إن السّوية المعنوية للمؤمن تتناسب وطاعته لله ورسوله، ويكتمل الإيمان بتزايد الدقة والحساسية والمحبة لأوامر الله والحرص على تطبيقها، والذين قطعوا شوطاً كبيراً في مرتبة حب الله ورسوله وطاعتهما يكونون تجليا للطائف الإلهية، يقول الحق عزّ وجّل في الآية الكريمة:
{مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} (النساء، 69)
فطاعة أوامر الله تعالى وتأديتها بحب وإذعان تفيض على القلوب الراضية فيوضات الحكم والفتوحات وتجليات الحق سبحانه وتعالى، وعلى العكس فالقلوب والأبدان التي لا تتقي المحرّمات والشبهات، تنقلب مأوى للشرّ ومستنقعا لسوء الأخلاق.
صور الفضائل
أراد النبي عليه الصلاة والسلام استشارة الصحابة فيما يتعلق بغزوة بدر قبل الإقدام عليها، فقام المقداد بن الأسود حينها وتكلم بما يلي: «يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك، والله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرتَ بنا إلى برك الغماد [1] لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله خيرًا، ودعا له. [2] [3]
وقام سعد بن معاذ بعد المقداد فقال:
«لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر، فخُضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله».
فسُرَّ رسول الله عندما سمع كلام سعد، ثم قال:
«سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، [4]والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم».[5]
وفي هذا أبلغ دلالة على تفاني الصحابة الكرام في محبة الله ورسوله وحرصهم على طاعتهما.
وينقل لنا أنس رضي الله عنه حادثة تظهر لنا إخلاص وصدق واهتمام ومسارعة الصحابة رضي الله عنهم في مرضاة اللهورسوله:
«كنت أسقي أبا طلحة الأنصاري، وأبا عبيدة بن الجراح، وأبي بن كعب شرابا من فضيخ – وهو تمر -، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس، قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال أنس: «فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت»، وقد سال بعد ذلك الخمر في أزقة المدينة أنهارا.[6]
فالصحابة رضي الله عنهم لما سمعوا بتحريم الخمر امتثلوا للنهي على الفور من دون تسويف ولا مماطلة فلم يقل أحدهم: سأتركه بعد أن أنتهي من شرب ما في يدي، بل أظهروا حرصا على تنفيذ مراد الله تعالى حتى إنهم أهرقوا ما تبقى في القدح أيضاً مع كل جرار الخمر التي أريقت.
وروي أن فتى من أسلم قال:
«يا رسول الله إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به، قال:
“ائت فلانا، فإنه قد كان تجهز فمرض“،
فأتاه فقال له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرئك السلام، ويقول أعطني الذي تجهزت به، فقال، يا فلانة أعطيه الذي تجهزتُ به ولا تحبسي منه شيئا، فوالله لا تحبسين منه شيئا فيبارك لنا فيه».[7]
لقد لبى هذا الصحابي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بحب ووجد كبيرين، فأصرَّ على تنبيه زوجته أن تعطي كل ما يلزم ولا تدخر منه شيئاً، وبهذا أظهر حبه لرسول الله وتعلقه به وطاعته إياه إلى جانب مسارعته في أداء الأعمال الصالحة على أكمل وجه.
يقول ابن عمر v: «أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح على ناقة لأسامة بن زيد حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة [8] فقال: ائتني بالمفتاح، فذهب إلى أمه، فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي، قال: فأعطته إياه، فجاء به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فدفعه إليه ففتح الباب.
ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البيت، ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأجافوا عليهم الباب طويلاً ثم فُتح، فكنت أول من دخل، فلقيت بلالاً فقلت: أين صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: بين العمودين المقدمين، فنسيت أن أسأله كم صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟».[9]
ففي هذا المثال تظهر الدقة الرائعة جلية في عزم عثمان رضي الله عنه الكبير في تلبية أمر رسول الله وإطاعته التي يجب تقديرها في اتباعه النبي صلّى الله عليه وسلّم.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
«لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه».
«لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا».
لقد طبق عبد الله بن عمر الذي تعلم هذا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم طوال حياته، فلو قام أحدهم له يريد إعطاءه مكانه لا يجلس فيه أبداً.[10]
يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دعيتم فأجيبوا».
وقد كان سيدنا ابن عمر رضي الله عنه بسماعه هذا يجيب الدعوات عرساً أوغيرها حتى لو كان صائماً.[11]
أي إنه ينقض صيامه عند تلبية دعوة ما إن كان صيامه نفلاً، ثم يقضيه، وإن كان صومه فرضاً أو واجباً، فإنه يلبي الدعوة استجابة لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم من دون إفساد صومه.
يقول فخر الكائنات عليه الصلاة والسلام:
«وجعلنا هذا الباب للنساء».
وبعد هذا لم يدخل ابن عمر v هذا الباب حتى مات.[12]
وعن الطفيل بن أبي بن كعب أنه كان يأتي عبد الله بن عمر، فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله على سقاط ولا صاحب بيعة، ولا مسكين، ولا أحد إلا سلم عليه، قال الطفيل، فجئت عبد الله بن عمر يومًا، فاستتبعني إلى السوق فقلت له: ما تصنع بالسوق، وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ وأقول: اجلس بنا هاهنا نتحدث، فقال يا أبا بطن -وكان الطفيل ذا بطن- إنما نغدو من أجل السلام، فنسلّم على من لقيناه.[13]
لقد كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين يتصرفون بحساسية شديدة فيما يتعلّق بطاعة أوامر الله تعالى ورسوله، حيث يحددون أرضية مشتركة يمكن تعايش القلوب المؤمنة فيها بالأخوة الإيمانية من خلال زيادة الحب عن طريق إفشاء السلام، إلا أن شوق وحماس ولهف عبد الله بن عمر v في هذا الأمر عال إلى حد يجلب الانتباه، وما مر من الأمثلة السابقة يظهر هذا الأمر على نحو بارز
تقول الآية الكريمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (الحجرات، 2)
«لما نزلت هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي… الآية، جلس ثابت بن قيس رضي الله عنه في بيته وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ، فقال: “يا أبا عمر، ما شأن ثابت، أشتكى؟” فقال سعد: إنه جاري وما علمت له شكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال ثابت: أُنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “بل هو من أهل الجنة“».[14]
أصاب الصحابي ثابت رضي الله عنه -والذي يتمتع بصوت جهوري- حزن عميق لظنه أنه عصى أمر الله تعالى، حيث اسودت الدنيا في عينيه، لكن بما أن صوته المرتفع من طبيعته وأصل خلقته وبما أن له قلباً صادقاً فقد كان أمره مستثنى، وقد بشره الصحابي الذي جاءه بالخبر فَسُرِّيَ عنه.
ثم إن الصحابي الذي سارع إلى معرفة ما سيؤول إليه أمر ثابت رضي الله عنه لأنموذج رائع على استعداد الصحابة الكرام للتضحية بكل ما لديهم في سبيله بعد فهمهم الإشارة منه عليه الصلاة والسلام أمراً والمسارعة إلى تنفيذه.
تقول زوجة عبد الله بن رواحة رضي الله عنها وعنه:
«دخل عبد الله بن رواحة المسجد، ورسول الله يخطب في أصحابه، وسمع رسولَ الله يقول لأصحابه: اجلسوا، وكان عبد الله عند الباب، فجلس هناك، امتثالاً لأمر النبي الكريم، ولم يدخل ليكون مع الصحابة الكرام، ولما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، شكر لعبد الله طاعته».[15]
ويقول عبد الله بن عباس v:
«قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا»، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: «فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر»، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف، 199)
وإن هذا من الجاهلين، «والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله ».[16]
كان سيدنا عمر رضي الله عنه إن ذُكِّر بأمر الله تعالى يكظم غيظه ويسيطر على غضبه ويطيع أمر الله تعالى مباشرة تاركاً ما يريد فعله، وبهذا كان قد قدم حساسية المؤمن الكامل في طاعة الله تعالى.
روي أن أحد الصحابة وهو هشام بن حكيم كان في فلسطين، فرأى ناساً من أهل الذمة قياماً في الشمس، فقال: ما هؤلاء؟ فقالوا: من أهل الجزية، فدخل على عمير بن سعد، وكان على طائفة الشام، فقال هشام: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«من عذب الناس في الدنيا عذبه الله تبارك وتعالى»،
فقال عمير خلّوا عنه.[17]
ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا لا يترددون لحظة واحدة أمام ما يبينه النبي عليه الصلاة والسلام بل يلبونه على الفور.
قال بعضهم: «أَمَّنَا عبد الله بن أبي أوفى على جنازة ابنته فمكث ساعة، حتى ظننا أنه سيكبر خمسا، ثم سلم عن يمينه وعن شماله، فلما انصرف قلنا له: ما هذا؟ قال: إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصنع، أو هكذا صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».[18]
إن جواب عبد الله بن أبي أوفى جليٌّ في إظهار حرص الصحابة على الاقتداء برسول الله، فعاشوا حياتهم وأقاموا أمورهم وفق القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولذا كانت جميع أفعالهم وأقوالهم وحركاتهم تستند على أدلة الكتاب والسنة، وكذلك نحن بحاجة دوما إلى الأخذ بالسنة في كل أمورنا، وإلى إقامة حياتنا الفكرية والعلمية والروحية في ظلال القرآن والسنة، فسموُّ طباعنا ورقيُّ شخصياتنا وكمالُ إسلامنا يكون بقدر ارتباطنا بالقرآن الكريم والسنة.
وفي رواية قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه في صلاة العشاء:
«اجتمعوا غداً لأداء الصلاة، فعندي أموراً أريد إخباركم بها، فقال أحد الصحابة لرفاقه: يا فلان خذ عن رسول الله ما يقوله أولاً وللثاني وأنت ما يقوله بعد ذلك وللثالث وأنت مايليه كيلا يفوتنا شيء من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».[19] (أو كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم).
ومن المثير للإعجاب والتقدير هذا الحرص الذي يبديه الصحابة الكرام فيما يتعلق بمعرفة أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم وتطبيقها، ثم إنه وبفضل هذه الجهود العظيمة التي بذلها السلف الصالح صار بمقدورنا أن نتعرف عن كثب على جميع تصرفات النبي صلّى الله عليه وسلّم وأحواله، رضي الله عنهم أجمعين.
وعن أبي بردة قال: أغمي على أبي موسى، فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة، ثم أفاق فقال: ألم تعلمي؟ وكان يحدثها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق».[20]
يا لها من حساسية إيمانية عالية للإيمان، فحتى وهو يصارع الموت يحاول تطبيق أمر رسول صلّى الله عليه وسلّم.
وقد روي أن دحية بن خليفة خرج من قريته المزة بدمشق إلى قدر قرية عقبة في رمضان، ثم أفطر وأفطر معه الناس وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: «والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظنني أراه، إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه»، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: «اللهم اقبضني إليك».[21]
يقول بِشْرٌ الحافي رحمه الله تعالى: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام، فقال لي: يا بِشْرُ! أتدري لم رفعك الله بين أقرانك؟ قلت: لا يا رسول الله، قال: باتباعك لسنتي وخدمتك للصالحين، ونصيحتك لإخوانك، ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي، هذا الذي بلغك منازل الأبرار» . [22]
ويبين سيدنا عبد الخالق الغجدواني العبودية الحقيقية على نحو رائع، حيث سئل يوماً: أنلبِّي ما ترغب به أنفسنا أم ما ترفضه؟ فأجاب حضرته السائل: إن من الصعوبة بمكان التفريق بين هذين الأمرين، إذ إن النفس تموه على الأكثرية من الناس فيما يتعلق بمعرفة أهي رغبات رحمانية أم شيطانية، ولذا فلا يُقْدِم الإنسان إلا على ما أمر الله تعالى به دون ما نهى عنه، وهذه هي العبودية الحقة.
فينبغي على سالكي طريق الحق جعل إطاعة أوامر الله تعالى وخدمة إخوانهم المسلمين والنصح لهم دستورا لا يحيدون عنه، إضافة إلى وجوب بذل الجهود للحصول على رضا الحق تعالى من خلال وسائل السعادة الأبدية هذه، قال داوود الطائي يوماً لرجل صالح يداوم على حضور مجلسه وهو معروف الكرخي: «إياك أن تترك العمل، فإن ذلك الذي يقرّبك إلى رضا مولاك، فقلت: وما ذلك العمل؟ فقال: دوام طاعة ربك، وخدمة المسلمين، والنصيحة لهم».
وخلاصة القول أن الطاعة أعظم علامة على حب الله تعالى، فالمؤمن الذي يحب ربه عزّ وجّل يكون في طاعة دائمة مدفوعا بقانون «المحب لمن يحب مطيع»، فعبادة قليلة مؤداة بالطاعة والإذعان أفضل عند الحق من عبادة كالجبال خالية عن الطاعة والإذعان، ومن هذا المنظور فإن العبودية تبدأ بالطاعة والاستسلام، فطرد إبليس من الرحمة الإلهية الكبيرة كان لخللٍ في طاعته وانصياعه وليس لنقص في عبادته.
إن اجتهاد الصحابة الكرام رضي الله عنهم في حب الله ورسوله وطاعته جعلهم شخصيات خالدة ونماذج للأمة جمعاء يقتدى بها.
إن ما يقوله مولانا في مثنويه من إطاعة الجمادات للأوامر الربانية تعبير رائع:
«ألست ترى، أن السحاب والشمس والقمر والنجوم كلها تدور في فلك معلوم، وكل واحدة من هذه النجوم اللامعدودة تطلع في وقتها ولا تتأخر عن أوقات مغيبها ولا تسبقها.
كيف لم نعرف وندرك هذه الخوارق من معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ حيث إنهم حولوا الحجر والعصا إلى ذي عقل، فتأمل هذا وقس سائر الجمادات على العصا والحجر.
ثم إن طاعة قطع الحجر نبينا عليه الصلاة والسلام، وطاعة العصا موسى عليه السلام تشف عن مدى خضوع سائر المخلوقات التي نحسبها جمادات لأوامر الله تعالى.
فهي تقول بلسان حالها: «نحن نعرف الله تعالى ونطيعه، ولسنا أشياء خلقت عبثاً، إننا جميعنا نشبه البحر الأحمر، حيث إنه مع كونه بحراً تمكن من منع فرعون عن بني إسرائيل».
ألم تكن كل شجرة أو حجر يمر عليه المصطفى عليه الصلاة والسلام يسلم عليه، إذاً وبهذا اعلم أن كل ما تعرف أنه جمادٌ إنما هو ذو روح».
ما يعني أنه ليس الإنسان والجان فقط هما من يطيعان الله تعالى ورسوله بل الحيوانات والجمادات أيضاً تفعل ذلك، ومن المؤسف اختناق الإنسان في مستنقعات العصيان في حين أن جميع المخلوقات تسعى نحو الطاعة.
[1] تقع برك الغماد في مسافة تبعد عن مكة المكرمة خمسة أيام، وهي موضع قرب البحر الأحمر، ويروى أنها اسم مدينة في اليمن.
[2] يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون صاحبه، أحبّ اليّ مما في الأرض جميعا»
[3] البخاري، المغازي، 4، التفسير 5/ 4؛ الواقدي، 1، 48
[4] إن إحدى الفئتين الموعودتين في الآية السابعة من الأنفال هم المشركين أنفسهم، أي هزيمتهم وأسرهم، والفئة الثانية قافلة قريش الكبيرة القادمة من الشام.
[5] مسلم، الجهاد، 83؛ الواقدي، 1، 48 ـ 49؛ ابن هشام، 2، 253 ـ 254
[6] البخاري، التفسير، 5/ 11/7253
[7] مسلم، الإمارة، 134
[8] وهو من حاجبي البيت، وتعني كلمة حاجب الشخص الذي تعهد بوظيفة حجابة الكعبة، وأما الحجابة فتعني القيام بوظائف هامة كالعناية بالمسجد وحفظ بابه ومفتاحه، وفتح بابه للزوار في أوقات محددة، وحماية مقام إبراهيم والبضائع القيمة، وستاره الداخلي والخارجي.
[9] البخاري، الجهاد 127، الصلاة 30، 81، 96، التهجد 25، الحج 51، 52، المغازي 77، 48؛ مسلم، الحج 389.
[10] البخاري، الاستئذان، 32؛ مسلم، السلام، 29
[11] البخاري، النكاح، 71، 74؛ مسلم، النكاح، 103.
[12] أبو داوود، الصلاة، 53/ 571.
[13] الموطأ، السلام، 6؛ البخاري، الأدب المفرد، ص: 348.
[14] البخاري، المناقب 25، التفسير، 49/ 1؛ مسلم، الإيمان 187.
[15] علي المتقي الهندي، كنز العمال، بيروت 1985، 13، 450/ 37171، الهيثمي، 9، 316.
[16] البخاري، التفسير 7/ 5، الاعتصام 2/4642
[17] مسلم، البر، 117 ـ 119؛ أبو داوود، الإمارة، 32؛ أحمد، 3، 403، 404.
[18] الحاكم، 1، 360؛ ابن ماجة، الجنائز، 24.
[19] الهيثمي، 1، 46
[20] البخاري، الجنائز، 37، 38، مسلم، الإيمان، 167؛ النسائي، الجنائز، 17.
[21] أبو داوود، الصوم، 47/ 2413.
[22] ماهر إز، التصوف، اسطنبول 1969، ص: 184.