2015- كانون الثاني، العدد: 347، الصفحة: 032.
الإسلام دين التضحية والفداء:
حيث يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ بِأَنَّ لهُمُ الجَنَّةَ…﴾ [1]
إن وصول هذا الدين الجليل إلى أيامنا هذه هو نتيجة للتضحيات الكبيرة التي بذلت بالمال، والروح، وكل الإمكانات المتاحة الأخرى، والتخلي عن الراحة والمصالح الفردية كل ذلك في سبيل الله تعالى، وإننا اليوم وجهاً لوجه مع امتحان التضحية في سبيل الله تعالى.
لأن الله تعالى يقول في آية أخرى:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ …﴾ [2]
ويقول النبي صلي الله عليه وسلم:
(مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره) [3]
ولذلك فحتى يكون المطر المبارك حاملاً في طيات قطراته الرحمة، ينبغي علينا اليوم التحلي بالغيرة الدينية والقيام بواجب هذا الدين بكل جد ونشاط، أين الضروري والواجب علينا إظهار التضحية في سبيل الله تعالى بأرواحنا، وأموالنا، وأفكارنا، وقوتنا، ووقتنا، وبكل الإمكانات التي تفضل الله تعالى بها علينا. وذلك لأن الرحمة لا تأتي بسهولة، فلكل نعمة مقابل يجب تقديمه. وحتى النعم التي رُزقنا بها مجاناً وبدون جهد منا، لها دين الشكر للمنعم جل جلاله.
دَين الشكر…
إن أكبر نعمة بعد الإيمان أُهديت إلينا هو بعثة سيدنا محمد المصطفى صلي الله عليه وسلم، نبي آخر الزمان الذي جعله الله تعالى خاتمة الرسل والأنبياء الذين بلغ تعدادهم ما يزيد على 124 ألف.
وقد قال الله سبحانه وتعالى في هذا الخصوص كي ندرك قيمة وقدر هذا الفضل:
﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [4]
فيمكن للمؤمن أن يشعر بفرح استثنائي يغمر قلبه على الدوام بهذا الفضل الكبير، إلا أن عليه التيقظ إلى عظم المسؤولية الملقاة على كاهله والتي تستلزمها هذه النعمة الكبيرة.
وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أراد منا بدلاً مقابل إعطائه هذه النعمة لنا، وإننا مجبرون على اتخاذ رسول الله صلي الله عليه وسلم قدوة لنا في هذا المجال حيث عاش حياته كلها في تضحية مستمرة للإسلام.
وإن كان رسول الله صلي الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فإن على المسلم أن يكون في حالة دائمة من نشر الرحمة بكلٍّ من يده ولسانه وقلبه. ويجدر بمن تشرّف بالإسلام وبمظهر الإيمان وأصبح من أمة محمد صلي الله عليه وسلم متمتعاً بنعم السعادة ومشاعر الشكر، يجدر به بذل جهد كبير لأداء البدل مقابل هذه النعم.
ويبين النبي صلي الله عليه وسلم واقع الأمر حيث يقول:
(المرء مع من أحب) [5]
ولكن مقياس المحبة هو التضحية، فمن يحب النبي صلي الله عليه وسلم حقاً ويود صحبته يوم القيامة، فعليه إثبات محبته اليوم بالسير على نهجه والتضحية في سبيله.
كيف يمكن تحقيق القرب من الرسول صلي الله عليه وسلم؟
لقد قدم النبي صلي الله عليه وسلم تضحيات كبيرة في سبيل الخلاص الأبدي للإنسانية جمعاء، وتحمّل محناً ومعاناة كبيرة، وبالرغم من كل ذلك فإنه لم يَشْكُ يوماً من حاله، ولم يتجهّم أبداً، ولم يبال بالجوع إذ ربط الحجارة إلى بطنه، وعلّم أهل الصفة القرآن الكريم.
وتذكر أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنه:
(ما شبع آل محمد صلي الله عليه وسلم، منذ قدم المدينة، من طعام البُرِّ ثلاث ليال تباعاً، حتى قبض.) [6]
لو أراد النبي صلي الله عليه وسلم لعاش هو وعائلته في شبع وراحة دائمة، ولكنه صلي الله عليه وسلم ما إن يحصل على نعمة حتى يوزعها على الفقراء من أصحابه، ويشبع بها بطونهم، عوضاً عن إشباع نفسه.
وحتى في أحلك ظروفه المظلمة في الطائف وبعد أن تعرّض لما تعرض له من الظلم والاضطهاد، قال:
(يا أرحم الراحمين! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي) [7]
إن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين كان النبي صلي الله عليه وسلم أحب إليهم من كل شيء في الدنيا، بذلوا جهوداً كبيرة للاقتداء به في حياتهم بالمشاعر والفكر، والحال والعمل في سبيل نيل صحبته يوم القيامة. وقد رأوا بأم أعينهم تضحيات نبيهم عليه الصلاة والسلام، فجاهدوا أنفسهم على بذل التضحيات مثله كلّ على قدر إمكاناته واستعداده، وقد سطّروا محبتهم لله تعالى ولرسوله بالتضحية والفداء، واعتبروا أصغر رغبة لرسول الله صلي الله عليه وسلم نعمة كبيرة لأرواحهم.
فأطاعوا الرسول صلي الله عليه وسلم بعشق وشوق كبيرين معبرين بقولهم (فداك روحي، ومالي يا رسول الله).
لقد بذلوا أرواحهم وأموالهم بسخاء في سبيل الله ورسوله، واعتبروا ذلك وسيلة سعادتهم الكبرى. وكانوا نموذجاً للاقتداء بالرسول صلي الله عليه وسلم الذي عاشوا معه وخاصة بالجهود التي بذلوها في مجال الدعوة والتبليغ.
تضحيات التبليغ…
عندما قال النبي صلي الله عليه وسلم لأصحابه:
من يأخذ رسالة التبليغ إلى الملوك؟ هبّ الصحابة جميعاً بشيبهم وشبابهم.
وقفوا على أقدامهم قائلين: يا رسول الله! تفضل بهذا الشرف عليّ!
ووضعوا نصب أعينهم بذل شتى أنواع التضحيات في سبيل تلبية أصغر رغبة للنبي عليه الصلاة والسلام، ولم يتذرّعوا بأية معذرة لتجنب التضحية، وطلبوا الخدمة بأرواحهم وأجسادهم.
لا شك أن التوجه إلى بلاد بعيدة غريبة بخوض الطرق الجبلية الوعرة، وتحمل مشاق البراري والصحاري المقفرة، ومن ثم المثول أمام الملوك الجبابرة حيث يضرب جلادوهم الرقاب وتتطاير الرؤوس تحت وقع سيوفهم، طلباً لقراءة رسالة رسول الله صلي الله عليه وسلم، لا شك أن كل ذلك مغامرة في الموت المحقق. إلا أنهم كانوا يتحلّون بالجسارة الإيمانية ويعبرون عن تضحياتهم في سبيل هذا الدين القويم.
وقد كانت اللحظات الأكثر قيمة وأهمية في نظر الصحابة رضوان الله عليهم، هي تلك الأوقات التي يتمكنون فيها من تبليغ رسالة التوحيد إلى الناس.
وقد شكر الصحابي الذي أُعطي مهلة ثلاث دقائق قبل تنفيذ الإعدام بحقه، شكر المشركين، وقال:
إذاً، مازالت لدي ثلاث دقائق من وقتي من أجل القيام بالتبليغ.
لقد انتشر الصحابة الكرام في بقاع الأرض المختلقة تاركين خلفهم بساتين النخيل اللذيذة والرائعة في المدينة المنورة. وقد خرجوا في سبيل تعريف الناس جميعاً بدن الإسلام الحق، خرجوا في رحلات طويلة ومرهقة، دون أن يظهروا التهيب أو يشعروا بالملل والتعب، رغم ظروف السفر الشاقة في تلك الأزمنة، فهذا هو السبب في أن قبور أولاد سيدنا عثمان والعباس رضي الله عنهما في سمرقند، وقبر وهب بن كبشة رضي الله عنه في الصين.
لقد أرسل النبي صلي الله عليه وسلم الصحابي وهب بن كبشة إلى الصين من أجل القيام بخدمة التبليغ، وكانت المسافة إلى الصين في تلك الفترات ما يقارب مسيرة سنة كاملة، وبعد أن ذهب وهب بن كبشة رضي الله عنه إلى هناك، وأمضى مدة من الزمن في مهمة التبليغ، خرج في طريقه إلى المدينة المنورة على أمل أن يُهدئ حسرة بعده عن رسول الله برؤيته، ويطفئ نار الشوق التي أخذت تلهب قلبه. وبعد رحلته المليئة بالصعاب والمعاناة التي استمرت عاماً كاملاً وصل إلى المدينة المنورة، ولسوء حظه العاثر أن النبي صلي الله عليه وسلم كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، ولم يستطع رؤيته بعين الدنيا. ولأنه أدرك قدسية مهمة التبليغ عندما ودعه نبينا صلي الله عليه وسلم، عاد من جديد إلى الصين لمتابعة مهمته وسلم روحه الطاهرة إلى بارئها وهو في مهمته القدسية.
وهذا صحابي آخر وهو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الذي هاجر إلى بلاد الحبشة، وقضى من عمره ثلاث عشرة سنة وهو يقوم بمهمة التبليغ والإرشاد حتى ينتشر الإسلام ويقوى عوده، وبعد عودته إلى المدينة المنورة بعام خرج في غزوة مؤتة واستشهد فيها رضي الله عنه وأرضاه.
لقد وجد الصحابة الكرام الحياة بالقرآن الكريم، ونذروا حياتهم في سبيل تبليغ القرآن وتعاليمه، وفي هذا الشأن، بذلوا جهوداً، وقدموا تضحيات لم يشهد لها مثيل في التاريخ، فقد تعرضوا للتعذيب والضغط والظلم والقهر، وحتى تعرضوا إلى القتل والاغتيال؛ ولكن لم يتنازلوا أو يساوموا على مبادئ عقيدتهم الثابتة والراسخة، وقد هاجروا من بلادهم تاركين وراءهم وطنهم، وممتلكاتهم، وأموالهم في سبيل إحياء دين الله الحق، وقد وصلوا إلى مرحلة من اليقين والاطمئنان الإيماني العالي كانوا مستعدين معها على التضحية بكل شيء في سبيل الله تعالى.
وكم تدعو حجة الوداع إلى التفكر والاعتبار، حيث كان يجتمع ما يزيد عن مائة وعشرين ألفاً من الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً. وقد أوقف حوالي مائة ألف من هؤلاء الصحابة حياتهم في سبيل تبليغ دين الله تعالى بالذهاب إلى شتى بقاع الأرض، والعمل على إرشاد الناس بقلوب مشبعة بالأخلاق النبوية الرفيعة، والتعاليم القرآنية الرشيدة، وهكذا، حتى بعد وفاتهم في تلك الأماكن التي تواجدوا فيها أصبحوا وسيلة للرحمة والبركة.
وأمامنا واحد آخر من أولئك الصحابة المباركين وهو سيدنا خالد بن زيد أبو أيوب الأنصاري، واحد من الأمثلة على التضحية والفداء التي لا مثيل لها، حيث أنه رضي الله عنه على الرغم من عمره البالغ ما يربو على الثمانين عاماً قد سافر إلى إسطنبول مرتين ووصل أمام أسوارها، وهناك وافته المنية وسلّم الروح إلى بارئها. ومما لا شك فيه أن عزيمته العالية، وجهده الكبير مظهر من مظاهر الشوق إلى صحبة رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم القيامة ونيل النجاة الأبدية في تلك الدار الآخرة.
لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة!…
لأن الله تعالى يقول في كتابه الكريم:
﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [8]
أي، عندما تكون الفرصة والإمكانية متاحة لكم للحصول على رضا الله تعالى فلا تلتفتوا إلى جاذبية الدنيا الفانية، ولا تنخدعوا بسرابها، وزينتها، ومظاهرها، وراحتها فتقعوا في الغفلة! وإلا فإن آخرتكم سوف تتعرض للتهلكة والخطر! فهذا تحذير من الله تعالى.
حيث أن الرواية الآتية التي تبين سبب نزول هذه الآية، فيها عبرة كبيرة:
اتجه جيش المسلمين في عصر الخلافة الأموية، نحو مدينة إسطنبول من أجل فتحها وذلك لنيل بشارة الفتح التي بشر بها النبي صلي الله عليه وسلم. وكان بين صفوف ذلك الجيش الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري. بينما كان جيش الروم يحارب وقد جعل أسوار المدينة في ظهره، خرج شخص من بين الأنصار واقتحم بحصانه صفوف جيش الروم حتى وصل إلى منتصفه. فقال أحد جنود المسلمين الذي رأى هذا الموقف (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) مستشهداً بهذه الآية الكريمة وأكمل يقول:
لا إله إلا الله! انظروا إلى ذاك! يرمي بنفسه إلى التهلكة المحققة!
فقال أبو أيوب الأنصاري بهذا الخصوص:
أيها المؤمنون! (لا تفهمن هذه الآية خطأً ) فقد نزلت هذه الآية فينا نحن الأنصار، لقد قلنا إذا أعان الله تعالى نبيه ونصر دينه (فإننا سوف نتجه إلى أموالنا، وننشغل بإصلاحها وتنميتها) فنزلت الآية الكريمة بسبب ذلك:
﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمحْسِنِينَ﴾
إذاً فإن المقصود من الآية الكريمة: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) هو عدم الانشغال بالبساتين والحقول وغيرها من الشؤون الدنيوية، وإهمال أو ترك بذل الجهود في طريق الحق.
وها هو ذا أبو أيوب الأنصاري الذي رعى والْتزم التحذير الإلهي، فاقتدى بالنبي صلي الله عليه وسلم في أداء العبودية الخالصة للحق سبحانه وتعالى، وبحرص شديد على أداء دين الشكر على تشريفه بنعمة الإيمان، لم يتكلف جهداً للقيام بواجبه على أكمل وجه حتى النفس الأخير من حياته، وخلال معركته هذه التي انضم وهو في عمرٍ يزيد على الثمانين عاماً وافته المنية، ونال بذلك مرتبة الشهادة[9].
التضحية بالنفس…
وعلى النهج ذاته سار شهيد فتح كوسوفو مراد خان الأول الذي قدم التضحيات بكل إخلاص في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، حيث قال في ميدان المعركة بكل تضرع:
(يا رب! لا تجعل هزيمة وهلاك جنودك المؤمنين على أيدي هؤلاء الكافرين! وتفضّل عليهم بنصر يكون عيداً لكل المسلمين! وإن شئت يا رب اجعل عبدك مراد هذا قرباناً لهذا العيد!)
وأما القائد المقدام السلطان محمد الفاتح وجيشه الذي كان مظهراً للإيمان والصدق والذي أشار إليه النبي صلي الله عليه وسلم بقوله:
“نعم القائد ذلك القائد، ونعم الجيش جيشه” حيث كانوا يتسلّقون أسوار إسطنبول تحت وابلٍ من نيران الروم وكأنهم متجهون إلى عرس، وليسوا مقبلون على الموت، وينادي الواحد منهم (لا تستشهد، فالدور لي اليوم…)، وبذلك كانوا يسطرون أساطير من التضحيات على مر العصور.
وخلاصة الكلام، فإن وصول وانتشار ديننا، وأوطاننا التي نعيش فيها إلى هذا اليوم هي نتيجة للبركة التي تفضل الله بها على الجهود والتضحيات التي بذلها المؤمنون المخلصون، والأولياء والعلماء من أهل التقوى والصلاح، والدماء الطاهرة التي قدمها الفاتحون والشهداء.
التبليغ بالحال…
إن الأسلوب الأكثر تأثيراً من أنشطة التبليغ على مر العصور كان عن طريق الالتزام الفعلي بفضائله، ورقته، وآدابه وتقديمه للناس بلسان الحال الذي يعيشه المسلم، وإن الحادثة التي نوردها هنا خير مثال على ذلك:
في أحد الأيام وضع تاجر مسلم كان يمارس تجارة الأقمشة، وضع بضاعته على ظهر سفينة متجهاً إلى إندونيسيا ليتابع تجارته هناك.
وكانت الأقمشة الممتازة التي جلبها معه هي من نوع الأقمشة التي يبحث عنها السكان في تلك البلاد، ولأنه كان رجلاً مؤمناً يتمتع بالقناعة التزم بمبدأ (ليكن الربح قليلاً، ولكن يكون طاهراً وحلالاً)، ولذلك فإنه لم يكن يميل إلى “الغبن الفاحش” حيث تُستغل الفرص لبيع البضاعة بأضعاف سعرها، ولم ينجرف نحو الجشع والعمل على تحقيق الغنى بأقصر وقت.
وفي أحد الأيام عندما جاء إلى العمل متأخراً، رأى أن عامله قد حقق أرباحاً عالية ببيعه للبضاعة، فجرى الحديث التالي بينه وبين العامل بخصوص الأرباح:
التاجر:
من أي الأقمشة بعتَ؟
العامل:
من تلك الأقمشة يا سيدي.
التاجر:
وبكم بعتها؟
العامل:
بعشرة دراهم.
التاجر:
كيف ذلك؟ كيف تبيع قماشاً سعره خمسة دراهم بعشرة دراهم؟ لقد ترتب للرجل المسكين حق في ذمتنا، هل تعرف الرجل إن رأيته؟
العامل:
أجل، أعرفه!
التاجر:
إذاً، اذهب بسرعة وأحضر الزبون إلى هنا، يجب عليّ طلب المسامحة منه دونما تأخير.
ذهب العامل خلف الرجل حتى وجده وأحضره، وما إن أبصره التاجر صاحب الدكان حتى أسرع إلى طلب المسامحة منه، وأعاد إليه فرق السعر الزائد الذي أخد منه عامله، وأما الرجل فقد وقع في حالة من الحيرة والدهشة لهذه المعاملة الجميلة التي لم يُعامل بها من قبل، وتساءل في نفسه “سامحني بحقك؟” محاولاً فهم واستيعاب المعنى العميق لهذه الجملة.
وأصبحت هذه الحادثة حديث الناس وتناقلتها الألسن في وقت قصير، ولم يمض وقت طويل حتى وصلت الحادثة إلى مسامع الملك، فدعا الملك تاجر الأقمشة إلى قصره، وقال له:
إن التصرف الذي قمت به لم نسمع به، ولم نره من قبل! لقد أصبحت حالتك لغزاً بالنسبة إلينا، فهل لك توضيح الأمر لنا؟
فأجاب التاجر بمنتهى الأدب:
إنني رجل مسلم، وفي الإسلام الملك لله، والمؤمن مجرد مؤتمن عليه، وإن تحقيق المنفعة بدون وجه حق، والربا، والاستغلال، والغبن الفاحش (بيع البضاعة بأضعاف ثمنها بطريق الاحتيال) وسائر المعاملات التي تضرّ بالمجتمع هي من المحرمات في الإسلام.
وأما في هذه البيعة فقد ترتب للرجل حق في ذمتي، ولذلك فقد اختلط ربحي بالحرام، فأردت تصحيح الخطأ فقط.
فقال الملك:
وما الإسلام؟ وما الذي ينبغي عمله حتى يكون المرء مسلماً؟ وتابع الملك بأسئلةٍ من هذا القبيل.
والتاجر يجيب عن كل سؤال بلسان لين، وبأسلوب في غاية اللطف والرقة.
فلم يضع الملك الذي سمع بوجود مثل هذا الدين لأول مرة وقد تجسّد أمامه بحالة التاجر العملية، لم يضع وقتاً كثيراً حتى تشرّف بالإسلام، وخلال وقت قصير دخل كل شعبه في الإسلام. [10]
وها هي إندونيسيا اليوم من أكثر دول العالم كثافة بالمسلمين، فربما كان السرّ وراء دخولها وقبولها للإسلام هو تلك الدراهم الخمسة لتاجر الأقمشة ذاك الذي جسّد الأخلاق الإسلامية في تجارته، والشيء الذي فعله التاجر المسلم هو:
عبارة عن التجسيد الفعلي للجانب الروحي المشرق والوجه المتسامح للإسلام بشخصية إسلامية حقيقية صادقة.
واليوم يجب علينا وضمن حدود قوتنا وإمكاناتنا أداء المهمات الملقاة على عاتقنا بأفضل وأجمل الأساليب، وخاصة العناية بالمسؤولية المتعلقة بتمثيل الإسلام وتبليغه، ولا ينبغي أن ننس مسؤولياتنا تجاه الناس المحرومين والبعيدين عن هداية الإسلام في مختلف بقاع الأرض، وتجاه إخواننا المسلمين الذين يتعرضون للظلم والاضطهاد في شتى بلدان العالم، وينبغي ألا يغيب عن تفكيرنا بأن الإهمال والغفلة في هذا المجال يعرضنا لوبالٍ شديد من الحق سبحانه وتعالى.
نماذج معبرة “نموذجية”…
خلال قمّة القيادات الدينية للمسلمين في أمريكا اللاتينية التي عقدت في إسطنبول في شهر تشرين الثاني من عام 2014، نُقلت حوادث ووقائع تذكر بمدى أهمية وعظمة المسؤولية الملقاة على عاتقنا جميعاً، وإحدى هذه اللوحات التي تدعو للاعتبار هي:
يقول الإمام حنيف الذي يعيش في منطقة هاييتي في أمريكا اللاتينية الوسطى، يقول في رسالته الموجهة إلى رئاسة الشؤون الدينية التركية:
(نحن أولاد آباء وأمهات استُعبد أجدادهم في أفريقيا ونُقلوا إلى هنا، فأجدادنا رُحِّلوا من أفريقيا إلى هذه البلاد كعبيد. ومنذ سنوات، أو حتى منذ أكثر من قرن من الزمن (150 سنة) عندما يحاول آباؤنا وأمهاتنا تنويم أطفالهم، فإنهم يسلّونهم بالكلام الآتي:
“يا بني، لا تخف! ذات يوم سيأتي المسلمون من إسطنبول، ويضعوا حداً لحياة العبودية هذه”
ولكننا انتظرنا طويلاً، إلا أنكم يا أحفاد العثمانيين لم تأتوا، وبقينا هنا غرباء وحيدين، وبعد فقدان وضياع أجيال كثيرة اكتشفنا دين أجدادنا من جديد، فأصبحنا مسلمين وبدأنا حياتنا الإسلامية مرة أخرى، ولكن للأسف الشديد، ليست لدينا جوامع ولا مساجد! وليست لدينا كتب، ولا من يعلّم أولادنا القرآن الكريم! أكتب إليكم للمرة الأخيرة؛ من فضلكم أرسلوا إلينا هيئة!…)
ومثلما جاء في رسالة الإمام حنيف، فخلال الحملات الاستعمارية للغرب واستعباد المسلمين وتهجيرهم من بلادهم كان يتم تقييد أرجلهم وأيديهم وينتظرون في محطات الموانئ على سواحل البحر قبل أن يتم نقلهم إلى مناطق أخرى.
وكم يدعو للاعتبار حال بعض العلماء المسلمين الذين تسلّلوا خفية بين صفوف العبيد وربطوا أيديهم وأرجلهم، وأظهروا أنفسهم بمظهر العبيد، حتى يتواجدوا مع أولئك العبيد في الأماكن التي سوف يُنقلوا إليها، ويعينوهم على الحياة والعيش بهويتهم الإسلامية، ولا يفقدوا الدين الإسلامي المبين…
وهذا نموذج آخر للتضحية التي جرت في إحدى دول أمريكا اللاتينية في البرازيل، بشأن تبليغ الإسلام، حيث ذكر في هذا الاجتماع:
في عام 1865 أبحرت سفينتان عثمانيتان باتجاه خليج البصرة تحملان اسم أزمير وبورصة، وقد خُطط لتلك الرحلة البحرية أن تمرّ بمضيق جبل طارق وبعد رحلة طويلة تصل إلى خليج البصرة حيث وجهتها، إلا أنه بعد تعرض هاتين السّفينتين إلى عواصف بحرية لخمس مرات متتالية وجد المسافرون أنفسهم على سواحل ريو دي جانيرو في البرازيل.
وكان على رأس أولئك المسافرين إمام البحرية البغدادي المدعوّ عبدالرحمن أفندي، وما إن رأى العبيد المسلمون الذين نُقلوا من أفريقيا إلى البرازيل خلال الاستعمار البرتغالي، ما إن رأوا الشيخ ينزل من السفينة مرتدياً جبته وعمامته، حتى هرعوا إليه يلقون عليه التحية والسلام بفرح وسرور.
وقد لاحظ العالم البغدادي الذاهب من إسطنبول عبد الرحمن أفندي، لاحظ وجود عدد كبير من المسلمين في البرازيل، إلا أنهم كانوا على وشك فقدان هويتهم الإسلامية، إذ كانوا قد نسوا تقريباً الكثير حتى الصلاة والوضوء وبسبب ذلك استأذن العالم من القائد وقرّر البقاء هناك، واستمرّ يعلم الناس الدين الإسلامي المبين مدة ست سنوات.
وهكذا فإن هذه الأمثلة وغيرها تشكل نماذج حية تذكّرنا وتعلمنا كيف نكون أصحاب الغيرة الدينية، وتبين ضخامة حجم المسؤولية ، والواجب الملقى على عاتقنا في أيامنا هذه.
وإننا اليوم في حالةٍ ينبغي معها محاسبة أنفسنا محاسبة دقيقة، وعلينا التفكير ملياً، بحجم مشاعرنا وإحساسنا بضرورة تجسيد معاني التضحية في سبيل الله جل جلاله والمقارنة بالتضحيات التي بذلها السابقون ابتداءً بالنبي صلي الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وأصحاب الحق والغيرة الدينية، وانتهاءاً بجميع أهل الإيمان.
فكم نُسر لفرح المسلمين، وكم نحزن لحزنهم؟ وما هو حجم التضحيات التي نقدمها بأيدينا، وألسنتنا، وقلوبنا تُجاه إخواننا المضطربين والمكتئبين؟ وهل نحن مستعدون لإيثار إخواننا في الدين على أنفسنا؟
وفي أي مستوىً نحن من الشفقة، والرحمة والتضحية التي أظهرها النبي صلي الله عليه وسلم تجاه أمته؟ وما مدى الجهد الذي نبذله في تمثيل الإسلام، وتبليغه بلسان حالنا ومقالنا إلى الناس الذين ينتظرون الهداية؟
وباختصارٍ، ما مدى قربنا من رسول الله صلي الله عليه وسلم، بالنظر إلى سلوكنا وحالنا؟ وهل لدينا الشوق والرغبة الصادقة لنكون قريبين منه؟
[1] – سورة التوبة: الآية, 111.
[2] – سورة البقرة: الآية, 214.
[3] – الترمذي: الأدب, 81.
[4] – سورة آل عمران: الآية, 164.
[5] – البخاري: الأدب, 96.
[6] – البخاري: الأيمان.
[7] – ابن هشام: 2, 29- 30؛ الهيثمي: 6, 35؛ البخاري: بدء الخلق, 7.
[8] – سورة البقرة: الآية, 195.
[9] – أبو داود: الجهاد, 22/2512؛ الترمذي: التفسير, 2/2972.
[10] – محمد باكسو: عندما يسود الإيمان على الحياة.