مقالات من كتبه

المراقبات

تعني كلمة “المراقبة” في اللغة الملاحظةُ الدقيقة، وأما في مصطلح أهل التصوف فهي حالةٌ وجدانيةٌ يحياها العبدُ حين يذكرُ اللهَ تعالى في كل مكان وزمان، ويوقِن بوحدانيته وعظمتِه يقينا لا يدانيه شكٌّ، ويستشعر معيةَ الله تعالى دائما، حتى يفنى في محبته ولا يرى أحدا سواه. وحتى نشرُفَ بهذه الحال فلابدَّ أن نمهِّد السبيل إليها في قلوبنا، تنقيةً لها وتزكيةً وتطهيراً، ونحيا في ظلال قوله تعالى:

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ (الشمس، 9).

ومن الأمور التي علينا أن نراعيها في سبيل ذلك:

–    العناية الشديدة والحساسية المرهفة في تحصيل اللقمة الحلال.

–    رعايةُ حقوق الخلق جميعا.

–    القيام في الأسحار بين يدي الله تعالى.

–    تعظيمُ الله تعالى واتباعُ أمره ونهيه بخشوع وإخبات.

–    السعي في خدمة الخلق جميعا.

–    إنفاقُ المال وبذلُه عن رضا وطِيبِ نفسٍ.

–    مصاحبةُ الصالحين.

–    الحياةُ بالقرآن ومع القرآن.

–    إحياءُ القلب بذكر الله تعالى.

–    الحرصُ على اجتناب الأخلاق الذميمة كالغيبة والنميمة، والأنانية والحقد والحسد، والبخل والرياء وحب الرياسة.

–    التفكرُ في الموت، وإيقاظُ القلب حتى لا تستولي عليه الغفلات.

وحرصا من المرشدين على تحقُّقِ العبد بحال المراقبةِ لله تعالى كانوا يوصونه بالتفكُّر في هذه الآيات الكريمة على نحوٍ خاص:

أولا. مراقبة الأحدية:

﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ (الإخلاص، 1-4)

فالله تعالى هو الإله الواحد، فلا شبيهَ له ولا نظير، واللهُ هو الصمدُ، فجميع الخلائق تحتاجُه وتفتقرُ إليه بينما هو سبحانه لا يحتاج أحداً أبداً، حتى الولدُ والوالدُ لا يحتاجهما اللهُ تعالى كما يحتاجهما كلُّ فردٍ من خلقه، ولذلك (لم يكن له كفوا أحد) ، فلا أحدَ يَعْدِلُ اللهَ تعالى في أيِّ زمان ومكان.

ثانيا. مراقبة المعية:

﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الحديد، 4)

ثالثا. مراقبة الأقربية:

﴿… وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق، 16)

رابعا. مراقبة المحبة:

﴿… يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة، 54)

وإنَّ السالكين الذين يصلون إلى مقام المراقبة بالأذكار والأوراد ينبغي عليهم أن يرتقوا بحالهم أيضا، فالذكرُ العمليُّ ينبغي أن يترافق مع الذكر القلبي، لأنَّ الأخلاقَ والمعاملاتِ هي المعيارُ الحقيقي لتطهُّر القلب، وهي الصورة الظاهرة لحال بواطننا.

وحتى يصل العبدُ إلى حقيقة المراقبة فعليه ألا يقف عند ظواهرها اللفظية، وإنما أن يحيى في المراقبة بحاله وقاله معا، وأن يحاسب نفسه دائما، ويسألها أسئلة تعرِّفه مكانه في مقام المراقبة.

فمثلا، ما هي مراقبة الأحدية؟

﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ﴾ (الإخلاص، 1):

الله -عز وجل- إلهٌ واحدٌ متفردٌ بأسمائه وصفاته الجليلة التي لا مثيل لها ولا نظير، وهو وحده مَن يستحقُّ العبادة والتعظيم، وهو سبحانه وحده واجب الوجود، فلا وجودَ حقيقيا إلا وجودُه بينما كل ما عداه صور وظلال، ولذلك كلما اقترب العبد من الله تعالى غاب عن كل وجود آخر حتى عن نفسه.

﴿ اللهُ الصَّمَدُ ﴾ (الإخلاص، 2):

تعني أن الله تعالى لا يحتاج أحداً بينما يحتاجُه كلُّ أحد، فهو وحده الغنيُّ بينما كلُّ شيءٍ – من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة – يفتقر إليه لإيجاده من عدم ولإمداده كل لحظة حتى يبقى.

﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ (الإخلاص، 3):

فلم يكن الله سبحانه أباً ولا أماً لأحد، ولا يحتاج هو أن يكون له زوجة ولا ولد، ولذلك كان تأليه النصارى لعيسى عليه السلام واعتبارِه ابن الله فريةً من أعظم الفِرَى وكبيرةً من أشدِّ الكبائر في حقِّ الله -عز وجل-.

ونفهم من هذه الآية أيضا معنى آخر، وهو أن الله تعالى منزه عن مشابهة الحوادث، فهو لا يشبه مخلوقاً ولا يشبهه مخلوقٌ على الإطلاق، فهو سبحانه إله متعالٍ عظيم، فوقَ طاقة البشر على الإدراك، منزَّه عن كُلِّ فكرة أو صورة ترسم ذاته العلية في عقول البشر أو أخيلتهم.

﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ (الإخلاص، 4):

أي لا شبيهَ له منذ الأزل وحتى الأبد، سواء في صفاته أو ذاته أو أفعاله.

وعلى السالك حين يكون في هذه المنزلة من المراقبة أن يستغرق في هذه المعاني وغيرها من معاني سورة الإخلاص بتفكير عميق، إلى أن يتلاشى الوجودُ كلُّه – حتى نفسُه التي بين جنبيه – في بحرِ الفناء والعدم أمامَ الله تعالى الموجودِ الحقيقي الأوحد في هذا الكون، عندها يستشعر لذةَ توحيد الله تعالى وتنزيهه، ويشهد عظمةَ الله تعالى وتجليات قدرته مبثوثةً في كلِّ شيء، وتَهُبُّ عليه نسماتُ الفناء في الله تعالى فيغيبُ بها عن كلِّ شيء.

إن أصل شعور المراقبة والمعية هو ما جاء على لسان النبي -صلي الله عليه وسلم- لما عرَّف “الإحسان” فقال:

(أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)[1].

ومن خلال هذا البيان النبوي نستطيع أن نقولَ إن مراقبة المعية والأقربية إنما تحصل حين يشعر العبدُ أنه تحت الرقابة الإلهية في كل زمان ومكان، عندها ينعُم العبدُ بمعية الله تعالى أينما كان ومتى كان.

أما مراقبة الأقربية التي تتقدم على مراقبة المعية بدرجة فيستولي على العبد فيها شعورٌ بقرب الله إليه، حتى يغدوَ أقرب إليه من نفسه التي بين جنبيه، وهذا الأمر فوق إدراك البشر.

إنه قربٌ حتى إن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه ويعلم السر وأخفى ويطَّلع على النوايا والخطرات، فيعلم اللهُ خفايا العبد أكثر مما يعرفها العبد نفسه، والذين يصلون إلى هذه المرتبة من الرهافة في الشعور بقرب الله تعالى هم وحدهم من يعبد الله تعالى حق العبادة، ويعتني بمعاملته، ويحاسب نفسه على خطراتِه وأحاسيسه في كل حين.

إنهم يعيشون – مع كلِّ نَفَسٍ يصدُر منهم – مع أنوار قوله تعالى:

﴿… ونحن أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق، 16)

وحين يصل العبدُ إلى هذه الحالِ من استشعار قربِ الله تعالى، فإنها تكون وقايةً له من الوقوع في الذنوب، إذ كيف يُذنِبُ العبدُ وهو يعلم أنَّه في حضرةَ الله تعالى، وقلبه – مستشعراً معيةَ اللهِ تعالى – ينبض بــ (يا رب).

وخلاصةُ الأمرِ أنَّ الغايةَ من هذه المراقبة أن يستشعرَ العبدُ أنه تحت سمعِ اللهِ وبصره في حياتِه كلها،﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ (الحديد، 4).

كما يعبر الحديث الشريف بدقة عن ضرورة ذكر الله تعالى في كل لحظة وأن نحيا مستشعرين دوما مراقبة الله تعالى علينا:

(لا تُكْثِرُوا الكَلامَ بغَيرِ ذِكرِ اللهِ، فإنَّ كثرَةَ الكلامِ بغيرِ ذِكرِ اللهِ قسوةٌ للقَلْبِ، وإنَّ أبعدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ القَلبُ القَاسِي)[2].

وذات يوم سأل أحدُ الصحابة الكرام رسولَ الله -صلي الله عليه وسلم-:

(وَمَا تَزْكِيَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فقَالَ: يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ)[3].

ويقول رسولُ الله -صلي الله عليه وسلم-:

(إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ إِيمَانِ الْمَرْءِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ)[4].

وعلينا في ضوء هذه الحقيقة – بعد أن ندرك معنى المراقبة والإحسان – أن تستقيم أحوالنا على ما يناسب هذه الحال، وأن تكون حالنا مطابقة لحال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فهو أعظم مثال لحال الإحسان، فكيف كان صبره ! وكيف حال صبرنا نحن الآن ؟ وكيف كان كرمه ! وما حالنا نحن مع الكرم والسخاء ؟ وكيف كانت صلاته وصيامه وحجه وزكاته وإيمانه وتوحيده ! وما حال ذلك عندنا ؟، وكيف كان جهاده وعزيمته وعدله وإنصافه ! وما حال كل هذه الأخلاق عندنا ؟، فعلينا أن نحاسب أنفسنا على تصرفاتنا وأحوالنا دائما على هذا النحو بالقياس إلى أحوال وتصرفات رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، لأن النبي -صلي الله عليه وسلم- هو المعيار الشرعي الوحيد لكل هذه الأفعال، وهو الأسوة الحسنة والقدوة العظمى للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة.

ذات يومٍ كان أحدُ الوعاظ يبين أحوال الآخرة مِن على المنبر، وكان الشيخُ الشبلي في الحاضرين، وعَرَضَ الواعِظُ للأسئلة التي سيسألها الله تعالى في الآخرة، فقال: سيسألك عن علمك ماذا عملت به، وسيسألك عن مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته، سيسألك عن عمرك فيما أفنيته، سيسألك عن عبادتك على أيِّ حالٍ أديتها، سيسألك عن مطعمك ومشربك هل تحريتَه من حلالٍ أم تساهلت فأخذته من حرام…..، وعدَّد أمورا كثيرة وأطال الحديث فيها، وعندئذ نادى الشيخُ الشبلي بصوتٍ خفيضٍ: لكنك أيها الواعظ نسيت أهمَّ سؤال سيسأله اللهُ تعالى للعبد، سيسأل الله عبدَه يومَ القيامة: يا عبدي، قد كنتُ معك وكنتُ أقرب إليك من حبل الوريد، فمع مَن كنتَ أنت؟!.

فالغاية من عبودية الإنسان لله تعالى أن يستشعرَ هذه المراقبةَ والمعيَّة له سبحانه، وأن يوقن بها قلبُه، فاللهُ سبحانه لا تخفى عليه خافية، حتى نوايانا التي تُسِرُّها قلوبُنا يعلمها اللهُ تعالى وسيحاسبنا عليها.

فالله تعالى معنا في كل مكان وزمان، وعلينا نحن أيضا أن نكون معه في كل زمان ومكان، حتى نسموَ بمعية الله تعالى ونتحقَّق بمقامات الخشية لله تعالى والرضا بقضائه والتسليم لأمره سبحانه، فلا تكون لنا أمام إرادةِ الله إرادة، ولا نحب إلا ما يحبه ولا نرضى إلا بما يرضاه، فتنصهر إراداتنا الجزئية في إرادة الله تعالى لنا، راضين مستسلمين له سبحانه.

ويروى أنه شاع في القرن التاسع عشر عن الشيخ محمد نور العربي إنكاره الإرادة البشرية (الجزئية)، فلما بلغ السلطانَ عبد المجيد خان هذه الشائعةُ أمر بإحضار الشيخ إلى مجلس المحاضرات السلطانية ليسأله عن مقولته هذه، ودُعي الشيخ إلى مجلس السلطان، وسُئل عن مقالته تلك، فأجاب الشيخ: (أنا لم أنكر الإرادة الجزئية بحيث نفيتُ وجودَها أصلا، وإنما أنا قلت أنها في حكم العدم عند طائفة من الناس، حيث إنَّ أولياء الله تعالى لا يريدون إلا ما يريده اللهُ تعالى ولا يتصرفون إلا وَفقَ مراد الله تعالى، حتى إنَّ إرادتهم البشرية تكاد تكون معدومة، وإن لم يفعلوا ذلك فإنهم يرون أنفسهم مقصرين ويسيئون الأدب مع الحضرة الإلهية، فمثلا نحن الآن في حضرة السلطان، فإذا قال “تعال” أتينا، وإذا قال “اذهب” ذهبنا، ولا يسعنا أن نتصرف وفق مرادنا ونحن في حضرة السلطان، أما أولئك الغافلون الذين هم خارج حضرة السلطان فإنهم أحرار في إرادتهم، لا يحدهم أمر ولا نهي)

وهكذا فإنَّ شعورَ الإحسان ينبغي أن ينعكس على الأعمال بعد أن يترسخ في القلب، وإلا فإن الحديث عن المراقبة بلسان المقال دون الإحساس بها لا ينفع القلب شيئا.

أما مراقبة المحبة فهي المرحلة التي يتحقق فيها العبدُ بولاية الله تعالى، فكلما راعى العبد تقوى الله تعالى في كل أفعاله وأقواله ازداد معرفةً به سبحانه، وكلما ازدادت معرفةُ العبد بالله تعالى هيمنت محبتُه على قلبه، لأن َّكمالَ المعرفة يولِّد مشاعرَ الحب والإعجاب.وعند التحقيق نجد أن الله تعالى هو مصدر المحبة، فمن أسمائه “الودود” سبحانه، وهذا الاسم الشريف يدل على من يُحِب ويحَب كثيرا، ومَن أراد أن يحظى بمحبة الله تعالى فعليه أن يسعى لتزيين نفسه بالكمالات، كما عرضت الآيات الكريمة:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(المائدة، 54)

ويتحدث القرآن الكريم على لسان نبيه -صلي الله عليه وسلم-:

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (آل عمران، 31)

ويقول الله تعالى:

﴿…إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة، 195)

أي أنَّ الله تعالى يحبُّ المخلصين الذين يقومون بالأعمال على أحسن وجه، ويحب الكرماء والأسخياء.

﴿…إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة، 222)

﴿…وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران، 146)

﴿…إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ( آل عمران، 159)

﴿…إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات، 9)

﴿…إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة، 4)

﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف، 4)

فالله يحب الذين يجاهدون في سبيله كأنهم – لشدة توافقهم وتعاونهم – كبناءٍ قوي متماسكِ الأركان.

ويقول الله تعالى في الحديث القدسي:

(….وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ….)[5].

ويبين النبي -صلي الله عليه وسلم- بعضَ صفاتِ العباد الذين يحبهم الله تعالى:

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ)[6].

(إنَّ اللهَ رفيقٌ يحبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه، ويحبُّ كلَّ قلبٍ خاشعٍ حزينٍ رحيم، يعلِّمُ الناسَ الخيرَ، ويدعو إلى طاعةِ الله، ويبغضُ كلَّ قلبٍ قاسٍ لاهٍ، ينامُ الليلَ كلَّه، ولا يذكرُ اللهَ إلا قليلاً، ولا يدري تُرَدُّ إليه روحُه أم لا)[7].

(إنّ الله تَعَالَى يُحِبُّ الشّابَّ الَّذِي يُفْنِي شَبابَهُ فِي طاعَةِ الله)[8].

(إنّ الله تَعَالَى يحِبُّ أنْ يَرَى عَبْدَهُ تَعِباً فِي طَلَبِ الحَلالِ)[9].

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ، الْفَقِيرَ، الْمُتَعَفِّفَ، أَبَا الْعِيَالِ)[10].

(إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ)[11].

وهكذا، فكلما تحلى العبد بالصفات المرضيَّةِ عظُمت محبةُ الله له، ومِن ثَمَّ تتولد محبةُ الله تعالى في قلب العبد، فالمحبة إنما تبدأ من الله تعالى ثم يفيض بها قلبُ العبد تجاه الله، وتعظُم هذه المحبة في قلب العبد شيئا فشيئا حتى يحب بها كلَّ مَن في الوجود ماعدا أعداء الله.

فإذا أحبَّ اللهُ تعالى عبادَه جعلهم مركزَ جذبٍ نوراني، فأحبَّهم الناس دون أن يشعروا، وهذا مصداق قوله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـٰنُ وُدّاً﴾ (مريم، 96)

وهذا ما يؤكده فخر الكائنات سيدنا محمد -صلي الله عليه وسلم- في أحاديثه الشريفة:

(إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ)[12].

وإنَّ محبة الله تعالى ينبغي أن تسموَ في قلب العبد على كلِّ محبة، وعلى المؤمن أن يجعل من كل محبة أو تعلُّقٍ بنعمةٍ من نعم الله تعالى وسيلةً يتقرب بها إلى الله تعالى وينال بها محبته ورضاه.

فمثلا، على العبد أن يجعل من حبِّه للمال والحرصِ على اكتسابه وسيلةً لرضا الله تعالى بأن ينوي في تحصيله إنفاقَه في سبيل مرضاة الله تعالى، وكذلك ينبغي أن يتحول حب الأبناء والتعلُّق بهم إلى أن ينوي تربيتهم ليكونوا عباداً صادقين طائعين لله تعالى، وكذلك الأمر في المنصب والجاه والشهرة، فينبغي أن تتحول كلُّها إلى وسائلَ لخدمة العباد فيما يرضي الله تعالى.

وفي حقيقة الأمر أن المحبة تنشأ عن الصفات المشتركة بين الحبيب والمحبوب، فكلما تجلت الأسماء والصفات الإلهية في العبد ازدادت في قلبه المحبة الإلهية أيضا، وفي نهاية الأمر يتحقق الحال الذي يعبِّر عنه كبار الصوفية بقولهم: (تخلقوا بأخلاق الله تعالى)، وبهذه العلامات والإشارات فحسب يعرف المرءُ صحة مراقبته وصدقَ محبته لله تعالى.

الرحمن: هو الذي يرحم ويُنعم بجميع نعمه على كل مخلوقاته، وهذه الصفة من أكثر الصفات ذكراً في القرآن الكريم، وإذا تجلى اللهُ على العبد بهذا الاسم فإن العبد يفتح جناحي الرحمة والشفقة لكل مخلوقات الله تعالى وليس على نفسه وأهله فحسب.

المؤمن: هو الذي ينوِّر القلوبَ بنور الإيمان، وهو الذي يَهَبُ الأمانَ والحفظَ لمن يلوذ به، ويهدئ روعه، وهو الذي إذا وعد وثِقْتَ بوعده، وإذا تجلى الله تعالى على العبد بهذا الاسم تجذر الإيمان في قلبه، وصار محط ثقة الآخرين فلا يخون أمانته ولا يخلف وعده.

البارئ: هو الذي يخلق كلَّ شيءٍ من العدم، بنظام مُحكَم، وعلى غير مثال سابق، وهو أيضا الذي يؤلف أجهزة الجسم وأعضاءه بعضها مع بعض دون خلل أو نقص، وحين يتجلى الله على العبد بهذا الاسم فإنه يحيى حال مراقبة يرى فيها بديع صنع الله تعالى وتدفقات قدرته التي يفيض بها الكون، وتتولد عنده حساسيةٌ وعزيمةٌ تحمله على أداء كل فعلٍ من أفعاله في عَدْلٍ وإتقان.

المصوِّر: هو الذي خلق الخلق كلهم – بحكمته الأزلية – على هيئاتٍ متنوعةٍ وصورٍ مختلفةٍ، وحين يتجلى الله تعالى على عبده بهذا الاسم فإنه ينظر إلى كل صور خلق الله تعالى بعين التأمل والدهشة والإعجاب، فيرى الشمس المشرقة، ويتأمل تلك اللوحات البديعة التي ترسمها خيوط الشمس الـمُذْهَبَة في الأفق عند المغيب، ولا يرى فيها إلا صورةً من تجليات الله تعالى وبديع خلقه، فأولياءُ الله إذا نظروا إلى الثعبان الذي يزرع الموت في كل مكان يحِلُّ فيه لا يفزعون منه وإنما يعجَبون لدقة صنع الله تعالى الذي وهبه الحركة السريعة مع أنه لا أقدام له يسعى عليها، وكذلك ينظرون بعين الحكمة والعبرة إلى التربة الواحدة كيف تنبت أنواعا مختلفة من الورود والأشواك والثمار متباينةَ الألوان والأشكال والمذاقات.

مالك الملك: فالكون الفسيح هذا بكلِّ ما فيه من موجودات وملكوت ليس له مالكٌ غير الله سبحانه، والعبد حين يحظى بهذا الاسم الشريف يستشعر في أعماق نفسه أنَّ كلَّ ما وهبه اللهُ تعالى من مالٍ ومُلك إنما هو أمانة في يده، فلا يتعلق به وإنما يسعى للتخفف منه في أسرع وقت، وهكذا يعرف كيف يتعامل مع المال في هذه الدنيا فيبدأ بالتطهر من الخصال المذمومة المرافقة له كالإسراف والتقتير، ويتزيَّن بالخصال المحمودة المرجوَّة منه كالإنفاق والإيثار والتضحية والشكر لله -عز وجل- عليه، والتعظيم له سبحانه فهو صاحب النعمة ومالكها الحقيقي.

الرازق: وهو الذي يُنعم ويتفضل بجميع الأرزاق المادية والمعنوية على جميع المخلوقات التي خلقها، وفي ذلك يقول الله تعالى:

﴿وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (العنكبوت، 60)

ويقول سبحانه:

﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (هود، 6)

وإنَّ العبد – حين يتجلى الله تعالى عليه باسمه الرزاق – يصير متعلقا بالرزاق وليس بالرزق، يذكر كل لحظة الرازق الحقيقي وينبهر بجوده وموائده المنثورة في كل أرجاء الكون كل لحظة، ولذلك فعندما يسعى العبدُ لرزقه فلا يأخذه إلا من حِلٍّ، وإذا أنفقه فلا يمُنُّ على أحدٍ به لأنه يعلم أنه ليس إلا وسيلة لإيصال هذا الرزق إلى عبدٍ من عباد الله تعالى.

العدل: وهو الـمُنصِف وذو العدل المطلق الذي لا يظلم أحدا أبدا، والعدالة تعني إعطاء كل ذي حَقٍّ حقه، والعبد الذي يحظى بنصيبٍ من هذا الاسم الشريف ينفر من كل أنواع الظلم، فلا يظلم أحدا، وإنما يكون عادلا مع كل شيء حتى لو تعارض ذلك مع مصلحته أو مصلحة أحدٍ من أهله، وعند توزيع الحقوق لا يقدِّم على حق الله تعالى شيئا أبدا، ولذلك فإنه – بهذه الحال – يصير شهيداً لله تعالى في الأرض.

الغفور: أي واسع المغفرة، الذي يغفر ويصفح عن ذنوب العباد، ويعفو عنهم، والعبدُ الذي يتجلى فيه هذا الاسم يُقبل على الاستغفار والدعاء، وتراه متسامحا تجاه الإساءات والأخطاء التي تُرتكب في حقه.

العفو: أي كثير العفو، الذي يمحو ذنوب العباد ويتجاوز عنها، والعبد الذي يحظى بتجليات هذا الاسم يغتم بكثرة ذنوبه ويطلب من الله تعالى العفو عنها دوما، كما أنه ينأى بنفسه عن كل أشكال اليأس والقنوط، وهو من جهة أخرى متسامحٌ مع عباد الله، ويرى في العفو والصفح فضيلة عظيمة، فلا يقابل الشر بالشر متأسيا في ذلك برسول الله -صلي الله عليه وسلم- الذي كان يعفو عمن أساء له حتى أولئك الذين أساؤوا له عشرين سنة في مكة، فالعبد يرى لزاما عليه أن يأخذ نصيبه من هذا الاسم لأنه واحد من أمة هذا النبي العظيم.

إنه يَعتبر بذلك الدعاء الحار (يا رب، اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون !) الذي ضرع به الحلاج حين رجمه قومه.

الصبور: أي عظيمُ الصبر، فلا يسرع بالعقوبة لعباده المؤمنين، ومن يعيش في ظلال هذا الاسم يحوز مفتاحا مهما من مفاتيح التوفيق والثبات، فهو يثبت ولا يتقاعس أبدا عن نصرة الحق، ويصبر على ما يواجهه في سبيل ذلك، ويُفيد أيضا من نعمة الصبر في أداء العبادات والطاعات، وفي مقاومة الشهوات المحرَّمة والإغراءات، وفي الرضا والتسليم بقضاء الله تعالى وقدره.

الكريم: أي كثيرُ اللطف عظيمُ الإحسان، الذي اجتمعت في نفسه كلُّ الفضائل، والعبدُ حين يحظى بنصيبٍ من هذا الاسم الشريف يتخلص من كل أشكال البخل، وتترقى روحه حتى تراه يجود على العباد بكل خير، ويقتسم معهم كلَّ نعمة أنعم اللهُ بها عليه، وكذلك يحفظ نفسه من كل رذيلة ونقيصة تضرُّه، فالتكريم عند الله يوم القيامة إنما يكون بالتقوى لا بغيرها، فتراه يسعى جاهدا للتقدم في هذا السبيل.

الودود: أي الذي يحِب ويحَب كثيرا، والعبد حين يحظى بنصيبٍ من هذا الاسم يحب كلَّ مَن يحبه الله تعالى، ويحبه كذلك كلُّ شيء في هذا الكون، بيدَ أنه لا يحب الكافرين الذين استحقوا – بمعاصيهم – غضبَ الله تعالى وسخطه، وكذلك لا يكون محبوباً منهم.

فالمؤمنُ حين يكون قلبُه معلقا بالله تعالى في هذه الدنيا لا ينغمس في الرذائل والمفاسد، ولا ينشغلُ بالسخيف من الأمور والأحوال، ولا ينهمك في العبث والأباطيل، ولا يغتر بالخيالات والأوهام، فتراه لا يجيب الجاهلين حين يستفزونه، ولا يلطِّخ صفحة عمله بالنميمة والتفاهات، وإنما تراه ساعيا بكل جِدِّ ليكون وليا من أولياء الله تعالى.

إنّ أيّ قلبٍ حين تطفو على صفحته الشكوى والاعتراضُ والجحودُ بدل الشكرِ والتسليمِ والرضا حيالَ تقلباتِ الدنيا وتحولاتها فإنه يفقد شعور المراقبة لله تعالى.

وأما الذين يعيشون مع الله تعالى ويراقبونه على امتداد حياتهم فإن الله يكرمهم بهذه النعمة حتى أنفاسهم الأخيرة، ويعيشون في أفق هذه المعرفة، فينصرف القلب بكليته إلى الله تعالى، لأنه سبحانه هو وحده من يستحق أن تُخصص قلبكَ له، وتتخلص من كل محبة آفلة لهذه الدنيا ومتعها وإغراءاتها الزائلة، فالقلب حين لا ينشغل بالله تعالى فسيشغل بما سواه.

وكلما اقترب القلبُ من حقيقة المراقبة هذه اتضحت نظرتنا إلى هذا الكون شيئا فشيئا، فنراه آيةً من آيات الله تعالى، وحينئذٍ نستطيع أن نعمل بقوله تعالى:

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ﴾ (العلق، 1)

ويظهر للقلب بجلاء أنَّ كلَّ شيء في هذا الكون إنما هو تجلٍ لأسماء الله تعالى.

فأسماءُ الله الحسنى التي تتجلى في الكون والقرآن والإنسان إنما يعيها العبدُ حين يعيش تلك النشوةَ العظيمة إذ تتكشف الحجب أمام قلبه وعقله ووعيه، فيدرك في النهاية عجزَه وضعفَه أمام عظمة وكبرياء رب العالمين سبحانه.

[1]      صحيح البخاري، كتاب الإيمان، 50.

[2]      سنن الترمذي، أبواب الزهد، 2411.

[3]      شعب الإيمان للبيهقي، كتاب الصلاة، 3026.

[4]      شعب الإيمان للبيهقي، باب الخوف من الله تعالى، 727.

[5]      صحيح البخاري، كتاب الرقاق، 6502.

[6]      صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، 2965.

[7]      كنز العمال، 5370.

[8]      الجامع الصغير، 3625.

[9]      الجامع الصغير، 3639.

[10]     سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، 4121.

[11]     شعب الإيمان للبيهقي، باب الأمانات، 4929.

[12]     صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، 3209.