوا المشاق والصعاب العديدة والكبيرة مثل تحمل مشقة السفر لمدة شهر واحد في سبيل التثبت والتأييد للحصول على حديث واحد، وعندما وصل الصحابي رأى الراوي قد خدع حصانه بحيلة كيس العلف الفارغ ترك أخذ الحديث عنه واعتبره معلولاً.
ونرى أبا العالية وهو من كبار أئمة التابعين الباحثين عن العبادات الإسلامية يقول:
“كنا نأتي الرجل، لنأخذ عنه، فننظر إذا صلى، فإن أحسنها، جلسنا إليه، وقلنا: هو لغيرها أحسن (أي جميع أعماله الدنوية أحسن أيضاً). وإن أساءها، قمنا عنه، وقلنا: هو لغيرها أسوأ (أي جميع أعماله الدنوية أسوأ أيضاً)”[5]
فمقياس الصلاح عند الرجل كان في الصلاة، فإن كانت تامة فكل أعماله كذلك، وإن كانت سيئة فكل أعماله كذلك وبذلك يؤخذ من أو يُرَد.
ماذا تلقى الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- من رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم-؟
أولاً: الانعكاس: انعكست حال النبي -صلي الله عليه وسلم- عليهم وبشكل مكثف، وجرت الفيوضات النبوية على قلوبهم.
ثانيا: تخصيل القربى: أي معرفة اللّه القلبية، فالعلم والتعليم والتربية كل ذلك للتقرب منه وقد أحدث هذا المفهوم فهماً جديداً عند الصحابة -رضي الله عنهم- عن اللّه -جل جلاله-، وعن الكائنات، وعن النفس، وأضحى هدفهم السامي أن يتمثلوا بحال النبي -صلي الله عليه وسلم- كيفما استطاعوا وذلك كانعكاس الثمس على المرآة.
بهذا الإنعكاس توضحت لديهم معاني الخير والحق بكل جمالياته، والشر والباطل بكل مساوئه، وأصبح دستور حياتهم البحث عن رضاء اللّه -عز وجل- في كل نفس وحركة ومعاملة. كانوا أهل الكرم والرحمة والتضحية والإيثار، وقد تشوقوا في عبادتهم للّه -عز وجل-.
الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- الذين عاصروا العهد المكِّي اجتازوا امتحاناً إيمانياً أزال كل الحواجز والعقبات عن طريق إيمانهم، وضحّوا بمالهم وأنفسهم في سبيل تمثل الشخصية الإسلامية. فالمشاعر والإنفعالات الإيمانية التي هي بمثابة البناء المعنوي، تم التحضير لها في مكة ولامست القلوب المؤمنة ثم في المدينة المنورة أسهمت هذه المشاعر الإيمانية بالفتوحات المدنية بلا نظير.
هكذا بُنِيَ المجتمع الإسلامي الذي مَنَحَ المخلوقات الطمأنينة والهدوء، فالصحراء المحترقة المشتعلة بنار الفتنة هدأت واطمأنت، والأشجار والنباتات شعرت بالطمأنينة وازدادت وحرم قطع الأغصان الخضراء دون الحاجة إليها، لم يكتف الإسلام بتخليص الإنسانية بل خلّص النباتات والحيوانات من الظلم بمفهوم الحق والحقوق التي شرعها وبذلك نالت الأمان والطمأنينة.
انتشر الإسلام بسرعة الفجر عند الصباح
ووصلت حدود دولة الإسلام إلى العراق وفلسطين في عشر سنوات، هذه الدولة التي تأسست في المدينة المنورة من أربع مائة أسرة تقريباً، وفي أثناء انتقال الرسول -صلي الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى كانت جيوش الإسلام تحارب الفرس وبيزنطة، لم تتغير أحوال الصحابة الكرام بعد الرسول -صلي الله عليه وسلم- ولم تتغير حركاتهم ولا معيشتهم ولا مستويات حياتهم ولا هندسة بيوتهم. كانوا وما زالوا يعيشون في الرياضة النفسية والزهد. الإستهلاك والتبذير والرفاهية والرياء لا تعرف إليهم مسلكاً.
وضعوا نصب أعينهم أن القبر مآلهم الأخير، لذلك فرّوا من تمليك نِعَم اللّه -عز وجل- لأنفسهم واستعمالها فوق العادة، واتجهوا لاستخدام النعم كوسيلة لهداية الإنسانية وسعادتها بعد أن ذاقوا لذة وطعم الإيمان، حيث كانت حياتهم لنيل رضاء اللّه -عز وجل-.
من الملاحظ أن أحد الأسباب التي كانت وراء الإنتشار البراق والسريع للإسلام بين المجتمعات الإنسانية المظلومة والمطرودة والمنبوذة والمستعمرة هو أن الصحابة الكرام قد تمثلوا الهوية الإسلامية الكاملة حيثما حلّوا في أرض الإسلام، ولكنهم كانوا الطلبة الخاصيين لرسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- وكانوا مؤمنين استثنائيين ينظرون بعين اللّه إلى عباده نظرة الشفقة والرحمة، كانوا صادقين عادلين، أهل إيثار وقناعة، قلوبهم وقد أحست بالمسؤولية نحو الإنسانية في تبليغ هذا الدين.
وقد وضع الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- نصب أعينهم ومركز حياتهم الصداقة لِلّه -جل جلاله- ولِرسوله الأكرم، لذلك وصلوا إلى الذروة والقمة في المدنية، بعد أن عاشوا في مجتمع أمي لا يعرف الكتابة والقِراءة، لأن أفئدتهم دائماً في مهمة سامية ومشاعر عالية، ماذا يريد اللّه منا، وكيف يريد النبي -صلي الله عليه وسلم- رؤيتنا؟
التعمق في الأحاسيس والمشاعر:
وصَلَ الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- إلى آخر نقطة في المشاعر والأحاسيس الكاملة التي تستطيع الروح والنفس والعقل الوصول إليها.
بعد تخلصهم من شر النفس الأمّارة نالوا النفس الكاملة فهم يُحَاسِبون أنفسهم قبل أن يُحَاسَبوا، يهذبون طلباتهم النفسية، تكاملوا وكمّلوا ورفعوا استعداداتهم العلوية والفطرية ونهجوا طريقاً موصلاً إلى طريق الحق، بعد أن كانوا جماعة متوحشة تحولوا إلى أناسٍ وصفات لطيفة كالملائكة، وبعد أن كانوا في أعماق البحار من حيث الظلمُ والجهالةُ وصلوا إلى الذروة والقمة في الرحمة والشفقة، ونظرة الخالق إلى المخلوق بنيل حصة أو جزء من شغف فؤاد رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم-.
وبعد أن كان إنساناً وحشياً قاسي القلب عديم الرحمة يشد ابنته من فؤاد أمها ويئدها في التراب وهي حية. أصبح بعد الإسلام مَلِك الشفقة الدامع العينين، الأفئدة أصبحت منارة وتكية وجدت فيها القلوب المرهقة والمتعبة الطمأنينة والسلوان، القلوب صارت ملجأ ومأوى للأرامل والأيتام والغرباء.
وكان عمر -رضي الله عنه- قبل الإسلام ذا قلب قاس وبإسلامه تحول إلى ذي قلب رقيق مرهف، ولقد وصل إلى أعماق التفكير والحس السامي عندما قال: ((لو هلك حمل من ولد الضأن ضياعاً بشاطئ الفرات خشيت أن يسألني الله عنه)) (انظر: ابن أبي شيبة، المصنف، 8، 153؛ جـ7، ص99/34486)
وكان عمر -رضي الله عنه-يتجول ليلاً حول أطراف المدينة المنورة وفي الأحياء الفقيرة وبشعور المسؤولية حاملاً كيساً من الطحين على ظهره.
وأنَّ سيدنا عبد اللّه بن مسعود -رضي الله عنه- في معركة بدر عندما وضع رجله على عنق أبي جهل بعد أن وقع على الأرض فقال هذا المشرك المتكبر وهو في الرمق الأخير تحقيراً لعبد اللّه: لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم. (انظر: ابن هشام، جـ1، ص 635-636؛ جـ2، ص 277)
هذا القول يدل على أن ماضي ابن مسعود -رضي الله عنه- كان بسيطاً فهو راع للغنم مستحقر من الناس في الجاهلية، لكنه بعد الهداية وتربية رسول اللّه -صلي الله عليه وسلم- له تعمق قلبه ورق وأصبح بحراً واسعاً انعكست عليه التجليات الألهية. ظهر أثر هذا الصحابي الجليل بعد ذلك وتجلى في مدرسة الكوفة التي تعتبر من أكبر المدارس التي تهتم بنظام الحقوق[6]، والإمام الأعظم أبو حنيفة كان طالباً فيها واشتهر بأنه أول واعظٍ في علم الفقه وكذلك معظم المجتهدين والدهاة والعظماء تربوا في هذه المدرسة.
لا يستطيع أشهر الحقوقيين في العالم من أمثال صولون وحمو رابي أن يجاريا أبا حنيفة. والناظر في أي مجال من مجالات العلوم الإسلامية سيرى في البداية اسم هذا الصحابي المبارك بين مؤسسيها.
الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا تطبيقاً ومثالاً حياً لمعجزة القرآن الكريم ووصلوا إلى قمة الفضيلة والفراسة والدراية والقيم الإنسانية.
الإنسجام و التناسق في مهام العقل و القلب:
تناسقت وانسجمت مهام العقل والقلب معاً حتى أوصلت المؤمن إلى الكمال. ولقد حافظ المؤمن على شعور العشق حياً و تعمق تفكيره حتى وصل إلى فكرة أن الحياة الدنيا هي دار الإمتحان.
أَِلفَ قلب المؤمن التعظيم الإلهي وفيوضات القدرة الإلهية، لذلك ما استكان المؤمنون وما ملوا من رحلاتهم إلى سمرقند والصين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد تمثلوا للآية الكريمة: ﴿…وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ…﴾ (البقرة، 195)
فلم يتركوا هذا المقصد أبداً ولنفس القصد سافر أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- وهو في عمر الثمانين و نيف إلى إسطنبول لفتحها وجثمانه الفاني أصبح تذكاراً عظيماً وبركةً دائمةً لمدينة إسطنبول، وكل من جاء بعدهم وزَّعوا وعملوا لنشر الهداية حتى الأندلس.
ومن التابعين عقبة بن نافع الذي أرسل في العهد الأموي إلى أفريقيا وعقبة -رضي الله عنه- فَتَحَ منطقة القيروان وعيّن زهيرَ بن قيس مديراً لها وقال: إني قد بعت نفسي من الله -عز وجل-، فلا أزال أجاهد من كفر بالله. وأوصى زهيراً بما يفعل بعده.
تابع عقبة -رضي الله عنه- الفتوحات شوقاً للقاء اللّه وتضحية في سبيله وسار حتى بلغ ماليان ورأى البحر المحيط، وقال:
(يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك).[7] (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت، 1415، جـ3 ، ص 205-206)
الدولة العثمانية في عصورها الثلاثة الأولى: كانت نموذجاً لعصر السعادة في إدارة الحياة الإجتماعية، على الرغم أن العثمانيين قد جاؤوا بعد الصحابة بعدة عصور وكان عددهم لا يتجاوز أربعمائة فارس.
اِنتشار التفكُّر
أرشد النبي -صلي الله عليه وسلم- أهل الجاهلية فأصبحوا عارفين واقعيين متّقين، حتى صارت الليالي أياماً، والشتاء ربيعاً، تقدم التفكير حتى وصل إلى بدايات الخلق، كيف خلق الإنسان من نطفة مثل قطرة الماء، والطير من بيضة صغيرة والنباتات والثمار من بذرة تكاد تكون معدومة، تركزت حياتهم على رضاء اللّه تعالى وتعمقت فيهم الرحمة والشفقة وإحقاق الحقوق حتى وصلت إلى ذِروتها.
التبليغ متعة
تذوق الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- متعة التبليغ ومثّلوا الشخصية الإسلامية في كل الأوقات طلباً لرضاء اللّه تعالى، وفي سبيل ذلك قدّموا كل التضحيات وأمروا بالمعروف ووصوا بالبِرّ والإحسان والخير والإستقامة، ونهوا عن المنكر والسوء والفحشاء وكانت أشد أوقاتهم متعة ولذة وقت تبليغ التوحيد.
في العهد المكي صعب على النبي -صلي الله عليه وسلم- الإلتقاء مع النساء بينما سهل ذلك مع الرجال، من هذا المنطلق قامت صحابية كريمة تسمى غُزَيَّةَ بواجب التبليغ بين النساء بأفضل قيام، فدعت نساء قريش إلى الإسلام سرّاً ولما علمت قريش بخبرها وبعد أن لاحظ كفار قريش تغير حال النساء فيها قبضوا على غُزَيَّةَ وطردوها إلى قبيلة دوس مع بعض أهل زوجها، الدَّوسيون أذلوا غُزَيَّةَ وقهروها وأركبوها على جَمَل ثفال (مجرد من الهودج) واستمروا في تعذيبها حتى عميت وصمت ولما شاهد الدَّوسيون صبر غُزَيَّةَ على العذاب وعشقها للإيمان وإخلاصها لدينها تأثروا بها وتشرفوا بالدخول في الإسلام.[8]
وعندما هاجر النبي -صلي الله عليه وسلم- إلى المدينة هاجرت غُزَيَّةَ أيضاً، وفي بعض الروايات أنها جاءَت سفيرة إلى النبي -صلي الله عليه وسلم- من أبناء عبد قيس.[9]
شاهدت امرأة معجزة النبي -صلي الله عليه وسلم- اثناء سفره الى المدينة في حادثة نبع الماء عندما اشتكى إليه الناس من العطش وإكرامه لها، فلما عادت إلى قومها روت لهم ما حدث، فدخل قومها في الإسلام أرسالاً وجماعات.[10]
النساء الصحابيات الإماء اللواتي دخلن في الإسلام اشتركن في تبليغ هذا الدين بدون تأخير أو تقصير منهن حتى أنهن لحقن النساء الحرائر في ذلك، حتى جارية من أصفهان أسلمت قبل سلمان الفارسي -رضي الله عنه- هي من أرشدته إلى طريق النبي -صلي الله عليه وسلم-.[11]
أحد الصحابة الكرام عندما أمسكه بعض المشركين وأرادوا إعدامه أعطوه مهلة ثلاث دقائق، الصحابي شكرهم على ذلك وقال في نفسه إنكم قليلوا الخظّ ثم أجاب: إذاً عندي ثلاث دقائق لتبليغكم الدين.
يقول الصحابي الجليل أبو هريرة -رضي الله عنه- في أهمية التبليغ: كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة وهو لا يعرفه فيقول له: ما لك إلي وما بيني وبينك معرفة فيقول كنت تراني على الخطإ وعلى المنكر ولا تنهاني.[12]
الإعتصام بالقرآن
النبي -صلي الله عليه وسلم- علّم الصحابة الكرام القرآنَ الكريم في أصعب الظروف. يروي الصحابي أبو طلحة -رضي الله عنه- أنه شاهد النبي، سلطانُ الرسل -صلي الله عليه وسلم- قائم يقرئ أصحاب الصفة وعلى بطنه فصيل من حجر يقيم به صلبه من الجوع. (أبو نعيم، الحلية، جـ1، ص342)
إن أولى اهتمامات الصحابة -رضي الله عنهم- هي فهم وتعلّم وإدراك كتاب اللّه تعالى ونيل تجلياته الحكيمة، والعمل بمقتضاه، لقد وجدوا لذة الحياة في تلاوة القرآن والإنصات إليه والعيش بمقتضاه.
الأصحاب الكرام -رضي الله عنهم- عاشوا مع القرآن ومقتضياته وكرسوا حياتهم للقرآن الكريم، أي عاشوا مع القرآن، وللقرآن، وبالقرآن.
الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- أظهروا خدمة للإسلام وهِمّة له لم يُرَ أمثالها في التاريخ، فقد تعرضوا للتعذيب والظلم والضغط لكنهم حافظوا على دينهم وإيمانهم من التبدل والتحول.
تركوا أوطانهم وأموالهم وضحّوا بكل ما يملكون وهاجروا من أجل العيش بمقتضى آيات اللّه -عز وجل-.
لذلك اجتهدوا وحثّوا أنفسهم على العيش حسب كل آية ومقتضياتها ولم يتركوا القرآن حتى في أشد الأوقات خطراً، فبينا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في مسيره عشية ذات ريح، نزل في شعب استقبله فقال -صلي الله عليه وسلم-: “مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا اللّيْلَةَ؟”، فقام رجلان، عمار بن ياسر وعباد بن بشر، فقالا: نحن يا رسول الله نكلؤك. وجعلت الريح لا تسكن، وجلس الرجلان على فم الشعب، فقال أحدهما لصاحبه: أي الليل أحب إليك، أن أكفيك أوله فتكفيني آخره؟ قال: اكفني أوله. فنام عمار بن ياسر، وقام عباد بن بشر يصلي، وأقبل عدو الله يطلب غرة وقد سكنت الريح، فلما رأى سواده من قريب قال: يعلم الله إن هذا لربيئة القوم! ففوق له سهماً فوضعه فيه فانتزعه فوضعه، ثم رماه بآخر فوضعه فيه فانتزعه فوضعه، ثم رماه الثالث فوضعه فيه، فلما غلب عليه الدم ركع وسجد، ثم قال لصاحبه: اجلس فقد أتيت! فجلس عمار، فلما رأى الأعرابي أن عماراً قد قام علم أنهم قد نذروا به. فقال عمار: أي أخي، ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به؟ قال: كنت في سورة أقرأها وهي سورة الكهف، فكرهت أن أقطعها حتى أفرغ منها، ولولا أني خشيت أن أضيع ثغراً أمرني به رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ما انصرفت ولو أتي على نفسي. (انظر: الواقدي، مغازي، جـ 1، ص397؛ أحمد، جـ3، ص344؛ ابن هشام، جـ3، ص219).
كان الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- وبمقتضى القرآن يعتبرون أنّ أركان الدين بالنسبة إليهم لذة ونَهْمٌ لا يشبع منه، كل الآيات النازلة كانت كأنها ضيافة من السماء وكل محاولاتهم وجهودهم كانت لإدراك القرآن وبشكل تام وكامل للعيش في هذا الكون وفي أحسن النماذج. إحدى الصحابيات أتت النبي -صلي الله عليه وسلم-، فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله -صلي الله عليه وسلم-، فقال -صلي الله عليه وسلم-: “مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ“، فقال رجل: زوجنيها، قال-صلي الله عليه وسلم-: “مَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟” ، قال: كذا وكذا، قال -صلي الله عليه وسلم-: “فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ” (أنظر: البخاري،فضائل القرآن، 21/5029؛ مسلم، نكاح، 76)
فهذه الصحابية الكريمة اعتبرت حفظ القرآن من قبل زوجها مهراً كافياً لها، هذه الصورة تعبر لوحة إيمانية مثلت الفضيلة التي تحلّوا بها. وقد اقتدى الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- بالنبي -صلي الله عليه وسلم- في جهودهم لتعليم القرآن وفي شعورهم وأحاسيسهم لذلك وفي النهاية امتلأت المدينة المنورة بالحفّاظ والعلماء.
ما الأسباب التي دعت الصحابة الكرام للإتجاه نحو القرآن الكريم؟
كان الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- أمّيّين جاهلين بالثقافات الخارجية ولم يتأثروا بها، لذلك ركزوا في جهودهم وقواهم العقلية والقلبية على القرآن الكريم، هكذا صنعوا الثقافة السامية التي منعت الظلم والجور ومنحت كل المخلوقات حقها في الحياة المطمئنة.
- زيادة الإحساس والحياة الروحانية والشعور الإسلامي ضروري للإنسان، لأن الثقافة والأعمال القيمة لا تنتج إلا بالمستوى الروحي العالي، وكذلك لم يترفع التفكير إلى الذروة ولم يُربِّ إنساناً كاملاً ولم يظهر مولانا الرومي ومولانا المِعماري الكبير سنان ومولانا الفضولي وسواهم من الأكابر إلاّ بها.
ب- نزول القرآن منجّماً يَسّرَ حفظه وتطبيقه وهضمه روحياً، مما سهّل على جيل الصحابة -رضي الله عنه- وأحفادهم التعليم والتدريس التدريجي.
جـ- وجوب قراءة القرآن في الصلاة كان بمثابة استذكار للقرآن بشكل دائم وهكذا زاد أنسهم بالقرآن الكريم، خاصة الفاتحة التي كرّروها في كل ركعة.
د- أخذ العبرة والحكمة من قصص القرآن الكريم تثبيتاً لأحكامهم وقبولاً لأعمالهم وَوُصولاً إلى هدفهم.
إعجاب الإنسانية بهم
هكذا أوجد القرآن الكريم عصر السعادة خلال مدة قصيرة ولقد أعجب العالم كلُه قديماً وحديثاً بهذا المجتمع النادر، ومازال هذا الإعجاب مستمراً حتى الآن وفي عصرنا الحادي والعشرين لو اجتمع كل علماء النفس والإجتماع والأطفال والتربية والفلاسفة في الدنيا كلها لما استطاعوا أن يُكوِّنوا مجتمعاً صغيراً يتصف بهذه الصفات السامية التي اتصف بها مجتمع عصر السعادة.
إن أسباب حيوية عصر السعادة، القرآن والسنة، الكتابان اللذان لا يزالان يتحفظان بنفس التأثير والفعالية، وهما اللذان أوجدا عصر السعادة، فالمجتمعات التي تتمسك بالإسلام تزدهرأبداً وتتقدم، ومن أهملتْ وتركتْ الإسلام تخلفت وخسرت. يقول الباحث والمراقب في موضوع عدالة الإسلام (لا فاتيا (: قاصداً النبي-صلي الله عليه وسلم-: (يا أيها العربي يا ذا الشأن لا يكفيك أشد التقدير لأنك حققت العدالة نفسها) هكذا أظهر هذا الباحث إعجابه وتقديره العميق لنبينا -صلي الله عليه وسلم-. (كامل ميراث، ترجمة التجريد الصريح 9، 28)
الأخلاق الإسلامية ليست نظرية بل تطبيقية
فيما يتعلق بمسألة الأخلاق ليس هدف الإسلام إظهار النظريات المعتادة، ولا الدخول في المباحثات الهشة لتطمئن العقول المتلهفة ولا الخوض في الأخلاق الفلسفية المنعزلة عن الحياة الواقعية فقط بل هدف الإسلام إيجاد الأجوبة على احتياجات الناس الأخلاقية بحلول تطبيقية وتزويدهم بشعور لعيوبهم الذاتية وإمكانية إزالة هذه العيوب في هذا المجال وبمرور الأيام، إذ الإسلام يسعى إلى إقامة هذا الدستور الأخلاقي في الحياة بطريق أحسن وأضمن وبهدف تكوين أخلاق سلوكي لا أخلاقٍ معرفي.
هناك أمر معبر وذو مغزى في القرآن الكريم وهو إنزال الآيات التي أمرت النبي -صلي الله عليه وسلم- بالعلم سورة العلق أولاً، ثم إنزال الآيات التي أمرت بالنهي عن المنكر والعبرة من ذلك تحصيل مسألة الأخلاق.[13]
وفي مقابل هذه الأفكار نجد أن أفكار الفلاسفة الذين لم تُربَّ عقولهم على الوحي جاؤوا بأفكار اجتماعية تحت مسمى الأخلاق، ولكن اللافت للنظر أن هذه الأفكار بقيت طي النسيان في الكتب وعلى الرفوف المغبرة وفي المكتبات غالباً، والتي ظهرت وانتشرت في الحياة لم تعمر، وبالحقيقة فإن السبب في ذلك هو أن هؤلاء الفلاسفة لم يتمثلوا ما قالوه في حياتهم بأنفسهم ولا في حياة مريديهم، وبقيت أفكارهم نظرية فقط، فأرسطو مثلاً وبسبب بعده عن الوحي الإلهي فإننا لا نرى شخصاً واحداً وصل إلى السعادة في حياته بتطبيق نظريته.
بالرغم من أن أرسطو مؤسس قواعد وقوانين الفلاسفة الأخلاقية، والفارابي وفي أهم أثر له ألا هو كتاب “المدينة الفاضلة” والذي احتوى على قواعد تأسيس المجتمع المثالي ومدنية الجمال، فقد جاء خيالياً غير قابل للتطبيق، ولا يمكن إخراج محتواه إلى الحياة من بين السطور، ولكنه أصبح طعاماً في معدة الأرضة آكلة الأوراق، والسبب في ذلك أن أفكاره ليست إلهيّة المصدر وليست صالحة للحياة، الفلاسفة دائماً يقولون بالنسبة ما يعيشونها، أما الأنبياء فهم يقولون بانّ أمر اللّه -عز وجل- هكذا.
النتيجة: قدرة اللّه تعالى تجلت في:
1- أن اللّه تعالى أظهر للبشرية الأخلاق السامية في شخصية النبي -صلي الله عليه وسلم- بلا نظير وتحققت الغاية من إظهار الإنسان الكامل الذي أراده اللّه -عز وجل- بشكل تطبيقي وواقعي.
2- النبي الأمي -صلي الله عليه وسلم- الذي لا يعرف القراءة والكتابة، لُطف وفضل بهذه البشرية، وعلّمها الحق والخير وهذا من فضل اللّه -عز وجل-.
[1] اُنظر: سورة آل عمران، 26؛ سورة النور، 33
[2] اُنظر: سورة البقرة، 221
[3] اُنظر: سورة النساء، 59
[4] اُنظر: سورة المائدة، 2
[5] انظر: الدارمي، المقدمة، 38، 429؛ جـ1، ص398/437
[6] انظر: علي حيدر أفندي، درر الحكمة، مجلة الحكام، إسطنبول1330، ص 11
[7] عقبة ابن نافع كان مستجاب الدعاء، عندما اجتاز بمكان يعرف اليوم بماء الفرس فنزله، ولم يكن به ماء، فلحق الناس عطش كثير أشرفوا منه على الهلاك، فصلى عقبة ركعتين ودعا (فبحث فرس له الأرض بيديه فكشف له عن صفاة) فانفجر الماء، فنادى عقبة في الناس فحفروا أحساء كثيرة وشربوا، فسمي ماء الفرس. (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت، 1415، جـ3 ، ص 205-206)
[8] ابن سعد 8، 155-157؛ ابن المجبر ص 81،82، 92؛ أبو نعيم، الحلية 2،66-67؛ ابن حجر، الإصابة 4، 447.
[9] أبو الخطيب، أسماء الصحابة، مكتبة جامعة إسطنبول، (142-1101)
[10] انظر: البخاري، التيمم، 6
[11] انظر: أبو نعيم الأصفهاني، تاريخ أصفهان، جـ1، ص43؛ ابن الأثير، أسد الغابة، جـ 7، ص 25؛ ابن حجر، الإصابة، جـ 4، ص233
[12] المنذري، الترغيب والترهيب، بيروت 1417، 3، 164/3506؛ روداني، جمع الفوائد، مترجم نعيم أردوغان، اسطنبول (5- 384)
[13] انظر: سورة العلق،1-5؛ سورة المدثر، 1-7