إن القرآن الكريم هادٍ يرشد الخلق إلى طريق الحق، ورحمة للمؤمنين، وشفاء للصدور من أدوائها، وهو في الوقت نفسه مرشد إلهي يخرج الناس من الظلمات إلى النور ويأخذ بأيديهم إلى الله تعالى.
والقرآن الكريم مرسوم إلهي يأمرنا بحياة تتسق مع النظام الإلهي في الكون من خلال بيان الغاية من خلق الكائنات والحكمة من وجود الإنسان، يقول الحق تعالى:
{اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } (الزمر، 23)
فتوضح هذه الآية الكريمة العلاقة القلبية التي ينبغي علينا أن نكون عليها مع القرآن الكريم.
وعبارة مستوى التقوى تعني ثقافتنا القرآنية، والتي تظهر من خلال أخلاق القرآن كالإخلاص في العبادات وحسن الخلق والتعمق الروحي.
ثم إن القرآن الكريم هو الحبل المتين الذي مده الله تعالى إلى عباده الراغبين في النجاة من العذاب الأبدي، والحصول على رضا الله، فمن تمسك به ينجو ويسمو ويحصل على العز، ومن تخلى عنه يذل ويخزى وينأى عن الطريق السوي.
والقرآن الكريم مائدة ضيافة أعدها الله تعالى لإكرام عباده بها، فالمنضمين إلى هذه الضيافة بإجابة دعوة ربنا يتمتعون بنعم من الطمأنينة والسرور لا نهاية لها.
إن كلاً من كرامة الإنسان وشرفه الحقيقي يتناسب مع كونه عاملاً بأحكام القرآن وكاملاً في أخلاقه، أي إن الإنسان إنما يصل إلى العز والكرامة بحسب طاعته لأوامر الله تعالى والتفافه بفيض وروحانية القرآن، ثم إن الحق تعالى يأمرنا بأن نعي القرآن الكريم ونتفكر فيه، وأن ننظر إلى الحياة من حولنا وفق منطق القرآن الكريم، إذ علينا توجيه عقلنا الذي يعد وسيلة للسعادة والتعاسة بتوجيهات الوحي.
ولولا باب التفكر الذي فتحه القرآن الكريم لنا لحُرِمنا من الإدراك والتعبير عن الكثير من الحقائق، وفي هذا الصدد فإن تفعيل العقل في مضمون القرآن -الذي لا ينضب- يساهم في اغتنام كثير من أبواب الخير، فالاشتغال بالقرآن الكريم يحمل النفس على التخلق بمحاسن الأخلاق الإسلامية.
وقد ورد في الأحاديث التالية:
«إذا أحب أحدُكُمْ أنْ يُحدث ربهُ فلْيقْرأ الْقُرْآن».[1]
«اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه».[2]
«مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَلْبَسَ وَالِدَيْهِ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةَ، ضَوْءُهُ أحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ أَهْلِ الدُّنْيَا لَوْ كانَتْ فِيهِ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهِمَا؟».[3]
«مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ، يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ».[4]
«ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما، وإن البر ليذر على رأس العبد مادام في صلاته، وماتقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه».[5]
وقد بين أن من نسي السور التي يحفظها من القرآن الكريم لعدم اشتغاله بالقرآن يرتكب إثماً كبيراً. [6] وأما من كان قلبه خاوياً من القرآن فكالبيت الخرب. [7]
«إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ»
قَالُوا: يَارَسُولَ اللهِ فَمَا جَلَاؤُهَا؟
قَالَ: «تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ».[8]
وفي حديث آخر يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه:
«أَعْطُوا أَعْيُنَكُمْ حَظَّهَا مِنَ الْعِبَادَةِ»، قِيلَ: يَارَسُولَ اللهِ، وَمَاحَظُّهَا مِنَ الْعِبَادَةِ؟، قَالَ: «النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ، وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ، وَالاعْتِبَارُ عِنْدَ عَجَائِبِهِ».[9]
يقول عليه الصلاة والسلام أيضاً:
«إِنَّ للهِ عزّ وجّل أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ»
قِيلَ: مَنْ هُمْ يَارَسُولَ اللهِ؟،
قَالَ: «أَهْلُ الْقُرْآنِ، هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ».[10]
كان فخر الكائنات عليه الصلاة والسلام يفرح باجتماع الناس لقراءة القرآن الكريم وتدارسه والاجتهاد في فهمه، ولذا قال في مثل هؤلاء:
«… وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».[11]
إذن ينبغي علينا أن نزيد من علاقتنا القلبية مع القرآن الكريم لنيل السعادة في الدارين، كما أن علينا أن نكثر من تلاوته وفهمه وإدراكه بقلوبنا وأن نبذل الجهد في تطبيق أحكامه بإخلاص.
صور الفضائل
كان عليه الصلاة والسلام يتلو القرآن بكل جوارحه، ويتفكر ملياً في معانيه، ويحرص على تطبيق أوامره، فكأنه يقرأه بقلبه من خلال إحساسه به وإحيائه له، فإذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر تعوذ. [12]
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ القرآن كلَّ يوم دون انقطاع، فعن أوس بن حذيفة قال:
«كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم -أسلموا من ثقيف من بني مالك- فأنزلنا في قبة له، فكان يختلف إلينا بين بيوته وبين المسجد، فإذا صلى العشاء الآخرة انصرف إلينا، فلا يبرح يحدثنا ويشتكي قريشا ويشتكي أهل مكة، ثم يقول لا سواء كنا بمكة مستذلين أو مستضعفين فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب علينا ولنا، فمكث عنا ليلة لم يأتنا حتى طال ذلك علينا بعد العشاء، قال: قلنا: ما أمكثك عنا يا رسول الله! قال: طرأ عني حزب من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه، فسألنا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أصبحنا، قال: قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ست سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من ق حتى تختم».[13]
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «قال لي رسول اللّه: “اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ“، قَالَ: قُلْتُ: يَارَسُولَ اللهِ،أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! فَقَالَ: “إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي“، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا، رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْ تُرَأْسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ».[14].
يا لها من صورة رائعة تعرض لنا رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بنا نحن أمته.
«أبطأت السيدة عائشة رضي الله عنها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة بعد العشاء، ثم جاءت فقال: “أين كنت؟”، قلت: كنت أسمع قراءة رجل من أصحابك، لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد، قالت: فقام فقمت معه حتى استمع له ثم التفت إلي، فقال:
“هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا“».[15]
عن ابن عباس قال: «قال رجل: يارسول الله، أي العمل أحب إلى الله قال: “الحال المرتحل” قال: ما الحال المرتحل؟ قال: “الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حلا ارتحل“».[16]
وبناء على حكمة الوصول إلى الفضائل التي بينها هذا الحديث الشريف، فإن سورة الفاتحة والآيات الخمس الأولى من سورة البقرة تتلى في دعاء ختم القرآن بعد قراءة الإخلاص والمعوذتين السور الأخيرة في القرآن الكريم، وبهذا يكون قد تم تطبيق عمل صالح مقبول من قبل الله تعالى بافتتاح ختمة جديدة للقرآن الكريم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثا وهم ذو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كلَّ رجلٍ منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل منهم من أحدثهم سنا، فقال: “ما معك يا فلان؟” قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، قال: “أمعك سورة البقرة!” فقال: نعم، قال: “فاذهب فأنت أميرهم“، فقال رجل من أشرافهم: والله يا رسول الله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا خشية ألا أقوم بها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
“تعلموا القرآن واقرءوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جرابٍ محشوٍ مسكا يفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب وكئ على مسك“».[17]
يعرض لنا هذا الحديث الشريف في هذه الحادثة المكانة التي يبلغها المرء الذي يقرأ القرآن ويعمل بما فيه، وقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث ضرورة الاشتغال بالقرآن الكريم، ومسؤولية المؤمنين فيما يتعلق بتعلمه وتعليمه.
كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم إذا تعلموا من النبي عليه الصلاة والسلام عشر آيات لم ينتقلوا إلى غيرها حتى يحكموا ما فيها من الأوامر والنواهي والأحكام فهما وعملا، وبهذا أضحوا عالمين بالقرآن عاملين به.[18]
يروي ابن عمر أن أباه: «تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورا». [19]
وفي رواية: «أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها».[20]
ثم إن وفد ثقيف كانوا إذا أتوا رسول الله خلفوا عثمان بن أبي العاص في رحالهم فإذا رجعوا وسط النهار جاء هو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن العلم فاستقرأه القرآن فإن وجده نائما ذهب إلى أبي بكر الصديق، فلم يزل دأبه حتى فقه في الإسلام وأحبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حبا شديدا، ولما أراد وفد ثقيف العودة إلى ديارهم بعد إسلامهم، سألوا رسول الله أن يختار لهم إماماً من بينهم، فأمر عثمان بن أبي العاص أن يؤمهم، على الرغم من كونه أصغرهم سناً.[21]
لقد كانت آيات القرآن الكريم التي تنزل تباعا حسب أسباب الحوادث والمناسبات تغمر النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام بسرور لا يوصف، وتزيد من عزمهم، وتجدد الرابطة القلبية بينهم وبين ربهم تعالى، وقد كانوا منشغلون بالوحي إلى درجة أن انقطاعه بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام ضاعف حزنهم وأساهم، وفيما يلي حادثة نرى فيها المثال الأكثر لفتاً للانتباه في المحبة:
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لِعُمَرَ:
«انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟، مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ، قَالَ: فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، قَالَ: فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلا يَبْكِيَانِ مَعَهَا».[22]
كان صحابة النبي عليه الصلاة والسلام يقرؤون القرآن الكريم بكثرة، فلا يمر يوم عليهم من دون أن يقرؤوه وكانوا يبدؤون نهارهم به، ويكثرون من النظر فيه، ويوصون من يعاني من علة في بصره بالنظر إلى المصحف الشريف.[23]
وقد كان عثمان رضي الله عنه الذي أثني عليه بلقب جامع القرآن لخدمته العظيمة للقرآن من شدة اشتغاله بالقرآن الكريم قد أبلى مصحفين. [24]
وروي «أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ إِذْ جَالَتْ فَرَسُهُ، فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أُخْرَى، فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، قَالَ أُسَيْدٌ: فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأْسِي، فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا، قَالَ: فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَيْنَمَا أَنَا الْبَارِحَةَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ أَقْرَأُ فِي مِرْبَدِي، إِذْ جَالَتْ فَرَسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: “اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ” قَالَ: فَقَرَأْتُ ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: “اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ” قَالَ: فَقَرَأْتُ ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: “اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْر” قَالَ: فَانْصَرَفْتُ وَكَانَ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، خَشِيتُ أَنْ تَطَأَهُ، فَرَأَيْتُ مِثْلَ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ:
“تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ“».[25]
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بن كعب الذي كان شغوفا بالقران:
«إن الله أمرني أن أقرأ عليك: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب، قال: وسماني؟! قال: نعم، فبكى».[26]
كان أبي بن كعب رضي الله عنه على رأس من حفظ القرآن الكريم كاملا من الصحابة، فهو من الأربعة الذين نالوا حظاً وافراً إذ أُثْنِيَ عليهم بقول النبي عليه الصلاة والسلام: «تعلموا القرآن من أربع»، وهو أحسن الصحابة قراءة للقرآن الكريم وأكثرهم تلاوة له، [27] ولذلك نال أُبَيٌّ رضي الله عنه -باشتغاله بالقرآن الكريم على هذا النحو- كلَّ هذا اللطف والتشريف من الله تعالى، والتي لا ينالها إلا صفوة الخلق بعد الأنبياء، وغدا مظهراً للمديح والثناء الرباني، يا لها من عزة كبيرة وسعادة عظيمة! ..
كان الصحابة الكرام يحذون حذو النبي عليه الصلاة والسلام في الولاء للقرآن والحياة في ظلاله، من خلال ادراك مضامينه والعمل بأحكامه، فكانوا يحلقون بأفئدتهم في فضاء القرآن الكريموأسراره، يقول كنانة العدوي رحمه الله تعالى:
«كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأجناد أن ارفعوا إلى كل من حمل القرآن، حتى ألحقهم فى الشرف من العطاء وأرسلهم فى الآفاق، يعلمون الناس، فكتب إليه الأشعرى إنه بلغ من قبلى ممن حمل القرآن ثلثمائة وبضع رجال، فكتب عمر إليهم بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر إلى عبد الله بن قيس ومن معه من حملة القرآن [28]، سلام عليكم، أما بعد فإن هذا القرآن كائن لكم أجرا وكائن لكم شرفا وذخرا، فاتبعوه ولا يتبعنكم، فإنه من اتبعه القرآن زخ فى قفاه حتى يقذفه فى النار، ومن تبع القرآن ورد به القرآن جنات الفردوس، فليكونن لكم شافعا إن استطعتم، ولا يكونن بكم ماحلا فإنه من شفع له القرآن دخل الجنة، ومن محل به القرآن دخل النار واعلموا أن هذا القرآن ينابيع الهدى، وزهرة العلم، وهو أحدث الكتب عهدا بالرحمن به يفتح الله أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا …».[29]
كان أنس بن مالك رضي الله عنه خادم النبي عليه الصلاة والسلام المتطوع والعاقل، عندما يختم القرآن يجمع أهل بيته ويدعو معهم دعاء الختم. [30]
كان عمر بن الخطاب إذا رأى أبا موسى قال: «ذكرنا يا أبا موسى»، فيقرأ عنده القرآن، وقال عمر لأبي موسى: «شوقنا إلى ربنا»، فقرأ القرآن، فقالوا: الصلاة! فقال عمر: «أولسنا في صلاة!»، وقال عمر لأبي موسى: «ذكرنا ربنا»، فقرأ عليه أبوموسى، وكان حسن الصوت بالقرآن.[31]
«سئل نافع ما كان عمل ابن عمر؟ قال: كان عمله أن يتوضأ ما بين الوقت والآخر، ويفتح المصحف ويقرأ القرآن بين هذين الوقتين».[32]
ينال المشتغلون بالقرآن الكريم وحَمَلَته بحقٍّ الكثير من الفضل الإلهي في الدارين، وقد نُقل أنّ أحد أولياء الله تعالى وهو محمود سامي رمضان أوغلو قدس سِرُّه توفي في أضنة وهو معروف بلقب حامل القرآن، تم فتح قبره بعد ثلاثين سنة لضرورة فتح الطريق، فوُجِدَ جسدُه طرياً كما هو، لم يفسد وكفنه غاية في النظافة.
وفي الحديث الشريف: «إذا مات حامل القرآن، أوحى الله إلى الأرض أن لا تأكلي لحمه، قالت: إلهي كيف آكل لحمه وكلامك في جوفه؟…».[33]
وينبغي علينا أن نتنبه جيدا فيما للتصرف بأدب واحترام تام أمام القرآن الكريم الذي هو كلام الله تعالى، لأننا في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى فضيلة وروحانية القرآن الكريم.
فعلى سبيل المثال: ليس من الصواب قراءة القرآن الكريم وتعليمه من غير وضوء، إذ أن الآية الكريمة واضحة وقاطعة في هذا: {لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة، 79). أي الطاهرون النظيفون.
وأما الوضوء من الحدث الأصغر والغسل وأحوال النساء (من الحيض والنفاس) فكلها مواضيع خاضعة للبحث، وقد اتفقت المذاهب الأربعة على حرمة مس المصحف من غير وضوء.[34]
ثم إن هذا الحكم قد طبق على هذا النحو منذ عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وحتى الآن، وقد ورد في الأحاديث الشريفة:
«لا تقرأ الحائضُ ولا الجنبُ شيئاً من القرآن». [35]
«لا يمسّ المصحف إلا طاهر».[36]
وقد كتب النبي عليه الصلاة والسلام لعمرو بن حزم رضي الله عنه لما أرسله إلى اليمن كتاباً بين فيه الفرائض والسنن والحقوق، موضحاً في كتابه أمره عمرواً بتعليم الناس القرآن الكريم وتبليغه إياهم أوامره وحكمها، إضافة إلى نهيه عن مس المصحف إلا طاهرا[37]
قال مالك: «ولا يحمل أحد المصحف بعلاقته ولا على وسادة إلا وهو طاهر…. ولم يكره ذلك لأن يكون في يدي الذي يحمله شيء يدنس به المصحف ولكن إنما كره ذلك لمن يحمله وهو غير طاهر إكراما للقرآن وتعظيما له». [38]
ومن ناحية أخرى فإنه يلزم –تعبدا- إظهار جميع أنواع الاحترام والأدب للقرآن الكريم، كالإمساك به فوق منطقة أسفل الظهر وما تحتها، وعدم مد القدمين في جهته، وعدم وضع شيء أو أي كتاب غيره فوقه، وعدم إدخاله إلى أماكن قضاء الحاجة، مع إيصال هذه الدقة والاعتناء إلى الأجيال الناشئة، مع العلم بأن القرآن الكريم من أهم شعائر الإسلام، أي يترأس قائمة معالم الإسلام، تقول الآية الكريمة:
{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج، 32)
والحاصل فالقرآن الكريم كتاب سماوي مرسل لهداية الناس إلى الطريق الحق، وتعليمهم ما يعجزون عن معرفته بجهودهم الذاتية، وللحصول على الآخرة، وعليه فإن التمسك به وحفظ حقه أسلم طريق يتمسك به عقلاً.
وقد بين الحديث فضيلة الاشتغال بالقرآن الكريم على النحو التالي:
«كتاب الله، هوحبل الله الممدود من السماء إلى الأرض».[39]
فكلما رشفنا من روحانية القرآن الكريم وفيضه ارتقى إيماننا درجة، ومن يتعمق في القرآن الكريم يَحصل على اللطائف الربانية غير المدركة، من خلال اكتساب رضا الله ورسوله، أكرمنا الله تعالى وإياكم بهذا الحال ويسره لنا. آمين.
[1] الألباني، ضعيف الجامع، 293.
[2] مسلم، المسافرين، 252، 253؛ أحمد، 5، 249، 251.
[3] أبو داوود، الوتر، 14/ 1453.
[4] البخاري، فضائل القرآن، 19، التوحيد، 32؛ مسلم، المسافرين، 232 ـ 234.
[5] الترمذي، فضائل القرآن، 17/ 2911.
[6] أبو داوود، الصلاة، 16/ 461.
[7] الترمذي، فضائل القرآن، 18/ 2913؛ الدارمي، فضائل القرآن، 1.
[8] علي المتقي، 2، 241.
[9] السيوطي، 1، 39.
[10] ابن ماجة، المقدمة، 16.
[11] مسلم، الذكر، 38؛ ابن ماجة، المقدمة، 17.
[12] ـ مسلم، المسافرين، 203؛ النسائي، قيام الليل، 25.
[13] أحمد، 4، 9؛ ابن ماجة، الصلاة، 178.
[14] البخاري، التفسير، 4، 9؛ مسلم، المسافرين، 247.
[15] ابن ماجة، الإقامة، 176؛ أحمد، 6، 165؛ الحاكم، 3، 250/ 5001.
[16] الترمذي، القراءات، 11/ 2948.
[17] الترمذي، فضائل القرآن، 2/ 2876.
[18] أحمد، 5، 410.
[19] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، بيروت 1985، 1، 40.
[20] الموطأ، القرآن، 11.
[21] ابن سعد، 5، 508؛ ابن هشام، 4، 185؛ أحمد، 4، 218.
[22] مسلم، فضائل الصحابة، 103.
[23] الهيثمي، 7، 165.
[24] القطاني، نظام الحكومة النبوية (التراتيب الإدارية)، بيروت 1996، 2، 197.
[25] البخاري، فضائل القرآن، 15، المناقب 25؛ مسلم، المسافرين 241، 242.
[26] البخاري، مناقب الأنصار 16، التفسير 98/ 1، 3؛ مسلم، المسافرين 246.
[27] البخاري، فضائل القرآن، 8.
[28] كانت عبارة حملة القرآن آنذاك تعني حفظته، المشتغلين بلفظه ومحتواه.
[29] علي المتقي، 2، 285 ـ 286/ 4019.
[30] ابن أبي شيبة، المصنف (حوت)، الرياض 1409، 6، 128.
[31] ابن سعد، 4، 109.
[32] ابن سعد، 4، 170.
[33] الديلمي، 1، 284/ 1112؛ علي المتقي، 1، 555/ 2488.
[34] الموسوعة الفقهية، 18، 322.
[35] الترمذي، الطهارة، 98/ 131.
[36] الحاكم، 1، 553/ 1447.
[37] الموطأ، القرآن، 1، القطاني، 1، 216.
[38] الموطأ، القرآن، 1.
[39] الهيثمي، 9، 164.