يقول الإمام الرباني رحمه الله:
“إن الوقت وقت الذكر، واجعلوا الأهواء النفسانية داخلة تحت “لا” من كلمة التوحيد حتى تكون منتفية بالتمام، ولا يبقى مراد ومقصود (نفساني) في الصدر…
وينبغي أن لا يكون في جانب الإثبات من الكلمة الطيبة، أي “إلا الله” من كلمة التوحيد شيءٌ غير غيب الهوية “الله عز وجل” الذي هو وراء المعلومات والمتخيلات التي هي الدار والقصر والبئر والبستان والكتب وأشياء أخرى سهلة. ينبغي أن لا يكون شيءٌ مزاحماً لوقتكم!”.[1]
(ينبغي إزالة ومحو كافة الأصنام والأوثان، والأهواء الفانية، والنفسانية من القلب بعبارة “لا” التي في كلمة التوحيد، وإحلال محبة الله تعالى وحده وتثبيتها في القلب بعبارة “إلا”. فيجب أن لا يوجد في القلب أي محبة تتناقض مع محبة الحق عز وجل أبداً. وخاصة ينبغي إزاحة الأنانية والأغراض والأهواء الدنيوية.
فقد جاء في الحديث النبوي الشريف:
“لا يزال قول لا إله إلا الله يرفع سخط الله عن العباد حتى إذا نزلوا بالمنزل الذي لا يبالون ما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم، فقالوا عند ذلك “لا إله إلا الله” قال الله: كذبتم“.[2]
لأن عقيدة التوحيد لا تحتمل أن يكون هناك شريك فيها أبداً وبأي شكل من الأشكال. أي كما أن المسلم الذي يُعد من أهل التوحيد يرد سائر الآلهة الباطلة التي في العالم الخارجي ويؤمن بربه عز وجل وحده كإله واحد لا شريك له، فينبغي عليه كذلك أن يراعي معنى التوحيد وروحها في الذكر الذي هو أخص لقاء له مع الله تعالى وأثناء سائر العبادات الأخرى. يجب أن لا يدخل الأفكار الفانية والنفسانية بينه وبين الله تعالى، وأن يتجنب بحرص شديد كل الأحوال والأفعال التي تمس وتخدش جوهر التوحيد.
وورد في حديث نبوي آخر:
“إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله ، أما إني لست أقول يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ، ولكن أعمالاً لغير الله ، وشهوة خفية“.[3]
لأن الإخلاص، أي أداء العبادات لله تعالى وحده لا يمكن أن يتحقق بالكامل إلا عن طريق الوصول إلى حقيقة التوحيد، فقد أصبح هذا الأمر إحدى أكثر المسائل التي توقف عليها أهل الله. حيث أن المرحوم نجيب فاضل يتناول هذا الأمر في أحد أشعاره التي يصور فيها “جنود القلب” من أهل الحق، فيقول:
إذا ما تسرب إلى عباداتهم شيءٌ من حظوظ النفس، فإنهم يقضونها ويعيدونها مراراً وتكراراً.
وإذا ما انحرفت أعينهم لحظة نحو الأغيار، فإن جزاءها يكون الدموع مدى العمر.
ليس همهم الجنة ولا النار، وإنما غايتهم هي رضا الله وحده.
إذاً؛ إن جوهر كلمة التوحيد هو تطهير القلب وتنقيته من من كل الأغيار، أي من كل ما سوى الله عز وجل. وذلك لأنه بعد تخصيص القلب لله تعالى وحده يبدأ بتلقي الأحاسيس من إقليم معرفة الله، ويصبح نيل الألطاف الإلهية سهلاً وميسراً.
فكما أن حزم أشعة الشمس تتجمع وتتركز في نقطة واحدة عندما نضع أمامها عدسة المكبر، ثم تحرق كل ما يصادفها من الأعشاب والحطب وتحولها إلى رماد، فكذلك ينبغي على كل مؤمن أن يكثف كلمة التوحيد في قلبه ويسلطها على الرغبات والشهوات النفسية المتجمعة فيه ليطهره وينقيه منها.
يتبين من خلال عبارات أسعد أربيلي الآتية لزوم بذل الجهد والسعي للعيش وفق ما ينسجم مع كلمة التوحيد وذلك في الاعتقاد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، وباختصار في كل حياة العبودية، حيث يقول:
“إني ما زلت أحاول إكمال إيمان أخيكم العاجز هذا. وأجهد لذكر كلمة التوحيد بالحال واللسان (بالبدن ولسان القلب)، لأنه إن وُجد في القلب مطلوب – صنم بلسان الصوفي – ما عدا الحق عز وجل فمن الصعوبة بمكان نطق “لا إله إلا الله” (بكيفية تمكن الوصول إلى حقيقة كلمة التوحيد). وحتى إن تكرر ذكر هذه الكلمة في الظاهر، فهناك شبهة في أن تصبح وسيلة للوصل وجديرة بالقبول معنى وروحاً”.[4]
يقول الإمام الرباني رحمه الله:
“الفرصة قليلة، وصرفها إلى أهم المهام ضروري، وهو صحبة أرباب الجمعية (صحبة الصالحين).
لا تعدل بالصحبة شيئاً أياً ما كان. ألا ترى أن أصحاب رسول اللهعليه الصلاة والسلام فُضلوا بالصحبة على من عداهم سوى الأنبياء عليهم السلام”.[5]
(إن الشرط الأول للاستفادة من “الصحبة” التي هي إحدى أهم وسائل التربية الروحية هو إدراك أهميتها وقيمتها.
ينبغي أن نعلم في البدء أن الصحبة هي منهج نبوي في التربية. فقد ربى النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة الكرام وأنشأهم خير نشأة بالصحبة.
فتفرع كلمتي “الصحابي” و “الصحبة” من الجذر ذاته دليل واضح وجلي على أهمية هذا الأمر. أي أن ما جعل الصحابي صحابياً هو نيله نصيباً من فيوض وروحانية الصحبة مع النبي عليه الصلاة والسلام بإيمان صادق وخالص.
ولهذا فإن الصحبة تُعد سنة مؤكدة. أي هي ليست فرضاً ولا واجباً، ولكنها سنة قوية واظب عليها النبي عليه الصلاة والسلام باستمرار ونادراً ما تركها حتى لا تتحول إلى أمر قطعي.
إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعط كل صحابي كتاباً أو دفتراً، وإنما أولى أهمية أكبر للصحبة والمعية القلبية.
وذلك لأن الصحبة هي تعليم وجهاً لوجه. لقد كان في هذا التعليم إلى جانب أقوال النبي عليه الصلاة والسلام، وأفعاله، وتقريره تأثير كبير ومهم لأحواله والذي ينعكس إلى الخارج من محياه المتبسم ونظراته المنيرة وكان يشعر بهذا التأثير العجيب الذي يصعب وصفه بالكلام كل من حوله. وكما كان الصحابة الكرام يستفيدون من أقوال النبي عليه الصلاة والسلام المباركة ضمن إطار قرب الصحبة، فإنهم كانوا يستفيدون من أحواله هذه أيضاً وكل بحسب استعداده وقدراته الروحية. ونتيجة لذلك فقد نال الصحابة الكرام باتجاه التحلي بحال النبي عليه الصلاة والسلام حظوظاً بدرجات متفاوتة حسب ملكاتهم واستعدادهم، وملؤوا قلوبهم بروحانية رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وبسبب هذه الفضيلة التي نتجت عن نيل صحبة النبي عليه الصلاة والسلام فلا يمكن أن يرتقي أحد من الصالحين الذين جاؤوا بعد الصحابة – حتى وإن زادت عباداتهم عليهم – أن يرتقي إلى مرتبة الصحابة.)
يقول الإمام الرباني رحمه الله:
“إن مدار الإفادة والاستفادة في هذه الطريقة على الصحبة، ولا يكتفي فيها بالقول والكتابة”.[6]
(في المصاحبات المعنوية والروحية، وكذلك في المعية الكلامية والعلمية يحدث تدفق للفيوض والروحانية من القلوب إلى القلوب. وبالأصل؛ فإن هذا الأمر هو أهم فائدة لمجالس الصحبة. أي سريان الأحاسيس الإيجابية من الحاضرين في حلقات الصحبة إلى بعضهم البعض.
لأنه يتم في المصاحبات الروحية تأسيس خط تبادل روحي بين القلوب، مثل مبدأ الأنابيب الموحدة[7] في الفيزياء. وتسري الأحاسيس من هذا الخط، ومع مرور الزمن تبدأ كيفيات القلوب بالتشابه فيما بينها، فتتطابق الأذواق، والمشاعر، والآراء والأفكار.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [8]
وذلك لأن اكتساب الصدق، أي التحول إلى إنسان صادق نتيجة طبيعية وبديهية لهذه المعية القلبية.
وأساساً هناك ميل إلى التوحد في الكون كله. وهذه خاصية متولدة عن وحدة أصل الوجود. فمثلاً؛ إذا أريقت قارورة عطر في إحدى زوايا الغرفة فإن رائحة ذلك العطر يستمر بالسريان من ذرات الهواء الممتص لها إلى ذراته الأخرى حتى يتساوى توزع الرائحة بين كل ذرات هواء تلك الغرفة.
إن هذه الخاصية المنطبقة على كافة الأضداد مثل الحر والبرد، والنور والظلام، تُعد مبدأ سارياً على عالم القلب أيضاً ما عدا ما هو مخصوص بعالم المادة فقط.
يقول الشيخ النقشبندي محمد الخادمي الذي يُعد من كبار علماء الدولة العثمانية:
“الأحوال سارية، حيث أن أحوال الذي يحضرون جلسات الألفة والصحبة تسري من أحدهم إلى الآخر… فطبائع الناس ميالة إلى التشبه ببعضهم، ومتابعة وتقليد الآخرين. والطبع يتطبع بطباع الآخرين دون أن يلاحظ صاحبه ذلك…”.[9]
وقد قيل في المثل الشعبي أيضاً: “هناك طريق من القلب إلى القلب”. إلا أن الواسطة الأهم التي تزيد السراية الكائنة بين القلوب هي المحبة. وعلى ذلك ينبغي في المصاحبات الروحية إبقاء القلب في حالة يقظة وتلقٍ دائم من خلال إحاطته بمشاعر المحبة، والاحترام، والأدب. بمعنى؛ لا تكفي المعية المادية في الصحبة، وإنما ينبغي أن تكون هناك معية قلبية أيضاً.
وقد كانت مجالس صحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام تجري في مثل هذا الجو القلبي. فعندما كان النبي عليه الصلاة والسلام يتحدث بحديث كان الصحابة الكرام يصغون إليه بكليتهم وكأنهم لا يريدون أن تفوتهم ولو كلمة واحدة. ويعبرون عن حالة الأدب والسكينة التي كانت تهيمن عليهم في مجالس رسول الله عليه الصلاة والسلام بقولهم:
“كأن على رؤوسنا الطير”.[10]
وتُعد الحادثة الآتية مثالاً بارزاً ومعبراً عن كيفية استفادة الصحابة الكرام من مجالس صحبة النبي عليه الصلاة والسلام:
كان ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام حيث كان قد أعتقه من الرق. ولم يكن يمتلك من الدنيا شيئاً، حتى ربما خيمة واحدة. إلا أنه كان يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويحضر مجالسه، ويستمع إلى أحاديثه بكل وجد وشوق، وكان كأنه يتقلب من حال إلى حال باللذة المعنوية والروحية التي ينالها من صحبة النبي عليه الصلاة والسلام.
وذات يوم كان ثوبان رضي الله عنه في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ ينظر إلى حبيب الله بتأمل يفوق الخيال، وقد بدت عليه علامات التأثر والحزن، وتغير لونه، حتى أن حالته المهمومة والمحزونة لفتت انتباه النبي عليه الصلاة والسلام المبعوث رحمة للعالمين. فسأله بإشفاق ورحمة:
– ما بك يا ثوبان، وما غيَّر لونك؟
فقال ثوبان رضي الله عنه:
– يا رسول الله! إنك أحب إلي من ولدي، ومن نفسي، ومن الدنيا كلها. وما بي مرض ولا وجع، غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أني لا أراك إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك، لأنك ترفَع مع النبيين، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا!
فسكت فخر الكائنات عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم لحظات، ثم بشره بقوله:
“المرء مع من أحب“.[11]
ونزل في ذلك قول الله تبارك وتعالى:
{وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [12]
إذاً؛ كان كل هم الصحابة الكرام وسعيهم وجهدهم موجهاً نحو استدامة صحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام في الآخرة، هذه الصحبة التي نالوا حظاً منها في الحياة الدنيا. ولذلك فقد عملوا على الإبقاء على صحبتهم مع رسول الله عليه الصلاة والسلام بأعلى مستوياتها ومراتبها بصورة دائمة. فعاشوا معه بصحبة الحال، وصحبة الفعل، وصحبة المشاعر، وصحبة الفكر. وشعروا بلذة ومتعة لا توصف في طاعتهم لله ولرسوله، وكانوا ممتنين للتضحية بكل شيءٍ في سبيل الله تعالى. لقد أقيمت كافة أساسات هذا الانكشاف الروحي في حلقات الصحبة.
ولذلك ينبغي الدخول إلى مجالس الصحبة الروحية بوجد وشوق العبادة، وينبغي إصغاء السمع إلى ما يقال فيها ببالغ الانتباه والأدب حتى وإن كان الموضوع المطروح معلوماً من قبل. وذلك لأن المصاحبات الروحية تذكير لمن يعلم، وتعليم لمن لا يعلم، والأهم من كل ذلك هي فرصة ثمينة للاستفادة من الفيوض القلبية لمصاحبة الصادقين. ونورد فيما يأتي جملة من الحوادث التي تبين هذه الحقيقة:
كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله الذي يُعد من كبار الأئمة المجتهدين يكثر من زيارة بشر الحافي، ويقول له:
– يا بشر! حدثني عن ربي.
حتى كان يقول له تلامذته:
– أنت عالم في الحديث والفقه، ولك اجتهاد في الدين، وفي أنواع العلوم، بل لا نرى لك نظيراً في العلم في عصرك، وتتردد إلى مجنون هائم؟ هذا لا يليق بجنابك!
فكان الإمام يقول لهم:
– في جميع ما عددتم أنا أعلم منه، لكن هو أعرف مني بالله تعالى.[13]
وقد كان يحضر مجالس الشيخ سامي أفندي رحمه الله كبار الشخصيات من أهل العلم والفضل في عصره. وقد كان هؤلاء الشخصيات الذين ربما تفوقوا على الشيخ في العلوم الظاهرية يجلسون في حضرته بأدب، وتواضع، وسكينة كبيرة ملتزمين صمتاً مطبقاً، ويتذوقون ضمن أجواء الصحبة الروحية والقلبية ما لم يستطيعوا العثور عليه في مناظراتهم، وبين سطور كتبهم.
ومن هذا المنطلق فإن كل مؤمن – سواء أكان عالماً أو جاهلاً – بحاجة إلى الفيوضات القلبية للمصاحبات الروحية على مدى سنين عمره. ولا تنتهي هذه الحاجة في أي وقت من الأوقات أبداً. وإن الحادثة الآتية تبين هذه الحقيقة بصورة جلية:
كان أحد تلامذة الشيخ أبي الحسن الشاذلي رحمه الله قد ترك مجالسه. وذات يوم التقى الشيخ بذاك التلميذ، فسأله:
– لم فارقتنا، وتركت مجالسنا؟
فأجابه التلميذ:
– يكفيني ما تلقيته وتعلمته منك من العلوم والمعارف حتى الآن، فلم يعد لي حاجة عندكم.
أحزن هذا الرد الشيخ أبا الحسن، فقال له:
– انظر يا بني! لو أن الاكتفاء بالفيوض والعلوم المأخوذة ضمن مدة محددة صحيحاً للزم أبا بكر الصديق رضي الله عنه الاكتفاء بالفيوض والعلوم التي تلقاها من النبي عليه الصلاة والسلام. (لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد نقل كل ما في قلبه إلى قلب أبي بكر رضي الله عنه)، إلا أن أبا بكر رضي الله عنه لم يستغن يوماً عن صحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم يفارق النبي عليه الصلاة والسلام حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى. (وحتى بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام كان يشتاق طيلة حياته إلى الدفن بجانبه).
لم يكن الصحابة الكرام يودون إمضاء وقت طويل بعيدين عن رؤية رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعن نظراته، ومحرومين من سماع وصاياه ونصائحه الفياضة بالحكم، وكانوا ينبهون أبنائهم أيضاً إلى هذا الأمر. فيا ترى أين نحن وأبناؤنا من هذا الإحساس السامي للصحابة الكرام؟ وما مدى المساعي والجهود التي نبذلها في سبيل حضور مجالس العارفين والعلماء الذين يُعدون بمثابة ورثة رسول الله عليه الصلاة والسلام، والاستفادة منها؟
يقول إسماعيل حقي البورسوي:
“وإن كانت فرصة الحضور في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وصحبته قد فاتت، فإن إمكانية الحضور “الصحبة” مع سنته الشريفة ومحبي سنته ما زالت قائمة. ولسوف تستمر إلى يوم القيامة. فالحضور في مجالس الكبار، والقرب من المتقين فياض بالروحانية”.[14]
وبالتالي فإن المصاحبات الروحية التي يراعى آدابها تعد انعكاساً عن مجالس صحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام. فكل جلسة محفوفة بالفيوض والروحانية هي بالأساس نسمة رحمة قد وصلت إلى يومنا هذا من مجالس صحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونشوة عصر السعادة. تماماً كما يتم إيقاد الشمعات بشمعة أخرى، إذ إن الشعلة التي توقد الشمعات وتضيء بواسطتها ما حولها هي الشعلة ذاتها…. وإن المؤمن إن استنار بآخر هذه الشمعات، فإنه يصبح وكأنه قد اقتبس النور من المصدر الأول.
ولهذا فإن الذين يحضرون مجالس الصحبة الروحية ينبغي أن يلتزموا أدباً وتعظيماً كبيراً كما لو أنهم يحضرون إحدى حلقات صحبة النبي عليه الصلاة والسلام لكي يكون هناك تدفق للفيوض والروحانيات إلى قلوبهم من ذلك المنبع…)
يقول الإمام الرباني رحمه الله:
“من المعلوم أن هذه الدنيا هي دار عمل، وليست دار راحة وتوقف. فينبغي أن توجهوا كافة جهودكم نحو العمل. ودعوا المتعة والراحة والتسلية جانباً!.. وليكن الكسل والتهاون من نصيب الأعداء! ينبغي الإقدام على الأعمال الصالحة، ثم الإقدام عليها، ثم الإقدام عليها…”.[15]
(ينبغي على المؤمن أن يستغل رأسمال الوقت أحسن استغلال وهو مدرك تماماً فناء الدنيا، وأبدية الآخرة. وينبغي أن لا ينسى أبداً بأن الدنيا بمثابة مزرعة تحتاج إلى كد وعمل ونشاط كبير، وأن محصول هذه المزرعة الذي إما يكون سيئاً أو جيداً سوف يحصده في الآخرة. وأساساً؛ فإن الإنسان الذي يدرك هذه الحقيقة لا يمكن أن يضيع حتى دقيقة واحدة بالكسل والتهاون.
إلا أنه على الرغم من معرفة الناس لكل هذه الحقائق، فإن غالبيتهم لا يفلحون في النجاة من الضعف في تنفيذ مقتضياتها. ولهذا فإن المعرفة وحدها غير كافية، وإنما ينبغي العمل بإخلاص.
ذات يوم سئل إبراهيم بن أدهم رحمه الله:
ما لنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟
فقال لأنكم:
“عرفتم الله، ولم تؤدوا حقه!
زعمتم أنكم تحبون رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتركتم سنته!
قرأتم القرآن، فلم تعملوا به!
أكلتم نعم الله، ولم تؤدوا شكرها!
قلتم إن الشيطان عدو لكم، ولم تخالفوه!
قلتم إن الجنة حق، ولم تعملوا لها!
قلتم إن النار حق، ولم تهربوا منها!
قلتم إن الموت حق ،ولم تستعدوا له!
دفنتم موتاكم، ولم تعتبروا بهم!
فكيف يستجاب لكم؟! .[16]
إذاً؛ إن المعرفة وحدها غير كافية، وإنما يجب العمل بإخلاص… فانتظار نتيجة إيجابية دون بذل جهد، وتأمل الرحمة من غير تحمل المشاق، وتمني الوصول إلى النعمة دون السعي ومواجهة الصعاب ليس إلا كمن يأمل إشباع بطنه بطعام غيره، فهو أمل وانتظار عبثي لا طائل منه. فلا يمكن الوصول إلى المكافآت الأخروية للإيمان دون القيام بالتضحيات التي يستوجبها في الدنيا.
ولذلك ينبغي أن نسعى جاهدين إلى القيام بالأعمال الصالحة التي يوجبها الإيمان قبل نفاد وانقضاء نعمة العمر.
فيجب أن نقوم بتطبيق أو ببحث دائم وفي كل لحظة من لحظات عمرنا عن الأعمال الصالحة التي ستكون وسيلة لنيل رضا الله تعالى، وذلك بمقتضى الأمر الإلهي القائل:
{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [17]
نسأل الله تعالى أن ييسر لنا جميعاً قضاء عمرنا في رضاه، وأن يبشرنا بالسعادة الأبدية في آخر أنفاسنا، ويكرمنا بجوده ولطفه بحياة أخروية مطمئنة ومتوجة بوصله والنظر إلى جماله…
آمين!..
[1] الإمام الرباني: المكتوبات، 3، 169، رقم 2.
[2] البيهقي: شعب الإيمان، 13، 100/ 10015؛ الهيثمي: 7، 277.
[3] ابن ماجه: الزهد، 21.
[4] محمد أسعد الأربيلي: مكتوبات، ص، 63، رقم 35.
[5] الإمام الرباني: المكتوبات، 1، 428، رقم 120.
[6] الإمام الرباني: المكتوبات، 3، 396، رقم 69.
[7] مبدأ الأنابيب الموحدة: يُطلق على عدد من الأنابيب المختلفة عن بعضها والموحدة بين قواعدها من الأسفل الأنابيب الموحدة. حيث أن السائل المصبوب في أحد هذه الأنابيب الموحدة يتدفق إلى الأنابيب الأخرى، ويستمر هذا التدفق حتى يتساوى مستواه مع مستويات السائل في هذه الأنابيب.
[8] التوبة: 119.
[9] أبو سعيد محمد الخادمي: “رسالة النصائح والوصايا المباركة”، مجموعة الرسائل، ص 130 – 131، إسطنبول، المطبعة الأميرية.
[10] انظر. أبو داوود: السنة، 23 – 24 / 4753؛ ابن ماجه: الجنائز، 37؛ ابن سعد: 1، 424.
[11] البخاري: الأدب، 96..
[12] النساء: 69. انظر. الواقدي: ص 170.
[13] العطار: تذكرة الأولياء، ص 45، منشورات الأرقم، اسطنبول 1984.
[14] انظر: روح البيان، 7، 102.
[15] الإمام الرباني: المكاشفات الغيبية، قسم 29.
[16] العطار: تذكرة الأولياء، ص 40.
[17] الانشراح: 7 – 8.