تتفرّع كلمة “الإنسان” من الجذر عينه الذي تأتي منه كلمة “النسيان” وفق رأي البعض، والنسيان ضد الذكر، وتفيد معنى عدم تذكر شيء، حيث إنه يعد واحداً من أكبر خصائصه الضعيفة، وقبل كل شيء فالإنسان بحاجة إلى الذكر كي يتلافى أضرار النسيان الموجود في فطرته للمحافظة على حيوية شعور العبودية لله وعبادته على الدوام، إذ إن التكرار يقوي إدراك المرء للشيء المكرر وانصباغه به.
وترد كلمة الذكر في القرآن الكريم مائتين وخمسمائة مرة لأهميتها الخاصة في وظيفة العبودية، إذ إن القيام بالعبودية الحقة لله تعالى والوصول إلى معرفته تعالى يتحقق وفق مقام الذكر المحاز في القلب والتعمق المحسوس فيه، ولذا قال الله تعالى في كتابه الكريم:
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (الأعراف، 205)
{… ولَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}، أي أكبر عبادة (العنكبوت، 45)
ولما وصف الله تعالى أولي الألباب، أصحاب العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون، قال فيهم:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران، 191)
إن القلب -الذي بمثابة السلطان للجسد- حين يصل إلى النور الذي يميّز بين الحق والباطل من خلال إحيائه بذكر الله تعالى، يغدو بوصلة توجه الجسد إلى الحق والخير، ويرشد الأعضاء التي تحت إمرته، وبالنتيجة يوصلها إلى مقام عبودية يرضي الله تعالى.
يبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضيلة الذكر على النحو التالي:
«مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت».[1]
وانطلاقاً من هذا فبما أن الغافلين عن ذكر الله تعالى بعيدون عن حبه تعالى فهم ضمن وعيد إلهي، تقول الآيات الكريمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَاَ أوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون، 9)
{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الزمر، 22)
{وَمَنْ يَعْشُ عَن ذكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف، 36)
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى} (طه، 124)
ولقد حذرنا الله تعالى في كثير من مواضع القرآن من مخاطر الغفلة الجسيمة عن ذكر الله تعالى، وفي إحدى هذه المواضع يقول الله تعالى فيها:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد، 16)
نزلت هذه الآية لإيقاظ بعض الصحابة ممن ظهر فيهم التراجع والتهاون بعد الهجرة إلى المدينة، حيث حصلوا على نِعَمٍ وفيرة بعد أن عانوا في مكة المحن والضوائق.[2]
ثم إنه تعالى لما أرسل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون قال لهما:
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} (طه، 42).
على الرغم من كونهما نبيَّان. وبهذا قد أراد أن يكونا مثالاً وعبرة لنا بتحذيره حتى الأنبياء من الابتعاد عن الذكر.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام في وجوب لزوم ذكر الله تعالى ومراقبته في كل حال:
«لا تُكْثِرُوا الْكَلامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ تُقَسِّي الْقَلْبَ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي». [3]
ثم إن بلوغ الأفئدة المؤمنة مقام رضا الله تعالى لا يكون إلا بالتخلص من قساوة الغفلةواليقظة المعنوية الدائمة عبر “الذكر الدائم”، وهذا لا يتحقق بذكر مؤقت بمدة أو محدود بفترة، بل بحمل شعور ذكر الله تعالى في كل نَفَس طوال الحياة. وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها:
«كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكر الله على كل أحيانه».[4] .
يقول ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب، 41)، لم يفرض الله تعالى فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال العذر، أما الذكر فإنه لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله وأمرهم به. [5]
ويقول فخر الكائنات عليه الصلاة والسلام في صدد الحث على الذكر والتواجد في مجالسه:
«لَأن أَقْعُد مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ عزّ وجّل مِنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ، إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ».[6]
ومن ناحية أخرى فإن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من جملة الذكر، يقول الحق تعالى:
{إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب، 56)
يبين سيد الكون قيمة الصلاة عليه على الدوام على هذا النحو:
«من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا وفي رواية من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات[7]ويحط عنه عشر سيئات ورفعه بها عشر درجات».[8]
«أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة».[9]
ومن ضمن الذكر تلاوة القرآن الكريم والتفكر بآياته إلى جانب عبادات كثيرة كالصلاة والتسبيح والحمد والتكبير والتهليل والاستغفار.
صور الفضائل
«قال أحدهم دخلت على عائشة فسألتها: بم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفتتح إذا هب من الليل، فقالت: سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا هب من الليل كبر عشرا، وحمد الله عشرا، وقال: “سبحان الله وبحمده عشرا“، وقال: “سبحان الملك القدوس” عشرا، واستغفر الله عشرا، وهلل الله عشرا، ثم قال: “اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة” عشرا، ثم يفتتح الصلاة».[10]
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحبّذ من الذكر والدعاء ما قلّ لفظه وكثر معناه، فعن جويرية: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: “ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟” قالت: نعم، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
“لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته“».[11]
وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
«كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ، وبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ».[12]
يريد الحق تعالى أن يكون فؤاد عبده معه في كل لحظة، ويقول في الآية الكريمة:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران، 191)
أي يذكرون اللّه في كل وقت، وتفيد الأحاديث الشريفة الآنفة الذكر فضل التسبيح وعِظَمَ أجره، أي إنها من جهة للترغيب والتشويق، وفي هذا الصدد فيكون من الضروري عدم حصر ذكر الله تعالى بالتسبيح فقط وملازمة الذكر الدائم بمقتضى الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
قال عبد الله بن بسر رضي الله عنه: «جاء أعرابيان إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أحدهما: يا رسول الله أي الناس خير قال:
“من طال عمره وحسن عمله“
وقال الآخر: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فمرني بأمر أتثبت به فقال:
“لا يزال لسانك رطبا بذكر الله عزّ وجّل “» .[13]
وبناء على ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام فبقاء الإنسان في حالة دائمة من الذكر يحفظه من الغفلة والنسيان، ويساهم في زيادة طاعته وانقياده لأوامر الله تعالى ونواهيه، أي إن الذكر يعد وسيلة تقوية معنوية وباعثا روحيا يزيد من رغبة المؤمنين في تطبيق الأحكام الدينية.
وقد روي أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فقال: أي الجهاد أعظم أجراً؟
قال: “أَكْثَرُهُمْ لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْراً“
قال: فأي الصائمين أعظم أجراً؟
قال: “أَكْثَرُهُمْ لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْراً“
ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أَكْثَرُهُمْ لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْراً فقال أبو بكر لعمر v: يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَجَلْ».[14]
ما يعني أن تعويد النفس على الذكر في كل الأحوال، سيكون أكبر مكسب لنا.
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي مُنْطَلِقٌ فَعِظْنِي، قَالَ:
“يَا مُعَاذُ، اتَّقِ اللهَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاعْمَلْ بِقُوَّتِكَ لِلَّهِ مَا أَطَقْتَ، وَاذْكُرِ اللهَ عِنْدَ كُلِّ شَجَرَةٍ وَحَجَرٍ، وَإِنْ أَحْدَثْتَ ذَنْبًا فَأَحْدِثْ عِنْدَهُ تَوْبَةً إِنْ سِرًّا فَسِرًّا، وَإِنْ عَلانِيَةً فَعَلانِيَةٌ “.[15]
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يوماً لأصحابه مبيناً فضل مجالس الذكر:
«إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض الجنة قال حلق الذكر».[16]
روي عن عبد الله بن رواحة أنه كان إذا لقى رجلا من أصحابه قال له: «تعال نؤمن بربنا ساعة. وذات مرة سمعه أحد الصحابة يقول ذلك، فذهب إلى النبي، وقال: يا رسول الله، ألا ترى ابن رواحة، يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟! فقال له النبي:
“رحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة“».[17]
يقول عبد الله بن شداد: «أن نفرا من بنى عذرة ثلاثة أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا قال فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:من يكفنيهم؟ قال طلحة: أنا، قال: فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثا فخرج فيه أحدهم فاستشهد قال ثم بعث بعثا فخرج فيهم آخر فاستشهد قال ثم مات الثالث على فراشه قال طلحة فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة فرأيت الميت على فراشه امامهم ورأيت الذي استشهد أخيرا يليه ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم قال فدخلني من ذلك قال فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
“وما أنكرت من ذلك ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله“».[18]
خرج الشيخ أفتادة يوماً مع تلامذته في نزهة، فأحضر كل واحد منهم مجموعة أزهار امتثالاً لأوامره حين تجولهم في مكان جميل، إلا أن محمود أفندي القاضي القديم لبورصة والمعروف فيما بعد بعزيز محمود هدايي أتى وفي يده زهرة ذابلة ساقُها مكسور، فبعد أن قدم الطلاب ما في حوزتهم من الأزهار إلى أستاذهم وهم فرحون مسرورون، قام محمود أفندي بتقديم زهرته الذابلة والمكسورة إلى سيدنا أفتادة، فسأل -وسط دهشة المريدين-: يا بني، لم أحضرت زهرة ذابلة مكسور ساقها، في حين أن الجميع أحضر مجموعة من أجمل الورود؟ فأجاب محمود أفندي في غاية الأدب مطأطئاً رأسه: يا سيدي، كلما أقدمه إليك قليل، إلا أني كلما مددت يدي لقطف زهرة رأيتها تذكر ربها قائلة “الله” “الله”، فلم يرض قلبي أن أمنعها من هذا الذكر، فاضطررت حينئذ أن أقطف هذه الزهرة الذابلة العاجزة عن مواصلة ذكرها، إن كل ذرة في الكائنات مظاهر العبر، لكل ذي قلب رقيق. إذ إن جميع المخلوقات من ذوات الروح أوْلَا تذكر الله، تقول الآية الكريمة:
{سَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (الإسراء، 44)
وعليه فإن الإنسان ينبغي عليه إدراك الوظيفة المكلف بها، وعدم الغفلة عن ذكر ربه تعالى باتعاظه من هذه الصورة العظيمة للكائنات.
ثم إن إحدى أفضل أذكارنا الصلوات الشريفة، فكلما أكثر المسلم من الصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت الفائدة المعنوية التي يجنيها الذاكر بقدر ذلك، لأن شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم عظيم وعال عند ربه.
وقبل كل شيء فإن ربنا تعالى رفع نبيه وأجلّه برحمته ورضاه وقبوله من خلال صلاته عليه، وأمرنا أن نقوم بذلك أيضاً.
عن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: علّمنا رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم التّشهّد:
«التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».[19]
يقول أبي بن كعب رضي الله عنه:
«كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال:
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللهَ، اذْكُرُوا اللهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ“
قال أبي: قلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟
فَقَالَ: “مَا شِئْتَ“
قال: قلت: الربع؟
قَالَ: “مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ“
قلت: النصف؟
قَالَ: “مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ“
قال: قلت: فالثلثين؟
قَالَ: “مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ“
قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟
قَالَ: “إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ”».[20]
وفي رواية «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعد إذ دخل رجل فصلى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
“عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدْ اللهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ، ثُمَّ ادْعُهُ“
وفي رواية له (3477):
“إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ“.
قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم:
“أَيُّهَا الْمُصَلِّي، ادْعُ تُجَبْ“».[21]
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ:
«إِنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّكَ صلّى الله عليه وسلّم».[22]
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ:لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً ؟ إنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ: فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ فَقَالَ:
“قُولُوا: اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . اللهم بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ“.[23]
عن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
“إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ“.
قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت – يقولون: بليت -؟ قَالَ:
“إِنَّ اللهَ عزّ وجّل حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ“.[24]
وفي رواية تتعلق بفضيلة الصلاة والسلام الدائمة على النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة قال سيدنا علي رضي الله عنه:
“من صلى على النبي يوم الجمعة مائة مرة جاء يوم القيامة وعلى وجهه من النور نور يقول الناس أي شيء كان يعمل هذا؟”.[25]
وفي الحديث: «إن جبريل صعد قبلي العتبة الأولى فقال: يا محمد فقلت: لبيك وسعديك فقال: من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين فلما صعد العتبة الثانية فقال: يا محمد قلت: لبيك وسعديك قال: من أدرك شهر رمضان فصام نهاره وقام ليله ثم مات ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت آمين فلما صعد العتبة الثالثة قال: يا محمد قلت: لبيك وسعديك قال: من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت آمين».[26]
ويروى عن أحد الصالحين قوله: «كان لي جار، ينسخ الكتب التي صنفها العلماء، رأيته في المنام لما توفي، فسألته: كيف لاقاك الله تعالى؟ فأجاب: قد غفر لي، فسألته: بأي عمل غفر لك؟ فقال: كنت حين أكتب اسم النبي صلّى الله عليه وسلّم في الكتب أصلي عليه دائماً، ولذا فقد أكرمني الله تعالى بنِعَم لم ترها عيٌ ولم تسمع بها أذنٌ ولم تخطر على قلب أحدٍ».[27]
ويروى: «أن أحداً من الذين لم يتخلقوا بخلق النبي عليه الصلاة والسلام رأى سيد الكون في منامه ذات ليلة، فلم يكن يلتفت إليه ولا يظهر له أي اهتمام، فسأله وهو حزين: يا رسول الله أمستاء مني؟ أجابه: لا، فسأله مستغربا: إذاً لم لا تبدي أي اهتمام بي؟، فقال: لا أعرفك، فسأله: كيف ذلك يا رسول الله؟ أنا من أمتك، وقد أخبرنا العلماء أنك تعرف أمتك كما تعرف الأمُّ أولادها، فأجابه: صدقت، إلا أني لا أرى فيك علامة من أخلاقي الحسنة، ولم تصلني منك صلاة علي، ولتعلم أني إنما أعرف من أمتي بقدر تخلقه بأخلاقي، فاستيقظ ذلك المؤمن من نومه والحزن يلفه، ثم تاب عما كان عليه وتجمل بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام الحميدة، وبعد فترة رأى النبيَّ عليه الصلاة والسلام في منامه مجدداً وقال له: أنا الآن أعرفك وسأشفع لك».
وخلاصة القول فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
«يحشر المرء مع من أحب».[28]
واتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم في أحوالنا وأفعالنا شرط وفق قانون «المحب يحب كل ما يتعلق بحبيبه»، ومثل هذا العشق والحب والاتباع يكون بحيث يكوِّن عَظْمَ العجز للحب الإلهي، وكل حب غير هذا غير معتبر في طريق القرآن والسنة، فالطريق الوحيدة التي يمكن الوصول منها إلى الحق تعالى «طريق الوصول» مرهونة بحب رسوله عليه الصلاة والسلام.
ثم إن ذكر الله تعالى والصلوات الشريفة غذاء وجودنا المعنوي، وضمان سعادتنا الأبدية، إذ نرتقي في عالمنا القلبي والروحي إلى الكمال بالذكر، ولهذا فقد قال الله تعالى:
{ … أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد، 28)
وأما الطريق إلى العبودية الحقَّة فتمر من الذكر الدائم، فحينها فقط تكتسب حياتنا لذة وحلاوة معنوية، أكرمنا الله جميعاً، آمين.
[1] البخاري، الدعوات، 66.
[2] انظر: السيوطي، اللباب، 2، 151 ـ 152.
[3] الترمذي، الزهد، 62/ 2411.
[4] مسلم، الحيض، 117.
[5] الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، بيروت 1995، 22، 22، القرطبي، 14، 197.
[6] أبو داوود، العلم، 13/ 3667.
[7] مسلم، الصلاة، 70.
[8] النسائي، السهو، 55.
[9] الترمذي، الوتر، 21/ 484.
[10] أبو داوود، الأدب، 101/ 5085.
[11] مسلم، الذكر، 79.
[12] البخاري، الدعوات، 65، الأيمان، 19، التوحيد، 58؛ مسلم، الذكر، 31.
[13] أحمد، 4، 188.
[14] أحمد، 3، 438؛ الهيثمي، 5، 74.
[15] الهيثمي، 5، 74.
[16] الترمذي، الدعوات، 82/ 3510.
[17] أحمد، 3، 265.
[18] أحمد، 1، 163.
[19] مسند ابن أبي شيبة، 205، 206.
[20] الترمذي، القيامة، 23/ 2457.
[21] الترمذي، الدعوات، 64/ 3476.
[22] الترمذي، الوتر، 21/ 486.
[23] البخاري، الدعوات، 32؛ الترمذي، الوتر، 20؛ ابن ماجة، الإقامة، 25.
[24] أبو داوود، الصلاة 201/ 1047، الوتر 26.
[25] البيهقي، شعب الإيمان، 3، 212.
[26] الحاكم، 4، 170/ 7256؛ الترمذي، الدعوات، 100/ 3545.
[27] النبهاني، سعادة الدارين، ص: 101.
[28] البخاري، الأدب، 96.