يقول الإمام الرباني رحمه الله:
“إن أياً من جهودنا المبذولة في سبيل أداء العبودية الحقة التي تحقق رضا الله تعالى وتوفيقنا إلى ذلك إنما هو لطف من الله. وإذا ما تحتم علينا بيان سبب لذلك فإني أقول: بأن سبب كل الألطاف هو الارتباط برسول الله صلي الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين والسير على أثره ونهجه المبارك…
وإن سبب عدم حصول الإنسان على جزء من شيءٍ ما أو على تمامه إنما هو التقصير في مسألة الاتباع التام لرسول الله صلي الله عليه وسلم.
ذات مرة أصابتني الغفلة ودخلت بيت الخلاء برجلي اليمنى، فحرمت (بسبب مخالفة فعلي للسنة) ذلك اليوم الكثير من الحالة الروحية”. [1]
(لا يمكن الوصول إلى الفيوض والروحانية التي تقرب العبد إلى ربه إلا من خلال التسليم والطاعة التامة لرسول الله صلي الله عليه وسلم.لأن ربنا عز وجل يقول في كتاب العزيز:
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [2]
{قُلْ (أيها الرسول) إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ…} [3]
أي لا يمكنكم الوصول إلى محبة الله عز وجل إلا عن طريق طاعة حبيبه والتسليم له، وبشكل خاص عن طريق المحبة. وإن باب المحبة الإلهية يغلق دون من ينتابه على هذا الطريق أدنى تردد، أو شبهة، أو إهمال. وذلك لأن محبة النبي صلي الله عليه وسلم محبة لله، وطاعته طاعة لله؛ وعصيانه بمثابة عصيان لله عز وجل، وهذه الحقيقة ثابتة بالآيات القرآنية. ولهذا فإن المؤمن مضطر ومجبور على ضبط كل حركاته وسكناته بصغيرها وكبيرها وفق نهج ونمط حياة حبيب الله الذي يُعد التفسير العملي للقرآن الكريم، أي أن تكون لديه دقة وحساسية فائقة في اتباع ومراعاة السنة النبوية.
إذ من الحقيقة البينة أن – غالبية – المؤمنين الذين يتمسكون بأهداب السنة النبوية ليس لديهم أي إهمال أو تراخٍ في القيام بالفرائض. وبالمقابل يلاحظ بأن المهملين للسنن النبوية يفوتون أو يتساهلون كثيراً من الفرائض أيضاً. أي أن حساسية ودقة رعاية السنة تُعد بمثابة درع قوي يغطي الفرائض التي هي بمكانة الأركان الأساسية للحياة الدينية ويحافظ عليها. ولذلك فعندما يتسلط إبليس اللعين وأعوانه على دين إنسان ما وإيمانه فإنهم يعملون أولاً على إبعاده عن السنن النبوية. لأنهم يعلمون بأنهم إن لم ينجحوا في هذا الأمر فلن يكون لهم أمل ومطمع في الفرائض أبداً.
ولهذا فقد عبر عبد الله بن الديلمي رحمه الله عن أهمية التعلق بالسنة النبوية بتسليم وطاعة تامة بقوله:
“بلغني أن أول الدين تركاً السنة، يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة.”[4]
وبهذا فإن تراجع السنن وخروجها من حياتنا يجعل سعادة الأبدية – لا قدر الله – بمغزل الصوف.
وفي الواقع إذا رجعنا إلى تاريخ الأديان نجد أن انحرافها وفسادها مثل اليهودية والمسيحية قد بدأ بهذه الطريقة. ففي البداية تم التخلي عن سنن الأنبياء وهجرها، ثم بعد ذلك جرى تحريف العقائد والعبادات. وفي النهاية تُركت الصلاة وحُل محلها الطقوس والتراتيل، وتُرك الصيام وحلت مكانه الحمية، وتُرك الحجاب وجُعل محصوراً بالراهبات فقط، وحتى الراهبات بدأن في عصرنا هذا بالتخلي عن الستر والحجاب.
فينبغي علينا جميعاً كمؤمنين أن نتمتع بيقظة وبفراسة وبصيرة نافذة في هذه المسألة، حيث أن أعداء الدين اليوم يبذلون جهوداً كبيرة في السر والعلن وبكل ما أوتوا من قوة في سبيل تحريف الإسلام كما حرفوا المسيحية من قبل. وإنهم ولكي لا تتكشف نواياهم الأساسية الخفية ويتعروا أمام الناس فإنهم لا يستهدفون في خططهم الأولى مبادئ وأركان العقيدة الأساسية للدين والأحكام المفروضة، وإنما يعملون في البدء على التقليل من شأن السنن التي تُعد بمثابة الدرع الواقي لتلك المبادئ والأحكام في نظر الناس.
والأدهى والأخطر هنا هو أننا نعثر بكثرة ضمن هذه الحركات الإفسادية في عصرنا هذا حيث انتشرت الأفكار المخالفة والمناقضة لطريق أهل السنة والجماعة، واهتزت واختلت عقائد الكثير من المسلمين وسرى الفساد إلى عباداتهم ومعاملاتهم، نعثر على أشخاص ممن يصفون أنفسهم بعلماء الدين، ويظهرون بمظهر أساتذة الإلهيات والشريعة. وهؤلاء يسعون جاهدين لتسميم القلوب، وزعزعة الأفكار حتى في المسائل التي اتفقت عليها الأمة وأجمعت عليها منذ أربعة عشر قرناً.
وإن هؤلاء المفسدون يقدمون على إنكار المعجزات لعدم قدرة عقولهم الناقصة على استيعابهم والوصول إلى كنهها، ويسعون إلى نقد وتعديل الميراث القانوني وفق أهوائهم، وحتى إلى إعمال الاجتهاد والرأي في المسائل التي وردت بشأنها نصوص قطعية، فيستخفون بالحجاب، ويردون الأحاديث التي لا تتفق مع وجهات نظرهم الخاصة بعيداً عن قواعد الرواية والسند، ولا يعيرون للسنن أهمية تُذكر.
إنهم يعملون على نبذ السنة النبوية التي هي تفصيل، وتفسير، وشرح، وتطبيق عملي للقرآن الكريم في الحياة من خلال رفع شعار “الاكتفاء بالقرآن” الذي يبدو ظاهرياً وللوهلة الأولى حقاً وصواباً، ثم يحاولون بعد ذلك إيجاد “إسلام قرآني” خاص بهم ومتوافق مع أهوائهم بتفسير القرآن بأفكارهم وآرائهم.
وقد أشار رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى هذه الفئة من “محرفي الدين” الذين يرتدون لباس الدين ويقدمون القرآن ويظهرون تمسكهم به، ويخفون نواياهم وأهدافهم الأساسية. وذلك بقوله في الحديث الشريف:
“ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه. ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا وإن ما حرم رسول الله – صلي الله عليه وسلم – مثل ما حرم الله تعالى”.[5]
وفي رواية أخرى يبين النبي عليه الصلاة والسلام ضرورة التمسك بالسنة، فيقول:
“أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن؟ ألا وإني والله قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر…”.[6]
وتلفت الآية القرآنية الآتية الأنظار إلى أنه لا يمكن فهم القرآن الكريم بالشكل الصحيح إلا عن طريق السنة النبوية، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى:
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[7]
ولذلك لا يمكن الولوج إلى الأسرار والحكم الكامنة في القرآن الكريم وفهمها إلا من خلال الاغتراف من ينبوع قلب رسول الله. إذ أن حياة النبي عليه الصلاة والسلام كانت طيلة فترة النبوة التي امتدت لثلاث وعشرين سنة بمثابة تفسير حي للقرآن الكريم.
ولهذا الاعتبار فإن معرفة وفهم رسول الله صلي الله عليه وسلم يُعد الخطوة الأهم على طريق العبودية لله تعالى. فمن دون التعرف على النبي عليه الصلاة والسلام، وفهمه، والسير على آثاره ونهجه، والاغتراف من أحاسيسه ومشاعره القلبية لا يكتمل إيماننا، ولا عبوديتنا، ولا يمكن فهم القرآن الكريم بالشكل الصحيح…
فهناك الكثير من الأوامر الإلهية التي لم يذكر القرآن الكريم كيفية تطبيقها في الحياة العملية. ولا يمكننا تعلم تلك الكيفية إلا من تطبيق رسول الله لها في حياته.
ومثال ذلك أكل الميتة؛ فقد ذكر القرآن الكريم تحريم أكل لحم الميتة بشكل عام. ولكن استثني من هذا التحريم الميت من السمك بعد اصطيادها، وكان هذا الاستثناء عن طريق السنة النبوية.
وكذلك فقد ورد في القرآن الكريم الأمر بالصلاة، إلا أنه لم يبين كيفية أدائها. أي لم يوضح التفاصيل المتعلقة مثلاً بعدد الركعات، والسور والأدعية المطلوب قراءتها فيها، وتعديل الأركان، ولم نعلم بكل هذه الأمور إلا من السنة.
وعدا عن ذلك، فإن القرآن الكريم يكشف أسراره وحكمه ل “أهل التقوى”. حيث يقول الله تبارك وتعالى في الآية القرآنية:
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[8]
أي الذين يحذرون من الوقوع في المحرمات خشية وخوفاً من الله.
ولهذا فإن أفضل من يفهم القرآن الكريم ويدرك معانيه هم الذين يعيشون حياتهم على التقوى، ويطهرون قلوبهم ويرتقون بها. إذ بإمكان كل الناس الجلوس أمام المصحف الشريف وقراءته، ولكن استفادة كل واحد منهم من القرآن تكون بنسبة سوية قلبه.
ونورد في هذا المقام الحالة التي تعرض لها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والتي فيها الكثير من العبرة:
خرج عمر يعس المدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائماً يصلي، فوقف، فسمع قراءته يقرأ سورة الطور حتى بلغ قول الله تعالى:
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ. مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ}[9]
فقال: قسمٌ ورب الكعبة حق، ونزل عن حماره واستند إلى حائط فلبث ملياً، ثم رجع إلى منزله، فلبث شهراً في فراشه لشدة تأثره بالوعيد الإلهي الوارد في تلك الآية يعوده الناس لا يدرون ما مرضه.[10]
إذاً إن القرآن الكريم بحر عظيم لا شطآن ولا قرار له، ويمكن للناس الغوص في أعماقه كل بحسب سوية قلبه. فكما أن الذي لا يعرف السباحة لا يمكن أن يخوض إلا في مياه ضحلة، بينما الماهر بالسباحة يمكنه الغوص إلى بحر متلاطم الأمواج والوصول إلى أعماقه، ثم مشاهدة عوالم مختلفة مليئة بالمناظر العجيبة والغريبة التي تأخذ بالألباب والتي لا يمكن ملاحظتها من الشواطئ، فكذلك الأمر بالنسبة للذين قد قطعوا مراحل قلبية متقدمة على طريق التقوى فإمكانهم مشاهدة الكثير من التجليات الملئية بالحكم في القرآن الكريم، ونيل الفيوضات منها بالمعنى الحقيقي.
فبعض من هؤلاء البائسين يتجرؤون دون رؤية هذه الحقائق وأمثالها على الإقدام على تقليم الدين – باسم اتباع القرآن – ليتوافق مع أفكارهم وآرائهم الضيقة والضحلة. وينبري هؤلاء الذين لا يرتقون حتى إلى مستوى التلاميذ المبتئدين في العلم والعرفان لتوجيه الانتقادات بدون أدنى احترام لكبار الأئمة المجتهدين.
إنهم يتبنون الرأي القائل: “لقد كان أولئك الرجال علماء قبل ألف سنة ماضية، أما اليوم فقد تغير الزمن كثيراً” ثم يتلاعبون بالأحكام الدينية الثابتة التي لا تتغير بتغير الأزمان. يُعد هذا العمل أكثر خطورة على الدين وتخريباً وهدماً من أعمال غير المسلمين من المستشرقين والتبشيريين. فهؤلاء من الرعاع المغفلين الذين يعتقدون باستخدام العلم الديني في نقد الدين ونقضه بدلاً من وضعه في خدمته.
وعلى ذلك ينبغي على شبابنا وبالأخص ممن يتوجهون إلى تحصيل العلوم الدينية أن يكونوا منتبهين ومتيقظين في هذا المجال إلى مسألة المصدر الذي يتلقون منه علومهم، وإلى الذين سيتعلمون منهم أمور دينهم. لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد حذر ونصح الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والذي أحبه كثيراً بقوله له:
“يا ابن عمر دينك دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا”.[11]
وفي الواقع كان الصحابة الكرام والمؤمنون الصالحون الذين ساروا على نهجهم والذين كانوا حريصين للغاية في هذه المسألة، كانوا يقومون برحلات علمية تستمر حتى شهر كامل متحملين خلالها الظروف الشاقة السائدة في ذلك الوقت في سبيل الوصول إلى راوٍ واحد من رواة الحديث للتثبت من صدقيته ثم أخذ الحديث منه. وقد بلغ أولئك مقامات عالية من الفضيلة بالتربية النبوية لدرجة أن أحدهم قد رد أحد الرواة ولم يأخذ منه الحديث بعد أن قطع مسافة طويلة للوصول إليه لمجرد أن رآه يمد حقيبة الطعام لدابة قد أفلتت منه وهي فارغة لاستمالتها والإمساك بها، واعتبر هذا التصرف إخلالاً بأخلاق ذلك الإنسان. أي أنه لم ير الشخص الذي لديه ميل أو ضعف في الإقدام على الخداع والمواربة حتى ولو بحق حيوان، لم يره أهلاً لرواية ونقل الحديث لأنه لم يلتزم في طباعه وأخلاقه بمقتضيات الأحاديث النبوية الشريفة.
يقول أبو العالية رحمه الله الذي يُعد من كبار الأئمة التابعين:
“كنا نأتي الرجل لنأخذ عنه (الحديث) فننظر إذا صلى فإن أحسنها، جلسنا إليه وقلنا: هو لغيرها أحسن. وإن أساءها، قمنا عنه وقلنا: هو لغيرها أسوأ”.[12]
واليوم أيضاً يشترط أن يقيم أرباب العلم لأخذه معلوماتهم الدينية بعين الاعتبار على ضوء هذه المعايير. لأن الحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم:
{…إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ …} [13]
أي إن أول شرط ينبغي أن يتوفر في العالم الحقيقي هو التقوى/ الخشية من الله. فالله عز وجل لا يعتبر من عباده علماء إلا هذا الصنف، وليس الغافلون الذين يظنون دون خشية من الله تعالى ودون حياء من رسول الله صلي الله عليه وسلم بأن عقولهم الناقصة إنما هي المعيار الوحيد للحقيقة، ثم يقدمون على غربلة الدين فيأخذون منه ما يوافق عقولهم وهواهم، ويرمون بما لا يوافق ذلك!..
إن الإيمان أساساً هو إقرار أولي يستوجب التصديق القلبي بكثير من الأمور التي سيبقى العقل عاجزاً عن فهمها واستيعابها كلها. فكما أن للعين مسافة إبصار معينة تعجز عن الرؤية بعدها، فإن للعقل كذلك قدرة محدودة على الإدراك؛ ولذلك فإنه غير قادر على فهم وإدراك كل شيءٍ. وهنا يحسن التساؤل: أليست هناك حقيقة فيما وراء حدود قدرة العقل الإدراكية؟ لا شك أن الحقائق الدينية سوف تشكل للإنسان صاحب العقل المحدود والعلم الجزئي حكماً وأسراراً لا حصر لها والتي يعجز العقل عن إدراكها نظراً لكون واضعها هو الحق سبحانه وتعالى صاحب العلم الكلي.
وإن الحديث النبوي الآتي يبين هذه الحقيقة بشكل واضح، حيث يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
“خلال الرحلة التي رأى فيها سيدنا موسى عليه السلام مع خضر عليه السلام حوادث عجيبة جاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر عليه السلام: يا موسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر“.[14]
كما أن علم نملة صغيرة يُعد قريباً من الصفر بالمقارنة مع علم وعقل الإنسان، فإن حالتنا كذلك نحن البشر تعد عدماً أمام الحق عزوجل . وإن ما يعلمه الإنسان من علوم وأمور تُعد بمثابة العدم بجانب ما لا يعلمه. وهذا من أسباب وصف الله تعالى للإنسان في القرآن الكريم بصفة “الجهول” التي تُعد من صفاته الأساسية الملازمة له.
وبالمقابل فإن الله تعالى قد بين عظمة العلم الإلهي ولا محدوديته بقوله:
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[15]
هناك الكثير والكثير من الحكم والأسرار الإلهية التي يعجز العقل البشري المحدود عن إدراكها،لأن علم سائر الكائنات المخلوقة لا يساوي بجانب علم الله تعالى قطرة من البحر. وقد كُشف جزء يسير من هذه الأسرار لخواص الخواص من العباد، وبنسبة أكبر بقليل للأنبياء، وبدرجة أكبر لرسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم. ولهذا السبب فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:
“لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً“[16]
ولهذا فإن العقل المحدود الذي أُنعم به علينا لا يكتسب قيمة إلا ضمن محتوى القرآن والسنة. وقد قال مولانا جلال الدين الرومي في معرض بيانه لأهمية ترك كافة شبه واستفهامات العقل جانباً، ثم التسليم القلبي لله ولرسوله:
“على الرغم من نجاح وفاعلية العقل في الأعمال الدنيوية، فإنه بمقتضى ماهيته يبقى قاصراً في الوصول إلى الحقيقة، والأسرار الإلهية، أي إلى معرفة الله تعالى. فهناك حاجة إلى واسطة من أجل هذه الرحلة العلوية، وهذه الواسطة هي القلب، والعشق، والوجد، والاستغراق. فليكن العقل فداء للمصطفى عليه الصلاة والسلام!”
لأن العقل لا يمكن أن يخدم السعادة الدنيوية والأخروية للشخص إلا بهذا التسليم. وإلا فإنه يدخل الإنسان في متاهات مسدودة لا خروج له منها.
وهنا فإن الحق سبحانه وتعالى يريد في مجال الإقرار بالحقائق الإلهية التي يعجز العقل عن إدراكها بالمعنى التام – مثل المعجزات، والإيمان بالغيب والقدر – يريد أن يحيلنا إلى الدائرة القلبية التي تُعد مركز إدراك أعلى من العقل. وبذلك فإنه يريدنا أن نعلو في آفاق التسليم التام.
وإن الإيمان الحقيقي يتحقق نتيجة التصديق بالقلب إضافة إلى الإقرار باللسان، وليس نتيجة للتصديق بالعقل. فالإقرار بما يتقبله العقل ليس “إيمان” وإنما “اقتناع”. وهو غير ذي قيمة عند الله تعالى لأنه يفتقد جانب التسليم للحق عزوجل.
والحاصل؛ يجب تحصيل ديننا الإسلامي السامي من العارفين والعلماء من أهل التقوى، والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة والذين يعيشون حياتهم وفق هدي القرآن والسنة.
ويُعد التمسك بالقرآن والسنة والسير كما جاء بهما، أي الالتزام بالاستقامة من أكبر كرامات هذا الزمن.
إن الحالة التي سنوردها لأبي يزيد البسطامي الذي يُعد من كبار أهل الحق تُعد مثالاً نموذجياً في مجال الكشف عن الأشخاص الجديرين بالاعتبار في الساحة الدينية:
ذات يوم خرج أبو يزيد البسطامي مع أحد مريديه لكي ينظر إلى رجل قد شهر نفسه بالولاية، وكان رجلاً مقصوداً مشهوراً بالزهد، فمضيا إليه حتى وصلا إلى داره، فلما خرج من بيته ودخل المسجد رمى ببصاقة تجاه القبلة، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه، وقال:
– هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله ؛ فكيف يكون مأموناً على ما يدعيه (من أسرار الحق سبحانه وتعالى)؟. [17]
يقول الإمام الرباني رحمه الله:
“لا ينبغي المساهلة في إتيان المستحب، فإنه محبوب الحق سبحانه وتعالى ومرضيه. فإن علم في كل الدنيا فعل واحد مرضي ومحبوب عند الحق جل سلطانه وتيسر العمل بمقتضاه فينبغي أن يغتنمه، وحكمه كحكم جواهر نفيسة اشتراها شخص بقطعات خزف…”. [18]
وذات يوم قال الإمام الرباني لأحد تلامذته:
– اجلب بعضاً من القرنفل من البستان!
فذهب التلميذ إلى البستان وأحضر ست قرنفلات. فلما رآها الإمام في يده قال وقد بدت عليه علامات الأسف والحزن:
– ما زال تلاميذنا لا يراعون حديث النبي عليه الصلاة والسلام القائل:
“إن الله وتر يحب الوتر“.[19] والحال أن مراعاة الوتر من المستحبات.
ماذا يظن الناس عن المستحب؟
إن المستحب هو الشيء الذي يحبه الله. فلو بُذلت الدنيا والآخرة كلها مقابل عمل أحبه الله تعالى يُعد وكأنه لم يبذل شيء بعد. وإننا نراعي المستحب لدرجة أننا حتى عندما نغسل وجوهنا نحرص كل الحرص أن يصيب الماء الخد الأيمن قبل الأيسر. وذلك لأن التيمن في الأعمال من المستحبات”.[20]
فكما يتبين مما تقدم أن أهم كرامة للعلماء والعارفين من أهل الحق الذي يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام حق المعرفة هي حرصهم الشديد وبدقة وحساسية عالية على اتباع السنة النبوية الشريفة في كل حركاتهم وسكناتهم، وأحوالهم صغيرة، وفي كل صغيرة وكبيرة.
وينبغي أن لا ننسى أيضاً بأن الله تعالى قد أخفى عنا الأعمال التي تتجلى فيها رضاه، وكذلك غضبه، فلا نعلم أي عمل يتجلى فيه غضبه، او رضاه، وذلك لكي نحرص جاهدين على القيام بكل الأعمال الصالحة، ونتجنب كل المعاصي والذنوب. فرضا الله تعالى، وكذلك غضبه قد يتجلى أحياناً في عمل كبير، وأحياناً في عمل متوسط، وأحياناً قد يتجلى في عمل صغير جداً.
فكما جاء في أحد الاحاديث النبوية أن الله تعالى قد غفر لامرأة فاجرة ذنوبها وجعلها من أهل الجنة بسبب رحمتها بكلب، إذ سقته الماء وأنقذته من الهلاك نتيجة العطش. وبالمقابل فقد ورد في حديث آخر أن الله تعالى قد جعل امرأة من أهل النار بسبب ظلمها لهرة وتسببها بموتها، إذ هي حبستها، ثم لا أطعمتها، ولا تركتها تأكل من حشاش الأرض حتى ماتت.[21]
يقول الصحابي الجليل أنس بن مالك:
“إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي عليه الصلاة والسلام من الموبقات”.[22]
إذ أنهم بسبب المحبة والخشية الكبيرة التي في قلوبهم تجاه الله تعالى كانوا يعتبرون حتى الصغائر من الذنوب ضياعاً وعصياناً كبيراً، وحتى سبباً للهلاك المعنوي والروحي. وذلك لأنهم لم يكونوا ينظرون إلى حجم الخطيئة وصغرها، وإنما كانوا يأخذون بعين الاعتبار عظمة الله تعالى الذي يعصى أمر من أوامره بهذه الخطيئة.
إذاً لا يكفي لكي يكون الإنسان مؤمناً كاملاً الإيفاء بالفرائض، واجتناب المحرمات فقط. وإنما يلزم أن تتوفر حساسية قلبية مليئة وفياضة بالوهج الإيماني.
وقد قال الشيخ موسى طويّاش أفندي رحمه الله في هذا الشأن:
“الكثير من الناس يظنون بأنهم قد أدوا ما عليهم من الواجبات والوظائف الدينية بإقامة الصلاة، وصوم رمضان، ثم يجلسون مرتاحي البال. إلا أن هذا الأمر غير كافٍ. إذ ينبغي إلى جانب مراعاة وتعظيم أوامر الله تعالى التحلي بالشفقة تجاه مخلوقاته. وهذا لا يتحقق إلا بالتضحية وبالخدمة الصادقة المخلصة. فالأمر الذي يحرص وينتبه إليه كل مسلم صاحب عقل سليم بعد أداء الفرائض واجتناب المحرمات هو خدمة الإسلام، والمجتمع وسائر المخلوقات، والعمل على التحول إلى عنصر فاعل ونافع في الحياة… وذلك لأن هذه الأمور التي ذكرناها مكملة للفرائض، وأجزاء من سنة رسولنا الأكرم عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم…”. [23]
وما أعظم هذا التضرع والابتهال الجميل للإمام الرباني رحمه الله:
“اللهم نجانا من مقال خالٍ من الحال، وعلم بلا عمل بحرمة سيد البشر المبعوث إلى سائر الأعراق أسودهم وأحمرهم وأبيضهم عليه وعلى آله أفضل الصلوات، وأتم التسليم”. [24]
آمين!
[1] محمد هاشم الكشمي: بركات (زبدة المقامات)، ص 197.
[2] النساء: 80..
[3] آل عمران: 31.
[4] الدارمي: المقدمة، 16.
[5] أبو داوود: السنة 6، رقم الحديث 4604، 4/200؛ ابن ماجه: المقدمة 2، رقم الحديث 12، 1/6؛ الترمذي: العلم 10، 2663، 2801؛ 5/37؛ أحمد بن حنبل: 6/8.
[6] أبو داوود: الخراج، 31.
[7] الشعراء: 193 – 195.
[8] البقرة: ، 2.
[9] الطور: 7 – 8.
[10] ابن رجب الحنبلي: التخويف من النار، دمشق 1979، ص 30.
[11] الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية، المدينة المنورة، المكتبة العلمية، ص، 121.
[12] الدارمي: المقدمة، 38/ 429.
[13] فاطر: 28..
[14] البخاري: التفسير، 18/4.
[15] لقمان: 27.
[16] البخاري: التفسير، 5 / 12.
[17] القشيري: الرسالة، ص 57، 416 – 417.
[18] الإمام الرباني: المكتوبات، 2، 172، رقم 266.
[19] البخاري: الدعوات، 68.
[20] محمد هاشم الكشمي: بركات (زبدة المقامات)، ص 198؛ أبو الحسن الندوي: الإمام الرباني، ص 180 – 181.
[21] انظر مسلم: السلام، 151 – 155.
[22] البخاري: الرقاق، 32.
[23] انظر، صادق دانا: جلسات “صحبات” آلتن أولوك، 3، 117، 167، 5، 78 – 79.
[24] الإمام الرباني: المكتوبات، 1، 159، رقم 23.