مقالات من كتبه

الإسراف في الإيمان والاعتقاد والعبادة

إن كل النعم التي أنعم الله -عز وجل- بها على عباده، هي علامات رحمته ورأفته ومحبته الصريحة. هذه المكرمات الربانية أعطيت للعباد مجاناً، أي بدون مقابل أو استحقاق بنتيجة العمل. قال الله تعالى في كتابه العزيز:

﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية، 13)

لكن هذا لا يعني أيضاً أنه يمكن استخدام النعم كما نشاء من غير ربطها بأي قيد أو شرط. لذلك جاء في آية كريمة أخرى:

﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ (القيامة، 36)

يتوجب علينا إذن، حين نستخدم النعم التي أنعم الله تعالى بها علينا، أن نضع نصب أعيننا معايير الأوامر والنواهي الإلهية. علينا ألا ننسى أن للحلال حساباً وللحرام عذاباً. وبقدر مجانبتنا للحرام، علينا تجنب الوقوع في حرام آخر بإسرافنا في استخدام النعم الحلال. فالإسراف الذي يعني عدم احترام المعايير الإلهية من خلال تجاوز الحد في استخدام النعم، هو جحود كبير إزاء كرم الله -عز وجل- وإحسانه.

وإذا كانت كلمة الإسراف تستخدم بصورة عامة، بصدد القيم والإمكانات المادية كالمال والثروة، فهذا هو المعنى المحدود الذي أول ما يتبادر إلى الذهن. في حين أن الإسراف يعبِّرُ عن معنى واسع يشمل كل ما يتجاوز في الإنسان الحد. بهذا المعنى فإن خروج العبد على الحدود التي وضعها الله تعالى، في أي أمر من الأمور، هو إسراف أيضاً. أي أنه الخسارة الناجمة عن استخدام النعم بلا جدوى. قال إياس، رحمه الله، في ذلك:

«كل ما فاض خارج أوامر الله إنما هو إسراف».

يميل الإنسان، بسبب النزعة الأنانية التي يملكها، إلى اختلاق الأعذار لأخطائه. حتى القتلة الذين ارتكبوا أشنع الجرائم، يسعون إلى اختلاق ذرائع يختبؤن وراءها ليسوغوا لأنفسهم الجرائم التي ارتكبوها. فإذا كانت هذه حال المجرمين، فإن المسرفين والبخلاء يقعون في تعاسة الرضى عن أنفسهم. وغالباً ما لا ينجون من غفلة ظن جنون الإسراف ووضاعة البخل سعادة. لهذا السبب علينا أن نملأ مفهوم الإسراف، الذي يبدو للوهلة الأولى كأنه إطار فارغ، بما يتوافق مع البيانات الإلهية.

كما منع ديننا الإسراف في الأمانات المادية، فقد منع أيضاً الإسراف الأحمق في أمور ذات قيمة معنوية كالاعتقاد والعبادة والعلم والأخلاق والوقت والعقل، بل إن هذه الأنواع من الإسراف المعنوي، عُدَّت خسائر أشد خطورة. لأن هذه التصرفات هي إهدارٌ مُغَفَّل للسعادة الأبدية مقابل متع دنيوية زائلة.

نهانا ربنا -عز وجل- عن الإسراف والبخل في جميع الأمور، بدءاً من الحاجات المادية كالطعام والشراب والملبس، وانتهاءاً بقيمنا المعنوية، وأمرنا بالإعتدال في كل مسلكنا. لذلك يتوجب على كل مؤمن أن يحيا على خط يوازن ما بين هذين الضدين.

فما لم يراع الإنسان المعايير الإلهية في استخدام جميع النعم المادية والمعنوية، لن ينجو من الوقوع في إحدى آفتي الإسراف أو البخل.

يمكننا وضع القائمة التالية بقسم من أنواع الإسراف المهمة التي من شأنها دفعنا إلى عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة، وطرق النجاة منها:

الإسراف في الإيمان والإعتقاد:

هذا هو أفظع أنواع الإسراف. إنه الفشل في المحافظة على كرامة العقل والقلب من خلال الانسياق وراء الأباطيل والأساطير والخرافات والتيارات الفكرية السيئة، بما يجرح صفاء فطرة الإسلام الموجودة في جبلّة الإنسان، الأمر الذي ينتهي إلى خسارة السعادة الأبدية.

إن تعريض الإيمان إلى الضعف، هو مصيبةٌ معنوية تنتج غالباً من الألفة مع الفاسقين. يقول الله تعالى، في كتابه العزيز، بصدد تنبيهنا من الوقوع في هذا الخطر:

﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام، 68)

فالعلاقة والقرابة الفكرية مع الفاسقين، تتحول مع الزمن إلى قرابة قلبية، مما يؤدي إلى إضعاف الإيمان وهلاك الحياة الأبدية. تعبر الآيات التالية عن الأسباب الرئيسية للإسراف في الإيمان:

﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ الْمُجْرِمِينَ . مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ (المدثر، 40-46)

ويبين الله تعالى طريق النجاة من هذه العاقبة في الآية التالية:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة، 119)

وفي آية كريمة أخرى، يتم التعبير عن وجوب التعمق في الشعور وعدم النظر إلى آيات الله -عز وجل-، أي أوامره ونواهيه، بعيون فارغة وغافلة، قال تعالى:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾ (الفرقان، 73)

بهذا المعنى، فإن استخدام الإدراك القلبي مثلاً ونعمة البصر، بعيداً عن مقاصد خلقهما الأصلية، والتعامي عن آيات الله -عز وجل-، معناه السقوط في إسراف الحواس الذي ينتج عن بلادة الإحساس. تبين الآية الكريمة العاقبة المُرَّة للإسراف والكذب، بالكلمات التالية:

﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (المؤمنون، 28)

هناك أيضاً انحرافات أو مبالغات في الإعتقاد، لعل أهم صورها هي مطالبة الأولياء الصالحين، عند زيارة قبورهم، بالحاجات مطالبةً مباشرة. إن ما ينبغي فعله، في هذا المقام:

هو تأمل أعمالهم الصالحات في الحياة الدنيا، والطلب من الله تعالى، بتزكية من مكانتهم الرفيعة عند الله -عز وجل-.

أضف إلى ذلك أن الإعتماد على شفاعة الصالحين بلا قيد أو شرط هو من الأباطيل أيضاً. فكما جاء في الآية الكريمة لن يقوم بفعل الشفاعة إلاَّ

﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ …﴾ (طه، 109)

كذلك من الخطأ الإعتقاد بأن الصالحين يعرفون كل شيء ويقرؤون ما في القلوب. فهم لن يعرفوا إلا بمقدار ما يُعلِمُهم الله تعالى. فالأنبياء أنفسهم لا يعرفون كل شيء.

كان سيدنا الرسول -صلي الله عليه وسلم-، يجيب على بعض الأسئلة التي تطرح عليه بالقول:”مَا المسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ“.

على سبيل المثال لم ينزل الوحي على الرسول -صلي الله عليه وسلم-، في حادثة الإفك، إلا بعد شهر على وقوعها، فلم يستطع قول شيء حول حقيقة الأمر في غضون ذلك. كذلك هي الحال مع الوحي بصدد تخلف ثلاثة أشخاص عن معركة تبوك بسبب الغفلة والإهمال، وقد تأخر نزول الوحي في هذه الحادثة خمسين يوماً.

توفي عثمان بن المظعون -رضي الله عنه-، في بيت أم العلاء في المدينة. قالت هذه المرأة: «رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله»، فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: “وما يدريك؟”

أجابت المرأة بالقول: «لا أدري والله»

فقال لها رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:

أما هو فقد جاءه اليقين، إني لأرجو له الخير من الله، والله ما أدري – وأنا رسول الله – ما يفعل بي ولا بكم

فقالت أم العلاء: «فوالله لا أزكي أحدا بعده». قالت: ورأيت لعثمان في النوم عينا تجري، فجئت رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له، فقال: “ذاك عمله يجري له” (البخاري، التعبير، 27/7018)

وجاء في الآية الكريمة:

﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ (الأحقاف، 9)

سأل أحدهم يعقوباً -عليه السلام-: «أيها النبي العاقل ذو القلب المستنير، كيف حدث أنك شممتَ رائحة قميص يوسف، في طريق عودته من مصر، ولم ترهُ حين ألقي به في الجب قربك؟»

فأجابه يعقوب -عليه السلام-، قائلاً: «النصيب الإلهي الذي نملكه في هذا، يشبه وميض البرق. لذلك تتراءى لنا أحياناً أماكن بعيدة جداً، وتحجب عنا أحياناً أقرب الأماكن إلينا».

إن المجاملات التي يتبادلها الناس فيما بينهم بلا تفكير، هي من أنواع الإسراف الممنوعة أيضاً. قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:

من كان منكم مادحا أخاه لا محالة، فليقل أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه” (البخاري، الشهادات، 16/2662)

يرتبط كمال الإيمان بعقل امتزج بالوحي، ويرتبط كمال العقل بنور الإيمان فيه، أي بنضج القلب وكماله. الأفكار والمعتقدات المحرومة من النور الإلهي، المملوءة بالخرافات والأساطير، هي كقناديل بلا زيت أو مصابيح بلا تيار كهربائي. إن عقلاً كهذا حُرِمَ من سيطرة الوحي، محكوم عليه بالدمار والانتهاء، في يوم ما، كالمصباح الكهربائي الذي يتلقى تياراً غير متوازن.

الإسراف في العبادة:

من أسس تعاليم ديننا أن يطبق مبدأ الإعتدال في كل الأمور، بحيث تتحول العبادات والمعاملات إلى سلوك اعتيادي مبارك. ففي الغالب أن السلوك المعتاد هو الذي يستمر.

أول ما يخطر في البال، فيما يتعلق بوجوه الإسراف في أداء العبادات، هو استهلاك الماء بما يفوق الكميات الضرورية بفعل وسواس النظافة، في الوضوء والاغتسال. مر رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، على سعد، وكان يتوضأ، فقال له:

مَا هَذَا السَّرَفُ؟!”

أجاب سعد -رضي الله عنه-، قائلاً: “أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟”

فقال له الرسول -صلي الله عليه وسلم-:

نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ” (ابن ماجة، الطهارة، 48/425)

ومن جملة وجوه الإسراف المرتبطة بالعبادات، عدم أداء الصلاة جماعة حين تكون ميسورة، أو الصلاة كمن يتخلص من واجب، بعيداً عن الروحانية. قال تعالى، في أولئك الذين يؤدون الصلاة بلا خشوع وهدوء:

﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ (الماعون ،4-5)

وقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، في الصلاة التي تفقد فضيلتها بفعل عيوب القلب، أي الصلاة التي تفرغ من مضمونها فتستحيل إسرافاً:

إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدْسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا” (أبو داوود، الصلاة، 123-124/796)

هذا يعني أن الله تعالى يريد منا عبادةً مفعمة بروحانيات العقل والقلب. بعبارة ﴿واسجد واقترب﴾ (العلق، 19) يطالبنا الله تعالى أن تكون قلوبنا، حين نسجد، في حال من التضرع في حضرة الله -عز وجل-. لأن ما يبلغ بالإنسان إلى كمال الإيمان الحق ونضجه، هو الإستخدام المشترك لأعمال العقل والقلب.

تتحدث الآية الكريمة عن أولئك الذين يؤدون صلاتهم كما ينبغي، بالقول:

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ (المؤمنون، 1-2)

إنه إسراف كبير أيضاً الإنتقاص من أجر الصيام، أحد الأركان الخمسة للإسلام، إلى حده الأدنى، بالكذب والغيبة والنبذ وغيرها من العيوب الأخلاقية. جاء في الحديث النبوي الشريف:

من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” (البخاري، الصوم، 8، الأدب 51/1903)

على الصيام أن يجعلنا ندرك قيمة ما أنعم الله به علينا من خيرات. كذلك على الصيام أن يبين لنا، بواسطة الجوع لنصف يوم، مدى عجزنا، وأن يجعلنا نفهم حال أخوتنا الضعفاء اقتصادياً، فتمتد قلوبنا إليهم، ونمنح الصدقة بتواضع وحمد، وبحماسة العبادة، كما لو كنا نمنحها إلى الله تعالى. جاء في الآية الكريمة في هذا المعنى:

﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ (التوبة، 104)

وشهر رمضان الكريم الذي فُرِضَ فيه الصيام، هو شهر عبادةٍ، مملوءٌ من أوله إلى آخره بالخير والروحانيات والرحمة والمغفرة والألطاف. أمرنا رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، بالإستفادة من هذا الشهر المبارك بالخير والبركة ومن غير إسراف.

إضافة إلى ذلك يجب إمضاء وقت السحر بقلب متيقظ في صلاة التهجد وفي الاستغفار والذكر والتفكر وتلاوة القرآن الكريم؛ ووقت النهار في العبادات والإنفاق والأعمال الصالحات، بقلب مفتوح على الله -عز وجل-؛ ووقت الإفطار في الإستغفار والدعاء؛ ووقت المساء في صلاة التراويح. إذا لم نَسْتَغِلَّ هذا الشهر المبارك كما يجب، فلن نستفيد من بحر الرحمة والمغفرة الذي يتدفق بقربنا، فنتركه في دوامة إسراف مؤسف.

من جهة أخرى، فإن عدم الإنتباه إلى الصفة الحلال في المال وإلى حقوق الناس، والإنشغال بما لا يعنينا، والإتيان بتصرفات من شأنها إضاعة الروحانيات والخير، تعني جميعاً إسرافاً في الحج.

جاء في الحديث الشريف، أن من حج بنقود حرام، فقال لبيك، سيأتي الرد عليه:

لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ، كَسْبُكَ حَرَامٌ، وَزَادُكَ حَرَامٌ، وَرَاحِلَتُكَ حَرَامٌ، فَارْجِعْ مَأْزُورًا غَيْرَ مَأْجُورٍ، وَأَبْشِرْ بِمَا يَسُوءُكَ… ” (الهيثمي، جـ3، 209-210/5280)

أما الإسراف في الزكاة والصدقة، فهو إشعار ذي الحاجة بالمِنَّة، والإبتلاء بعلل قلبية كالرياء والزهو. قال تعالى في كتابه العزيز:

﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ (البقرة، 263-264)

على المؤمن أن يتصرف بحرص وانتباه لإيصال الزكاة إلى من يستحقها. وقد امتدح الله تعالى عباده الذين يسلكون هذا المسلك، بالقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ (المؤمنون، 4)

إن إعطاء الزكاة والصدقات لأهلها، هو عمل مهم جداً، فهو يتطلب بحثاً جدياً، وقد أمرنا ربنا بأن نمتلك ملكة معرفة ذوي الحاجة من سيمائهم[1].

الحقيقة أن القدرة على إعطاء المال لمن يستحقه، إنما ترتبط بالوسائل التي كسبناها بها. وبتعبير آخر، إن مواضع صرف الزكاة والصدقات والإنفاق، هي بمثابة مرايا شفافة تكشف عن حلال رزقنا من حرامه.كذلك يشكل عدم اهتمامنا بقراءة القرآن الكريم وفهم معانيه، بما يستحق من عناية، والإستغناء عن أوامره ونواهيه، إسرافاً لكنز إلهي بهذا الغنى. يميّز الله تعالى بين المسرفين في القرآن الكريم والمستفيدين من فيض بركته كما في الآية:

﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر، 32)

كما أن خير الناس ونخبتهم هم أمة محمد، فإن أكثر هؤلاء فضيلةً هم المؤمنون الذين يقرؤون القرآن ويحفظونه ويفهمون معانيه ويعملون على هداه.

وهناك من الناس من يظلمون أنفسهم، فهم يفهمون القرآن لكنهم لا يقرؤونه كما يجب ولا يعملون بما يتفق وإرشاداته، فيخسرون بذلك أكبر النعم. ومن الناس من هم في منزلة بين منزلتين، فيعملون على هدى القرآن حيناً، ويهملون ذلك حيناً. والبعض الآخر يتقدمون في فعل الخير بإذن الله.

إن القرآن الكريم هو لسان الأرض والسماء، وكنز للروح من الخير والبركة. إنه معجزة في البيان أهديت للناس. القلوب المؤمنة التي اهتدت بالقرآن هي موضع تجلي خالق الكائنات.

الإنسان المهتدي بالقرآن الكريم، يحيا سعادة وطمأنينة كونه عالماً صغيراً يضم في داخله الكون العظيم جميعاً. القرآن الكريم للمؤمن هو بابٌ عظيم ينفتح على أعماق عالم التفكر.

تتطلب قراءة القرآن، إضافة إلى طهارة الجسد، طهارة القلب أيضاً. لأن أمراض القلب تحول دون تواصل المؤمن بالقرآن الكريم بالطريقة الصحيحة. أما الذين يعجزون عن التواصل مع رحمة القرآن وشفائه وهداه، فيتعرضون لخسارة كبيرة.

فالقرآن الذي يعبر عن الإرادة الإلهية، لا يدركه خير إدراك إلا أصحاب التقوى والصلاح المقربين من الله تعالى. من الضروري أن يكون المؤمن من أهل التقوى، ليستفيد من نعم القرآن الكريم، ولينال السعادة، بالتالي، في الدنيا والآخرة.

هناك نقطة أخرى يجب الإنتباه إليها، وهي حقيقة أن خدمة صغيرة حازت الرضاء الإلهي، يمكن أن تفوق قيمة الكثير من العبادات النافلة. ما أجمل ما يوضح المثال التالي من عصر السعادة، هذه الفكرة:

عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَصَامَ بَعْضٌ، وَأَفْطَرَ بَعْضٌ فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ وَعَمِلُوا وَضَعُفَ الصُّوَّامُ، عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ، قَالَ: فَقَالَ فِي ذَلِكَ:

ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ” (مسلم، الصيام، 100-101)

بالطريقة نفسها، حين ينشغل أحدهم بشؤون ثانوية مهملاً كسب رزقه، فيقع في الحاجة إلى من حوله، فسلوكه هذا نوع من الإسراف. قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في ذلك:

إنّ الله تَعَالَى يحِبُّ أنْ يَرَى عَبْدَهُ تَعِباً فِي طَلَبِ الحَلالِ” (السيوطي، الجامع الصغير، جـ1، ص65، 3639)

وفي الأدعية التي تقام وسط الجموع، فإن إطالة الدعاء إلى درجة تفقد معها الجماعة حماستها، عن طريق رصف القوافي، بهدف استعراض المهارات، ورفع الصوت والصراخ، فهذا مما يعد إسرافاً يُفقِدُ الدعاءَ جوهره. قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، في ذلك:

يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنه معكم إنه سميع قريب، تبارك اسمه وتعالى جده” (البخاري، الجهاد، 131/2992؛ مسلم، الذكر، 44)

مانعاً بذلك الدعاء الصاخب الصارخ. هذه الأنواع من الإسراف تفسد روحانية العبادات وتنقص من خيرها وفيض بركاتها.

وجاء في الحديث الشريف أيضاً:

إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ” (أبو داود، الطهارة، 45)

الخلاصة، أن الله تعالى لا يريد لعباداتنا أن تؤدى بلا عاطفة وبعيداً عن الروحانية والفيض الإلهي، بل يريد لنا أن تقترب قلوبنا منه بمشاعر الخير والإحسان، لتنال الوصال الإلهي.

ربنا نجِّنا من الإسراف في الإيمان والاعتقاد والعبادة بالإهمال أو المبالغة. واجعل من نصيبنا أجمعين نشوة الإيمان الكامل وحماسته، والعيش في طمأنينة العبادات ولذتها.آمــين…


 

[1]      انظر: سورة البقرة، 273.