إن الإيمان نور العقل وصفاء الشعور وتناغم أحاسيس القلب، ولا يمكن الانتقال بسعادة من العالم الفاني إلى العالم الأبدي إلا بتوجيه هذا الإيمان.
وأما مرشدو الإيمان فهم الأنبياء والرسالات السماوية وأولياء الحق الذين ينظمون حياة القلب، فالأنبياء وأولياء الله والصالحون أضحوا نماذج حية مفعمة بالإيمان تنبعث بالفضائل الحية على مدى التاريخ.
إن الإيمان لطف إلهي، والامتحان مقياس لصحة هذا الإيمان، وأما حفظ الإيمان المتوقع من المؤمن بالصبر والخضوع فهو بمثابة الوصول إلى اللطف الإلهي، يعني أن الله تعالى يطلب من عباده عوضاً كي يجعلهم يدركون عظمة نعمة الإيمان التي منحهم إياها وقيمتها.
وآية {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة} (التوبة، 111). واضحة في إبراز هذه الحقيقة.
لذلك فإن التضحية بالمال والنفس والجاه وأشباهها برضا نفسٍ في سبيل الله تعالى علامة على كمال الإيمان، والسيرُ في طريق الله ورسوله مجتازا مشقات الحياة وصعوباتها برضا واستسلام أهمُّ شعار من شعائر المؤمنين، فينبغي لكل مؤمن أن يضحي عوض نعمة الإيمان بالله تعالى، لأن محاولة ادّعاء التمليك بشيء بلا عوض أو طلب مقابل شيء لم يدفع ثمنه يعتبر اشتغالا بالعبث.
ثم إن ارتقاء المؤمن إلى ذروة الإيمان مرهون بالأعمال الصالحة كالرضا عن الله والعبادة له والمعاملة الحسنة لعباده، لذا يُذكَر الإيمانُ والعمل الصالح معاً في القرآن والأحاديث الشريفة في معظم المواطن.
إن الإيمان لا يُجسَّد بالمعلومات السطحية والنظريات بل بالحقائق المسموعة والمحسوسة المنقوشة في القلب وبالنتيجة المنعكسة على الحياة، إن المؤمن نتيجة تفكُّره بتجليات القدرة الإلهية في العالم وأدائه العبادات بقلب حي يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقة، ويكتسب فضائل لا تنتهي في حياته.
الإيمان يسمو على العبادات كلها، لأنها لا تقوم إلا به، فهي تؤدى في أوقات معينة، فالصلاة -والتي هي أفضل العبادات- مفروضة في خمسة أوقات في اليوم، أما الإيمان فعلينا دوماً الاحتفاظ به حياً في قلوبنا، لذا لا بد لنا من اجتناب كل ما يوقِع القلب في المكائد مما سواه، وحفظ إيماننا بالأعمال الصالحة والتي هي بمثابة درع.
إن الإيمان رأس مال المسلم وأثمن ما يملك، والشيطان -الذي بيَّن القرآنُ الكريم بجلاءٍ أنه عدوّنا- يسعى في محاولة حثيثة هو وأعوانه لانتزاع جوهر الإيمان من قلب المؤمن بحيله ووساوسه التي يحوكها كلما سنحت له فرصة، وبناء على هذا فإن التمسك بالإيمان -بكل حرص وشوق مع يقظة القلب والمحافظة عليه بالأعمال الصالحة على نحو لا يتزعزع- من أهم وظائفنا.
وثمّة حاجة إلى ذكر الله تعالى لجعل جوهر الإيمان نقيّاً وبرّاقاً كالمرآة يعكس تجليّاته عزّ وجّل، وأما ذكرُ الله تعالى فهو نقش لفظة الله تعالى على أطراف القلب بالعشق والشوق، حتى يمحى كل أثر للأغيار والغفلات، ويتذوّق العبد حلاوة الإيمان الحقيقية لوصول القلب إلى السكون والطمأنينة التامة.
إنَّ نشوة إيمان هؤلاء العُبَّاد المباركين والمخصوصين الذين ارتقوا إلى هذا النضج المعنوي قد تجاوز كل الحظوظ والشهوات الفانية، ومن جانب آخر فالآلام الموجعة لجميع الهموم والمعاناة ليست شيئاً عندهم.
ولنطّلع معاً على بعض الأمثلة التي تُظهر صبر وثبات ومتانة وفراسة وتضحية وعزم الرسول عليه الصلاة والسلام -معلّمنا الإيمان- والمؤمنين الصالحين الذين لهم الفضل في وصول هذه النعم إلى يومنا هذا في هذا المجال:
صور الفضائل
حين سأله بحيرا الراهب: (يا بني أسألك باللات والعزى) كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في الثانية عشر من عمره آنذاك.
فرد النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: ” لا تسألني شيئا باللات والعزى! فو الله إني لا أنفر من شيء كنفرتي منها ” [1]
كان فخر الكائنات عليه الصلاة والسلام يجتنب الأصنام والشرك حتى في صغره بفطرته السليمة، وأما ما بذله عليه الصلاة والسلام من العزم والجهد الذي لا مثيل له ليحيى الإيمان ويفنى فيه ويبلغه بعد فترة النبوة فحقيقة معروفة عند جميع المؤمنين.
لقد تحدّى السحرة -الذين أنكروا ألوهية فرعون- بقوة إيمانهم تعذيبه الذي فاق الاحتمال:
{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} (طه 72-73)
ثم إنهم التجؤوا إلى ربهم مظهرين عجزهم البشري مع خوفهم من الوقوع في ضعف الإيمان، رافعين أيديهم إلى السماء ضارعين:
{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} ( الأعراف، 126). ليلتقوا بعدها بربهم في غمرة لذة الشهادة.
وأما الحواريون المخلصون بإيمانهم فقد حافظوا على إيمانهم بين أنياب الأسود في السيرك، وارتووا من نبع الشهادة.
والفئة الأخرى التي تترأس المؤمنين الأبطال الذين عاشوا الإيمان بمحبة فائقة هم المؤمنون الذين ألقاهم أصحاب الأخدود في النار، حيث أجبر ذو نواس اليهودي حاكم اليمن في العصر الرابع الميلادي أهالي نجران النصارى المؤمنين بالله وحده على تغيير معتقداتهم، ولما قاوموه أمر بحرقهم وإلقاءهم في أخاديد ملتهبة بالنار، وتنقل الآثار أن عدد القتلى على هذا النحو قد بلغ عشرين ألفا.
وأما تسمية هؤلاء الظالمين بأصحاب الأخدود فلِحفرهم الخنادق وإشعالهم النار فيها لحرق المؤمنين، لكن الذين حاولوا إخماد نور الإيمان المحفور في القلوب والمتجذر في النفوس هلكوا بحلول غضب الله وعذابه عليهم ولعنوا إلى الأبد، قال الحق تعالى:
{قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ. النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} (البروج، 4 ـ 5)
إن الصحابية التي نالت اسم “أول شهيدة في الإسلام”، وعاشت الإسلام بحب عظيم في عهد النبوة هي السيدة سمية رضي الله عنها، حيث كانت قبل الإسلام تخاف من وخز إبرة لإصبعها أما حين ذاقت حلاوة الإيمان أظهرت تحملاً عظيماً على الرغم من تعذيبها بتمزيق جسدها بقضيب ملتهب ولم تتنازل عن إيمانها ألبتة، وبعدما لاقت أَمَرَّ العذاب قتلت بوحشية واستشهدت بطريقة مفجعة، وأما زوجها ياسر فعلى كبر سنّه وضعفه أظهر صبراً كبيراً يفوق الاحتمال حتى ورد نبع الشهادة، وبهذا كانت عائلة ياسر رضوان الله عليهم أول شهداء الإسلام.[2] فأوفوا حق إيمانهم بعيشهم الإيمان بحب عظيم.
وأما سيدنا بلال رضي الله عنه فقد كان يصدع-وهو تحت وطأة تعذيب المشركين المجرمين الطغاة، حتى نزف جسمه وتهشم من التعذيب-بكلمات التوحيد الخالدة “أحدٌأحدٌ”، حيث كان يعيش لذة لقاء الله تعالى بدل الألم والمعاناة.[3]
كان عمر رضي الله عنه قد سأل خباب بن الأرت رضي الله عنه يومًا عمّا لقي من المشركين، فقال خباب: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري، فنظر عمر، فقال: ما رأيت كاليوم، قال خباب: لقد أُوقِدَتْ لي نار، وسُحْبتُ عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري (أي دهن الظهر).[4]
لقد حوّل كفّار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل «خبّاب» -الذي كانت تصنع منه السيوف- إلى قيود وسلاسل، كان يُحمى عليها في النار حتّى تستعر وتتوهّج، ثمّ يطوّق بها جسده ويداه وقدماه.[5]
إلا أن هيجان الشوق المنبعث من الإيمان، يطفئ جميع آلام الدنيا.
يقول خبابٌ رضي الله عنه: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد ببردته في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر الوجه، فقال:
“قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عزّ وجّل …”.[6]
كان كفار مكة يضربون صهيباً رضي الله عنه إلى أن يغمى عليه، وقد استمر هذا التعذيب حتى الهجرة، ولما أرادَ أخيرا أن يهاجرَ مع المسلمين منعه سادةُ قريشٍ، وجعلوا عنده بالليل والنهارِ من يحرُسُه، خوفاً من أن يَهْرُبَ إلى المدينة، فلما كانت إحدى الليالي خرجَ من فراشِه إلى الخلاء، فخرجَ معه من يرْقُبُه، ثم ما كادَ يعودُ إلى فراشهِ حتى خرجَ مرة أخرى إلى الخلاءِ، فخرج معه الرقيب، ثم عاد إلى فراشه، ثم خرجَ، فخرجَ معه الرقيبُ، ثم خرج كأنه يريد الخلاءَ، فلم يخرُج معه أحد، وقالوا: قد شغلَتُه اللاتُ والعزى ببطنه الليلةَ، فتسَلَّلَ رضي الله عنه، وخرَجَ من مكةَ، فلما تأخَّرَ عنهم خرجوا يلتمسونَهُ، فعلِمُوا بهربِه إلى المدينة، فلحقوه على خَيْلِهم حتى أدركوُه في بعضِ الطريقِ، فلما شَعَرَ بهم رقي على ثَنِيَّةِ جبلٍ، ثم نَثَرَ كِنَانَةَ سِهَامِهِ بين يديه وقال: يا معشرَ قريشٍ، لقد علمتُم و الله أنِّي أصوبُكُم رمياً، وو الله لا تَصِلُونَ إليَّ حتى أَقْتُلَ بِكِلِّ سَهْمٍ بين يَدَيّ رجلاً منكم، فقالوا: أتيتنا صُعْلُوكاً فقيراً، ثم تخرجُ بنفسكَ ومالك، فقال: أرأيتم إنْ دَلَلْتُكُم على موضِعِ ماليِ في مكةَ أتأخذونه وتدعوني..؟ قالوا: نعم .. فقال: احفروا تحتَ أُسْكُفَّةِ بابِ كذا وكذا فإن بها أواقيَ من ذهب، فخذوها واذهبوا إلى فلانةَ فخذوا الحُلَّتَيْن من ثيابٍ، فرجعوا وتركوه، ومضى يَطْوِي قِفَارَ الصحراءِ، يحمله الشوقُ ويحدوهُ الأملُ في لقاءِ النبيِ uُ وأصحابِه، حتى إذا وصلَ المدينةَ، أقبلَ إلى المسجدِ فدخلَ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه أَثَرُ الطريق وَوَعْثَاءُ السفرِ، فلما رآه النبيُ عليه الصلاةُ والسلام قال:
“ربِحَ البيعُ أبا يحيى .. ربحَ البيعُ أبا يحيى .. ربح البيعُ أبا يحيى .. نعم والله ربحَ البيع“[7] ..، وَأَنْزَلَ الله عزّ وجّل عَلَى رَسُولِهِ الْقُرْآن:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله وَ الله رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة، 207). حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ.
لقد كانت زنيرة إحدى الصحابيات اللاتي تعرضن للتعذيب وقاسوا الآلام والمعاناة على يد المشركين، وكان أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه قد أعتق معه على الْإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ستَ رِقاب منهم زنّيرة، فأُصيبت ببصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا والله، ما تضر اللات والعزى وما تنفعان، فردّ الله إليها بصرها.[8]
وقد احتار المشركون –الذين أظلمت أرواحهم وران عليها الكفر-حين رأوا في الصباح الباكر أن زنيرة قد ارتد لها بصرها.
وكم عانى المسلمون الأوائل من هذه الآلام والمآسي، فعامر بن فهيرة وأبو فكيهة والمقداد بن عمرو وأم عميس والسيدة لبينة والسيدة النهدية وابنتها، تعرضوا إلى تعذيب لا يخطر على بال ولا يتصوره عقل، حيث كان المشركون يربطون أرجلهم بسلاسل من حديد، ويخرجوهم إلى الصحراء وهم عراة ليتركوهم تحت الشمس الملتهبة في أحر ساعات النهار، ويضعون فوقهم صخوراً كبيرة، ويعذبوهم إلى أن يفقدوا وعيهم ويتكلموا بما لا يعقلوه، يلوون أعنقاقهم ولا يدعونهم إلا بعد أن يغلب على ظنهم أنهم قد ماتوا.[9]
لقد حافظ الصحابة الكرام على إيمانهم رغم أنواع التعذيب والظلم التي تفوق الاحتمال، وبذلوا جهوداً ضخمة فضحوا بأموالهم وأرواحهم في سبيل إيصال هذه النعمة الإلهية إلينا، لأنهم كانوا على إدراك ووعي تام بنعمة الإيمان وحقيقتها، وبهذا عرفوا كيف يفتحون باب العزة الإلهية في الدارين.وهكذا قضوا عمرهم الفاني تحت محتوا قوله سبحانه ونالو بذلك السعادة الأبدية:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران، 102)
كان سعد بن أبي وقاص فتى بارّاً بأمه محبّاً لها، وحين دخل الإسلام قالت له أمه: يا سعد، ما هذا الدين الذي اعتنقته فصرفك عن دين آبائك وأجدادك!، لتتركن هذا الدين أو لأمتنعن عن الطعام والشراب حتى أموت، فيتفطر قلبُك حزناً عليَّ، ويأكلك الندم على فعلتك التي فعلت بي، ويعيِّرك الناس بها أبدَ الدهر، قال: قلت: يا أماه! لا تفعلي، فأنا لا أدع ديني لشيء، لكنها نفَّذت وعيدها وامتنعت عن الطعام والشراب أياماً، كان يأتيها ويسألها أن تتبلغ بقليل من طعام أو شراب فترفض ذلك، فما كان منه ذلك اليوم إلا أن جاءها وقال:
يا أماه! إني لَعَلَى شديدِ حبي لك أشدُّ حباً للّه ورسوله، واللّه! لو كانت لك ألف نفس فخرجت منك نفساً بعد نفس ما ارتددت عن ديني، فكلي أو دعي، فلما كاشفها بهذه الحقيقة الصادمة ما كان منها إلا أن أكلت على كُره منها، فأنزل الله عزّ وجّل فيه وفيها:
{وَوَصَّيْنَا الْإنْسانَ بوالدَيْه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ وَفصالُهُ في عامَيْن أَن اشْكُرْ لي وَلوالدَيْكَ إلَيَّ الْمَصيرُ. وَإنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْركَ بي ما لَيْسَ لَكَ به علْمٌ فَلا تُطعْهُما وَصاحبْهُما في الدُّنْيا مَعْرُوفًا وَاتَّبعْ سَبيلَ مَنْ أَنابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان، 14 ـ 15).[10]
وعندما أراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم الهجرة إلى المدينة، أمر عليَّ بنَ أبي طالب رضي الله عنه عنه أن ينام في فراشه، وكان قد خلفه رسول الله وراءه لقضاء ديونه، ورد الودائع التي كانت عنده لمشركي مكة، فخرج إلى الغار ليلا وقد أحاط المشركون بالدار، وقال له:
“نم في فراشي واتشح ببردي الحضرمي الأخضر، فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله تعالى“
وفي هذه الليلة وفي جنح الظلام تسللت مجموعة من كفار مكة، وفي يد كل واحد منهم سيف صارم حاد، فوقفوا أمام باب بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم ينتظرون خروجه لصلاة الفجر، ليضربوه ضربة رجل واحد، فأخبر اللهُ نبيَّه بتلك المؤامرة، وأمره بالخروج من بينهم، فخرج النبي وقد أعمى الله أبصار المشركين، فألقى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم التراب على رؤوسهم وهو يقرأ قول الله تعالى:
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (يس، 9)
ولما طلعت الشمس استيقظ المشركون، وهجموا على البيت، ورفعوا سيوفهم ليضربوا النائم، فإذا بهم لا يجدونه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فسألوه عن ابن عمه النبي عليه الصلاة والسلام، فأجاب: لا أعلم، طلبتم منه الرحيل عن مكة، وقد ذهب.
فغضبوا ونهروه حتى إنهم ساقوه إلى المسجد الحرام وحبسوه أياماً هناك.[11]
وقد قدم عامر بن مالك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فعرض النبي عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يرفض، وقال للرسول صلّى الله عليه وسلّم: لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد، فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال صلّى الله عليه وسلّم:
“إني أخشى عليهم أهل نجد“،
فقال عامر: أنا لهم جار (أي: سوف أحميهم)، فبعث معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين رجلا من صحابته ليدعوا قبائل نجد إلى الإسلام، فسار الصحابة في الصحراء، وكانوا يجمعون الحطب نهارًا ويبيعونه حتى يكسبوا معاشهم، وينامون بعض الليل، ثم يستيقظون لعبادة الله بقية ليلهم، وظلوا هكذا حتى وصلوا إلى بئر معونة، وهناك أرسلوا أحدهم، ويدعى حرام بن ملحان رضي الله عنه برسالة من الرسول صلّى الله عليه وسلّم يدعو فيها عامر بن الطفيل إلى الإسلام، ولكن هذا المشرك طعن حرام بن ملحان بكل غدر وحقد، فصاح ذلك الصحابي -والدم يسيل من جسده الطاهر-: فزتُ وربِّ الكعبة، ولم يكتفِ عامر بن الطفيل بما فعله، وإنما جمع أعوانه من الكفار، وأحاطوا بالمسلمين وهم في رحالهم، وقتلوهم جميعًا إلا كعب بن زيد الذي عاش حتى قتل يوم الخندق شهيدًا، وكان في سرح الدعاة اثنان لم يشهدا الموقعة الغادرة، أحدهما عمرو بن أمية الضمري ولم يعرف النبأ إلا فيما بعد، ورجل من الأنصار، فأقبلا يدافعان عن إخوانهما، فقتل الأنصاري، وأُسِرَ عمرو بن أمية، ولكن عامر بن الطفيل أطلق سراحه، فرجع إلى المدينة، وفي الطريق لقى رجلين ظنهما من بني عامر فقتلهما، ثم تبين لما وصل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهما من بني كلاب، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أجارهما، فالتزم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بدفع ديتهما.
حزن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصحابته حزنًا شديدًا على هؤلاء الصحابة، وظل الرسول صلّى الله عليه وسلّم يَقْنُتُ شهرًا في صلاة الصبح ويدعو على قبائل سليم، مؤجلا الرد عليهم حتى يتخلص من أعداء المسلمين في المدينة؛ لأن خطرهم أشد، ألا وهم يهود بني النضير.[12]
ولقد جاءت صفية يوم أحد -وقد انهزم الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وبيدها رمح تضرب به في وجوه الناس، وتقول: انهزمتم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم!! -وكان أخوها حمزة بن عبد المطلب قد قتل ومُثِّلَ به- فلما رآها رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم مقبلةً قال لابنها الزبير:
“أرجعها كي لا ترى أخاها“
فذهب إليها الزبيرُ بنُ العوام وقال: يا أماه، إنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركِ أن ترجعي، فقالت صفية بنت عبد المطلب: ولم؟ لقد بلغني أن أخي قد مات، وذلك في اللّه، لأصبرن ولأحتسبن إن شاء الله ، فلما جاء الزبيرُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بقول أمه صفية قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: “خلِّ سبيلَها“، فأتت صفيةُ فنظرت إلى أخيها حمزة، وقد بُقِرَت بطنه، فاسترجعت واستغفرت له.[13]
إن إيمان الصحابة الكرام -الذين أخذوا رسائل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الحكام- من الصلابة والرسوخ بحيث أضحى أسطورةً تتردد على الألسن، إذ قاموا بتبليغ رسائل النبي صلّى الله عليه وسلّم للظالمين العتاة والسفاحين المتعطشين لسفك الدماء -الذين بلغ صيتُ ظلمهم وبطشهم جميعَ أنحاء العالم- دون أن يتملّكهم الخوف إلا من الله تعالى، كما إنهم لم يتوانوا عن الصدع بالحق تحت ظلال الأسنة والرماح بكل شجاعة وبسالة ودون خوف أو وَجَل، وفيما يلي نبذة من هذه المشاهد:
عندما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية، قال:
“أيها الناس، أيكم ينطلق بكتابي هذا إلى صاحب مصر وأجره على اللّه، فوثب إليه حاطب رضي الله عنه، وقال، أنا يا رسول اللّه، قال: بارك الله فيك يا حاطب، قال حاطب رضي الله عنه: فأخذت الكتاب وودّعته، وسرت إلى منزلي، وشددت على راحلتي، وودعت أهلي وسرت.
وقصد الاسكندرية ولما وصلها قرأ على المقوقس رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم. فناداه المقوقس إليه وجمع الأقطاب، ولنستمع إلى بقية القصة من حاطب بن أبي بلتعة:
“بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المقوقس ملك الإسكندرية، فجئته بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزلني في منزله وأقمت عنده ليالي، ثم بعث إليَّ وقد جمع بطارقته، فقال: إني سأكلمك بكلام أحب أن تفهمه مني، قلت: هلمَّ، قال أخبرني عن صاحبك أليس هو نبيا؟ قلت: بلى هو رسول اللّه، قال: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو على من خالفه: أي من قومه، وأخرجوه من بلده إلى غيرها أن يسلط عليهم، فاستعاد منه الكلام مرتين ثم سكت، فقال له حاطب: ألست تشهد أن عيسى ابن مريم رسول اللّه؟ فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم الله تعالى حتى رفعه الله إليه؟ قال: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم، ثم قال له حاطب رضي الله عنه: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى يعني فرعون {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر غيرُك بك، إن هذا النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا الناس، فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له يهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوما فهم أمته، فالحقُّ عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبي. ولسنا ننهاك عن دين المسيح عليه السلام، ولكنا نأمرك به. فقال: إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضالّ ولا الكاهن الكذاب، ووجدت معه آلة النبوّة بإخراج الخبء بفتح الخاء المعجمة وهمز في آخره: أي الشيء الغائب المستور، والإخبار بالنجوى، أي يخبر بالمغيبات وسأنظر، وأخذ كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وجعله في حق عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له.
ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية، فكتب إلى النبي: «بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك. أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك»… ولم يزد عليه شيء .وقال: ارحل من عندي ولا تسمع منك القبط حرفاً واحداً “.[14]
إن هذه الكلمات التي قالها حاطب رضي الله عنه أمام الملك، والتي تنبض بالحكمة، والمستمدة من قوة الإيمان أبلغ مثال على فراسة المؤمن وشجاعة.
وأما الرسالة المكتوبة لكسرى فارس فأخذها عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، فمزّق كسرى كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لغضبه مِن ذكر اسم محمد عليه الصلاة والسلام قبل اسمه، واستهزئ بالرسول الحامل للكتاب أشد الاستهزاء.
ولكن عبد الله رضي الله عنه قال لكسرى وأعوانه بقوة الإيمان وصلابة الحق:
يا معشر الفرس، إنكم عشتم بأحلامكم لعدة أيامكم بغير نبي ولا كتاب ولا تملك من الأرض إلا ما في يديك، وما لا تملِكُ منها أكثر، وقد ملك الأرض قبلك ملوكُ أهل الدنيا وأهل الآخرة، فأخذ أهلُ الآخرة بحظِّهم من الدنيا، وضيع أهلُ الدنيا حظَّهم من الآخرة، فاختلفوا في سعي الدنيا واستووا في عدل الآخرة، وقد صَغَّرَ هذا الأمر عندك أنَّا أتيناك به، وقد و الله جاءك من حيث خفتَ، وما تصغيرُك إيَّاه بالذي يدفعه عنك، ولا تكذيبك به بالذي يخرجك منه،[15] ثم أمر بعبد الله بن حذافة أن يُخرَج من مجلسه فأُخرِج.
خرج عبد الله بن حذافة من مجلس كسرى وهو لا يدري ما يفعل اللهُ له … أَيُقتَلُ أم يترك حرا طليقَا؟ لكنه ما لبث أن قال:
و الله ما أبالي على أي حال أكون بعد أن أديت كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وركب راحلته وانطلق.[16]
هذا هو اطمئنان ضمير أبطال الإسلام الذين ضَحَّوا بأنفسهم في سبيل تلبية طلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وثمَّة واقعةٌ أخرى مليئة بالعبر والعظات، تعرض لنا جانبا من فضل عبد الله بن حذافة رضي الله عنه وقوة إيمانه:
ففي السنة التاسعة عشرة للهجرة بعث سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشا لحرب الروم فيه عبد الله بن حذافة، وكان قيصر الروم قد تناهت إليه أخبار المسلمين وما يتحلون به من صدق الإيمان واسترخاص النفس في سبيل الله ورسوله، فأمر رجاله إذا ظفروا بأسير من أسرى المسلمين أن يُبقوا عليه وأن يأتو به حيا .. وكان عبد الله بن حذافة ممن وقع في الأسر.
نظر ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة طويلا ثم بادره قائلا: إني أعرض عليك أمراً !
قال: وما هو ؟ فقال: أعرض عليك أن تتنصَّر … فإن فعلتَ خليتُ سبيلَك، وأكرمت مثواك، فقال الأسير في أنفة وحزم: هيهات.. و الله إنَّ الموت لأحبُّ إليَّ ألفَ مرة مما تدعوني إليه.
فقال قيصر: إني لأراك رجلا شهما … فإن أجبتني إلى ما أعرضه عليك أشركتك في أمري وقاسمتك سلطاني، فتبسم الأسير المكبل بقيوده وقال: و الله لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلتُ، قال: إذن أقتلك، قال: أنت وما تريد، ثم أُمِرَ به فصُلِبَ، وقال لقناصته -بالرومية- ارموه قريبا من رجليه، وهو يعرض عليه مفارقة دينه فأبى، عند ذلك أمرهم أن يكفوا عنه، وطلب إليهم أن يُنزلوه عن خشبة الصلب، ثم دعا بقِدْرٍ عظيمة فصُبَّ فيها الزيت، ورُفِعَت على النار حتى غلت، ثم دعا بأسيرين من أسارى المسلمين، فأمر بأحدهما أن يلقى فيها فألقي، فإذا لحمه يتفتت، وإذا عظامه تبدو عارية… ثم التفت إلى عبد الله بن حذافة ودعاه إلى النصرانية، فكان أشد إباء لها من قبل، فلما يأس منه، أمر به أن يُلقَى في القدر التي أُلقِيَ فيها صاحباه، فلما ذهب به دمعت عيناه، فقال رجال قيصر لملكهم: إنه قد بكى … فظن أنه قد جزع وقال: ردوه إلي، فلما مَثُلَ بين يديه عرض عليه النصرانية فأبى، فقال: ويحك، فما الذي أبكاك إذا؟!
فقال: أبكاني أني قلت لنفسي: تُلْقَى الآن في هذه القدر، فتذهب بنفسك، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفسٌ، فتُلْقَى كلُّها في هذا القِدْرِ في سبيل اللّه، فقال الطاغية: هل لك أن تقبِّل رأسي وأخلي عنك؟ فقال له عبد اللّه: وعن جميع أسارى المسلمين أيضا ؟ قال: وعن جميع أسارى المسلمين أيضا، قال عبد اللّه: فقلت في نفسي: عدو من أعداء اللّه، أقبل رأسَه فيخلي عني وعن أسارى المسلمين جميعا، لا ضير في ذلك علي، ثم دنا منه وقبَّل رأسه، فأمر ملك الروم أن يجمعوا له أسارى المسلمين، وأن يدفعوهم إليه فدفعوا له، وقد حرر يومها 80 أسيراً من المسلمين.
وقدم عبد الله بن حذافة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخبره خبره، فسُرَّ به الفاروق أعظم السرور، ولما نظر إلى الأسرى قال:
حقٌّ على كل مسلم أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة .. وأنا أبدأ بذلك… ثم قام وقبل رأسه …[17]
إن المسلم الكامل –لما يتمتع به من فراسة المؤمن- ينظر إلى الوقائع من حوله بنور الله فإيمانه الذي بين جنبيه يكسبه نظرة عميقة للأحداث، فلا قيمة عنده لألم الدنيا المؤقت ومعانانها الزائلة أمام ما يجنيه من لذة الإيمان، وبهذا فهو دوما ضمن دوّامة من حساب الخير والشر.
وأحد الأبطال الذين عاشوا الإيمان بحب عميق وهب بن كبشة رضي الله عنه، ويقع قبره رضي الله عنه في الصين.[18] وكان قد أرسله النبي عليه الصلاة والسلام لتبليغ الدعوة في الصين، على بعدها عن المدينة المنورة آنذاك مسيرة سنة، وبعد أن ذهب هذا الصحابي إلى هناك ومكث مدة طويلة يبلّغ فيها قصد المدينة وهو على أمل أن يسكّن ولو قليلاً من أشواق قلبه المتلهف لرؤية رسول الله عليه الصلاة والسلام، ووصل المدينة المنورة بعد سفر شاق دام سنة كاملة، لكنه وللأسف الشديد لم تكتحل عيناه برؤية النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان قد توفي، ولم يلبث أن عاد إلى الصين تغمره حالة روحية وشعور عميق بعظمة هذه الخدمة التي أمره عليه الصلاة والسلام بها وسلم روحه إلى بارئها أثناء تأديته لها.
وبهذا نال وهب بن كبشة رضي الله عنه شرف كونه أول مندوب للنبي عليه الصلاة والسلام في الصين، ولئن بقي جسده الفاني في الصين إلا أن روحه المؤمنة ظلت ممتلئة بروحانية النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة المنورة.
ثمّ إنّ ما جرى من حوادث بين السلطان بيازيد الثاني وأخيه السلطان جيم تعكس لنا بجلاء صلابة إيمان أجدادنا وجمال الفضائل التي رباهم عليها الإسلام:
أمضى السلطان بيازيد الثاني السنوات الأربع عشر الأولى بعد تولّيه السلطنة عام 1481 في حل المشاكل الناجمة عن ادعاء أخيه جيم أحقيته في عرش السلطنة، وهذا الوضع ألزمه أن يهمل الصليبين إلى حد ما، فعرض عليه أخوه السلطان جيم عرضا قائلاً له:
” لنقسم دولتنا قسمين، تكن أنت حاكماً على نصفها وأنا على النصف الآخر”.
ولكن السلطان بيازيد رفض العرض قائلاً:
“أخي، إن الوطن ملك الأمة، إذا قسمناه فستفقد الدولة قوتها، ونصبح ولايات ضعيفة، وهذا سيكون وبالاً كبيراً، و الله أقسم جسدي نصفين ولا يقسم تراب الأمة!”.
وفي هذه الأثناء اقترف السلطان جيم خطأ بذهابه إلى رودوس إثر قبوله لدعوة لطيفة من فرسان رودوس، ولكنهم -بنقضهم العهد- باعوه أسيرا إلى البابوية، وكانت البابوية تخطط لاستخدام الأمير جيم في حملتها الصليبية ضد العثمانيين، لكن البابا إنوسنت لما أدرك أنه لن يفلح في هذا عَرَضَ عليه النصرانية، فصَعُبَ الأمرُ على السلطان جيم وحزن أشد الحزن، ورد عليه بقوله:
“و الله لا أبدل ديني ولو أعطيتموني الدنيا كلها، وليس السلطنة العثمانية …”.
ويظهر جلياً حرصه وشعوره الديني من خلال مناجاته للّه تعالى التي فاض بها قلبه حين علم أنه أريد استخدامه ضد الإسلام من قبل الصليبين:
“يا ربِّ إن كان المشركون سيستخدمونني آلةً لإلحاق الضرر بالعالم الإسلامي، فلا تمد بعمر عبدك هذا! واقبضني إليك عاجلاً … “.
وقد استجاب الله تعالى دعاءه حيث توفاه في نابولي وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وقد أوصى مَنْ حوله بهذه الوصية في اللحظات الأخيرة التي ودع فيها هذه الدنيا الفانية:
“أسمعوا خبر وفاتي كل الأنحاء بصورة واضحة مطلقة، ولتقوموا بذلك حتى تنتهي الحيل والألاعيب التي يحوكها الكافرون للقضاء على المسلمين من خلالي!. ومن ثم فلتصلوا إلى أخي الأكبر السلطان بيازيد، واطلبوا منه أن يأخذ جسدي إلى الوطن مهما كلفه الأمر، فلا أريد أن أدفن في بلد كافر، فما حصل حتى الآن فقد حصل، وإياه أن يرد طلبي هذا! وليؤد كل ما عليَّ من الديون، فلا أريد الظهور في حضرته تعالى وعليَّ ديون، وليسامح عائلتي وأولادي وكل من خدمني، وليرضهم …”.
وقد نفّذ الأخ الأكبر السلطان بيازيد هذه الوصية.
وهذا هو التكامل والاتساق الذي يربي الإسلام أتباعه عليه! حيث يقدم فضائل كثيرة كمعاملة هذين الأخوين لبعضهما البعض، وولائهم للإيمان بكل رضا، وحب الوطن، والقدرة على التضحية بكل شيء في سبيل الأمة، والتسامح، ومحاسبة النفس والضمير نتيجة الاعتراف بالخطأ، وتفادي حق العبد، والعفو والرحمة.
كان الأخوان عروج وخضر –وهما من كبار قادة القوات البحرية في التاريخ العثماني- يشتغلان بالتجارة البحرية قبل أن يرفع علم الجهاد في البحر الأبيض، ولكن هذه التجارة كانت خطرة جداً، وفي يوم ما أُسر الرئيس عروج من قبل قراصنة رودوس، فبدأ يبحث أخوه الرئيس خضر عن حل لهذا الأمر قائلاً:
إن كان الأمر واقعا فلا مرد له، سواء جعلت قلبك واسعاً أم ضيقاً.
وبقي أخوه الأكبر أسيراً مدة طويلة بسبب حيل القراصنة الذين لم يوفوا بِوعودهم على الرغم من إرساله الكثير من الفدية، ولم يكتف الكافرون بهذا بل أرسلوا إلى الرئيس عروج راهباً يعرض عليه النصرانية، إلا أنه قال:
“أيها الغافلون الحمقى، كيف ألتحق بدين باطل تاركاً الدين الحق”، ونزل هذا الجواب صفعةً أليمة على وجوههم.
وردَّ الصليبيون الغاضبون بقولهم:
“إذاً فليأت صاحبك محمد ولينقذك”،
وربطوه على الصندل ليعمل عبدا في التجديف، فالتجأ الرئيس أوروج إلى الله تعالى إثر هذا وقال لهم:
“سترون كيف يساعدني ربي”.
وبعد مدة قصيرة تمكن من التحرر من الأسر بجنود مجهولين من قبل الله تعالى معتمين بعمامات خضراء، ونال بهذا بركة التسليم والتوكل على الله بقوة الإيمان.
وهكذا فقد بدأ الرئيس عروج مع أخيه الرئيس خضر بمجادلة شديدة ضد قراصنة البحر الأبيض، وفي فترة وجيزة اجتمع حولهما البحارون الأشداء، وأبحروا بعيداً قائلين:
“الوقت وقت الغزو، وبسم الله ارفعوا المرساة”.
وظهور الذين يعيشون الإيمان بحب قوي في جبهة “جاناك قلعه” مثير للغاية، يقول ضابط متقاعد في مذكراته وقد كان قاد معارك “جاناك قلعه” وأصيب فيها بجراح:
“كنا في يوم من أيام معارك “جاناك قلعه”، وقد كان الظفر على وشك أن يصبح حليفنا في المعركة التي استمرت حتى المساء، وعلى الرغم من تغلُّب العدوِّ علينا من الناحية المادية إلى حدٍّ لا يمكن تصوره، وكنت حينئذ أتعقب المراحل النهائية للمعركة من برج المراقبة، وأمام صرخات الجنود “الله الله …” تزلزلت الآفاق وأطبقت على أصوات مدافع الأعداء التي كانت عنوانا على بطش تلك الحضارة المخيفة.
ثم كأن بي للحظة أسمع صوت وَقْعِ أقدامٍ فالتفت خلفي فإذا أنا بالمساعد علي، كان وجهه شديد الاصفرار تقرأ في وجهه علامات المعاناة الشديدة، وقبل أن أسأله عما به بادرني هو بأن أراني ذراعه التي كانت كافية لتوضيح كل شيء، خِفتُ وأحاطت بي الدهشة، كانت يده قد أصيبت من مقدار أربع أصابع من مكان الرسغ وكادت تنقطع بالكامل بل كان يحول دونَ وقوعِ يده على الأرض قطعةٌ ضعيفة من الجلد، وأما هو فقد عض على أسنانه من الألم محاولاً التغلب على الوجع، وقد مد إلي سكيناً صغيرة كانت في يده اليمنى وهو يقول: “فلتقص هذا أيها القائد !”.
لقد كانت هذه الجملة على بساطتها طلباً رهيباً جداً، وكانت من الإلزام بحيث جعلتني آخذ السكين من غير اختيار وأقطع اليد المتأرجحة عن الذراع من مكان الجلد، وأقول للمساعد علي مواسياً له أثناء قيامي بهذه المهمة التي تقشعر منها الأبدان:
“لا تحزن يا مساعد علي، فَلْيَسْلَم جسمُك”.
وقبل أن ينقضي الكثيرُ من الوقت ضحَّى المساعدُ علي -ليس بيده فقط بل- بجسده الطيب كله في سبيل الوطن، وقد قال وهو يغمض عينيه عن الدنيا:
“لِيَسْلَمِ الوطن، وليثبتنا اللهُ على الإيمان، روحي فداءٌ للوطن! …” وظل يكررها حتى سلَّم روحه لخالقها، وقد أصبح ما حوله كبركة صغيرة من الدماء.
هذا جندي في “جاناك قلعه” عامر القلب بالإيمان، يعلم -بمقتضى إيمانه- أن الدفاع عن الوطن وحمايته دينٌ عليه، ولا يتوانى عن وفاء دينه بنفسه وروحه، ولذا كانوا يتمسكون بدينهم كتمسكهم بسلاحهم، ويتمسكون بسلاحهم كتمسكهم بإيمانهم.
في معركة “جاناك قلعه” كان معقل مجيدية في روملي قد أبيد كله تقريباً إثر هجوم رهيب من العدو، فقسْم كبير من الترسانة كان قد طار في الهواء، واستشهد 16 مدفعي، وكل ما بقي من المعقل الكبير نقيب واحد وجنديان ومدفع كسر مرفاعه لا تدخل القنبلة في فوهته.
كان النقيب قد ابتعد ليخبر القوات المركزية عن الوضع للمعقل، وتنفس كوجا سعيد الصعداء وهو ينظر إلى تقدم سفن الأعداء وهي تقذف الموت والدمار فوق البحر، وامتلأت عيناه ورفع يديه إلى السماء داعياً ربه وملتجئاً إليه وطالباً العون منه وقلبُه المتألم يرتعد من ألم العجز أمام العدو:
“يا رب! اللهم يا قادر! أعطني من القوة ما يعجز معه أي من عبادك أن يكون أقوى مني”.
كان كوجا سعيد قد انسلخ من العالم الدنيوي تقريباً … حيث أضحى في حضرة ربه تعالى فقط، وكانت الدموع التي تسيل من عينيه تقطر من خديه حتى الأسفل، وقد ردد لفترة:
“لا حول ولا قوة إلا بالله”.
وبعدها فجأة صاح “يا اللّه” ورفع قذيفة مدفع بحجم 215 اوقية (أي ما يعادل 276 كيلو) تحت حيرة ودهشة صديقه، وقد صعد الدرج الحديدي ونزله لثلاث مرات، وسمع صوت طقطقة عظام صدره وكتفيه، وكان كوجا سعيد يواصل دعاءه وقد غمره العرق من ناحية وتشققت شفتاه من ناحية أخرى حيث يقول:
” يا رب أمدني بالقوة ولا تقطعها عني”.
وأخيراً تغيرت نتيجة المعركة بالقذيفة الثالثة المشهورة التي ساقها إلى فوهة المدفع إذ أصيبت سفينة الانكليز المدرعةالمسماة أوشين، وقد غطى سطحَ البحر نارٌ جهنمية.
وأما جواد باشا الذي علم بالأمر وشكر الله تعالى، فقد طلب من كوجا سعيد عندما هنأه على ما فعله أن يعاود رفع قذيفة أخرى بنفس الثقل، لكن كوجا سعيد أجابه بقوله:
“يا سيدي! لقد كان قلبي ممتلئاً بفيض الله تعالى ومَظْهراً للتأييد الرباني، فكنت أشعر باختلاف في نفسي، حيث تجلّت نصرته وعنايته في مقابل دعائي، وهذا كان أمراً مخصوصاً بتلك اللحظة، لا يمكنني حمله الآن يا سيدي، فلتعذرني! … “.
وقال جواد باشا معقباً على كلام سعيد:
“لقد قمت بعمل عظيم يا بني، اطلب مني ما تشاء أكافئك به؟ “.
وقدم الشجاع المضحي -الذي محى من قلبه كل شيء سوى عبوديته للّه تعالى- البطولة الثانية الموجودة في روحه بهذه الكلمات:
“يا سيدي! ليس لي أي طلب، إلا أن لي بُنية مصارع فلا يكفيني رغيف من الخبز، فهلا أمرتم بأن يعطوني رغيفين من الخبز حتى أكون أقوى أمام الأعداء! ..”.
وقد كافأه النقيب الذي تبسم من هذا الطلب برتبة مساعد الشاويش.
ولما جاء المساء وأعطي الجميع رغيفاً واحداً وأعطي مساعد الشاويش سعيد رغيفين لم يرض بطل الإيمان الكبير بهذا، حيث رفض أن يكون مختلفاً عن أصحابه في وقت تسيطر فيه المجاعة، فأعاد واحداً من الرغيفين ولم يأخذ بعدها أبداً.
يا له من قلب نقي وشفاف… مامن شك في أن حال كوجا سعيد هذه ليس إلا عبارة عن مشاهد الإخلاص والصدق مع قوة الإيمان.
وختاما فإن الإيمان ليس ادعاءً خاويا، وإنّما هو شاهد ودليل على مستوى قلب المؤمن وكماله، وأمارته التضحية. ولأن الإيمان سر الخلود، فقد قدمت الكثير من الفضائل والبطولات التي لا نظير لها في سبيل المحافظة عليه وتقويته كالتضحية بالكثير من الأنفس على مدى التاريخ وتحمل أنواع التعذيب والمشقة البالغة في سبيل الله تعالى.
وثمّة حاجة ملحّة الآن وقبل كل شيء إلى أنْ نحيا الإيمان بحب عميق وشوق عارم، وعلينا حشد الهمم لتتمكن الإنسانية جمعاء من دخول دار السلام لتأدية شكر نعمة الإيمان التي منَّ الله بها علينا، فالمؤمن الذي يحيا الإيمان بكل حب يشعر بنفسه مسؤولاً عن حال المجتمع، ثم إنّ نيل لقاء الله يوم القيامة سيكون متناسباً مع مقدار التضحيات التي قمنا بها لكمال إيماننا في هذه الدار الفانية.
ليجعلنا الحق تعالى من عباده الواصلين لنشوة الإيمان والقادرين على إفناء حياتهم في هذا السبيل! .. آمين! .. .
[1] ابن إسحاق، السيرة، قونية،1981، ص: 54؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى، بيروت، دار صادر، 1، 154، انظر: أحمد بن حنبل، المسند، 5، 362.
[2] انظر: ابن حجر، الإصابة، بيروت، 1328، دار إحياء التراث العربي، 3، 648؛ الزمخشري والكشاف، تح، محمد مرسي عامر، القاهرة، 1988، 3، 164.
[3] انظر: أحمد، 1، 404؛ ابن سعد، 3، 233؛ البلاذوري، أنساب الأشراف، مصر 1959، 1، 186.
[4] ابن الأثير، أسد الغابة، القاهرة 1970، 2، 115.
[5] ابن الأثير، أسد الغابة، 2، 114
[6] البخاري، مناقب الأنصار، 29، المناقب، 25، الإكراه، 1؛ أبو داوود، الجهاد، 97/ 2649
[7] ابن سعد،3، 226 ـ 230؛ الحاكم، المستدرك، بيروت 1990، 3، 450، 452.
[8] ابن هشام، سيرة النبي، بيروت 1937، دار الفكر، 1، 340 ـ 341؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت 1979 ـ 1982، 2 ، 69؛ أسد الغابة، 7 ، 123.
[9] انظر: ابن ماجة، المقدمة، 11؛ أحمد، 1، 404
[10] انظر: مسلم، فضائل الصحابة، 43 ـ 44؛ ابن الأثير، أسد الغابة، 2، 368
[11] ابن هشام، 2، 96؛ أحمد، 1، 348؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، بيروت، 1992، 2، 39.
[12] انظر: ابن حجر، فتح الباري، دار الفكر، فؤاد عبد الباقي نشري، 7 ، 390، المغازي 28؛ ابن هشام، 3، 187؛ الواقدي، المغازي، بيروت 1989، 1، 346.
[13] انظر: ابن هشام، 3، 48؛ ابن حجر، الإصابة، 6 ، 349
[14] ابن كثير، البداية والنهاية، القاهرة 1993، 6 ، 266 ـ 267؛ ابن سعد، 1، 260 ـ 261، ابن حجر، الإصابة، 3، 530 ـ 531
[15] السهيلي، روض الأنوف، بيروت 1978، 6، 589 ـ 590
[16] انظر: أحمد، 1، 305؛ ابن سعد، 1، 260، 4، 189؛ ابن كثير، البداية، 4، 263 ـ 6، حميد الله، الوثائق السياسية، بيروت 1985، ص: 140
[17] ابن الأثير، أسد الغابة، 3، 212 ـ 213؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء، بيروت 1986 ـ 1988، 2، 14 ـ 15.
وثمة مقام ينسب لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في مدينة غوانغ زهو في الصين، إن المحافظة على مشاعر الإيمان قوية لدى شعوب البقع التي تواجد فيها كبار الصحابة وأولياء الله تعالى كثيراُ من الأحيان حقيقة تاريخية, فهناك أمثلة كثيرة على هذا
[18] في بلدان كآسيا الوسطى وسمرقند وبخارى وتركمنستان وطشقند.