ثمة فروق جوهرية بين مصطلحات ثلاثة قد تتقارب حروفها ومعانيها: العالِم، والعارف، والعرفان.
فالعالم هو كل صاحب علم ظاهري، أو رجل يحمل «العلوم الكتابية»، أما العارف فهو شخص ذو علم وحكمة وإطلاع على الأسرار الكامنة وراء العلم بتجلياته الإلهية.
بينما العرفان هو تلك الحالة أو الدرجة التي يصل إليها العارف بعلمه وتقواه، بعقله وقلبه، حين تكون العلوم كالبذور التي تحمل الخير والبركة والنماء، وتوضع في التربة الصالحة، وتتفاعل مع البيئة الصالحة، فتنمو وتكبر، وتتكاثر وتنتج، ويعم خيرها، فكما أن هذه الحبوب لا تخرج أسرارها المودعة فيها إلا حينما تتفاعل مع الكون، كذلك العلم.
والعلم نافع بطبعه، مفيد لأهله وللناس شريطة أن يستخدم بالأسلوب الصحيح، والطريقة المثلى في استخدام العلم هي أن يتجذَّر هذا العلم في أعماق روحك وقلبك، كما تفعل البذور في التربة؛ حينها يحصل النفع بالعلم في الدنيا والآخرة، ويستطيع الإنسان أن يوجه الطاقة الخيرية في «العلم النافع» لسعادة البشرية.
ومن المعاني الدقيقة لتفادي الخلل البشري في استخدام العلم وتوجيهه ما قاله العلامة «ماهر عز» ~ عندما ذكر أن الإرشاد المعنوي هو الذي يمكن من خلاله تجنب الزلل في تحصيل العلم بالعقل وحده دون القلب؛ يقول:
«إني موقن بأن المعرفة الحقة لن تصل إليها إلا من خلال أهلها تعليمًا، وإرشادًا، وتربيةً، وتوجيهًا، مع سعيك الدؤوب في التحصيل وجمع كل شاردة وواردة تستطيع الحصول عليها؛ لذا فإنني بمجرد أن تلقيت إشارة قلبية من تجليات الشيخ رمضان أوغلو للعروج إلى سماء المعرفة، فقد ربطت إرادتي به، وأسلمت قيادي له»[1].
ودرجة «المعرفة» التي يصل إليها كبار المتصوفة، والتي لا يمكن الوصول إليها إلا بالرياضات الروحانية والتربية المعنوية، هي التي تنتقل بمدارك الإنسان إلى آفاق أرحب مما يدركه العلم الظاهري، وتنجو بروحه أيضًا من ذلك الغرور والكبر مهما بلغ علمه، لأنه حينها يدرك مدى عجزه، وهو غارق بفكره في هذا العالم اللانهائي من الدهشة بالحقائق والمعارف بالغة التعقيد، حينها يدرك أن الحواس والمشاهدة الظاهرة لا يمكن وحدها أن تحصل على المعرفة؛ بل بإدراك الحكمة والأسرار وراء العلوم والمخلوقات، فالعلم الحقيقي هو أن ندرك حل لغز هذا النظام الكوني الكبير، وما وراءه من الأسرار الإلهية الكبرى.
وهناك حكاية ذات مغزى ومدلول جوهري، يرويها لنا مولانا جلال الدين الرومي، يوضح بها أهمية «العلم النافع»، والمعرفة الحقة المنجية يوم الدين والموصلة للسعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، والتي من دونها يكون عمر الإنسان وعلمُه وسعيه هباءً منثورًا، تقول الحكاية:
كان أحد علماء النحو يركب ذات يوم سفينة، وأثناء سفرها في عرض البحر كان العالِم المغرور بعلمه يجالس صاحب السفينة، ويسأله بين الحين والآخر أسئلة معجزة ما كان لدى صاحب السفينة من جواب سوى كلمة (لا أدري)، بينما العالم النحوي تزيده هذه الإجابة نشوة بعلمه، واستهزاءً بصاحب السفينة، وحينها قال النحوي للرجل: يا للأسف!! لقد أضعت نصف عمرك بلا طائل بسبب جهلك.
جرحت تلك الكلمات الغليظة مشاعر صاحب السفينة، لكنه إن فَقَد العلم فلم يفقد الأخلاق، وإن كُسِر قلبه بهذا التحقير فلم تُكسَر روحُه بالنزول إلى درك رد السفاهة؛ بل صمت، ولم يرد على كلمات وسلوكيات هذا المغتر بعلمه.
ثم هبَّت عاصفة هيجت الأمواج، وتلاعبت بالسفينة، وأدخلتها في دوامة الغرق، وجعلت الجميع يوقنون بالهلاك، وهنا ذهب صاحب السفينة ليطمئن على العالم النحوي، فسأله: يا سيدي، هل تعرف السباحة؟
وهنا تلعثم النحوي الخائف الجاهل بالسباحة، وقال: لا، لا أعرف.
وكان الرد الحكيم من صاحب السفينة:
«يا أستاذنا، إذا كان نصف عمري قد ضاع جهلاً لأني لم أتعلم النحو، فإن عمرك كله سيضيع الآن مع هذه السفينة في تلك الدوامة لأنك لم تتعلم السباحة، أما كنت تدري أيها النحوي أن علم السباحة هو أهم وأنفع من علم النحو في هذا البحر؟».
والنحو هنا رمز للعلم الظاهري العقلي الدنيوي، أما السباحة فهي رمز للعلم الباطني القلبي المنقذ، الذي يلبيك حينما تستدعيه، ويجيبك عندما تناديه، وينقذك عندما تحتاج إليه في الدنيا والآخرة، علم ينفع روحك وبدنك، ويوصلك إلى رضا الله تعالى عبر العمل الصالح والإيمان الكامل.
وهذه السفينة المقبلة على الغرق هي نفسها الجسد الفاني المقبل على الموت بعد الدخول في دوامة الحياة ومعترك الأجل، وحينما تأتي الساعة الحاسمة تتخلى عنك حظوظ الدنيا التي اتخذتها زينة وتفاخرًا، ولا تنجيك علومك التي تعلمتها لتماري بها السفهاء، وتجاري بها العلماء، وتصرف بها وجوه الناس إليك، لا تنفعك هذه العلوم التي تعلمتها للناس، لا لله تعالى؛ بل حتى لم تتعلمها لنفسك، فتجيب عن أسئلتك الحائرة، وتقدم لك الإجابات الشافية، وترتقي بك من درجة العالم إلى سماء درجة العارف، ولم تُخرجها من خزائن عقلك لتغرسها في أرض قلبك، فتثبت وتورق وتتفيأ ظلالها في كنف الله تعالى ورضاه.
فما سبيل النجاة بهذه العلوم؟
السبيل هو التوجه بهذه العلوم إلى الله تعالى، والتخلص من كل مراد سواه، ومن كل رجاء عداه، وجعل العلم وسيلة لنيل رضاه، فالمرء الذي يتفاخر بالعلم، والنفس التي تتباهى بالمعرفة، ستوضع في التراب بعد أن تغرق السفينة، ولن يبقى منك سوى «قلب سليم» يقبل على الله تعالى حاملاً علمًا نافعًا، يستطيع وحده أن يمخر عباب المحيط، ناجيًا من كل ريح عاتية أو موجة عالية، لا تثقله نفسه فتهوي به وبعلمه إلى القاع، ولا تغويه شهواته فتجره وتدور به في دوامة البحر، إنما هو علم يتجرد به لله وحده سبحانه، ولا يعطي منه شيئا لنفسه ولا لشهوات نفسه، فهو يحارب هذه الشهوات من الغرور والكبر والرغبات حتى يقتلها، ليفوز بالحياة الأبدية الخالصة من الشهوات، المتخلصة من الرغبات، الصاعدة إلى أعلى الجنات، الناجية من كل الملمات.
وهذا هو معنى النصيحة الصوفية القائلة:
«موتوا قبل أن تموتوا». أي لتمت منكم النفوس والشهوات، قبل أن تموت منكم الأبدان وتنكسر الأرواح.
والسبيل إلى ذلك هو ما قاله أبو حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما قال:
«حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا».[2]
ليكون الإنسان دائم المراقبة لنفسه، شديد الحرص على كل تحركاتها وسكناتها، ممسكًا بكل قوة بلجامها، فلا تدفعه لشهوة، ولا تجره لرغبة، ولا توقعه في آفة.
ويروي لنا القاضي أبو بكر بن العربي الأندلسي هذا المشهد، فيقول:
رأيت الإمام الغزالي في البرية، وعليه مرقعة، وبيده عكاز وركوة، فقلت له: «يا إمام، أليس التدريس في بغداد أفضل من هذا؟» فنظر إليَّ شزرًا، وقال: «لما بزغ بدر السعادة في فلك الإرادة، وجنحت شمس العقول إلى مغرب الوصول:
تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل وعدت إلى مصحوب أول منزل
ونادت بي الأشواق مهلًا فهذه منازل من تهوى رويدك فانزل
غزلت لهم غزلًا دقيقًا فلما لم أجد لغزلي نسـاجًا كســرتُ مِغزلي»[3]
هذا العالم الفذ بعد طول علم ومجاهدة أدرك الغاية، وعرف الحقيقة، ورأى بعين البصيرة، فعرف قيمة هذه الدنيا الحقيرة، وعلم أن ما كان فيه من العلم ليس علمًا؛ بل العلم الحقيقي والأثر الأبقى والمنقذ الوحيد وطريق السعادة الأوحد إنما هو العلم الذي يزيدك بالله معرفة، ويملأ قلبك إيمانًا به وشوقًا إليه، فتؤدي العمل الصالح بروحك قبل جسدك.
والعلم الحق هو الذي يحملك على أن تدرك ما عليك من مسؤوليات يوجبها عليك هذا العلم: المسؤولية العقلية والوجدانية والقلبية، حتى لا يفلت زمام العلم من يديك، ويصبح قوة جامحة لا يُعلم لها توجه، ولا يُدرك لها قرار، وينقلب نفعه ضررًا بالغًا، وكأنه قوة نووية في يد مخرب؛ وبدلًا من أن تنتج طاقة تدير عجلة الإنتاج تصير خطرًا يدمر كل أخضر ويابس.
ولا تتحقق الاستفادة والنفع من العلوم، ولا يتم الانتقال من مرحلة النظرية إلى مرحلة التطبيق إلا بتوجيه العلوم من مجرد علم إلى «علم نافع»، متصل بالله تعالى، نابع من القلب، مفعم بالأخلاق.
وها هي العلوم المجردة من الأخلاق تهبط بأصحابها من السماء إلى الأرض، ومن نور الإيمان إلى نار الجاهلية، فعلم القانون حين يُسلَب صاحبه الأخلاق يصير جلادًا قاسيًا لا قاضيًا عادلاً، وعلم الطب حين يُسلَب صاحبه الرحمة والرقة يصير قصَّابًا لا ملاك رحمة، وذلك راعٍ يسوس أمور الناس بسياسته المحنكة، لكنه حين يُسلب الرفق يشقُّ على قومه، وأصحاب العلم هؤلاء أشد ضررًا من الجهلاء مسلوبي العقول.
ولكم هو جميل كلام يونس إمْرَه حين قال:
تحصيل العلم له غاية
هي معرفة العبد خالقه في النهاية
إن قرأت ولم تعرف البارئ
فجهدك إذًا ضاع هباء
فالعلم القلبي هو العلم النافع الذي يرتقي بأصحابه وبالدنيا كلها في الدرجات المادية والمعنوية.
ودعنا نتساءل عن النفع المادي من العلم الظاهري المجرد عن المعنويات إذا كان يلفه الكبر والغرور، ويقود أصحابه إلى درك الشرور، فأي نفع يُرجى منه مهما كان ماديًا أو معنويًا، نفعه المعنوي انكسار للقلوب، كما فعل مع صاحب السفينة، ونفعه المادي دمار شامل كصاحب القنبلة النووية، لا نفع يُرجى منه مطلقًا.
لذا؛ فإن البيان النبوي الرشيد، والمنطق المصطفوي السديد، والعبقرية المحمدية الفذة كان دعاؤها بالعلم النافع؛ إذ يقول رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: «اللّهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملًا متقبلًا» (ابن ماجه، إقامة الصلاة، 32)
وفي هذا السياق نجد أن غاية العلم النافع الذي يكوِّن كُنه علم التصوف هي تزيين العبد بالزهد والتقوى والإحسان، ومن كان علمه على هذا النحو، صار علمه عندها معرفة، وصار صاحبه عارفًا.
ويقول مولانا جلال الدين الرومي:
«إن العلماء الذين يقتصرون على الظاهر فقط يعلمون دقائق وتفاصيل الهندسة، والفلك، والطب، والفلسفة، كل حسب مجاله، لكن علمهم هذا ما هو إلا علم بهذه الحياة الفانية التي تُزال بطرفة عين، وهو علم لا يُري الإنسانَ طريق المعراج الذي يتجاوز السماء السابعة».
«ولا يمكن للغافلين الذين تحكمهم أنفسهم أن يعلموا الطريق إلى الله تعالى، ولا المنازل في هذا الطريق، ولا يمكن إلا للعارفين من أهل القلوب أن يعرفوا علوم الطريق إلى الله سبحانه، ليس بعقولهم بل بقلوبهم».
فإذا ما اختلط العلم بالقلب، ونضج فيه، أدرك حقيقة الوجود وسره الأعظم، وحكمته الإلهية، وكان في وصال مع الحق سبحانه. وتنعَّم صاحبه بالتجليات والفيوضات الربانية، وسرى نورُ العلم من أذنيه وعقله إلى قلبه وسلوكه وروحه، فتحول العلم من صورة إلى سيرة، ومن فضول إلى فضيلة، ومن أوراق إلى أخلاق، ومن سطور وزبور إلى نور.
يقول الله تعالى في الآية الكريمة: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه، 114)
وهذه الزيادة هي التي ترفع من منزلة العبد في التقوى والخشية، فالله -عز وجل- يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر، 28)
ويقول نبينا الكريم -صلي الله عليه وسلم-: «إنَّ أتقاكم وأعلمكم بالله أنا» (البخاري، الإيمان، 13؛ الأدب، 72)
وعن يزيد بن سلمة الجعفي -رضي الله عنه- قال، قال يزيد بن سلمة:
يا رسول الله، إني قد سمعت منك حديثًا كثيرًا أخاف أن ينسيني أولَه آخرُه، فحدثني بكلمة تكون جماعًا، قال: «اتقِ الله فيما تعلم» (الترمذي، العلم، 19/2683)
وقد لخص النبي -صلي الله عليه وسلم- بهذه الكلمات غاية العلم ووضح طريقه الأمثل.
ويخاطب الإمام الغزالي قدس اللهُ سرَّه أولئك المشغولين بالعلوم الدنيوية المحضة، والذين يقضون عمرهم في «القيل والقال» متناسين ربهم -عز وجل-، قائلًا:
«يا بني، عارٌ عليك، إن لم يوصلك الكلام، والمنطق، والبلاغة، والشعر، والصرف، والنحو، وما شابهها من العلوم إلى العرفان، ماذا جنيت في عمرك الذي وهبك إياه الله -جل جلاله- لكي تعبده فيه سوى أنك ضيَّعته؟!»
إذًا، ما فائدة العلم الذي لا ينفع في إيصال العبد إلى الجنة، والنظر إلى جمال الله تعالى، لا بل يوصله إلى الخسران؟ وهل من الممكن أن نطلق اسم علم على العلوم التي تجعل من الإنسان شبيهًا بإبليس، وبلعم بن باعوراء، وقارون، وأولئك الذين «أضلهم الله على علم»، فكان العلمُ سببَ ضلالهم وهلاكهم، فلم يملأهم العلم نورًا؛ بل حشاهم غرورًا، حتى تطاول المخلوق الحقير على الخالق العزيز سبحانه، فأورثهم العلم جهلاً وحمقًا وهلاكًا، ولم يعطهم نورًا وهداية.
ويقول علماء الإسلام في ذلك:
«العلم هو الإدراك، ودون الإدراك لا يتحقق العلم، ومنتهى الإدراك هو معرفة الله -عز وجل-، وبهذا تكون معرفة الله تعالى جوهر العلوم كلها، وبدرجة الاقتراب من هذه المعرفة تزداد قيمة هذه العلوم».
ويقول مولانا جلال الدين الرومي:
«الإنسان البارع المتعلم إنسان جيد، لكن خذ العبرة مما حصل مع إبليس ولا تعطه قيمة كبيرة، لأن إبليس أيضًا كان لديه علم، فقد رأى خلق آدم من التراب، ورأى وجهه الخارجي، لكنه لم يرَ حقيقته».
«إن أكثر أهل الجنة هم أهل القلوب الصافية، والإيمان المحض، وكم أضل العقلُ أهلَ العلم، وكم ضلت أفهام أهل العقل، وكم زلت أقدام الفلاسفة، فَانجُ بنفسك أيها الإنسان من هذا التيه، وتخلص من هذه الأرزاء، واحظَ بتنزلات رحمات ربك في كل حين».
فالطريق إلى الحقيقة لا يكون بالعقل وحده، فالعقل سبيله تحليل ألغاز الكون، وكشف أسرار الخلق، وتتوقف مهمته وقدراته عند مجرد الكشف عن وجود هذه الأسرار، والوقوف على عتبة الاندهاش والتعجب، والاستسلام عند نقطة التسبيح بقدرة الخالق سبحانه أما تجاوز هذه العتبات، والولوج إلى باب الأسرار، وكشف الأستار، فإنه بالإيمان والعشق.
فالعقل الذي تربى على منهاج الوحي الأمين بالقرآن والسنة، يوصلك إلى منتصف الطريق في الوصول إلى السر، ثم يأتي دور القلب ليكمل لك الطريق في كشف السر، وإدراك الحكمة من وراء الخلق.
وهذا العقل مجرد باب يمكنك فقط استخدامه لينفتح لك على عالم الحقائق والأسرار، لأنه مجرد درجة ترتقي بها في الدين إلى الدرجات الظاهرية الأولى.
أما الدخول إلى عالم الأسرار، والارتقاء في درجات الكمال، والوصول إلى «العرفان» فيكون بالعشق، كما قال مولانا جلال الدين الرومي في اجتياز هذه المراحل:
«اجعل العقل قربانًا أمام المصطفى -صلي الله عليه وسلم-»
فعندما تنتهي طاقة العقل، لا تستطيع إكمال المسيرة وبلوغ الغاية إلا بطاقة القلب، بالمدد الإلهي عبر الفيوضات والوجد، لتصل إلى الله الحق.
وهذا هو طريق الأولياء، الذين عبروا بحر الوجود بالحب، واجتازوا إلى عالم الأسرار بالوجد، وتعالوا على دنيا الفناء والخراب بنشوة الإيمان، واحتضنتهم حالة الاستغراق والتفكر بنشوة العشق.
فأولياء الله تعالى هم الذين ورثوا مهمة الأنبياء واضطلعوا بأعباء مهمة الرسالة، وواصلوا طريق المرسلين في هداية البشرية، وتربية النفوس، وتزكية الأخلاق، وتلك هي الغاية الأساسية التي أرادوها، والتي وصلت بهم إلى ذروة عالم الروحانية.
وليست كل أحوال الأولياء كرامات، إنما هي علمٌ صار عرفانًا، وإيمانٌ ملأ القلبَ والروحَ فصار بصيرة ترى التجليات الإلهية في كل أرجاء الكون، عبر العشق الإلهي الذي تشربته خلايا قلوبهم.
ويرى أولياء الله تعالى هذا العالم في إطار تجليات القدرة الإلهية، وبالبصيرة التي كانت نتيجة العشق الإلهي، ويطَّلعون على أسرار وحقائق الإنسان والحياة والكون.
فإذا انحرف العلم عن مساره، وضل عن طريقه، ولم يتخذ سبيله في ينبوعه القلبي؛ صار في القلب شوكة لا وردة، وفي العقل ضلالاً وليس هدى، ولم يبصر عجائب المخلوقات والآيات التي يزخر بها الكون.
إن طعم الحياة يصير أكثر لذة وأعظم متعة لمن يفهم لغة الرياح والجبال والأنهار، ويتعلم من فنون الزهور والأشجار والطيور وحتى الوحوش والكواسر، ويحس بالفن الإلهي المبثوث في كل أرجاء الدنيا، فمن لم يدرك ذلك كله، أو شيئًا منه، فهو علامة على فراغ القلب وانعدام نضجه.
ويوجِّه سعدي شيرازي القلوبَ إلى الحكمة، ويدعو إلى العلم النافع بقوله:
«حتى أوراق الأشجار الخضراء هي ديوان للمعرفة في نظر الشخص الواعي، أفلا تبدي كل ذرة في هذا الوجود إبداع الفن الإلهي؟»
إنَّ الكون معرِضٌ للتجليات التي تفيض من ينبوع الأسماء الإلهية، والإنسان هذا السر الغامض، ما هو إلا تجلٍ كاملٌ للأسماء الإلهية، فمن يرد الوصول إلى الكمال في الدنيا، عليه أن يكون صاحب قلب يحمل أحاسيس سامية، وقد كان الحسين بن منصور الحلَّاج حتى أثناء رجمه يبحث عن القلب الكامل.
وكلُّ ذرة في هذا الكون تنقل لنا سلامًا وخبرًا جديدًا من الأسماء الإلهية في كل لحظة من لحظات العمر، فإذا لم تكن الأمورُ كلُّها، من ابتسامات الطفل الرضيع إلى خفقات جناحي الفراشة، ومن نغمات العندليب إلى ألوان الربيع وأريجه، تجلياتٍ للأسماء الإلهية، فماذا ستكون إذًا؟ وأعظم مظهر من مظاهر العلم النافع هو قراءة المرء كتابَ الكون والمخلوقات بعينَي قلبه، وإدراكه أن العالم ما هو إلا حِكم وعِبر وتجليات إلهية، إذ يقول المولى في كتابه الكريم:
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (الدخان، 38)
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون، 115)
وتهدينا الآيات إلى أن المخلوقات في الكون هي معجزات، وأن وراء الموجودات حِكَمٌ وأسرار، وأن الخلق كان لعبرة وعظة، وأن ذلك الإبداع كله موصل إلى المبدع سبحانه، وهذه المخلوقات بعظمتها دليلٌ على عظمة الخالق سبحانه، وأنها كلها تجليات للعظمة الإلهية. هذه العظمة تلفت حتى الأنظار العمياء، وتحرك القلوب الجامدة، فالأزهار الرقيقة بألوانها المبهجة وأريجها الزكي تبعث السرور والبهجة والبسمة في أشد الوجوه عبوسًا وأكثر القلوب غلظة.
وجسم الإنسان الذي هو جُمَّاع لكل معجزات الخلق والكون، وأنموذج متفرد للدلالة على عظمة الخالق، عندما يقف أمامه الطبيب العالم، وينظر إليه من هذه الزاوية، زاوية الإبداع الإلهي، سيرى فيه كنزًا ضخمًا من كنوز الأسرار الربانية، عندها يدرك بالعلم النافع والنضج القلبي مقدار القدرة الإلهية، فينظر إلى مريضه بعين الشفقة والرحمة، لا بعين الكيمياء والعمل الروتيني.
فما بالنا بقلب المؤمن وروحه، وما بالنا بصاحب العلم الباطني، كيف يكون إدراكه لهذه العظمة. أما إذا لم يصل الإنسان إلى هذا الإدراك، ولم يبلغ ذاك الأفق، فقد سقط في هاوية من النقص والعجز لا يجبرها شيء من المناصب العلمية والدنيوية، فأي قيمة دنيوية يمكن قياسها بالنضح القلبي والكمال الأخلاقي.
ونفهم من كل ما سبق أن طريق العلم النافع يحتاج إلى التخلِّي والتحلِّي، التخلي عن خصال سلبية تصيب القلب والنفس مثل الرياء والتكبر والطمع والفخر وحب الرئاسة وغير ذلك….
والتحلي بملء القلب بالصفات الإيمانية التي تحيي الروح بالخلق المحمدي العظيم كالتقوى والخشوع والرحمة والصبر والشكر والتواضع والقناعة والزهد والورع والتوكل على الله تعالى.
ويبيِّن الإمام الرباني المحيط الذي يزدهر فيه العلم النافع بقوله:
«أيها الإخوة المؤمنون، إن أول أمر ضروري لنا إنما هو تصحيح الاعتقاد بناءً على الكتاب والسنة، فأهل البدعة والضلالة يظنون أن عقائدهم وأحكامهم الباطلة توافق الكتاب والسنة، ولكن اعتقادهم في الواقع بعيد أشد البعد عن الحق والحقيقة».
وعليه؛ فإنه من الواجب معرفة أوامر الشرع ونواهيه، ومعرفة الأحكام الدينية ومراعاتها بدقة، والسير على خطى الحبيب المصطفى -صلي الله عليه وسلم- سنةً وسيرةً، والتخلق بخلق القرآن، وتطبيق ذلك كله في الواقع وترجمته إلى أعمال صالحة تحمل موافقة الشرع ومشاعر القلب، فتصل إلى الكمال.
فلا تطبيق للأحكام الدينية، ولا طائل وراء تنفيذها، إذا لم يكن الاعتقاد سليمًا.
ولا وصول إلى كمال الأخلاق وسمو المشاعر، إذا لم تراعَ أحكام الشرع.
ولن تتحقق سلامة القلب وتزكية النفس وتطهير الروح دون عمل وجهاد.
فإذا تحقق تطهير القلب وتزكية النفس، وتحققت سلامة الاعتقاد وصلاح العلم والعمل، حينها يصل السلوك بالعبد إلى الكشف والوجد، فينال الفيوضات الإلهية، وحينها يصل العلم إلى درجة «العلم النافع»، ثم يصير معرفة بالله تعالى.
اللهم إنَّا نسألك علمًا نافعًا، وقلبًا خاشعًا، وعملًا متقبلًا.
اللهم إنَّا نعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع.
اللهم اجعلنا من عبادك الذين يعملون بعلمهم، واجعلنا يا رب من أولئك السعداء الذين وصلوا إلى العرفان، وارتقوا في معرفتك إلى الدرجات العلا.
[1] ذكريات السنين، ص 396.
[2] الترمذي، القيامة، 25.
[3] ابن العماد، شذرات الذهب، بيروت 1406، جـ6، 22؛ محمد بن سليمان البغدادي الخالدي، الحديقة الندية، ص26؛ محمد بن عبد الله الخاني، البهجة السنية، اسطنبول 2002، ص6.