يقول الإمام الرباني رحمه الله:
“لا إله إلا الله؛ لا شيء أنفع من هذه الكلمة الطيبة في تسكين غضب الرب جل سلطانه وعلا برهانه، فإذا كانت هذه الكلمة سبباً لتسكين غضب دخول النار، تكون سبباً لتسكين غضبات أخرى بالطريق الأولى إذ أنها دون ذلك. وكيف لا تكون سبباً للتسكين وقد أعرض العبد عن كل ما سواه نافياً له بتكرار هذه الكلمة الطيبة، وجعل قبلة توجهه المعبود على الحق وكان منشأ الغضب هو التوجهات الشتى التي كان العبد مبتلى بها…”.[1]
(إن أعظم الذنوب التي تثير وتجلب غضب الحق عز وجل، وتبعد المرء عن العفو الإلهي هي: الكفر، والشرك، والإنكار. أي إنكار وجود الله عز وجل، أو جعل شريك له في الألوهية، أو إنكاره قلبياً حتى وإن بدا الظاهر مؤمناً به.
إن الأسباب الرئيسية لانحراف الإنسان المخلوق على الفطرة الإسلامية كي يعبد الله تعالى عن طريق الحق وسلوكه مسالك الباطل هي اتباعه للنفس، والشيطان، أو اتباع البشر الذين تلبسوا بلبوس الشيطان، وإيراد نفسه بيديه موارد الهلاك وظلمات الجهل. وأما ما يحجب عقل الإنسان، وقلبه في هذا الخصوص فهو في الغالب المنافع والمصالح المختلفة التي تظهر أمامه بغاية امتحانه وابتلائه.
تحمل القصة التي يرويها لنا فريد الدين العطار عبرة كبيرة في هذا الشأن:
كان للسلطان كلب صيد يحبه كثيراً، وكان ماهراً في الصيد. كان الملك يولي هذا الكلب أهمية بالغة ويقدره تقدرياً عظيماً، فلا يخرج في رحلة صيد إلا ويصطحبه معه. وكان قد زين طوقه بالمجوهرات، ووضع في أرجله خلاخل من الذهب والفضة. وغطى ظهره بقماش من الأطلس.
وذات يوم كان السلطان قد خرج إلى الصيد مع رجال قصره وأخذ معه ذلك الكلب كعادته. كان السلطان الذي يتقدم بهدوء وهو ممتطٍ ظهر حصانه بوقار وفي يده الحبل الحريري المربوط بطوق الكلب في غاية الانتشاء والانشراح. إلا أن شيئاً حدث فجأة وأفسد عليه نشوته وبهجته. إذ أن الكلب الذي أحبه كثيراً انشغل بشيءٍ آخر وكأنه قد نسي السلطان تماماً. حاول السلطان جاهداً سحب الحبل الذي بيده لثني الكلب عما هو فيه وقد بدا عليه الحزن، إلا أن محاولته باءت بالفشل، إذ أن الكلب استمر بلعق العظمة التي أمامه ومحاولة قضمه. فما كان من السلطان إلا أن صرخ وقد أحاطت به مشاعر الدهشة والغضب:
– كيف يتم الانشغال في حضرتي بشيءٍ آخر والتغافل عني؟!
حزن السلطان وتأسف كثيراً. فقد أثر عليه نكران الكلب، وعدم وفائه، وغفلته عنه. لم يُعذره السلطان، ولم يعف عنه مع أنه مجرد كلب. إذ لم يكن انشغال الكلب الذي تلقى قدراً كبيراً من الإحسان، والإكرام، والاهتمام بعظمة فجأة، ونسيانه مما يُغفر. فقال بغضب وحدة:
– أطلقوا قليل الأدب هذا، وناكر الجميل!
ولما أدرك الكلب الغافل معنى هذه الحدة والغضب كان الأمر قد فاته، ولم يعد بالإمكان فعل شيءٍ. ثم قال الرجال للسلطان:
– يا سيدي! لننزع ما عليه من المجوهرات، والذهب، والفضة ثم نطلقه!
فقال السلطان:
– كلا! دعوه فليذهب كما هو! ثم أضاف:
– دعوه يذهب هكذا! دعوه ليهيم على وجهه غريباً يعاني من الجوع والعطش في الصحاري الحارة والقاحلة؛ ولينظر إلى تلك المجوهرات فيعيش بحرقة وألم وندم على النعيم والإحسان الذي أضاعه من بين يديه!..
إذاً؛ كذلك فإن أكثر ما يثير غضب الحق عز وجل هو تعلق قلب الإنسان الذي خلقه من أجل تعبد ذاته العلية بالكائنات والمخلوقات التي أوجدها لأجله، ثم إشاحة وجهه عن خالقه عز وجل.
ولا يمكن أن يكون هناك نكران وجحود أعظم من نسيان الإنسان لخالقه، ومالكه الحقيقي، ورازقه، ثم تأمل المدد من أبواب أخرى!..
ينبغي أن نتذكر ونعلم جيداً بأنه لو أنكرت البشرية جمعاء الحق عز وجل فإنه لا ينقص من شأن ألوهيته مثقال ذرة. والعكس صحيح أيضاً؛ أي لو آمنت البشرية كلها بوجود الله عز وجل ووحدانيته فلن يزيد هذا الإيمان من شأن ألوهيته مثقال ذرة. فالله عز وجل ليس بحاجة إلى عبوديتنا، إذ أنه منزه عن كل الحاجات؛ وبالتالي فإن إيمان أو إنكار البشر لا ينفع ولا يضر إلا البشر وحدهم، وليس الله عز وجل.
ومع ذلك؛ فإن الحق عز وجل بمقتضى رحمته الواسعة التي لا حدود لها يريد للإنسان الذي خلقه الهداية والسعادة. فهو يريدهم أن ينالوا شرف الإيمان به، ليكونوا بذلك مستحقين للمكافآت والمكرمات الإلهية. ولذلك فإن كلمة التوحيد التي تعني الإقرار بحقيقة عدم وجود إله غير الله تُعد أحب كلمة إلى الله عز وجل. وذلك لأن إدراك هذه الكلمة حق إدراكها، والتصديق بها قلبياً يعني:
- إشاحة العبد بوجهه عن الفسوق والفجور وعن كافة الأبواب الفانية، واللجوء إلى أعتاب ألوهية الحق عز وجل وحده.
- رد ورفض الآلهة الباطلة التي هي بمثابة الخيال والأحلام، والتسليم للإله الحق الواحد الذي هو الله عز وجل.
- خلع واقتلاع الإنسان لكافة الروابط الشيطانية والنفسانية التي تحولت في عينه وقلبه إلى وثن، ثم تحصيل الحرية الحقيقية التي يمكنه أن يتذوقها في عبوديته للحق عز وجل وحده.
ولهذا السبب فإن الله عز وجل قد جعل الكثير من الناس الذين استحقوا عذابه الأليم مظهراً لعفوه ومغفرته بسبب نطقهم بكلمة التوحيد، والدخول في إطاره. وكذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام الذي تعرض لسنوات طويلة للظلم والاضطهاد على أيدي المشركين قد عفا عنهم لنطقهم بكلمة التوحيد وإعلانهم لندامتهم أمامه، وجعلهم من بين صحابته الكرام.
فمثلاً؛ بعد أن أدرك وحشي الذي قتل عم النبي عليه الصلاة والسلام حمزة رضي الله عنه حقيقة كلمة التوحيد، أقدم بالحماس الإيماني الذي ناله على قتل مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة وذلك بنية التكفير عما اقترفت يداه قبلاً، وليخفف من اضطراب وحرقة الندامة التي تعتلج في قلبه. وفي نهاية الأمر قد أصبح صحابياً مباركاً والذي سوف يظل يذكر من قبل المؤمنين بوحشي رضي الله عنه إلى يوم القيامة.
وعلى ذلك فإن أفضل وسيلة يتوسل بها المؤمن لطلب العفو لنفسه هي قول “لا إله إلا الله“. حيث أن هذه الجملة المباركة ترد في الكثير من أدعية التوبة والاستغفار.
فقد استجيب دعاء سيدنا يونس عز وجل وقبلت توبته لتوسله بكلمة التوحيد “لا إله إلا الله“. حيث جاء في القرآن الكريم:
{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}.[2]
(عندما أُمر يونس عز وجل بدعوة قومه الكافرين إلى الإيمان والمكوث فيهم أربعين يوماً، إلا أنه فقد الأمل من استجابتهم لإصرارهم على الكفر وغادرهم في اليوم السابع والثلاثين)
يقول الإمام الرباني رحمه الله:
“ينبغي أن يعلم بأن فضيلة هذا الذكر “لا إله إلا الله” كبيرة بحيث لا مقدار لتمام الدنيا في جنبه ولا إحساس! وليت لها حكم القطرة بالنسبة إلى البحر المحيط! وعظمة هذه الكلمة “كلمة التوحيد” الطيبة باعتبار درجات قائلها، فكلما كانت درجة القائل أزيد وأعلى تكون تلك العظمة أكثر وأولى…”.[3]
(يبين الحديث النبوي الآتي قيمة وأهمية كلمة التوحيد هند الله تعالى، وتأثيرها الاستثنائي بشأن جلب العفو الإلهي:
فعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال:
كنا عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال: هل فيكم غريب؟ يعني أهل الكتاب. فقلنا: لا يا رسول الله! فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بغلق الباب وقال: “ارفعوا أيديكم وقولوا: لا إله الا الله!”. فرفعنا أيدينا ساعة، ثم وضع النبي عليه الصلاة والسلام يده، ثم قال: “الحمد لله! اللهم بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنة وإنك لا تخلف الميعاد!”.ثم قال: “أبشروا فإن الله عز و جل قد غفر لكم“.[4]
والحادثة الآتية هي بدورها تبين القيمة والأهمية العظيمة التي تتمتع بها كلمة التوحيد عند الله عز وجل:
كان سيدنا سليمان عز وجل الذي آتاه الله تعالى ملكاً عظيماً وسخر له الكثير من المخلوقات والكائنات يستعرض ذات يوم جيشه العظيم المؤلف من الجن، والإنس، والطير. فمر على وادي من النمل، ولما أبصر كبير النمل سليمان وجيشه وقد اقتربوا منهم قال للنمل:
– يأ أيتها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون! فهذا سليمان صاحب الملك العظيم الذي ليس له مثيل!.[5]
فلما سمع سليمان عز وجل الذي علمه الله لغة الحيوانات قول كبير النمل، قال:
– كلا! إن ملكي زائل! وأما الملك والسعادة التي تجلبها كلمة التوحيد فهي خالدة أبدية!
وقد جاء في الحديث النبوي الشريف:
“من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة“.[6]
فحتى ينال المرء هذه البشارة النبوية، ويبلغ الملك والسعادة الأبدية فلا بد له من بذل الجهد والسعي لتكون حياته متوافقة مع مضمون كلمة التوحيد حتى الرمق الأخير من عمره. أي إذا نبذ العبد سائر الآلهة الظاهرة والباطنة ما عدا الله عز وجل، وملأ قلبه بالإيمان بالله تعالى، عاش عمره على هذا المنوال حتى آخر نفس في حياته فعندها يُؤمل أن يلفظ روحه على الإيمان وينال الجنة الأبدية. ومن الصعوبة بمكان – ما عدا بعض الاستثناءات – أن يتمكن من عاش حياته عكس هذه الحقيقة من النطق ب “لا إله إلا الله” في أنفاسهم الأخيرة عند خروج الروح. لأنه ورد في حديث نبوي آخر:
“كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تُحشرون“.[7]
يقول عبيد الله أحرار رحمه الله:
“بعدما توفي الشيخ النقشبندي رآه أحد الأولياء في منامه، فسأله: ماذا نفعل من أجل نجاتنا الأبدية؟، فأجابه الشيخ بقوله: انشغلوا بما يجب الانشغال به في النفس الأخير!. أي كما ينبغي التفكير بالله تعالى وحده في النزع الأخير، فكونوا كذلك متيقظين ومتفكرين بالله تعالى مدى الحياة!”.[8]
ولهذا يجب أن يكون استعداد الإنسان مدى الحياة وبشكل دائم متجهاً لهدف مفارقة الحياة على الإيمان. وأما خلاف ذلك، أي تأمل النجاة الأبدية فقط بالتلفظ اللساني بكلمة التوحيد دون عيش حياة عبودية تحت مظلة ومضمون كلمة التوحيد بمثابة السعي خلف السراب المخادع.
فقد سئل الإمام الزهري الذي يُعد من كبار علماء التابعين عن الحديث النبوي:
“من قال: “لا إله إلا الله دخل الجنة“. فقال الإمام:
– إنما كان هذا في أول الإسلام قبل نزول الفرائض، والأمر والنهي.[9]
أي من الضروري بعد اكتمال الدين مراعاة كافة الأحكام الواردة في الكتاب والسنة، وعيش حياة تحت مظلة كلمة التوحيد. وذلك لأن الله تبارك وتعالى قد بين في كتابه العزيز عدم إمكانية ضمان الخلاص الأبدي بمجرد النطق اللفظي بكلمة التوحيد دون تطبيق مضمونها ومقتضياتها على أرض الواقع في الحياة، فقال:
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [10]
ومن جانب آخر؛ يُروى بأن هذه الآية الكريمة قد نزلت بحق بعض الصحابة الكرام الذين تعرضوا لمختلف أنواع الظلم والعذاب والاضطهاد بسبب إيمانهم. وهذه الرواية تبين بشكل واضح بأن للإيمان الحقيقي ثمن يتطلب أداؤه. ولأجل ذلك فإن القرآن الكريم يخبرنا بقصة سحرة فرعون الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل إنقاذ إيمانهم، وبقصة أصحاب الأخدود الذين ألقي بهم في خنادق النار لعدم تنازلهم عن عقيدتهم، وبقصة حبيب النجار الذي استشهد رجماً بالحجارة في سبيل دفاعه عن عقيدة التوحيد.
ومن جهة أخرى؛ فإن قيمة وعظمة كلمة التوحيد في الميزان الإلهي سوف تكون بحسب الدرجة الروحية لمن نطق بها كما قال الإمام الرباني رحمه الله. وبناءً على ذلك ينبغي التعمق القلبي في معنى كلمة التوحيد وحقيقتها. حيث قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي يُعد أحد الصحابة الكرام الذين قطعوا مراحل روحية متقدمة في ظل التربية النبوية معبراً عن هذه الحالة: “لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل”.[11]
يقول الإمام الرباني رحمه الله:
“إن المقصود من ذكر “لا إله إلا الله” هو القضاء على الآلهة الباطلة الآفاقية والأنفسية، أي الخارجية والداخلية. فأما الآلهة الآفاقية فهي آلهة الكافرين والمشركين؛ مثل اللات، والعزى. وأما الآلهة الأنفسية فهي رغبات وشهوات النفس. حيث يقول الله عز وجل:
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [12]
التكاليف الشرعية، والإيمان الذي هو عبارة عن التصديق القلبي كافيان للقضاء على الآلهة الآفاقية. وأما بالنسبة للقضاء على الآلهة الباطلة الأنفسية فيجب تزكية النفس الأمارة.
وهذا الأمر غاية ونتيجة الدخول إلى سبيل أهل الله وسلوكه. فالوصول إلى الإيمان الحقيقي مرتبط بالقضاء على هذين الصنفين من الآلهة الباطلة…”.[13]
إن ذكر كلمة التوحيد يبدأ بلفظ “لا إله”، أي برد ونبذ كافة الآلهة الباطلة. الآلهة الباطلة والأصنام التي في العالم الخارجي بينة وظاهرة للعيان، ولإثبات الإيمان شرعاً يكفي رد سائر آلهة الكافرين، والمشركين، أو الوثنيين الباطلة، والإيمان بالله تعالى إلهاً واحداً. إلا أن هذا الأمر ربما هو الجزء السهل نسبياً لمسألة الوصول إلى حقيقة التوحيد. وأما القسم الأصعب والأهم فهو تحطيم الأصنام والأوثان الكامنة في العالم الداخلي للإنسان، والتمكن من التسليم لله تعالى وحده.
إذ أن هذا هو المعنى والحكمة من قول النبي عليه الصلاة والسلام لما عاد من غزوة تبوك التي كانت بالغة الصعوبة والمشقة على المؤمنين لأصحابه:
“… رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا : وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه“.[14]
ولذلك فإن تزكية النفس وتنقية وتطهير العالم الداخلي من الأصنام الباطنية مسألة شاقة، إلا أنها مهمة أولى وألزم.
وجاء في القرآن الكريم:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [15]
وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما كلمة “تزكى” الواردة في الآية الكريمة بقول الإنسان “لا إله إلا الله”.[16] لأن الخطوة الأولى على طريق التزكية هي تطهير القلب من الكفر والشرك.
إذاً؛ فما هي الأصنام التي يجب إزالتها من العالم الداخلي للعبد؟
- هي في بعض الأحيان الرغبات والشهوات النفسية التي تحتل مكانة أكثر أهمية لدى العبد من تنفيذ أوامر الله تعالى.
- وفي بعض الأحيان تكون جملة من المنافع الفانية التي يجب على العبد تركها في سبيل الله تعالى، ولكنه لا يتركها. وتفضيل الدنيا على الآخرة عندما تناقض إحداهما الأخرى.
- وأحياناً تكون مقاماً – مكانة تبعد العبد عن ربه.
- وتكون أحياناً شهرة وثروة تنسي العبد خالقه عز وجل.
- وأحياناً تكون الشهوة.
لقد أضفى الله سبحانه وتعالى على المحرمات والخطايا قوة جذب كبيرة بمقتضى سر الامتحان الإلهي. وإن وقاية النفس من هذه الجاذبية تتطلب قوة وصلابة إيمانية كبيرة.
جاء مشركو مكة ذات مرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وطلبوا منه التخلي عن محاربة أصنامهم مقابل العرض الآتي الذي عرضوه عليه:
(إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً! وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا! حتى لا نقطع أمراً دونك! وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا! وإن كنت تريد النساء زوجناك أجمل نساء العرب!
فكان رد النبي عليه الصلاة والسلام:
“ما بي ما تقولون؛ ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً (بالجنة إن قبلتم) ونذيراً (من النار إن أبيتم)، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم“.) [17]
لا شك أن مثل هذه العروض والإغراءات لم تؤثر ولو بقدر مثقال ذرة على النبي عليه الصلاة والسلام المرسل بمهمة القضاء على الأصنام الظاهرية، وكذلك بمهمة تطهير النفوس من الأصنام الباطنية. إلا أن التاريخ البشري يمتلئ بعدد لا يُحصى من المخدوعين وأصحاب الإرادات الضعيفة الذين لبوا نداء الدنيا لأنفسهم فنسوا الآخرة، وانغمسوا في الأهواء والشهوات والرغبات الفانية.
فقد جاء في الحديث النبوي الشريف:
“إني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا وتنافسوها“.[18]
والحاصل؛ إن أكثر إله باطل عكف الإنسان على تعبده تاركاً مولاه وخالقه عز وجل هو “نفسه”. هو القرارات الكيفية التي تمنعه من تنفيذ أوامر الله تعالى، هو قوله “برأيي” الذي يخالف ويناقض الحقائق الإلهية، هو الآراء الشخصية الارتجالية التي لا توافق أحكام الإسلام، هو أداء العبادات ليس بنية تنفيذ أوامر الله تعالى، وإنما بنية ممزوجة بأهداف ومقاصد دنيوية دنيئة، مثل اكتساب مكانة بين الناس الفانين، أو عدم فقدان أهميته ومكانته بينهم، أي أداء العبادة رياءً، لا إرضاءً لربه عز وجل.
فقد جاء في القرآن الكريم:
{أَرَأَيْتَ (أيها النبي) مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ؟ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟} [19]
وجاء في حديث نبوي شريف:
“ما تحت ظل السماء من إله يُعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع“.[20]
وبناءً على ما تقدم؛ فإن تزكية النفس بالتربية الروحية، وتنقيتها من الشوائب والأدران تُعد وظيفة في غاية الأهمية والضرورة. وذلك لأنه لا يمكن الوصول إلى حقيقة كلمة التوحيد إلا من خلال ذلك.)
نسأل المولى عز وجل أن يوفقنا جميعاً إلى ذكر كلمة التوحيد حق ذكرها. وأن ييسر لنا الوقوف على حقائق وحكم التوحيد، ويجعل حياتنا كلها بسائر أحوالنا وأفعالنا وأقوالنا وفقاً لمعايير وموازين التوحيد، وأن يرزقنا سلامة الإيمان وحسن الخاتمة عند الممات.
آمين!..
[1] الإمام الرباني: المكتوبات، 2، 591 – 594، رقم 37.
[2] الأنبياء: 87 – 88.
[3] الإمام الرباني: المكتوبات، 2، 591 – 594، رقم 37.
[4] أحمد: مسند، 4، 124.
[5] انظر. النمل: 17 – 18.
[6] الحاكم: المستدرك، 1، 503.
[7] المناوي: فيض القدير، 5، 663.
[8] الرشحات: ص 130.
[9] الترمذي: الإيمان، 17 / 2638.
[10] العنكبوت: 2.
[11] انظر. البخاري: المناقب، 25.
[12] الجاثية: 23.
[13] المعارف اللدنية: ص 69، قسم 24.
[14] انظر. البيهقي: الزهد الكبير، ص 198 / 374؛ السيوطي: الجامع، 2، 73 / 6107.
[15] الأعلى: 14 – 15.
[16] القرطبي: الجامع، 20، 22..
[17] ابن اسحاق: السيرة، ص 179؛ ابن هشام: 1، 295 – 296؛ ابن كثير: البداية، 3، 99 – 100.
[18] البخاري: المغازي، 17؛ مسلم: الفضائل، 31.
[19] الفرقان: 43.
[20] الهيثمي: 1، 188.