إن طريق التصوف – أيها الأحبة – ليس ألفاظاً وإشاراتٍ وإنما هو حالٌ وعمل، وسعيٌ دائب يجتهد المريد فيه أن يستوفي نصيبا وافرا من أخلاق أولياء الله تعالى وأحوالهم، أما من يتعلق بالظواهر، ويرى التصوف بلاغةَ ألفاظٍ وفصاحةَ كلامٍ فقد خدع نفسه.
وكذلك يخدع نفسه ويخدعُه الشيطانُ أيضا مَن يجعل الكراماتِ والكشوفات غايةً له بدل التخلق بالأخلاق المحمودة والتلبُّس بالأحوال الشريفة، فأعظمُ كرامة ينالها عبدٌ إنما هي الاستقامة على شرع الله تعالى، وقد خاطب الله تعالى نبيه ومن معه من الصحابة الكرام :
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (هود، 112)
وكذلك أعلام الإسلام وعظماؤه إنما وصلوا إلى ما وصلوا إليه باستقامتهم على منهج الله تعالى لا بالكشف والكرامات، وكانوا يرون أنهم – فيما لو كان المعيارُ في التفاضل هو الكرامةَ – لن يكونوا أفضل من ذلك الطائر الذي يحلق في أجواز الفضاء، والسمك الذي يغوص في أعماق البحار.
إنهم عبَّروا بحالهم وقالهم عن أن البراعة الحقيقية تتمثل في القدرة على الاستقامة في ظلال العبودية لله تعالى، وامتثال أمره ونهيه سبحانه، وليس في نزوعهم إلى تقليد الطير والسمك.
يقول أبو يزيد البسطامي قُدس سرُّه: (إذا رأيت أحدا يتربع في الهواء فلا تحكم على هذا بأنه كرامة ما لم تر هذا العبد يصون حدود الله تعالى ويلتزم أمره ونهيه، ويتبع السنة، ويراعي حقوق الله تعالى).
فأولياء الله تعالى لا يُظهِرون الكرامة مالم يضطروا إلى ذلك اضطرارا، لأنهم برئوا من التفاخر والتعالي، وإنما يُظهِرون من أخلاقهم ما يسع الناسَ تقليده واتباعه.ولابد أن نتنبه جيدا لتلك الوصية التي أوصى بها سيدُنا الحسن البصري رحمه الله تعالى أحدَ طلابه في شأن الكرامة، حيث قال: (لا يخدعنك علو درجة المرء في المعرفة والعلم، فـ ” بلعام بن باعورا”، بلغ ما بلغ من مقام كان ينظر فيه إلى اللوح المحفوظ، ولكن القرآن جعله لنا عبرةً من العبر:
﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف، 176)
ويقول مولانا خالد البغدادي: (الاستقامة والاجتهاد أفضل من الكرامة والكشف، لأن الكشف والكرامة إن لم يكونا وسيلةً لاتباع الأوامر الدينية على نحو أفضل فيصيران بلاء وفتنة).
وأما الشيخ محمد أسعد الإربيلي فينذر الأئمة والمرشدين من التساهل بشأن الاستقامة، ويقول:
(كل شخص لا يستظلُّ بالاستقامة سيزول لا محالة، سواء كان عالما أم شيخا، فإذا لم تتحمل أعباء الاستقامة حتى ينوءَ بها ظهرُك فكيف ستصيب غايتك في قرب الله -عز وجل-).
ولذلك علينا أن نتأمل ونتأثر بحال أولئك الأولياء الذين تضطرب قلوبهم خوفاً من أن يحيدوا عن جادة الاستقامة قيد شعرة.
وإن تلك التعبيرات التي سجلتها رسالة مولانا خالد البغدادي لمريديه وطلابه لتُعَدُّ أبلغَ وثيقةٍ على هذه الحال:
(كم من عبدٍ ضعيف لا يؤبَه له، ينظر إليه الناس بعين الشفقة والرثاء، يغادر الدنيا بسلامة الأنفاس الأخيرة ويفوز بحسن الخاتمة، بينما يُختم لكثير من أصحاب العلم والغنى والحسب والنسب بسوء الخاتمة بسبب غفلتهم مع أنهم كانوا مرشدي زمانهم.ولما كان الفيصل في هذا الأمر إنما هو ختام الحياة والنفس الأخير فيها كان الكِبر والغرور والإعجاب بالنفس شقاء كبيرا.فإنني أقسم بالله أني منذ ولدت إلى هذه اللحظة لا أجزم أني عملت عملا يُرضي الله تعالى عني أو يقبله مني، بيد أني لا ألوي إلا على رحمة الله تعالى، وإذا أنت لم تنظر إلى نفسك على أنها مفلسة من كل عمل فهذا منتهى الجهل.
وإني لأرجو أن تكونوا جميعاً منشغلين بعملٍ نافع عندما يغادركم النفسُ الأخير من حياتكم، وأن تقوموا بأعمالكم على وفق السنة، وألا تلتفتوا إلى المظاهر الخداعة لهذه الدنيا الفانية، وألا تنسوا العبد الفقير – يقصد نفسه – من دعوةٍ صادقة له بالتوفيق والسداد وحسن الخاتمة)
إن هذه الأخلاقَ السامية للسلف الصالح تنبهنا إلى أنه لا نهاية للعبد في طريقه وسيره إلى الله تعالى، فالتقوى لا منتهى لها ولا حد، وهكذا كان حال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- حتى آخر أنفاسه الطاهرة في هذه الحياة، فكم كان يقول في تضرعه: (يا ربي، ما عرفتك حق معرفتك، وما عبدتك حق عبادتك)، فبعد هذا أي عبد يظن نفسه كاملا ويأمن على نَفَسِه الأخير والأمانُ لم يُعطَ إلا للأنبياء والمبشًّرين، فليَحرِص كلٌ منا على أن يكون نَفَسُه الأخيرُ في طاعة الله تعالى ورضاه.
وأما من يظن أنه اكتمل له السير والسلوك فقد قطع بنفسه في منتصف الطريق، ويعبر مولانا جلال الدين الرومي عن هذا المعنى بقوله:
(يا أخي ! إن الحرم الإلهي تكية لا نهاية لها، فأيَّ مكان بلغتَ في هذا الحرم فلا تتوانَ عن بلوغ ما بعده، وامض قدما في سبيل الله تعالى، وإني لعبدٌ لذي الهمة العالية الذي لا يقنَع بمقامه الذي هو فيه، ويعلم من نفسه أنه لم يصل مائدة الرحمن بعد ولم يحظ بنعمة قربه سبحانه وتعالى)
فبتوفيق الله تعالى أولا، وبالمجاهدات الصوفية ثانيا يتنقى القلبُ شيئا فشيئا، حتى يبلغَ العبدُ بذلك مقاما يشابه فيه الملائكة، فيصير ملكاً باطناً وإنساناً ظاهراً.
وإنَّ بعضَ مَن يُكرِمُهم اللهُ تعالى بهذه الحال يعيشون في عوالمهم الذاتية، لا يلتفت إليهم أحد وكأنهم إحدى النجوم المتناثرة في هذا الفضاء اللامتناهي.
وأما البعض الآخر منهم فيُعرَفون على نطاق واسع بسبب ما يوكل إليهم من مهامَّ اجتماعية، كما يحظون بنصيبٍ من سر البقاء حفاظا على استمرار مهامهم في الحياة البشرية، بوصفهم شعلة هداية تمتد من زمانهم حتى المستقبل، كما يدركون السبب النهائي في سلسلة الأسباب الكامنة وراء الحوادث فلا يغيب عنهم مراد الله تعالى.
ونتيجة لذلك فهم يعيشون في سكينة وطمأنينة، ويصونهم الله تعالى ويحفظهم من مظاهر الضعف البشري كالهمِّ والقلق.
فيسلَمُون من كُلِّ شرٍّ حولهم حتى من مهاجمة الحيوانات المتوحشة، فهم ينظرون إلى من حولهم بعين الرحمة، فأول درجة في طريق ترقيهم الروحي إنما هي (ارحم الخلق لأجل الخالق).
فأثر المحبة في النفوس والقلوب بالغٌ وعظيم، كالإشعاع الذي لا تراه العين بينما هو يفعل فعلَه في الأجسام، فهم لا يرون هذا الكون وصورَه البديعةَ بعينٍ عادية كالناس الآخرين، فعندما يستحسن إنسانٌ عادي لوحةً أبدعها رسامٌ يحاكي فيها الطبيعة فهو لا يشعر في نفسه بالاستحسان ذاته حين يقف أمام صفحات الكون الحقيقية، لأنَّه يتلقى كلَّ معجزات الكون على أنها أشياء اعتيادية، أما أولياءُ الله تعالى الذي حازوا قلوبا مرهفة فإنهم يعيشون بنشوةٍ وإعجابٍ حِيَالَ الخالق الحقيقي سبحانه وتعالى وكلِّ ما أبدعه، لا أمامَ لوحاتٍ وصورٍ لا يبتغي رسامُها من ورائها إلا الذِّكرَ والشُّهرة، فهم يَلِجُون أعماقَ المعجزات اللامتناهية التي أبدعتها يدُ القدرة الإلهية ويدكون أسرارَ جمالها وروعةَ تكوينها، فمِن خَلْق الإنسان وإدراكِ العقل وإبصارِ العين إلى تلك الزخارف البديعة التي تتزين بها أجنحة الفراشات الهائمة في السماء، إلى تلك الألوانِ والطُّعومِ والروائحِ التي تملأ عالم النبات والثمار مع أنها تنبت من تربة واحدة وتُسقى بماءٍ واحد، إنهم يرون في كل ذلك إبداعُ الخالق العظيم سبحانه.
فيُصبِح الكونُ كلُّه من حولهم كتاباً مفتوحاً وما على المرء إلا أن يقرأه بعين التأمل والاعتبار، ويستشف ما بين سطوره ليبلغ إلى حكمه وأسراره.
وهذا يشبه حال مولانا جلال الدين الرومي حين اشتعلت جَذوة العشق في قلبه بنظرات أحد الدراويش الذين امتلأ كيانهم بعشق الله تعالى وكان يسمى “شمس”، فبعد أن كان مولانا مدرسا في إحدى مدارس السلاجقة ومشغولا بقراءة الكتب وإقرائها ولِدَ من جديد على يد “شمس”، وانشغل منذ تلك اللحظة بقراءة الكون بدل الكتب، وبالبحث في أسراره بدل البحث في بطول الصحائف، ليُبدع تلك التحفة الرائعة المسماة ” المثنوي” الذي يبوح ويحكي أسرارَ وحكم الكون والقرآن والإنسان.
وإنَّ المؤمن لا يمكنه أن يتحلى بأحوالٍ كهذه إلا بقدر احتراق قلبه بنار العشق، فقلوبٌ كهذه تكون محلَّ نظر الله تعالى واستقبال تجلياته، وتصير كالبوصلة التي تبين الحقيقة، وفي هذا الشأن يقول مولانا مبيننا شرف القلب الذي تطهر إلى هذا الحد:
الكعبة بنيان الخليل بن آزر والقلب محل نظر الله الجليل الأكبر
وكثيرا ما يطالعنا في كتب مناقب المتصوفة تشبيه القلب بالكعبة، وهذا يرجع إلى أنهم يعدُّون القلب مركز الجسم كما الكعبةُ مركز الكون، والواقع أنَّ كليهما يعتبر مركزياً من حيث كونهما محلاً للتجليات الإلهية ومركزاً لها، وفي بعض الأحيان يُقَدَّم القلبً في هذه المناقب على الكعبة، حيث إنَّ نشوة العشق الإلهي تستبد أحياناً بالكاتب فيعبِّر عن أهمية ترقية القلب إلى هذا المستوى مرغِّبا المريدَ في الاجتهاد حتى يبلغ هذا المقام.وهنا نذكر باهتمام تلك الكلمات التي فاض بها وجدان سيدنا ابن عمر -رضي الله عنهما- مخاطبا الكعبة المشرفة، ومقارنا بينها وبين الذين صارت قلوبهم محلا لتنزل التجليات الإلهية:
(مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ)[1].
فالقلب هو محل الإيمان، وكما يفهم من هذا التعبير الذي قاله سيدنا عبد الله بن عمر أن قلب أيِّ مؤمن كاملٍ أعظمُ شرفاً عند الله من الكعبة.
ومن معين هذه الكلمات يقول مولانا جلال الدين الرومي:
(إذا كنت على بصيرةٍ فطُف بكعبة القلب، فالمعنى الحقيقي للكعبة – التي تحسب أنها صنعت من تراب – إنما هو القلب، فالله فرض عليك أن تطوف بكعبةٍ مرئيةٍ معروفةٍ محسوسةٍ لعلك تَظفَرُ بكعبةِ قلبٍ مصفى مُطَهَّرٍ من المعصية، واعلم جيدا أن أي قلب يكون محلا لنظر الله تعالى يُعد لؤلؤة، فإذا فرطّتَ فيها فلا يعوضها أي فعل، ولو ذهبت إلى الكعبة ماشيا ما عوضت خسارة التفريط بالقلب المصفى).
أما مولانا عبد القادر الجيلاني، فيعبر عن شرط هذا السمو إذ يقول:
(القلب لا يكون كعبة إلا للساعين إلى معرفة الله، الغائبين عن كل ما سوى الله).
وفي هذا الشأن يقول إسماعيل حقي البورسوي:
(المرء الذي يدخل القلب يكون أعلى منزلةً من المرء الذي يدخل الكعبة، وهذا هو السر في أنهم يقولون للعباد الصالحين ولأولياء الله: اجعلونا في قلوبكم ولا تخرجونا منها، وبذلك هم يستمدون منهم الفيض ويطلبون الهمة).
ويعبر الإمام الرباني عن حقيقة أن الإنسان “كون صغير” على هذا النحو:
(الإنسان هو صورة مصغرة عن العالم، ولهذا فإنك ترى في الإنسان نموذجاً لكل شيء في العالم).
ولأن القلب والفؤاد له أهمية في ضمان سعادة الإنسان وسلامته فيُعتبَر جَرْحُ مشاعره من قِبَل الآخرين جُرمَاً كبيراً عند أهل التصوف، وبناءً على هذا يحذِّر مولانا جلال الدين الرومي أولئك الذين يؤذون القلب:
(القلب الخَرِبُ الذي لا تقدِّرُه قد يكون أعلى منزلةً من العرش والكرسي واللوح والقلم، فإياك أن تحقِرَ قلباً مهما كانت قيمتُه في نظرك، فهو مشرَّف على ما ترى فيه من ضَعَةٍ، فالقلبُ الخَرِب قد ينظر اللهُ إليه ولو بعد حين، وإنَّ إصلاح القلب المكسور أفضلُ عند الله من أعمال خير كثيرة).
وإن القلب لا يتحقق له الترقي في مدارج الكمالات إلا إذا تكللت مجاهدات العبد بتوفيق الله تعالى وكرمه، ذلك أنه على أهمية المجاهدات والأعمال الصالحة التي يتقدم بها العبد بين يدي مولاه إلا أنها لا تعدو أن تكون وسيلة لتلقي العون والكرم الإلهي.
وبناءً على هذا فإن العبد عليه أن يرجو الله تعالى ويستمد من لطفه وكرمه، فالألطاف الإلهية إذا شملت العبد كان ربحُه ومغنمُه محققاً لا ريبَ فيه، ولكِنْ ينبغي على العبد أن يقومَ قدر استطاعته بالمجاهدات التي يرضى اللهُ تعالى عنها علَّها تكون وسيلةً لنيل توفيق الله تعالى والفوزِ بكرامته.
ولقد كان القدماء يقولون:
(إذا لم تستطع أن تدركَ شيئاً بكل ما فيه، فلا أقلَّ أن تدرك جزءا فيه)، و قالوا: (ما لا يُدرَك كُلُّه لا يُترَك جُلُّه).
وكذلك ينبغي على العبد أن يفكر وهو يهذب قلبه، فلا يتهاون في القيام بما يقدر عليه ولو كان قليلا،، وهناك مثل صوفي مشهور: (مَن سَعَى أُعينَ، ومَن قَعَدَ أُهينَ)، أي أن على أيِّ مريد ينتظر العون من أستاذه أن يبدأ هو أولا بالسعي والاجتهاد، فالذي يريده الله تعالى من العبد في تهذيب القلب إنما هو إخلاص النية وصفاءُ السريرة وإدراكُ الضعف والعجز البشري أمام عظمة الله تعالى مقرا بحقيقة (من عرف نفسَه عرف ربَّه)، ثم يأتي التوفيق من الله تعالى بعد سعي العبد ومجاهدته لنفسه.
فمحاسبةُ اللهِ تعالى لعبده تكون على قَدْرِ ما أكرمه الله تعالى به من لطف ونِعَمٍ، وعلى الإنسان أن يجتهد في بلوغ الخير أكثر وأكثر كلما زادت نعم الله تعالى عليه.
اللهم يا رب أنِر صفحاتِ قلوبِنَا بأنوار حقائقك، وافتح مغاليق عقولنا بأسرار حكمك، وأكرم بصائرنا وأبصارنا بالنظر إلى وجهك الكريم يوم القيامة يا أكرم الأكرمين.
[1] سنن الترمذي، باب تعظيم المؤمن، 2032.