ذكرنا سابقا أن ذكر الله يُعد أحد أهم طرق المرشدين إلى الله تعالى، ولذلك فقد وضعوا طرقا وأساليب متنوعة على مدى تاريخهم الطويل حتى يصلوا إلى مقام الفناء في الله تعالى، ويغيبوا في ذكره عن الوجود كله، فلا يبق في القلب أحد إلا هو سبحانه وتعالى.ولكنْ ثمَّةَ طريقةٌ نود أن نعرض لها هنا بشيءٍ من التفصيل، وهي طريقةٌ يصل بها العبد إلى مقام الذكر الكلي، فتصير كلُّ جوارحه وأعضائه تذكر الله تعالى، وتكون هذه الطريقة من خلال تحديد اللطائف الروحانية في جسم الإنسان.
فكما أنَّ في الجسم مراكزَ حسيةً تقوم على رعاية الجسد كذلك ثمة مراكز معنوية ترعى الروح وتعتني بها، وكما يُطلَب من أحدنا أن يحافظَ على مراكز جسمه الحسيةِ كالقلبِ والمخِّ والرئةِ والكَبِدِ لتستمر الحياةُ كذلك يكون من الضروري أيضا أن نرعى مراكزنا الروحيةَ ونحفظ سلامتها حتى نحافظ على يقظة روحنا ورقة شعورنا.
وهكذا حدد بعضُ أهل الله تعالى لطائفَ ومراكز في الجسد – بالإلهام والتجربة – ترعى الروحَ وتقوم على شؤونها، وقد ذكروا لها مواضعَ ومسمياتٍ متنوعةً نختصرها كما يلي:
– القلب: وهو اللطيفة التي تتموضع في قطعة من اللحم صنوبرية الشكل، والتي تقع تحت أصبعين في الجانب الأيسر من الصدر، أعني هي اللطيفة المعنوية التي تشكل المركز الحسي داخل قلبنا المادي المعروف.
– الروح: هي اللطيفة المعنوية الواقعة تحت أصبعين في الجانب الأيمن من الصدر.
– السر: هو اللطيفة المعنوية التي تتوضع على مقدار أصبعين من أعلى الجانب الأيسر في الصدر.
– خفي: هو اللطيفة المعنوية التي تتوضع على مقدار أصبعين من أعلى الجانب الأيسر في الصدر.
– أخفى: وهي اللطيفة المعنوية التي تقع في مركز الصدر وتتوسط اللطائف الأربعة السابقة.
– النفس الناطقة: هي اللطيفة المعنوية التي تمتد على هيئة خط من بين الحاجبين إلى الأعلى.
– الذكر السلطاني: حيث يستولي الذكر على كلِّ ذرة من ذرات الجسد، فلا ترى جارحة في الجسد إلا وهي غارقة في ذكر الله تعالى، وبعبارة أخرى أن تتحول الجوارح كلها إلى اللطائف المذكورة في الأعلى وتتعود على ذكر الله تعالى.
ويبين المرشدون الذي يقومون على تهذيب القلوب وترقيتها أن هذه اللطائف ليست من عالم “الخلق”، وإنما هي سِرٌّ من أسرار عالم “الأمر”، وأنها – على وضوحها عند أهل الله – إلا أنه تعجز القوالب اللغوية عن توضيحها وبيانها لنا.
ويبين لنا المرشدون – الذين يَعُدُّونَ الذِّكرَ أهمَّ طرق الوصول إلى الله تعالى كما ذكرنا آنفا – أن الذكر يكون على حالين، ذكراً جهرياً يقوم بالأعضاء والجوارح الحسية، وذكراً خفياً تتلبَّس به اللطائفُ المعنوية، وتحلق فيه الروح، وهذا هو الذكر المقصود في قوله تعالى:
﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (الأعراف، 205).
ولما كان الذكر الخفي لا يقوم إلا بهذه اللطائف فإنها لا تنشط ولا تقوى إلا بكثرة الذكر ودوامه، وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمود سامي– وهو من كبار عارفي العقود الأخيرة – قدس سره:
(إن الشرط الأول لتوفيق القلب وتصفيته هو الذكر الدائم المتصل، لأن الله تعالى يقول:
﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾ (الأحزاب، 41)
وإلا فالذكر القليل لا يكفي لترقيق القلب، وإنما يرق القلب بكثرة الذكر، وعلى الإنسان ألا يسمح لشيء أن يمنعه من بلوغ هذا المقام، فبه يكون من المكرمين ويتطهر قلبا وقالبا، ويشع نورا وحكمة)[1]
ويتحدث صاحبُ الوفا الأستاذ موسى طوباش قُدِّسَ سِرُّه مبيِّناً أهميةَ ذكرِ الله تعالى في تربية الروح وتزكيتها:
(إنَّ الذكرَ الكاملَ هو معيارُ عِشق الله تعالى والإيمانِ به، فالـمُحِبُّ لا يكاد يغفُل عن ذكرِ مَن يحبُّه، ولا يفتأ يردد اسمه في كلِّ لحظةٍ من ليلٍ أو نهار، فمَن نالَ شرفَ ذِكرِ اللهِ تعالى فقد نال كل خير، ومن حُرِمَ من شرفِ ذكر الله تعالى حُرِم من كل خير، فبذكر الله تعالى يتنوَّر القلبُ ويزكو، وتطمئنُّ النفسُ وتعلو، والمشغولُ بالذكر والمداومُ عليه يَعمُر قلبُه بالخير، وتتزين فعالُه وأخلاقُه بالحسن والبهاء، وتَسعَد روحُه وتهفو.
فحينما يصل العبد إلى مقام العشق الإلهي يفنى كلُّ شيء في قلبه إلا ذكر الله تعالى، ويغيب كلُّ معشوقٍ وتَعَلُّقٍ بغيره سبحانه، فلذلك كان على العبد ألا يشغل قلبه بغير ذكر الله تعالى، وأن يجتهد في إيقاظ روحه وترقيتها بذكر الله تعالى حتى يفيض هذا الذكر وتنعم به كل لطائف النفس وجوارح الجسد)[2]
فالإنسان من حيث الجسد الفاني خُلِق من تراب وسيعود إلى تراب، وأما من حيث الروحُ الخالدةُ فهي نفخةُ الله وروحٌ منه، ويوم البعث سيكسو الروحَ جسدٌ جديدٌ، يكون إما مظلماً وإما منوراً، وهذا بحسب مقام الروح في الدنيا والحال التي كانت عليها، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى:
﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (آل عمران، 106، 107)
فعندما نرتقي بأرواحنا في الدنيا وتشرق بأنوار ذكر الله تعالى فستشرق في الآخرة أيضا،فعلينا أن نغتنم حياتنا قبل الموت لنسعى جاهدين إلى التلحف بهذه النورانية يوم القيامة.
[1] محمود سامي رمضان أوغلي، Bayram sohbetleri، دار الأرقم للنشر ، اصطنبول 2005 ، ص44 .
[2] صادق دانا، Altinoluk sohbetleri، دار الأرقم للنشر،اسطنبول ، 2004 ، ص 66 .