إن الدعاء والمناجاة طلب العبد عونَ الله تعالى ولطفه حين يعترف بعجزه أمام عظمة ربه، وبما أن المناجاة أي الالتجاء في الدعاء، عبارة عن العجز ورمز للتوجه إلى المقام الإلهي، فإنه يحمل أهمية عظيمة.
ينبغي على العبد حين يناجي ربه أن ينبض قلبه بصدق كبير وليس كلماته فحسب، وعليه حين يدعو ربه أن يمتلئ قلبُه بالخوف والرجاء، وأن يكون الدعاء نابعاً من قلب مضطر يصدق مع الله ولا يرجو غير الله ولا يثق إلا بالله، فدعاء التائب من معصيته يحمل في أعماقه صدق العهد ولوعة الندم وأمل المغفرة، يقول مولانا قدس سره: «تب بقلبٍ امتلأ بنار الندامة، وعينٍ تَنَدَتْ بدموع التوبة، فالأزهار تتفتح في الأماكن الندية والمشمسة».
على المؤمن الذي يستشعر عبوديته لله تعالى أن يتقرب من ربه في كل آن، فالتربية الدينية الحقيقية تربي المؤمن على التذلل بين يدي الله ومد يد الافتقار إليه سبحانه من خلال التركيز على الدعاءوتكراره في كل موطن من مواطنه، ومن هنا كان الدعاء مفتاح أعظم باب يفتح من قلب المؤمن لله تعالى، يقول تعالى في الآية الكريمة:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون} (البقرة، 186)
وكلما تكرر الدعاء يغدو منقوشاً في روح المؤمن نقوشاً عميقة، ولذا فإن الأرواح العلوية تعيش في حالة دائمة من الدعاء، فالدعاء خضوع مع استسلام بين يدي الله تعالى، حيث يتوجه العبد إلى الحق تعالى مستشعرا عظمته سبحانه ومدركا في الوقت نفسه عجزه وضعفه الذاتي، وفي الحقيقة فإن الشروع في الدعاء بالاعتراف بالخطأ والعجز له تأثيره الكبير في استمطار الرحمة الإلهية وقبول الدعاء.
وأعظم من علمنا آداب الدعاء هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي عاشه في كل لحظة من لحظات حياته، فقد كان عليه الصلاة والسلام في التجاء دائم إلى الله تعالى إضافة إلى صلواته التي أداها باكياً إلى أن تورمت قدماه الشريفتان عليه الصلاة والسلام، فكان يحب الدعاء الصادق النابع من الصميم ولا يدعو بدعاء لا إخلاص فيه. [1]
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
«أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ».[2]
ولا بد للمؤمن من أن يكون حريصاً على كسب دعاء الفقراء والمحتاجين إلى جانب دعائه الدائم لنفسه، يقول عليه الصلاة والسلام: «ما دعوةٌ أسرع إجابة من دعوة غائبٍ لغائب».[3]
ويقول مولانا: «جُدْ دوما بنفسك ومالك وملكك، واحرص على اكتساب قلب يكون دعاؤه نوراً لك في قبرك المظلم».
صور الفضائل
قال رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
«ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم»، فقال رجل من القوم: إذا نكثر، قال: «اللهُ أكثرُ».[4]
لا يرد الحق تعالى الأدعية الصادقة المخلصة، إلا أنّ بعض الأدعية لا تلقى القبول مع إخلاص صاحبها لمخالفتها القدر المطلق، لكن على العبد مواصلة الدعاء من غير سأم ولا ملل، وفي مثل هذه الأحوال فإن الإجابة تتحقق في الآخرة، لأن الله تعالى قال:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (المؤمن، (غافر)، 60)
قال عليه الصلاة والسلام:
«لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟
قال: يقول: دعوت فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء».[5]
ثم إن دعاء النبي زكريا: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} (الأنبياء، 89). لم يستجب إلا بعد أربعين سنة حيث أكرمه بابنه يحيى عليه السلام. [6]
سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عجل هذا!»، ثم دعاه فقال له ولغيره:
«إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم يصلي على النبي، ثم لِيَدْعُ بعد بما يشاء».[7]
عن ابن عمر رضي الله عنه: «أنه استأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في العمرة فقال: “أي أخي أشركنا في دعائك ولا تنسنا“».[8]
عن عمر رضي الله عنه قال:
«استأذنت النبي صلّى الله عليه وسلّم في العمرة، فأذن لي، وقال: لا تنسنا يا أُخيَّ من دعائك، فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا».[9]
يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل».[10]
ولذلك فعلينا الإكثار من الدعاء لإخواننا وطلب الدعاء منهم.
وبما أن التقوى أكثر خصلة نحتاجها في هذه الدار الفانية، فعلينا أن نطلبها في غالب أدعيتنا، جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«يا رسول الله، إني أريد سفرا فزودني. قال: “زودك الله التقوى“، قال: زدني، قال: “وغفر ذنبك” قال: زدني بأبي أنت وأمي، قال: “ويسر لك الخير حيثما كنت“».[11]
عن عبد الله بن عمرو بن العاص:
«أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: تلا قول الله عزّ وجّل في إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] ، وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: “اللهم أمتي أمتي“، وبكى، فقال الله عزّ وجّل: «يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك؟» فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: “يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوءك “.[12]
هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام غاية في الرحمة لأمته مُؤْثِرَاً إياهم، وعلينا بعد التفكر في هذا الحديث الشريف أن نحسب مقدار الحب الذي نكنه نحن له عليه الصلاة والسلام، يحملنا هذا الحب على تطبيق سنته الشريفة وتخلقنا بأخلاقه صلّى الله عليه وسلّم برهانا منا على طاعته واتباعه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ليلة حين فرغ من صلاته:
«اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلمُّ بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتن عني، وتعصمني بها من كل سوء، اللهم أعطني إيمانا ويقينا ليس بعده كفر، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك الفوز في العطاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء، اللهم إني أُنزل بك حاجتي، وإن قصر رأيي وضعف عملي افتقرت إلى رحمتك، فأسألك يا قاضي الأمور ويا شافي الصدور،كما تجير بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير ومن دعوة الثبور ومن فتنة القبور، اللهم ما قَصُرَ عنه رأيي ولم تبلغُه نيتي ولم تبلغه مسألتي من خير وعدته أحدا من خلقك أو خيرا أنت معطيه أحدا من عبادك فإني أرغب إليك فيه، وأسألكه برحمتك يا رب العالمين، اللهم ذا الحبل الشديد، والأمر الرشيد، أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود الركع السجود الموفين بالعهود، إنك رحيم ودود، وأنت تفعل ما تريد، اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك وعدوا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك، اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، اللهم اجعل لي نورا في قلبي، ونورا في قبري، ونورا من بين يدي، ونورا من خلفي، ونورا عن يميني، ونورا عن شمالي، ونورا من فوقي، ونورا من تحتي، ونورا في سمعي، ونورا في بصري، ونورا في شعري، ونورا في بشري، ونورا في لحمي، ونورا في دمي، ونورا في عظامي، اللهم أعظم لي نورا، وأعطني نورا، واجعل لي نورا، سبحان الذي تعطف العز وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام».[13]
شكا الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر وحمد الله، ثم قال:
«إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن أوان زمانه، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم»،ثم قال: «الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين»، ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابا فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: «أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله».[14]
لقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام صلاة الاستسقاء وتضرع لله تعالى طلبا للغيث ليعلمنا أن نسأل الله تعالى في كل حال.
عن عائشة رضي الله عنها قالت:
«فقدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».[15]
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
«لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين، وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا [16]، فدخل العريش هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، واستقبل القبلة ومد يده، فجعل يهتف بربه عزّ وجّل: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه عزّ وجّل مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عزّ وجّل:
{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}».[17]
عن أنس رضي الله عنه قال:
«كان رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأنصار يُكنى أبا معلق، وكان يتَّجر بمال له ولغيره، يضرب به في الآفاق، وكان ناسكا ورعا، فخرج مرة فلقيه لصٌّ مقنَّع بالسلاح، فقال له: ضع ما معك فإني قاتلك، قال: ما تريد إلا دمي؟ شأنك بالمال، قال: أما المال فلا فلست أريد إلا دمك، قال: أما إذ أبيت فذرني أصلِّ أربع ركعات، قال: صل ما بدا لك، فتوضأ ثم صلى أربع ركعات، وكان من دعائه في آخر سجدة أنه قال: يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، ثلاث مرات، قال: دعا بها ثلاث مرات، فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة واضعها بين أذني فرسه، فلما أبصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله، ثم أقبل إليه فقال: قم، قال: من أنت بأبي أنت وأمي؟! فقد أغاثني الله تعالى بك اليوم! قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة، دعوتَ اللهَ بدعائك الأول فسُمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوتَ بدعائك الثاني فسُمعت لأهل السماء ضجيجا، ثم دعوتَ بدعائك الثالث فقيل: دعاء مكروب، فسألتُ الله عزّ وجّل أن يوليني قتله، قال أنس: فاعلم أنه من توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروبا كان أم غير مكروب».[18]
وعن أحدهم قال قلت لأم سلمة رضي الله عنها:
«يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا كان عندك، قالت: أكثر دعائه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ثم قال: يا أم سلمة، إنه ليس من آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، ما شاء أقام وما شاء أزاغ».[19]
لقد كان يدعو النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً لهداية أمته، حيث دعا لأهل اليمن بقوله:
«اللهم أقبل بقلوبهم».[20]
ودعا لأهل الطائف الذين رموه بالحجارة في بلدهم وحقروه بشتى أنواع الاستهزاء، وألحقوا بالمسلمين الكثير من الأضرار حتى السنة التاسعة من الهجرة، فدعا ربه ملتجئاً إليه:
«اللهم اهد ثقيفاً وأقبل بقلوبهم».[21]
وعن علي رضي الله عنه قال:
«بعثني رسول الله إلى اليمن قاضيا، فقلت: يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء؟ فقال:
“إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه حريٌّ أن يتبين لك القضاء”
قال: فما زلت قاضيا أو ما شككت في قضاء بعد».[22]
وهذه بعض من دعوات النبي صلّى الله عليه وسلّم التي تنبض بعبوديته وتشف لنا عن حالته القلبية أثناء وقوفه في الحج، ماسكاً عنان دابته بيد ويرفع يده الأخرى:
«اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك مآبي، ولك ربى تُراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح.
اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمرى، وأنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقرُّ المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، دعاء من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذلَّ لك جسده، ورَغِمَ لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك ربي شقيا وكن بي رؤوفا رحيماً يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي صدري نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري.
اللهم أعوذ بك من وسواس الصدر، وشتات الأمر، وفتنة القبر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر». [23]
يا لها من دعوات حية تنبض بعبودية النبي صلّى الله عليه وسلّم لربه وتظهر قوام فؤاد النبي عليه الصلاة والسلام المعصوم من الذنوب في حضرة الحق تعالى.
وفيما يلي بعض من دعوات السلف الصالح في عرفة:
«إلهي، من مدح لك نفسه فإني لائم نفسي، إلهي، أخرست المعاصي لساني فما لي وسيلة من عمل ولا شفيع سوى الأمل، إلهي، إني أعلم أن ذنوبي لم تبق لي عندك جاها ولا للاعتذار وجها ولكنك أكرم الأكرمين، إلهي، إن لم أكن أهلا أن أبلغ رحمتك فإن رحمتك أهل أن تبلغني، ورحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء، إلهي، إن ذنوبي وإن كانت عظاما ولكنها صغار في جنب عفوك، فاغفرها لي يا كريم، إلهي، أنت أنت وأنا أنا، أنا العوَّاد إلى الذنوب، وأنت العواد إلى المغفرة، إلهي، إن كنت لا ترحم إلا أهل طاعتك، فإلى من يفزع المذنبون، إلهي، تجنبت عن طاعتك عمدا وتوجهت إلى معصيتك قصدا، فسبحانك ما أعظم حجتك علي وأكرم عفوك عني، فبوجوب حجتك عليَّ، وانقطاع حجتي عنك، وفقري إليك، وغناك عني إلا غفرت لي، يا خير من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج، بحرمة الإسلام وبذمة محمد صلّى الله عليه وسلّم أتوسل إليك، فاغفر لي جميع ذنوبي، واصرفني من موقفي هذا مقضي الحوائج، وهب لي ما سألت، وحقِّق رجائي فيما تمنيت، إلهي، دعوتك بالدعاء الذي علمتنيه، فلا تحرمني الرجاء الذي عرفتنيه، إلهي، ما أنت صانع العشيةَ بعبدٍ مقرٍ لك بذنبه، خاشعٍ لك بذِلَّتِه، مستكينٍ بجُرمه، متضرعٍ إليك من عمله، تائبٍ إليك من اقترافه، مستغفرٍ لك من ظلمه، مبتهلٍ إليك في العفو عنه، طالبٍ إليك نجاح حوائجه، راجٍ إليك في موقفه مع كثرة ذنوبه، فيا ملجأ كل حي وولي كل مؤمن، من أحسن فبرحمتك يفوز، ومن أخطأ فبخطيئته يهلك، اللهم إليك خرجنا وبفنائك أنخنا، وإياك أملنا، وما عندك طلبنا، ولإحسانك تعرضنا، ورحمتك رجونا، ومن عذابك أشفقنا، وإليك بأثقال الذنوب هربنا، ولبيتك الحرام حججنا، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين، يا من ليس معه رب يُدعى، ويا من ليس فوقه خالق يُخشى، ويا من ليس له وزير يُؤتى، ولا حاجب يُرشى، يا من لا يزداد على كثرة السؤال إلا جودا وكرما، وعلى كثرة الحوائج إلا تفضُّلا وإحسانا، اللهم إنك جعلت لكل ضيفٍ قرى، ونحن أضيافك فاجعل قرانا منك الجنة، اللهم إنَّ لكل وفد جائزةً، ولكل زائر كرامة، ولكل سائل عطية، ولكل راج ثوابا، ولكل ملتمس لما عندك جزاء، ولكل مسترحم عندك رحمة، ولكل راغب إليك زلفى، ولكل متوسل إليك عفوا، وقد وفدنا إلى بيتك الحرام، ووقفنا بهذه المشاعر العظام، وشهدنا هذه المشاهد الكرام رجاء لما عندك فلا تخيب رجاءنا» [24]
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال:
«دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئا، فقلنا:يا رسول الله، دعوت بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئا، فقال: ألا أدلكم على ما يجمع ذلك كله؟ فقال:
«اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلّى الله عليه وسلّم، ونعوذ بك من شرِّ ما استعاذ منه نبيك محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله».[25]
عن أنس رضي الله عنه:
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟”
قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “سبحان الله لا تطيقه -أو لا تستطيعه-، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له فشفاه“».[26]
لذلك علينا التنبه بعناية لما نطلبه من الله تعالى أثناء الدعاء وأن نراعي الأدب مع جنابه العظيم، إذ علينا أن نطلب من الحق سبحانه ما فيه خير وعافية على الدوام.
وعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: «ن مكاتبا جاءه فقال: إني قد عجزت عن مكاتبتي فأعني، قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو كان عليك مثل جبل صير دينا أداه الله عنك، قال:
“قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك “».[27]
صادف السلطان محمد هوداوينديغار عاصفة هوجاء لفت منطقة ساحة كوسوفا لما دخلها في الثامن من آب عام 1389، ولم تكن الأعين ترى بعضها إذ ذاك، ووافق ذلك اليوم ليلة البراءة، فدعا مراد خان بعد أن صلى ركعتين نافلة، ودموعه تنهمر من عينيه، قائلاً:
يا ربي، إن كانت هذه العاصفة قد هبت من ذنوب عبدك العاجز مراد هذا، فلا تعاقب جنودي المساكين بسببي، يا ربي، هم لم يصلوا إلى هنا إلا لإعلاء كلمتك وتبليغ دينك.
إلهي! لم تحرمني من الغزو مرات عديدة، واستجبت دعائي على الدوام، فإني ألتجئ الآن إليك أيضاً، فاستجب دعائي! أغثنا، وأزل عنا سحابة الغبار هذه، نرَ الأعداء ونقاتلهم وجهاً لوجهٍ.
إلهي! لك الملك وهذا العبد، لستُ إلا عبداً عاجزاً، وما من أحد بأعلم منك لنيتي وسري، فلست بطالب مالاً ولا ملكاً، إنما رضاك ما أطلب.
يا ربي! لا تهلك هؤلاء الجند المؤمنين على يد الكفرة، واكتب لهم نصراً يكون عيداً لجميع المسلمين، وإن شئت فليكن عبدك مراد هذا أضحية ذلك العيد.
إلهي! لا تجعلني سبباً في هلاك هذا الجمع من جند المسلمين، وأعن هؤلاء وانصرهم، اجْعِلُ نفسي فداهم، يكفيني أن تتقبلني في زمرة الشهداء! … فأنا مستعد للتضحية بروحي من أجل جند الله … جعلتني غازياً، فأكرمني وتلطف علي بالشهادة في الختام، آمين.
وبعد هذه المناجاة الصادقة، بدأ بتلاوة القرآن الكريم في جو من الطمأنينة غير المعتادة.
ولم يكد يمضي قليل من الوقت حتى بدت سحب الرحمة وأمطرت فوق سماء كوسوفا مطراً غزيراً، وتوقفت الريح، وزال الغبار.
وبعد هذه التجليات شن مراد خان هجمة على العدو وختمت المعركة التي دامت ثمان ساعات بنصره، وأثناء تجول مراد خان في ساحة المعركة متفقداً الجرحى والشهداء، إذ بجريح صربي ينهض من بين الموتى قائلاً: دعوني، سأقبل يدي السلطان وأدخل الإسلام، فمشى نحوه مقلداً مشية جريح، لكنه وقد انحنى ليقبل يد السلطان سرعان ما أخرج من تحت إبطه خنجراً كان قد خبأه، وطعن صدر السلطان، وعندها كان دعاء مراد خان الذي شرب من نبع الشهادة، قد تحقق كما أراد…
وختاما، فإن الدعاء جوهر العبودية والعبادة، إضافة أن أكثر الأمور التي ترضي الله تعالى هي إدراك العبد عجزَه وفقره بين يدي ربه تعالى عارضا عليه ضعفه متذللا على أعتابه، ولذا فإنه تعالى يعذب من لا تفيض نفسه بالدعاء ولا يطلب أي شيء منه تعالى.
قال تعالى:
{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} (الفرقان، 77).
إن الدعاء مفتاح أبواب الرحمة، وسلاح المؤمن وعمود الدين ونور السموات والأرض، فمن فتحت أبواب الدعاء له فُتحت له أبواب الخير والحكمة والرحمة، ومن أراد أن يستجيب الله له في الضراء فعليه الإكثار من الدعاء في السراء أيضاً، فذوو الأرواح العظيمة تحيا حياتها بحالة من الدعاء المتواصل.
[1] أبو داوود، الوتر، 23/ 1482.
[2] مسلم، الصلاة، 215.
[3] الترمذي، البر، 1980.
[4] الترمذي، الدعوات، 115/ 3573؛ أحمد، 3، 18.
[5] مسلم، الذكر، 92.
[6] انظر: مريم، 7 ـ 8، ابن علان، دليل الفالحين، 4، 311 ـ312.
[7] الترمذي، الدعوات، 64/ 3477.
[8] الترمذي، الدعوات، 109/ 3562.
[9] الترمذي، الوتر، 23/ 1498.
[10] مسلم، الذكر، 87، 88؛ ابن ماجة، المناسك، 5.
[11] الترمذي، الدعوات، 44/ 3444.
[12] مسلم، الإيمان، 346.
[13] الترمذي، الدعوات، 30/ 3419.
[14] أبو داوود، الاستسقاء، 2/ 1173.
[15] مسلم، الصلاة، 222؛ الترمذي، الدعوات، 75/ 3493.
[16] انظر: البخاري، المغازي، 6؛ الترمذي، السير، 38/ 1598.
[17] مسلم، الجهاد، 58؛ البخاري، المغازي، 4.
[18] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 9 / 166، 167؛ ابن حجر، الإصابة، 4، 182.
[19] الترمذي، الدعوات، 89/ 3522؛ أحمد، 4، 182، 4، 91.
[20] الترمذي، المناقب، 71/ 3934.
[21] ابن هشام، 4، 134؛ الترمذي، المناقب، 73/ 3942.
[22] ابن ماجة، الأحكام، 1.
[23] انظر: ابن كثير، البداية، 5، 166 ـ 168؛ الهيثمي، 3، 252؛ ابن القيم، زاد المعاد، بيروت 1995، 2، 237.
[24] ـ انظروا. الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت 1990، 1، 337 ـ 338، البيهقي، شعب الإيمان، 2، 25، 36.
[25] الترمذي، الدعوات، 88/ 3521.
[26] مسلم، الذكر، 23؛ الترمذي، الدعوات، 71/ 3487.
[27] الترمذي، الدعوات، 110/ 3563.