للرابطة في اللغة معانٍ عدةٌ منها: العلاقة، الصلة.
وعند التمعن في حقيقة المعنى نجد أنه لا ينفك عن الرابطة أي إنسان في هذا الكون أبدا، فالرابطة ضرورية للاستعانة والاستغاثة مادةً كانت أو معنى.
وبتعريف آخر فإن الرابطة عبارة عن المحبة، وهي استمرار العلاقة بين القلوب ندية مفعمة.
وللرابطة أنواع ثلاثة:
– الرابطة الطبيعية: وهي كلُّ محبةٍ يشعر بها المرءُ تجاه أقاربه، كتلك المحبة التي تُفطَر عليها الأم تجاه ابنها.
– الرابطة الشهوانية: وهي تلك التي تربط الإنسان بما تميل له نفسه وتشتهيه من ملذاتٍ محرمةٍ وميولٍ دنيئة، فعقلُ المقامر وقلبُه مثلا يكونان في حال انشغال دائم بالقمار حتى إنه ينسيه أهله ونفسه.
– الرابطة الشريفة (الرابطة الصوفية): وهي التعلُّق بالوسائل والطرق التي توجه الإنسان إلى الله تعالى عبر المفاهيم المقدسة والمشاعر السامية.
وتعد الرابطة إحدى أهم طرق التربية عند الصوفية وإن اختلف أسلوب تطبيقها بين طريقة وأخرى، وهي تعني استحضارَ المريد لصورة مرشده أمام عينيه، متذكرا أحواله وسجاياه، مستشعرا تجاهه الحب والإجلال، فهذه المشاعر السامية تستحثُّ المريد للاقتداء بمرشده، وتَشُدُّ من همته وعزيمته في ذكره وسعيه إلى الله تعالى.
وفي الاستدلال لهذه الرابطة بين المريد وشيخه نقول: إن الإنسان كائن مفطور في أصل خلقته على التأثير والتأثُّر بغيره، فالعدوى خصيصة بشرية لا ينكرها عاقل، وهي كما تنقل بين الناس الأمراض والأوبئة تنقل بينهم الصفات والأخلاق.
فالمشاعر الروحية لدى بعض الشخصيات المؤثرة تنتقل – على قوةٍ أو ضعفٍ وبحسبِ استعداد المتَأثِّر – إلى من يخالطهم، وبغض النظر عن شكل الانتقال سلبياً كان أم إيجابياً فإن الانتقال حاصلٌ لا محالةَ بما يمتد بين الطرفين من روابط الأنس والمحبة.
فمثلا، تؤثر أحوال الناس الذين تغلب عليهم رقةُ القلب والتضحيةُ والتسامحُ والعطفُ في المجتمع المحيط بهم، وما دور الرابطة – بما تحمله من مشاعر الحب والاحترام – إلا تسريع عملية التأثير هذه.
ولذلك كان على كلِّ مسلمٍ عاقلٍ أن يرتقيَ بأخلاقه إلى أقصى درجةٍ بمصاحبته للصالحين والصادقين والمتقين، ساعيا إلى أن يمد بينه وبينهم روابط الحب والإجلال لهم.
وعجبا لبعض العقول كيف تستقذر بقعاً ملوثة تتلطخ بها ثيابهم الأنيقة ولا يسوؤهم ما تُلوَّثُ به قلوبهم من سجايا وخِلالٍ قبيحة، إلا أن مَن لم ينورِ اللهُ قلبَه بنور معرفته يستهويه الشيطانُ ويخدِّر مشاعرَه فلا يُنكِرُ منكرا ولا يعرِفُ معروفا، ويترك لنفسه أن يتأثر سلبيا بأخلاق الفسقة بينما الله تعالى يريد منها أن تستظل بظلال قوله سبحانه:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة، 119)
والملاحظ أن الآية لم تخاطب المؤمنين بأن “كونوا صادقين”، وإنما أمرتهم أن يخالطوا الصادقين، فمخالطةُ الصادقين والأنسُ بهم ومحبتُهم هي أولى درجات السعي في درب الصدق، ويبقى التحقق بالصدق نتيجة لازمة في خاتمة هذا الدرب، وإلى هذا يشير المثل التركي: (تَسْوَدُّ عَنَاقِيدُ العِنَبِ حين تتناظر).
ويقول الخواجة عبيد الله أحرار في تفسير هذه الآية: (إن تعبير “كونوا مع الصادقين” الذي ورد في الآية الكريمة يعبر عن الأمر بالاستمرار في ملازمة الصادقين، وحين تذكر الكينونة مطلقةً فالمراد بها أن تشتمل على وجهين: حقيقي وحكمي، فالكينونة الحقيقية تستدعي حضور القلب في مجالس الصادقين، وأما الكينونة الحكمية فهي تستلزم تخيُّلَهم وتقليدَهم واستحضارَهم في حال غيبتهم)
فمعية الصالحين – بالقرب منهم ومشاهدة أحوالهم وحتى النظر إلى سيماهم النورانية – لها أثرٌ فعال ونتيجةٌ مؤثرة في تهذيب النفس.
ولذلك كان نعمةً عظيمةً أن يكرمك اللهُ تعالى بصحبة الصالحين لما في هذه الصحبة من عدوى خيرٍ وصلاح، فكما أن روائح الورد تَعْلَق بأطراف الحاضرين في جوارها كذلك الصلاح يسري بين الأرواح التي تجاور الصالحين، ذلك لأنَّ المحبةَ فيضٌ يسري بين روحين.
ويطلق تعبير “الفناء في الشيخ” على ذلك الأدب الرفيع والمحبة الخالصة اللذَين تفيض بهما جوارحُ المريد في حضرة شيخه وفي غيبته، وعلى ذلك التخلُّق بأخلاقه والتشبه بآدابه.
ومن المعروف أنَّ المشاعرَ والميولَ والصفاتِ والأعراضَ المجردة لا تقوم بذاتها وإنما لابد لها من هيئة تتلبس بها، فالعِلم يتجلى في العالِم، والعشق يسري في جوارح العاشق، والفن يبدعه الفنان.
وكذلك الروحانيات التي يفيض بها قلب المرشد تنتقل إلى السالك من خلال هذه المجالسة الحسية، وكذلك من خلال المجالسة المعنوية التي تكون في غياب المرشد حيثُ إنَّ مصاحبةَ الصالحين الدائمة متعذرة.
فتعدية الأحوال في الحقيقة تكون بنسبة المحبة والاستئناس، والمعية مع الصادقين والصالحين – بما تعنيه من محبتهم ومحاولة القرب منهم – تعتبر شرطا ضروريا لتقوى هذه المحبة وتنضج ثمارها المطلوبة.
وفي اللحظة التي يتعلق فيها المريد بشيخه ويحبُّه في الله تعالى تكون رحلة العشق الإلهي قد بدأت، فالقلب عندما يتعلق بالمعشوق الحقيقي وهو الله تعالى لن يكون لسواه أبدا، وكل هذه التعلُّقات بالصالحين ومحبتهم إنما هي كدرجات السُّلم التي يُرتقى بها إلى الغاية، وهي أشبه بمحاولات التدرب على الحب الإلهي الخالص، كمن يترقى من حب ليلى إلى حب مولاها، وأكثر هذه المراحل فيوضا إنما تكون عندما يلتقي المريد مرشدا كاملا يأنس به ويتعلق فيه ويخلص له، وعندما تصل المحبة بين المريد وشيخه إلى هذا النحو تسمى رابطة.
فعندما قال أحد الدراويش حين لجأ إلى أبي يزيد البسطامي: (أوصني بعمل يقربني إلى الله تعالى، أجابه أبو يزيد: أحبَّ أولياء الله حتى يحبوك، واجتهد أن تكون في قلب ولي، لأن الله تعالى ينظر إلى قلوب أوليائه كل يوم 360 مرة، فإذا رأى اسمك في قلب أحدهم غفر لك)
فالرابطة في التربية الصوفية هي في حقيقتها تربيةٌ للمريدِ على محبةِ الله تعالى، وترقيتِه شيئاً فشيئاً إلى هذا المقام الرفيع من خلال محبته للصادقين ومجالسته لهم.
فالرابطة تُحدِث – بقوة المحبة – رباطاً معنوياً سامياً في الحس والشعور، يصهر في بوتقة حب الله تعالى الأشخاصَ المتشبثين فيه، حتى تصبحَ قلوبُهم كأنها دررٌ نُظِمَت في سلكٍ واحدٍ.
و يعبِّر الشيخ سعدي الشيرازي عن سمات هذه العدوى التي تسري بين أحوال الصالحين ومريديهم: (إن من يصاحب الصالحين يشرف بهم ولو كان وضيعا، فها هو كلب أصحاب الكهف فاز بشرفٍ عظيم حين ذكره الله في القرآن الكريم، وما ذلك إلا لأنه صَاحَبَ المؤمنين الصادقين، وكذلك مَن يصاحِب الفاسقين يخسر ولو كان شريفا، فها هي زوجة سيدنا لوط عليه السلام خابت وخسرت وباءت بالنار والخسران لأنها كانت مع الفاسقين)
و يتابع الشيخ الشيرازي حديثه وتمثيله لهذه الخاطرة في مؤلفه (جولستان) وكيف أن المصاحبة تُعدي: (يذهب أحدُهم إلى الحمام مع صديقه، فيعطيه طينة ذات رائحة زكية يتطهَّر بها، وتفوحُ العطور منها وتعبَق في المكان، فيسأل الرجلُ الطينَ: ما أطيب ريحكِ أيتها الطينة العَطِرَة، بالله أخبريني من أيِّ أنواع الطيوب أنتِ، أمسكٌ أنت أم عنبر ؟، فتجيبه قطعةُ الطين الزكية: أنا لست مسكاً ولا عنبراً، أنا طينة من طين الأرض ليس غير، إلا أني كنت تحت وردةٍ عَطِرَةٍ أتبلل كلَّ يومٍ بنداها، فهذه الرائحةُ التي تسحرُك الآن إنما هي أثرٌ من آثار تلك الوردة التي صحبتُها ردحا من الزمن).
وكذلك المريد حين يُسلم قلبَه لأولياء الله تعالى ويُخلص لهم وده ويتواضع بين أيديهم، فإنه تفيض على قلبه صورُ الجمال المطبوعةُ في قلوب هؤلاء الصادقين، كالقمر الذي ينير الكون في كبد السماء، إنما ينعكس نور الشمس على صفحته فيضيء مع أنه مظلم في ذاته.
فقلب المرشد الكامل الفاني في الله تعالى، يكون محطَّ تجلياتِ الله تعالى ورحماتِه، ثم يكونُ كالمرآة تعكس هذه التجليات، ومورداً صافياً عن كل شائبة، يَرِدُه السالكون ليتطهروا من كل ما عَلِقَ بهم من مساوئ ومخازٍ، وليرتووا من هذه الأحوال الشريفة العلية.
ولذلك في كثير من الأحيان لا تكون الصحبة الحسية خيراً من الصحبة المعنوية كما يتوهم بعضُهم، إذ إنَّ كثيراً من المريدين يعيشون في أكناف الصالحين وتحت أنظارهم لكنهم غافلون سادرون لا يقتبسون من أنوار من يصاحبونهم قليلاً ولا كثيراً، بينما تجد مريدين حجزت بينهم وبين مرشديهم مفاوز شاسعة لكنهم يتحرقون للقائهم ويقبسون من أنوارهم، حيثُ إنَّ رباطَ الشوق والمحبة – وإن بَعُدَ المزار – أقوى وأشدُّ من رباط المكان، ويعبِّر العقلاء عن هذا بقولهم في المثل المشهور: (من في اليمن معي، ومن معي في اليمن) فليست العبرة أن تلتقي مع الصادقين لقاء الأجساد، وإنما أن تلتقي معهم لقاء الأرواح.
وكذلك، ليس الأمر موقوفا على المرشد ورسوخ قدمه في التربية والإرشاد،وإنما الأمر يعتمد أيضا على المريدِ وصدقِه في الطلب وإخلاصِ نيته في سيره إلى الله تعالى، فكلما صدقَ المريدُ وأخلصَ النية ازدادَ قربا إلى الله تعالى ورقيا في مقامات محبته سبحانه.
فالفرق بين مقامات المريدين إنما يتولد عن استعداد كلٍّ منهم وعن صفاء المحبة التي يفيض بها قلب كلِّ واحد فيهم، فسواء وضعت كأسك في اليم الواسع أو في إناء صغير فلن تملأ إلا مقدار الكأس التي تغرف بها، فالعيرة بالكأس لا بالمورد الذي تضع الكأس فيه، ولذلك حتى يستفيد المريد لابد أن يكون مقبلاً ومتهيئا.
و كذلك فإنَّ خاصية العدوى تكون سلبيةً كما تكون إيجابية، فمن يجالس الفسقة والضالين يصيرُ منهم، فرجال هامان وفرعون إنما تفرعنوا وتكبروا على عباد الله لمخالطتهم فرعونَ وهامان.
ولذا فقد جاء في الحديث الشريف:
(المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)[1].
وجاء أيضا: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)[2].
وخلاصة ما سبق، أن الرابطة إنما هي وسيلةٌ تحافظ على نضارة المحبة وبريقها، وتطهِّرها من شوائب الغفلة والانحراف، أما ما قد يذهب إليه بعضُهم أو يبالغ فيه من إضفاءِ القداسة على المرشدين والصالحين فهذا من مجاوزة الحق، والذي قد يفتح بابا للشرك أعاذنا الله وإياكم منه، وهنا تنزلق أقدامٌ وتَزِلُّ نفوسٌ كثيرة، فالمرشدُ الكامل ليس طرفا ثالثا بين المريد والله تعالى – فلا رهبنة في الإسلام ولا إكليروس – وإنما المرشدُ الكامل قدوةٌ للمريد وأسوةٌ يأخذ بيده ليصل به إلى غايته، ووسيلةٌ يتطهر بها المريد وينقي باطنه ويتعلم حال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ليأتسي به، أما القداسة التي يزعمها بعضُهم للأولياء فهي لا تكون إلا لله تعالى وحده، فهو وحده القادر والقوي، وكلُّ عبدٍ مهما علت رتبتُه يظلُّ عاجزا وضعيفا ومفتقرا لله تعالى.
[1] صحيح البخاري، باب علامة حب الله تعالى، 6168.
[2] سنن أبي داود، كتاب اللباس، 4031.