مقالات متنوعة

نحن بحاجه اليوم إلى المؤمنين من أهل القلب

هناك الكثير من أوجه العون التي قدمها الحق سبحانه وتعالى لإخراج بني آدم من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الهداية. وجعل الكون مدرسة تُعرض فيها القدرة والعظمة الإلهية. وأنزل من لدنه الكتب الإلهية التي من شأنها أن تدرس في مكتبة الكون هذه. وأرسل الأنبياء والرسل معلمين ومدرسين في هذه المدرسة.

يُعد الأنبياء والرسل أعظم المربين للبشر. فهم شخصيات نموذجية ومُثل مكلفون بالإثبات الفعلي والمشاهد لكيفية تطبيق الأحكام الإلهية في الحياة.

فالناس يُعجبون ويفتنون بالشخصية والصفات المتميزة. فحتى المشركون قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي نشأ وترعرع برعاية التربية الإلهية “الصادق الأمين” ، واعتمدوا عليه، ووثقوا به أيما ثقة لحين بلوغه الأربعين عاماً من عمره. ولما أوكل الله سبحانه وتعالى مهمة النبوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنه أول ما فعله أن قام بحمل المشركين على الإقرار بشخصيته وصفاته المميزة. حيث نادى على قومه سائلاً:

«أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟»

قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، وبعد أن انتزع الرسول صلى الله عليه وسلّم من قومه إقرارهم بصدقه بدأ بتبليغهم الحقائق الإلهية. (البخاري، التفسير، 26/4770؛ مسلم، الإيمان، 355)

حتى أن زعيم المشركين أبو جهل وأصحابه كانوا مقرين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم. حيث قالوا له عليه الصلاة والسلام ذات يوم:

“يا محمد؛ إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به”

وبذلك فإنهم رفضوا وأنكروا حقيقةً أقرت بها ضمائرهم اتباعاً لأهواء أنفسهم. فأنزل الله سبحانه وتعالى:

{…فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33؛ الترمذي، التفسير، 6/3064)

فأعداء النبي صلى الله عليه وسلّم كانوا يسلمون بسوية شخصيته، واستقامته، وأمانته، وصدقه، وأنه يستحيل أن يأتي بخبر كذب.

إذاً إن المسلم يكون في المجتمع الذي يعيش فيه مثال الصدق، والعدالة، والأمانة. يقدم شخصية نموذجية ومثالية. وتطابق أفعاله أقواله.

ومن جهة أخرى كان النبي عليه الصلاة والسلام يطبق الأوامر والنواهي التي يتلقاها من الله  تعالى على نفسه بحرص ودقة شديدة، ثم يبلغ ما نفذه بذاته لأمته. لذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم بحياته المستقيمة قرآناً حياً يمشي على الأرض؛ وتفسيراً فعلياً للقرآن الكريم بأخلاقه الحميدة.

لقد قلنا أن الناس يُعجبون ويفتنون بالشخصية. حيث أن الكثير من المسلمين في عصر السعادة كانوا أميين لا يعرفون القراءة والكتابة. وحتى الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة أدركوا حقيقة الإسلام وصدقية هذا الدين وتشرفوا بالهداية، وتعلموا أحكام القرآن الكريم وأخلاقه من خلال رؤيتها متجسدة في شخص النبي وأصحابه. لذا فإن تجسيد الإسلام وتقديمه في شخصية حية أمر بالغ الأهمية.

كما وإن هذا المنهج يُعد من أكثر أشكال التبليغ تأثيراً وفعالية. أي أن تبليغ الحقائق الإلهية عن طريق أمثلة حية مشخصة يؤدي إلى نتائج أكثر إيجابية وبركة من الطريقة التي تكتفي بالتبليغ القولي. وذلك لأنه في غالب الأحيان يصعب على فكر الإنسان استيعاب وفهم الحقائق المجردة. ولكن عندما يرى الإنسان هذه الحقائق متجسدة في شخصيات وحوادث ظاهرة مرئية يسهل عليه إدراكها.

ولهذا قال مولانا جلال الدين الرومي: “الواعظ بالحال خير من الواعظ بالقال”.

ومن جانب آخر فإن ما جعل الإسلام ذا رؤية عالمية حقيقية وراسخة ومتألقة هو إثبات قابليته للتطبيق والتنفيذ في الحياة وعلى أرض الواقع بالأمثلة والنماذج المشخصة الحية. أي كونه يمتلك “معايير فعلية”. وأما النظريات والفلسفات البشرية المحرومة من هـــــذه الخاصية فقد حكم عليها بالتفسخ والاضمحلال على رفوف المكتبات المغبرة، ولم تفلح يوماً في تحقيق السعادة والطمأنينة للبشرية.

يُعد النبي صلى الله عليه وسلّم أحد بدائع خلق القدرة الإلهية، وخوارق صنعتها التي تجلت في البشرية. فقد قدم الحق سبحانه وتعالى نموذج “الإنسان الكامل” الذي أراده بالإسلام في شخصه عليه الصلاة والسلام.  جاء في الآية القرآنية:

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء: 193-195)

لذا لا يمكننا دون فهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلّم، والغوص في عوالم قلبه، واتخاذ سنته السنية دستوراً لحياتنا لا فهم القرآن الكريم فهماً صحيحاً، ولا الوصول إلى الأسرار والحكم الإلهية المتناثرة في هذا الكون، ولا تقديم شخصية إسلامية موزونة ومقبولة. وقد جاء في آية قرآنية أخرى:

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (فصلت: 33)

إذاً؛ دعوة الناس إلى الله تعالى تتطلب أولاً تطبيق الإسلام والسير على التقوى، ثم بعد ذلك القيام بتبليغ هذه الحقائق والأحكام التي تم تنفيذها وتجسيدها على أرض الواقع. وينبغي أن تتجلى أخلاق الإسلام في شخصنا وحياتنا. فمثل هؤلاء يمتدحهم الله تعالى ويثني عليهم…

لقد تجلت صفة “الأسوة الحسنة” التي تمتع بها النبي صلى الله عليه وسلّم في العبادات،والمعاملات، والأخلاق، والمعاشرة، وباختصار تجلت في كافة ميادين الحياة. إذ أن الإسلام كل متكامل ينظم كافة مجالات الحياة دون أن يدع أي فراغ أو مجالاً مهما كان صغيراً أو ثانوياً. ونورد فيما يلي بعض الأمثلة على صفة الأسوة الحسنة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم:

الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل أسوة حسنة في الروحانية في العبادات:

فصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانت دائماً حالة من المعراج، أي كانت حالة وصل لا توصف مع الحق سبحانه وتعالى. فكما أن قبلة بدنه في الصلاة كانت الكعبة، فإن قبلة قلبه كان رب الكعبة سبحانه وتعالى.

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يدع المصلي في صلاته كافة المشاغل والأفكار الدنيوية، ويتوجه بقبله وكيانه كله للحق سبحانه وتعالى وحده دون غيره؛ وذلك حين قال لمن سأله عن كيفية الصلاة:

إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع….”       (ابن ماجه، الزهد، 15/4171)

وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الناحية القلبية للصلاة:

الصلاة مثنى مثنى، تشهد في كل ركعتين، وتخشع، وتضرع، وتمسكن،…” (الترمذي، الصلاة، 166)

ويتحدث عبد الله مطرف عن خشوع النبي صلى الله عليه وسلّم في الصلاة ناقلاً عن أبيه، فيصور لنا المشهد الآتي:

“أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل” (أبو داوود، الصلاة، 156-157/904؛ أحمد، 4، 25، 26)

وذات مرة قام النبي صلى الله عليه وسلّم الليل فأطال الصلاة حتى تورمت قدماه، وتبللت لحيته وحجره ومكان سجود بدموعه المباركة. ولما قيل له: يا رسول الله، أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم وما تأخر؟ قال:

أفلا أكون عبداً شكوراً” (انظر: ابن حبان، 2، 386)

إذاً؛ عندما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلوا كما رأيتموني أصلي… فإنه يأمرنا نحن أمته أن نكون في صلاتنا بحالة تناغم وانسجام تام بين القلب والبدن وكأننا بحالة معراج. ويوجهنا أن نلتزم بهذه العناية التي أبداها بالصلاة في كافة نواحي حياتنا التي هي عبارة عن عبادة بكليتها.

النبي عليه الصلاة والسلام أفضل أسوة حسنة في الرفق في ميدان الأخلاق:

جاء أعرابي كان قد أسلم حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهو في مسجده، فقضى حاجته في زاوية من المسجد. فقام إليه الصحابة  وزجروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:

دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين” (البخاري، الوضوء، 58، الأدب، 80)

ثم بعد أن قضى الرجل حاجته أخذ النبي صلى الله عليه وسلّم يعلمه آداب المسجد وأهميته بأسلوب رقيق لطيف.

ولم يكن كره النبي صلى الله عليه وسلّم للسيئة والذنوب يتعدى إلى المذنب. وإنما كان يتعامل مع المذنب تعامله مع الطائر الجريح المحتاج إلى المعالجة والمداواة بمنتهى الشفقة والرحمة.

النبي عليه الصلاة والسلام أفضل أسوة حسنة في التأني والصبر والتحمل في المعاملات:

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلّم حسن المعشر في التعامل مع غير المسلمين والمنافقين فحسب، وإنما كان يتصرف بمنتهى التأني والصبر مع فظاظة حديثي الدخول إلى الإسلام الذين لم يدركوا بعد جوهر الإسلام ومحاسنه وجماله. فقد جاءه أعرابي من الصحراء وناداه بأسلوب فظ قائلاً: يا محمد، يا محمد!. وأخذ يكرر نداءه الفج هذا مرات عديدة. ورغم ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلّم يرد عليه في كل مرة ويسأله عن حاجته بلطف. أي أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن يتخلى عن تؤدته وحسن تعامله مهما كان الإنسان الذي يخاطبه فظاً وغليظاً.

إذ ورد في حديث نبوي شريف وصف لين جانب الإسلام بالصورة الآتية: “مثل المؤمن كمثل النحلة لا يأكل إلا طيبا ولا يضع إلا طيبا” (البيهقي، الشعب، 5، 58/5381)

والتربية الصوفية تستوجب هذا.

حيث أن الدرس الأول في التصوف هو تجنب الإساءة والأذى، والدرس الأخير هو عدم التأثر بالأذى والإساءة. أي الوصول إلى فضيلة العفو عن عباد الله تعالى من أجل استحقاق العفو الإلهي. قال رسول صلى الله عليه وسلّم:

“…لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد…” (الترمذي، القيامة، 34/2472)

إلا أنه ورغم كل ألوان الأذى التي تعرض لها ظل متجملاً بذروة الحمد، والشكر، والرضا، والصبر، والتحمل، والتوكل، والتسليم، ولم يفقد طمأنينته وسكينته قط.

ولهذا نجح الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلّم الذي تحمل مختلف أشكال الأذى في سبيل الله، ووفق في دعوته، ولم يفكر أبداً في الانسحاب والتخلص من أذى الناس حتى في أوج قوة المسلمين والانتصارات التي حققوها بكرم الله تعالى وإحسانه. فذات يوم بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجلس على مائدة طعام بين جماعة من أصحابه جاثياً على ركبته لكثرتهم رآه أعرابي فقال مستغرباً ومعبراً عن إعجابه ودهشته بأدب رسول الله الرفيع وحسن معاشرته: ما هذه الجلسة؟ فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله:

إن الله جعلني عبداً كريماً، ولم يجعلني جباراً عنيداً” (أبو داوود: الأطعمة، 17/3773)

أي أن النبي صلى الله عليه وسلّم بين له بذلك أنه لن يتصرف تصرف المغرورين والمتكبرين أبداً.

وأشار صلى الله عليه وسلّم الذي كان مثلاً أعلى في خفض الجانب والتواضع، وحسن المعشر إلى أن الصفات المذمومة مثل العناد، والتجبر، والظلم، والغرور، والكبر لا تليق بشخصية المؤمن أبداً.

وكان عم النبي صلى الله عليه وسلّم العباس رضي الله عنه يتألم ويحزن كثيراً لما يراه مما يتعرض له ابن أخيه من الأذى والإساءة على أيدي الناس الذين يدعوهم إلى الهداية وطريق الرشاد. ولهذا فإنه كان يريد أن يجلس ابن أخيه فخر الكائنات على عرش رغبة منه في أن يخلصه ولو من بعض ما يعانيه من المشاق والأذى. إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلّم قال:

والله لا أزال بين ظهرانيهم ينازعوني ردائي ويصيبني غبارهم حتى يكون الله يريحني منهم!”       (ابن سعد، 2، 193؛ الهيثمي، 9، 21.)

إذاً؛ على المؤمن أن يكون ظريفاً حسن المعشر لين الجانب في كل أحواله. أن ينشر التواضع والطمأنينة في كل مكان يحل فيه مثله كمثل الوردة العطرة التي تفوح منها الرائحة الطيبة.

النبي صلى الله عليه وسلّم أفضل أسوة حسنة في اللباقة واللطف:

لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلّم فجاً ولا فظاً في التعامل مع الأخطاء والهفوات التي تصدر من المؤمنين. فلم يكن من شأنه توبيخهم، أو تأنيبهم بصورة مباشرة، وإنما كان يستخدم عبارات تعبر بصورة غير مباشرة ولبقة إلى تلك الأخطاء وعدم  رضاه عنها، فيقول مثلاً:  “ما لي أراكم! ما بال أقوام!”.

يقول  أنس رضي الله عنه  متحدثاً عن التربية المحفوفة بالمحبة التي كان يتلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا شممت ريحاً قط أو عرفاً قط أطيب من ريح أو عرف النبي صلى الله عليه وسلّم…..خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشر سنين، والله ما قال لي: أفاً قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟” (البخاري، الصوم، 53، ؛ مسلم، الفضائل، 82)

وقال الله سبحانه وتعالى عنه:

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)

النبي صلى الله عليه وسلّم أفضل أسوة حسنة في النور الذي في سيماه:

إن سيرة الإنسان تنعكس في صورته. وحالة الإنسان الروحية تتضح من سيماه.

لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة المنورة ذهب إليه عبد الله بن سلام وهو من علماء اليهود لما كان لديه من فضول لرؤيته. ولما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ونظر إلى وجهه قال: إن هذا الوجه ليس بوجه كذاب، ثم أسلم.(الترمذي، القيامة، 42/2485؛ أحمد، 5، 451)

وعندما يذكر الله تعالى صفات المؤمنين الأخيار الذي تشرفوا بصحبة خير خلق الله رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:

{… سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ…} (الفتح : 29)

الرسول صلى الله عليه وسلّم أفضل أسوة حسنة في طلاقة اللسان:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم سلس الكلام، طليق اللسان، فصيح العبارة، بليغ البيان لا يجاريه في ذلك أبلغ وأفصح العرب. فحديثه كان حلواً عذباً يأخذ بمجامع القلوب، وكلماته كانت معبرة عما يريد دون إطالة أو تقصير. كان يتكلم بتؤدة بحيث يفهمه السامع ويدرك مراميه بكل يسر. فلم يكن سريع الحديث. وباختصار كان أفصح الناس، وأبينهم لمراده، وأحسنهم منطقاً وإيجازاً وحكمة في الحديث.  وعن أبي قرصافة قال:

“ذهبت أنا وأمي وخالتي فأسلمنا وبايعنا رسول الله. ولما وبايعنا ورجعنا من عنده منصرفين قالت لي أمي وخالتي: يا بني! ما رأينا مثل هذا الرجل، ولا أحسن منه وجهاً، ولا أنقى ثوباً، ولا ألين كلاماً! ورأينا كأن النور يخرج من فيه”. (الهيثمي، 8، 279-280)

والحاصل؛ على المؤمن المتخلق بالأخلاق النبوية أن يدغدغ أرواح الناس ويؤجج مشاعرهم بجماله وطيب رائحة مثل الزهرة المتوردة طيبة الرائحة. فينبغي أن يكون كلامه مؤلفاً من عبارات براقة تشكل غذاء للروح. وأن لا تفارق الابتسامة محياه، ولا الرحمة والشفقة لسانه وقلبه النقي.

وهناك حقيقة أخرى حول مسألة صفة القدوة/الأسوة التي يتصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهي أن الإنسان العادي ربما لا يستطيع أن يكون قدوة إلا لمن هم في منزلته وحالته الاجتماعية. لذا فإن الحق سبحانه وتعالى كتب للنبي صلى الله عليه وسلّم أن يمر بكافة أحوال ومراحل ومراتب الحياة الدنيوية من اليتم ورعي الغنم والفقر إلى قيادة المجتمع ورئاسة الدولة كي يكون قدوة لكل إنسان. وبذلك فإنه يُعد قدوة حسنة لكل فرد من أفراد المجتمع مهما علا شأنه أو نزل حتى قيام الساعة.

فلا يستطيع أحد القول: “لا مثيل لما تعرضت له من أشكال الصعاب والمشاق والأذى الجسام لا لدى رسول الله، ولا في الكتاب الذي جاء به، وفي المجتمع الإسلامي الذي أنشأه”. حيث أن نظام الحياة الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلّم تام ومتكامل وقادر على الإجابة على مسألة وقضية من القضايا التي يمكن أن تواجهها الإنسانية حتى يوم القيامة.

عمل النبي صلى الله عليه وسلّم بدوره على تنشئة وتربية أصحاب الصفّة الذي سيتولون مهمة تبليغ الدعوة للناس،

وإرشاد الأمة من بعده. وأرسلهم إلى بلدان بعيدة، فكانوا ممثلين لرسول الله في تلك البلاد التي ذهبوا إليها. وتتلمذ الصحابة الكرام على يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فتعلموا منه العلوم، وحصلوا إلى جانب ذلك على نصيب من حاله، وأخلاقه، وإخلاصه، وتقواه. فأدركوا ما لديه من وجد العبودية، وحماس وجهد التبليغ، ومشاعر التقوى بالعين المجردة والإحساس المباشر. وينبغي اليوم تزويد طلبة العلوم الإسلامية بتلك الحال، والمحبة، والتقوى إلى جانب ما يحصلونه من العلوم.

يقول الحق سبحانه وتعالى:

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ…} (آل عمران: 110)

إذاً؛ يعمل المؤمن قبل كل شيء على إحياء نفسه ظاهراً وباطناً، ثم يقوم بالتبليغ بهذا المقام. فإن لم يفعل ذلك ، أي إذا لم يطبق ما يقوله على نفسه، وألقى بخطابات جوفاء غير نابعة من القلب وصادقة فإنه لن يحدث أي تأثير إيجابي أبداً. وقد شبه الله تعالى في سورة الجمعة مثل هؤلاء، أي الذين لا يكونون قدوة ومثلاً بأفعالهم وتصرفاتهم  بالحمار الذي يحمل على ظهره أسفاراً.  و يحذر تعالى من مثل هذا السلوك فيقول:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ …} (الصف: 2-3)

فمن البديهي أن مثل هؤلاء الغافلين الذي لا تختلف أفعالهم عن أقوالهم، ولا يتطابق جوهرهم مع مظهرهم لن يفلحوا في إيقاظ الآخرين من غفلتهم. إذ كيف  لنائم أن يوقظ غيره؟!. والأنبياء شخصيات نموذجية أرسلت لإيقاظ الناس من غفلتها.

بعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الحياة الأبدية حمل لواء الإسلام الصحابة الكرام، والتابعون، وتابع التابعين، ومن بعدهم أجدادنا العثمانيون حتى وصلوا به إلى قارات العالم كلها. وقد فتح العلماء العاملون، والعارفون، والأولياء الصالحون القلوب قبل البلاد. وأصبحوا مظهراً للعون والمدد الإلهي بقدر نجاحهم في الاتصاف بصفة الأسوة الحسنة التي كان يتصف

بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتبليغها للناس.

وبذلك صاروا وسيلة للهداية والفتوحات المادية والمعنوية  على حد سواء.

فعندما فتح السلطان محمد الفاتح البوسنة جاء بأناس أطهار من الأناضول وأسكنهم في هذه المنطقة. فأعجب البوشناق بحياة هؤلاء وأفعالهم السامية فدخلوا الإسلام جميعاً. أي أن سكان تلك المناطق استهدوا إلى نور الإيمان ببركة التبليغ الذي قام به أولئك الأطهار الذين جاؤوا إليهم من الأناضول بأحوالهم لا بأقوالهم فقط.

وإذا رجعنا إلى التاريخ قليلاً نجد أن التجار المسلمون أصبحوا بحرصهم على الالتزام بقانون وأخلاق التجارة، ورعاية حقوق العباد، والوقوف عند حدود الحلال والحرام، أصبحوا وسيلة لدخول إندونيسيا للإسلام والتي تعد من أكبر الدول الإسلامية بعدد السكان المسلمين اليوم.

هناك أمثلة لا تعد ولا تحصى عن الحالات التي صارت فيها نموذجية المسلم الفعلية وسيلة للهداية. ومن هذه الأمثلة ما يتحدث عنه والدي المرحوم موسى أفندي، حيث يقول:

“لقد كان لنا جار غير مسلم دخل الإسلام فيما بعد. ولما سألته عن سبب هدايته قال: كان لي جار في المزرعة  يُدعى ملا ربعي، وأسلمت بفضل أخلاقه الحميدة في التجارة. فقد كان رجل يؤمن قوت يومه بالعمل في بيع الحليب، وذات يوم جاء إلينا، وقال: تفضلوا خذوا هذا الحليب، فهو لكم!. تعجبت من تصرفه، وقلت له: وكيف ذلك؟ فأنا لم أطلب منك حليباً! فقال ذاك الإنسان الحساس والرائع: لقد دخلت إحدى دوابي إلى حقلكم ورعت فيه دون أن أنتبه. ولهذا فإن هذا الحليب لكم. وسوف أجلب لكم الحليب الذي يأتيني من تلك الدابة حتى يخرج ما أكلته من بطنها ويزول أثرها من جسمها تماماً. فهذا التصرف الذي صدر  من ذاك الإنسان الصالح ترك أثراً عميقاً لدي. وبالنتيجة أزاح حجب الغفلة عن عيني، واتقد نور الهداية في قلبي,ثم نطقت بالشهادتين وأسلمت”.

إذاً؛ إن أصغر تصرف ملتزم بالإسلام يبديه مسلم صالح قد يحدث أحياناً من التأثير الإيجابي ما لا يحدثه أبلغ العبارات الأدبية، وأكثر البيانات والشروحات العلمية عمقاً.

الله سبحانه وتعالى يقدم العون والمدد لأهل التقوى والإحسان، ويمهد الطريق أمامهم، ويفتح لهم الآفاق، ويطرح في كلامهم بركة التأثير.

كما أن الشخصيات النموذجية أمثال يونس امره، ومولانا، وعبد القادر الجيلاني، وشاه نقشبند، وهدائي لا يزالون أحياء في القلوب، فإن هناك حاجة ماسة اليوم أيضاً إلى مؤمنين من أهل القلب الذي سيصبحون وسيلة السعادة الأبدية للإنسانية عن طريق السير على أثر أولئك. ولهذا ينبغي أن يكون هدفنا وغايتنا القلبية السامية السعي لأن نكون مسلمين نموذجيين من أهل الإخلاص والتقوى. حيث أن الله تعالى يشير إلى ضرورة أن نسعى لأن نكون أئمة في التقوى إضافة إلى الالتزام بالتقوى، وذلك في الآية القرآنية:

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً} (الفرقان: 74)

كانت الحاجة ماسة في كل عصر إلى مسلمين نموذجيين ليكونوا أئمة وقادة للناس في المجتمع. وأما اليوم فنحن بأمس الحاجة إلى هؤلاء. ولكن لا يمكن أن ننتظر نزول هذه الشخصيات من السماء. لذا علينا أن نسعى لأن نكون نحن مسلمين نموذجيين قبل كل شيء. ثم بعد ذلك لا نتردد في بذل مختلف التضحيات والقيام بكل ما أمكننا القيام به من أجل إعداد وتربية المسلمين النموذجيين الذين نحتاج إليهم.

فالمسلمون في هذا العصر أيضاً مجبرون على تقديم أسوة حسنة لكي يثبتوا للناس أن صفة الأسوة الحسنة التي كان يتمتع بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمكن نقلها إلى سائر العصور والأزمنة.

هناك قصة تحتوي على الكثير من العبر يرويها مولانا جلال الدين، يقول:

“خرجت ذات يوم من الدار ليلاً. وبينما كنت أتجول في أحد الحقول، نظرت فرأيت إنساناً يتجول في الحقل وبيده مصباح. فناديته: عما تبحث هنا؟ فأجاب: أبحث عن الإنسان! فقلت له:دعك من هذا، اذهب إلى فراشك ولا تتعب نفسك. فقد تعبت كثيراً بدوري من البحث عنه. فنظر إلي نظرة كلها ألم وأسى، وقال: وأنا أعلم أني لن أجده، ولكني على الأقل أتجول وأنا أبحث عنه وأتحسر عليه، فحتى في حسرتي عليه وشوق إليه لذة ومتعة لي”.

لقد ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلّم والصحابة الكرام  إلى الدار الأبدية بعد أن أدوا مهامهم في الدنيا الفانية على أكمل وجه. وسنكون نحن بدورنا بعد مدة لا نعلم مقدارها من المودعين لهذه الدنيا الفانية مثلهم. ولا يستطيع الواحد منا أن يصبح اليوم صحابياً مثلهم. فهم نجوم متلألئة، ومثل عليا. إلا أن الله تعالى يقول:

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة: 100)

إذاً؛ لا يزال بإمكاننا أن نكون من المؤمنين أهل الإحسان الذين اقتدوا بالمهاجرين والأنصار واتبعوا طريقهم بإحسان… حيث يقول رسول صلى الله عليه وسلّم:

المرء مع من أحب” (البخاري، الأدب، 96)

وفي سبيل تحقيق هذه المعية والصحبة قام الصحابة الكرام بعدة أمور:

1)  اتخذوا القرآن والسنة هدياً لهم.

2)  اطلعوا على الأسرار والحكم الإلهية من خلال الالتزام بالدين وعيشه بظاهره وباطنه.

3)  دفعتهم محبتهم إلى التضحية بأموالهم وأنفسهم. فقد بلغوا رسائل رسول الله الداعية إلى الإسلام للملوك والأباطرة أمام سيوف الجلادين المسلولة دون أن يرف لهم جفن. ذهبوا إلى الصين، وسمرقند، وجاؤوا حتى وصلوا إلى أسوار اسطنبول، لقد اعتبروا أنفسهم مسؤولين عن مسار العالم. فعاشوا حالة البيعة لله ورسوله في كل سكناتهم وحركاتهم.

ففي العقبة؛ بايعوا على حماية رسول الله أكثر من أنفسهم، وعلى وحمل أمانة الإسلام مهما كان الثمن ولو على حساب أرواحهم. وفي بدر؛ قالوا: “يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد”.

ونحن بدورنا إذا ما تمتعنا بالغيرة الدينية وحصلنا نصيباً من مضمون هذه البيعات؛ وإذا استطعنا الهجرة من الباطل إلى الحق، ومن الشر إلى الخير، ومن الذنب إلى الثواب، ومن الاستئثار إلى الإيثار، ومن الأنانية إلى التضحية كالصحابة المهاجرين؛ وإذا ما استطعنا وضع كل إمكانات في خدمة دين الله تعالى، وتقاسم ما في أيدينا من أموال وممتلكات مع إخواننا في الدين من المظلومين والمضطهدين مثل الصحابة الأنصار؛حينها سنكون بإذن الله تعالى من المؤمنين المحسنين الذين اقتدوا بالمهاجرين والأنصار واتبعوا طريقهم بإحسان.

ولا ننسى أنه كما كان الصحابة الكرام تلاميذاً نشأوا في ظل تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتربيتهم لهم، فإننا اليوم بدورنا من أمة وتلاميذ رسول الله في آخر الزمان، ومخاطبين بعد مرور أربعة قرون بذات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي خوطب بها الصحابة في صدر الإسلام.

وكما أدرك الصحابة الكرام التعاليم الإلهية والنبوية وفهموها وطبقوها في حياتهم ليكونوا مظهراً لشرف القرب من الله ورسول، فإننا المخاطبون بذات التعاليم مكلفون اليوم ببذل الجهد ذاته.

دعونا نقف على هذه الحادثة المليئة بالعبرة والعظة في هذا المضمار: ذات يوم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع بعض أصحابه المقبرة، فقال:

«السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إنشاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا» قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: «أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد» فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك؟ يا رسول الله فقال:

«أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا» (مسلم، الطهارة 39، الفضائل 26)

إذاً، إن تمسكنا بسنة النبي صلى الله عليه وسلّم والتزمنا بتطبيقها في حياتنا فإننا نمتلك الفرصة لأن نكون من إخوانه في آخر الزمان. ويقول النبي صلى الله عليه وسلّم:

لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس“. (مسلم، الإمارة 174/1037)

فهذه الطائفة هم المرشدون الكاملون والأولياء الصالحون من أهل الأخلاق الرفيعة الذين يشتغلون في العلوم الظاهرية مثل العلماء، والفقهاء، والمفسرين والمحدثين الصالحين إلى جانب اشتغالهم بالقضايا الباطنية ليكونوا مثلاً وهداة للناس في الميدانين معاً. إنهم يطبقون تعاليم دين الله تعالى في حياتهم أولاً، ثم يرشدون الناس من حولهم بأحوالهم، وأقوالهم وأفعالهم.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً من الطائفة ومظهراً لهذه البشارة والأجر والثواب.

لنفهم أهمية مسؤولية القدوة بشكل أفضل يمكن الحديث أيضاً عن الضرر الكبير الذي ألحقه بالإسلام شخصيات من ذوي صفة القدوة السيئة المتلبسين في الظاهر بالهوية الإسلامية. فكما أن هداية إنسان إلى الحق خير مما طلعت عليه الشمس، فإن التسبب بإبعاد الناس عن الدين الحق والهداية  من خلال السلوك والتصرفات والأفعال السيئة المرتكبة تحت الهوية الإسلامية خسران عظيم.           فبعد عصر السعادة ظهرت  فرق استخدمت الدين لتأييد آرائها ومواقفها السياسية، واستغلته لتحقيق مصالحها ومآربها الدنيوية زاعمة أنها إنما تعمل لخدمة الدين، وهي في الحقيقة ألحقت به أشد الضرر.

إن أصعب الأمور هو القضاء على جشع وطمع الإنسان. ولهذا يجب إخضاع النفس للتربية والتزكية. فمثلاً كان علماء بني إسرائيل أعلم الناس بالتوراة. إلا أن ذلك العلم لم ينفذ إلى قلوبهم لأنهم كانوا لم يخضعوا لتزكية النفس. فلم يوصلهم علمهم المجرد إلى التقوى والحكمة، ومرتبة معرفة الله سبحانه وتعالى، وخشيته. ولهذا فإنهم تساهلوا في دينهم وتنازلوا عن تعاليمه دون تردد في سبيل منافع دنيوية زهيدة وحقيرة.

وإن الجرائم، وأشكال الظلم والاضطهاد التي اقترفت باسم المسيحية المحرفة وخاصة في العصور الوسطى دفعت الناس إلى استبعاد الدين عن الحياة الاجتماعية.

وتسبب بولادة الأنظمة البشرية مثل العلمانية. فالتأثير السلبي الذي تركه على نظرة المجتمع إلى الدين  الأشخاص والجماعات التي تسببت بالفتن والفساد، وارتكبت المظالم بحق الناس أمر ثابت وظاهر للعيان.

ولهذا فإن ينبغي على من يتصدر للعمل تحت الهوية الإسلامية أن يخضع أولاً لتزكية النفس، وأن يبذل غاية جهده للحفاظ على الاستقامة ومشاعر التقوى. وإلا فإن هناك احتمالاً كبيراً أن يصبح قدوة سيئة بدلاً من أن يكون قدوة حسنة. إذاً؛ إن عدم توفر حساسية التقوى، وعدم لجم مطامع النفس وهواها بالتزكية، وتلقي الإسلام ضمن معايير وقوالب جامدة دون النفوذ إلى روحه يدفع الإنسان إلى الهلاك المعنوي.

ومن جهة أخرى يولد الإنسان على فطرة الإسلام كما ورد في الحديث النبوي:

«ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه..» (البخاري، الجنائز، 80؛ مسلم، القدر 22، 23)

فالله سبحانه وتعالى يخلق ابن آدم على الفطرة السليمة ويرسله إلى الدنيا مكرماً. ويحمي الإنسان صفة التكريم هذه

ويستحق دخول الجنة مـــن خلال التربية السليمة والإيجابية التي يتلقاها من محيطه. وإلا يتحول قلبه إلى خراب وينتهي إلى عاقبة أليمة.

ولهذا كل مؤمن مكلف بالحفاظ إلى استقامته والحذر من الانحراف عنها. ولكن الأهم من ذلك عليه أن ينهض بمسؤوليته الكبيرة تجاه مـــن هو مسؤول عنهم، وهذه المسؤولية هي أن يكون قدوة حسنة لهم.

فكما أن أحوال قادة المجتمع الحسنة تترك تأثيراً إيجابياً على المحيطين بهم، فإن أخطاءهم بدورها قد يتم تلقيها على أنها أفعال وتصرفات صحيحة أيضاً. فأي إهمال مهما كان صغيراً يصدر عن القائد يكبر ويتضاعف لدى من يتخذونه قدوة، ومن ثم يؤدي إلى أضرار لا يمكن تلافيها. وهذا الأمر ينطبق على كافة أطياف وطبقات المجتمع ابتداء من الأسرة وانتهاء برئيس الدولة.

والتاريخ مليء بالأمثلة من هذا. فمثلاً كان أحد الأمراء من أمراء بني أمية اللذين حكما قبل عمر بن عبد العزيز الملقب بالخليفة الراشدي الخامس لشدة عدالته، واستقامته، كان مغرماً بالقصور والأبنية الفارهة. واتخذه الناس في عصره مثلاً لهم فاتجهوا نحو تملك البيوت الفاخرة. فأضحى حديثهم في المجالس والمساجد عن أموال الدنيا ومظاهرها. وأصبح الناس في سبيل إظهار قوتهم وملاءتهم المالية أمام أقرانهم يتسابقون إلى بناء البيوت والقصور الفاخرة المزينة بأبهى أشكال الزينة، فوقعوا ضحية مصيبة الإسراف.

وأما عمر بن عبد العزيز فكان مؤمناً عابداً زاهداً من أهل التقوى. وكان الناس في عهده يتسابقون في العبادات والطاعات، والإنفاق. وكانت أحاديثهم في المجالس عن العبادة، حيث كان يقول أحدهم لأخيه إن لقيه في مجلس: ماذا كان وردك الليلة الفائتة؟ كم آية حفظت من القرآن الكريم؟ وكم أنفقت؟. وهكذا كان الناس يحثون بعضهم على عمل الخيرات. وكذلك كان الناس في عهده الذي استمر لمدة قصيرة ولكنه ملئ بالخير والبركة، كان الناس يعتبرون  أنفسهم مسؤولين عن الفقراء والمحتاجين، فيهتمون بأداء زكاة أموالهم والصدقات حتى لم يعد الغني ولأول مرة في التاريخ يجد فقيراً يعطيه زكاة ماله.

إذاً؛ يتم اتخاذ أحوال القادة والوجهاء في المجتمع قدوة ومثلاً. فخيرهم وشرهم يسري إلى سائر أفراد المجتمع ويشيع بينهم.