مقالات من كتبه

الإمام الربانيرحمه الله -3-

يقول الإمام الرباني رحمه الله:

“ينبغي أن يسعى العبد بجميع الأفعال والحركات والسكنات إلى رضا المولى جل سلطانه… ويكون كل من الظاهر والباطن متوجهاً إلى الحق عز وجل وذاكراً له سبحانه.

فمثلاً إذا اختار العبد النوم الذي هو غفلة من أوله إلى آخره بنية دفع التكاسل من أجل أداء طاعاته بأفضل وجه، يكون ذلك النوم بهذه النية عين العبادة ما دام في النوم، فكأنه في الطاعة لكونه بنية أداء الطاعة، وقد ورد في الخبر “نوم العلماء عبادة”. [1]

فينبغي على ابن آدم الذي خُلق من أجل عبادة ربه أن يبذل غاية جهده لإدراك هذه الحقيقة والشعور بها إلى آخر نفس من حياته. فالمؤمن الحق يكون في بحث دائم عن رضا الله عز وجل في كل لحظة من لحظات حياته. وإن المؤمن الكامل لا ينظر إلى أي عمل خير يقوم به في رحلة هذا البحث بعين الكفاية، وإنما يتشوق باستمرار إلى الاستزادة من الخير.

إن العبودية للحق عز وجل ليست فقط عبارة عن العبادات التي يتم الإيفاء بها وإتمامها في أوقات مخصوصة ومحددة مثل الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج. وإنما العبودية لله تعالى هي إلى جانب هذه العبادات نظام “منهج” حياتي يدوم مدى العمر ويحيط بالمؤمن في كل لحظة وآن مثل الأخلاق الحميدة والمعاملات. ويُعد وعد الله بإعطاء الأجر والثواب على كافة الأفعال التي تحقق رضاه خارج هذه العبادات وكذلك تحريم كل الأفعال التي تجلب غضبه من هذا القبيل.

وبناء على ذلك ينبغي على المؤمن أن يبذل جهده لربط كافة الأفعال البشرية وأعمال الدنيا التي تقع خارج العبادات المنصوص عليها بغايات سامية مثل طاعة الحق عز وجل، ليحقق بواسطتها رضا الله تعالى. وقد قال الإمام الرباني عن هذه الحقيقة أيضاً:

“ينبغي أن لا يكون حظ النفس ملحوظاً ومنظوراً إليه في تناول الأطعمة اللذيذة، ولبس الألبسة النفيسة، بل اللائق في استعمال الأطعمة والأشربة أن لا ينوي شيئاً غير حصول القوة لأداء الطاعات، وفي لبس الثوب النفيس ينبغي أن ينوي التزين المأمور بقوله تعالى:

{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ…} [2]

أي عند كل صلاة، وأن يشوبه نية أخرى مثل الرياء، والتفاخر…”. [3]

فإذا ما قام الإنسان حتى بواجباته وتلبية احتياجاته المعيشية اليومية بنية خالصة لنيل رضا الله تعالى، فإنه يضفي على تلك الأفعال طابع العبادة.

إن ديننا الحنيف السامي لكي يبعد المؤمنين عن أهواء النفس والأغيار ويوجههم نحو الأمور الربانية، فقد ربط حتى الحوادث المادية والظاهرية بغايات روحية، وأضفى عليها معنى علوياً متسامياً. إنه لم يسمو فقط بأفعال الإنسان العلوية المتعلقة بالعبادات والأخلاق، وإنما أضفى السمو والمثالية حتى على أفعاله المتولدة عن احتياجاته البدنية.

فمثلاً؛ يُعد الطعام والشراب  حاجة بدنية. إلا أن الإسلام سما بهذه الحاجة البدنية وحولها إلى وسيلة لنيل الأجر والثواب عن طريق ربطها بنية تقوية العبادات. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بدء الطعام بالبسملة أي بذكر اسم الله تعالى، فإنه يحمل الإنسان في كل لقمة يتناولها على التفكر بعظمة نعم الله وإحسانه، وبالتالي يدفعه إلى الحمد، والشكر، والذكر. أي أن الطعام الذي يتم تناوله إلى جانب تحقيقه لفائدة مادية في الجسم فإنه يزينه بالفيوض والروحانيات، وبذلك يصبح نوعاً من العبادة.

فهذا هو ديننا الإسلامي الحنيف يربط كل الحاجات الحياتية للإنسان بغايات علوية كما في المثال المذكور، ويقدم للمؤمنين فرصاً في كل لحظة من لحظات حياتهم لنيل رضا الحق عز وجل.

إن طعام وشراب المؤمنين العارفين من أصحاب اليقظة القلبية التي تمكنهم من استغلال هذه الفرص، وحركاتهم وسكناتهم، وقيامهم وقعودهم، وحتى منامهم يصبح كل ذلك بحكم العبادة بفضل وبركة إخلاص النية. إلا أن العكس أيضاً صحيح، إذ أنه حتى عبادات الغافلين عن هذه المكرمات الإلهية تتحول إلى أفعال جالبة للغضب الإلهي لاختلاطها بالنوايا النفسية مثل الرياء، والتفاخر.

إذاً؛ لكي نتمكن من إحياء كل لحظة من الحياة بوجد العبادة ينبغي أن نخضع قلوبنا لتربية معنوية وروحية في هذا المجال. ويتوجب في هذا الصدد اكتساب “نية” حسنة. لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الشريف:

نية المؤمن خير من عمله“. [4]

وعدا عن ذلك؛ فإن الله تبارك وتعالى يهيئ الكثير من المكرمات الاستثنائية لعباده الذين يعملون بإخلاص لكي يتمكنوا من جعل حياتهم بحالة عبادة دائمة. فمثلاً قد يعجز العبد أحياناً عن الإيفاء بنافلة يداوم عليها في الظروف الطبيعية لتعرضه إلى عذر شرعي ، مثل المرض، أو السفر، أو الإرهاق الشديد، أو الشيخوخة. ففي هذه الحالة يهبه الله تعالى أجر ذلك العمل وكأنه قد قام به بسبب الإخلاص في النية.

وقد قال المفسرون عن قول الله تعالى:

{إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [5]

“إن أجر العبد عن العمل البدني يستمر إلى ما لا نهاية حتى وإن أصبح عاجزاً عن الاستمرار بتنفيذه، وذلك بقدر ما أظهره من إخلاص في النية، ومن جهد للقيام به عندما كان صحيحاً معافىً”. ولهذا ينبغي أن نداوم على العبادات والأعمال الصالحة بثبات عندما تكون الفرصة متاحة.

إن عبادات النبي عليه الصلاة والسلام الذي يُعد أكثر وأفضل شخصية نموذجية أكرمنا به كانت مهيمنة على كل ميدان من ميادين حياته بأتم توازن وانسجام. فعندما يُنظر إلى حياته المباركة يُخيل إلى المرء وكأنه قد أمضى كل أوقات ولحظات عمره بالعبادة.

والحال أن النبي عليه الصلاة والسلام إلى جانب محافظته على متابعة حياة العبادة على أعلى سوية، لم يتوانى ولم يقصر في القيام بالخدمات والأعمال الدنيوية أيضاً، وحتى أنه قام بها على أكمل وجه. وحقيقة، إن النبي عليه الصلاة والسلام من جهة قد استمر بكل دقة وحرص في أداء عباداته ليلاً نهاراً، وبلغ الدين الذي أرسله الله به للناس متحملاً في سبيل ذلك مختلف أنواع الصعوبات والمشقات، وبين وشرح للناس جوانب الوحي المحتاجة إلى التوضيح بأقواله وأفعاله، ومن جهة أخرى اهتم بعائلته وأهل بيته وقام على شؤونهم، وشارك الفقراء همومهم وآلامهم، واشترك في الجنازات والمآتم، ووضع أسس دولة سليمة وقوية لا تجارى، وبعث بالرسل إلى الملوك والقياصرة يدعوهم إلى الإسلام، واستقبل الرسل والسفراء وأحسن وفادتهم وضيافتهم، وسير الجيوش وتولى إدارتها وتنظيمها، وجاهد وقد تضحيات جسام في سبيل إزالة العوائق والموانع التي تظهر أمامه خلال قيامه بتبليغ دين الله تعالى.

بمعنى أن أي من الأعمال الدنيوية لم تشغله أو تمنعه من القيام بعباداته. بل على العكس تماماً، إذ أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أحيا كل لحظة من لحظات حياته بوجد العبادة لأنه قد قام بالمشاغل الدنيوية بما يوافق رضا الله تبارك وتعالى. فإلى جانب قيامه بأداء الوظائف والمهام اليومية الجسيمة الملقاة على عاتقه والتي لا يمكن لأحد تحملها، فقد تعبد الله تعالى بصورة أفضل وأكمل بكثير من الزهاد الذين اعتزلوا في المعابد ووقفوا أنفسهم للعبادة.

يقول الإمام الرباني رحمه الله:

“إن أداء فرض واحد مع الجماعة أفضل من ألوف من الأربعينات (أي الفرائض التي تقام في الخلوات بعيداً عن الجماعة، أو النوافل). وإن الذكر والفكر مع مراعاة الآداب الشرعية أفضل وأهم”. [6]

(الإسلام يرفض الفردية والشخصية “الأنانية”؛ ويشجع على الحياة الاجتماعية والإيثار. وإن أول مظهر من مظاهر التربية الاجتماعية يتجلى في الصلوات المقامة مع الجماعة. فهنا تتم زراعة بذور مشاعر وحدة المؤمنين وتكاتفهم وتضامنهم، ثم تنمو وتشتد.

فيقول النبي عليه الصلاة والسلام:

“… عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة…”. [7]

“… إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى“. [8]

وجاء الصحابي عبد الله بن أم مكتوم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام. وكان ضريراً، فقال:

–    يا رسول الله! إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟

فقال النبي عليه الصلاة والسلام:

–    “أتسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ فحي هلا -أي عليك بالذهاب إلى المسجد، وليست لك رخصة-“. [9]

فكما يتبين أن النبي عليه الصلاة والسلام الذي يُعد في غاية الرحمة والشفقة بأمته قد أعطى هذا الجواب لصحابي أعمى عاجز عن الرؤية. فما بال المبصر!. إذاً؛ ينبغي التفكير بجدية بمدى الضياع والخطورة والغفلة المروعة التي يشكلها التخلف عن الجماعة بدون توفر عذر شرعي…

تقول شفاء بنت عبد الله رضي الله عنها:

“دخل علي بيتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوجد عندي رجلين نائمين، فقال: وما شأن هذين ما شهدا معي الصلاة؟، قلت: يا أمير المؤمنين صليا مع الناس ـ وكان ذلك في رمضان ـ فلم يزالا يصليان حتى أصبحا، وصليا الصبح، وناما. فقال عمر رضي الله عنه:

–    لأن أصلي الصبح في جماعة أحب إلي من أن أصلي ليلة حتى أصبح”. [10]

هناك الكثير من وظائف وواجبات العبودية التي ينبغي على المؤمن القيام بها في كل وقت. وإن ما يليق بالمؤمن الكامل هو إيلاء الأولوية للإيفاء بأكثرها أهمية، وثم السعي جهد استطاعته للقيام بالواجبات الأخرى الأقل أهمية.

لا ريب أن ما يتصدر قائمة وظائف العبودية المترتبة على عاتقنا هو “الفرائض”. وإن الانشغال في الوقت الذي يتوجب فيه أداء فرض من الفرائض بأعمال أخرى غيره يُعد تصرفاً خاطئاً – حتى ولو كانت تلك الأعمال قيمة مثل عبادات النوافل، وأعمال الخير – .

فإيفاء المؤمن بالفرائض في حياته التعبدية أولى من كل شيءٍ آخر. وإن أداء النوافل من العبادات لا يكون إلا بعد الفرائض إلحاقاً وإضافة إليها. فقد جاء في الحديث القدسي فيما يرويه النبي عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى:

“…ما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه…”. [11]

إذاً؛ فالله عز وجل يريدنا أن نتقرب إليه باستمرار بالنوافل المضافة إلى الفرائض التي يتم أداؤها بانتظام لنكون في النتيجة من العباد الذين أحبهم. ويبين لنا بأنه ليس هناك عمل أفضل وأحب من الفرائض من أجل نيل هذه الدرجة الاستثنائية التي لا نظير لها في العبودية له. أي أنه يعلمنا بأن الفرائض هي شرط ضروري لضمان قبول الأعمال الأخرى.

يقول الإمام الرباني رحمه الله:

“اعلموا أن القلب جار الله عز وجل. وليس شيءٌ أقرب إلى جناب قدسه كالقلب. فإياكم وإيذاء أي قلب مؤمناً كان أو عاصياً، فإن الجار وإن كان عاصياً يُحمى. فاحذروا من ذلك واحذروا، فإنه ليس بعد الكفر الذي يسبب إيذاء الله تعالى ذنب مثل إيذاء القلب، فإنه أقرب ما يصل إليه عز وجل”.[12]

(يبين القرآن الكريم بأن الله تعالى أقرب إلى عباده من حبل الوريد [13]،  وأنه يحول بين المرء وقلبه [14]. ولذلك ينبغي أن نهتم ونعتني كثيراً بالقلب الذي هو محل النظر الإلهي.

حيث قال الشاه النقشبندي:

“ليس من قلب إلا ونظر الحق عز وجل إليه. سواء علم صاحب ذاك القلب أم لم يعلم!..”. [15]

وبذلك فإنه لفت الانتباه من جهة إلى أن إحياء القلوب سوف يكون وسيلة لنيل الفيوض من النظر الإلهي في تلك القلوب، ومن جهة أخرى أشار إلى مدى خطورة العمل الذي يجرح القلب والنتيجة الوخيمة التي تترتب عليه.

وإن أعظم الهمم والمساعي لأولياء الله عز وجل هي تحقيق الشفاء الأبدي للقلوب الغافلة والمريضة التي ابتعدت عن الحقائق الإلهية بنور الإسلام والإيمان. وإحياء قلوب المؤمنين المحزونة والمتكدرة بالشفقة والرحمة.)

يقول الإمام الرباني رحمه الله:

“شهر رمضان جامع لجميع الخيرات والبركات، وكل بركة وخير يصل إلى أحد من أي وجه كان في كل السنة إنما هو قطرة من بحر بركات هذا الشهر العظيم القدر الذي لا نهاية له، والجمعية في هذ الشهر سبب للجمعية في جميع أيام السنة، والتفرقة فيه سبب للتفرقة في كل السنة.فطوبى لمن مضى عليه هذا الشهر المبارك وهو راضٍ عنه، وويل لمن هو ساخط عليه فمنع من البركات، وحرم المبرات والخيرات”. [16]

(يُعد شهر رمضان فصل الخيرات، أي أنه ربيع معنوي وروحي لكل عام. لأنه وقت فياض بالبركات الروحية حيث يكتسب قيمة وأهمية منقطعة النظير بنزول القرآن الكريم فيه، واحتوائه على ليلة القدر التي هي خير من ألف، وتتفتح فيه أبواب العفو والمغفرة.

إن الجمعية في هذا الشهر التي تبعث السرور والانتشاء في الأرواح، “أي الصحبة القلبية مع المولى عز وجل”، تُعد كسباً روحياً ومعنوياً استثنائياً ينعكس على العام كله. ولهذا يُعتبر الدليل على قبول عباداتنا في هذا الشهر “رمضان المبارك” هو ماهية أحوالنا واستقامتنا التي تعقب شهر رمضان.

وإن الذين يهبون في هذا الشهر المبارك قلوبهم لله تعالى، وأبدانهم للعبادة ثم يحيون ويعمرون أوقاتهم بالتضحيات والخدمات المليئة بالصوم، والتراويح، وتلاوة القرآن الكريم، والذكر، والاستغفار، والفطر، والزكاة، والصدقات، والشفقة، والرحمة يستمرون بنيل بركات هذه الأعمال لعام كامل.

وبالمقابل فإن الذين يغفلون عن هذا الوقت المبارك ثم يبتعدون عن الرحمة الإلهية يظلون معرضين لخسران الفراق والغفلة طيلة أيام السنة.

حيث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الشريف:

إن جبريل عز وجل عرض لي فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يُغْفَرْ له! قلتُ : آمين“. [17]

وجاء في حديث آخر:

ويل لمن أدرك رمضان ولم يغفر له. وإذا لم يغفر للمرء في رمضان فمتى يغفر له؟!”. [18]

ولهذا فإن إحياء رمضان المبارك يُعد مسألة بالغة الاهمية في نظر المؤمنين العارفين. فقد قال معلى بن فضل:

“كان السلف الصالح يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم”. [19]

ومن جانب آخر يُعد شهر رمضان من خلال صوم نهاره والجوع والعجز الذي يذيقه للصائم خير تربية روحية تكفل فهم ومعرفة أحوال المحتاجين والفقراء بالشكل الأمثل. حيث أن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز:

{… تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ…} [20]

وذلك لحثنا على التفتيش عن المحتاجين الذين يستحون من سؤال الناس وطلب العون منهم لشدة عفتهم، ومعرفة أحوالهم، ثم السعي إلى تقديم المساعدة لهم جهد استطاعتنا. أي أن الله عز وجل يريد أن تكتسب قلوبنا حساسية عالية في مشاعر الشفقة، والرحمة، والجود والكرم والسخاء، والتضحية.

إذاً؛ إن رمضان المبارك يُعد مدرسة المعرفة التي تعلمنا بأننا مسؤولون عن الفقراء، والمحتاجين، والمحرومين، وأبناء السبيل المحيطين بنا، وأن لهم حقوقاً متعلقة بذمتنا.

نورد فيما يأتي قصة تعد خير مثال للاعتبار كي نقف مع أنفسنا وقفة محاسبة وجدانية وضميرية حول مسؤوليتنا تجاه الفقراء والمشردين، والغرباء، وخاصة في شهر رمضان:

ذات مرة ذهب السلطان مصطفى الثالث في شهر رمضان المبارك إلى مائدة إفطار في قصر شيخ الإسلام محمد أمين أفندي. وأثناء الحديث قال السلطان:

–    يا أفندي! أود بين الحين والآخر المجيء لزيارتكم، إلا أنني أجد مكان قصركم بعيداً للغاية.

فأجابه محمد أمين أفندي بقوله:

–    يمكنني أن أجد بيتاً في مكان قريب في جواركم. ولكن ليس في أي من البيوت التي رأيتها في هذه الأنحاء مطبخ.

أثار هذا الكلام حفيظة السلطان واستغرابه، ولما سأله:

–    يا له من أمر عجيب، ألا يُطهى الطعام في هذه البيوت؟

أجابه شيخ الإسلام:

–    إن طعام هؤلاء جميعاً يخرج من بيت هذا الفقير أمامكم صباحاً ومساءً. لذا لا أريد مفارقة هذا المكان.

فإذا ما أُدرك رمضان المبارك بمثل هذا القلب الرقيق وبروح الإيثار والتضحية، فإنه يصبح واحداً من أفضل الشاهدين للعبد عند المولىعز وجل.

وبناء على ذلك، يعتبر التمكن من إحياء رمضان بالشكل اللائق به وتوديعه وهو راضٍ عنا والنجاح بالوصول إلى رمضان العام اللاحق دون فقدان القيم الروحية التي كسبناها فيه، وبالتالي التمكن من عيش حياتنا ضمن روحانية رمضان الدائمة، يعتبر سعادة عظيمة ما بعدها سعادة. وفي الواقع فإن العيد الحقيقي هو بالأساس مظهر لهذه السعادة.

أي؛ العيد الحقيقي هو لمن استطاع الخروج من رمضان وقد جاز على شهادة العفو الإلهي.

العيد مباركة وتهنئة للعبودية الخالصة المقدمة للحق عز وجل.

العيد هو الدرس الأخير لرمضان المبارك الذي هو مدرسة المعرفة.

العيد موسم لزيارة الأصحاب والأقارب، والمرضى، واليتامى، والمشردين، والمحرومين، والمظلومين وتفقد أحوالهم، والتخفيف من معاناتهم، ومشاركة المؤمنين أوجاعهم وهمومهم، والحاصل هو عيش الأخوة الدينية في حالة جمعية.

العيد ضيافة إلهية تبعث برودة الجنة في القلوب الملتهبة.

العيد أيام عبادة اجتماعية معمرة بالخدمات والتضحيات، والإنفاق إضافة إلى العبادات الفردية. وليس أيام صفاء ومتعة نفسانية يعيشها البعض بترف وبطر مثل العطل والإجازات المليئة بجنون الإسراف والتبذير.

العيد أيام للقضاء على الانكسارات القلبية والشدائد والمحن، وجبر للخواطر بالأخوة الدينية.

نسأل المولى عز وجل أن يقدرنا على الشعور بآلام ومعاناة إخوة بالدين في مشارق الأرض ومغاربها، ويجعل قلوبنا منازل رحمة تأويهم جميعاً، وأن يمكننا من تضميد جراحهم سواء بالمساعدات المادية أو بالدعاء. ونسأله أن تشرق شمس سعادة عيد حقيقي على عالمنا الإسلامي الغارق في الآلام والمصائب في هذا العصر…

ونرجو الله العلي القدير أن لا يخرجنا جميعاً بلطفه وكرمه من شهر رمضان إلا وقد تطهرنا من ذنوبنا وخطايانا وينعم علينا بحياة محاطة كلها بأجواء رمضانية فياضة بالروحانية، وأن يجعل لفظ أنفاسنا الأخيرة هادئاً مطمئناً مثل سكينة صباح العيد المنفتح إلى السعادة الأبدية.

آمين!..


[1]       انظر. الديلمي: الفردوس، رقم 6731. الإمام الرباني: المكتوبات، 3، 224، رقم 17، دار ياسين للنشر، اسطنبول 2007 – 2010.

[2]       الأعراف: 31.

[3]       الإمام الرباني: المكتوبات، 1، 298، رقم 70.

[4]       السيوطي: الجامع الصغير، 2، 194.

[5]       التين: الآية، 6.

[6]       الإمام الرباني: المكتوبات، 2، 105، رقم 260.

[7]       الترمذي: الفتن، 7/ 2165.

[8]       أبو داود: الصلاة، 47/ 554؛ النسائي: الإمامة، 45.

[9]       أبو داود: الصلاة، 46/ 553.

[10]         عبد الرزاق: المصنف، بيروت 1970، 1، 526؛ الموطأ: صلاة الجماعة، 7.

[11]      انظر. البخاري: الرقاق، 38؛ أحمد: 6، 256؛ الهيثمي: 2، 248.

[12]      الإمام الرباني: المكتوبات، 3، 326، رقم 45.

[13]      انظر: ق: 16.

[14]      انظر: الأنفال: 16.

[15]         صلاح الدين ين مبارك البخاري: أنيس الطالبين، ص، 100.

[16]      الإمام الرباني: المكتوبات، 1، 24، رقم 4، دار جيله Çile للنشر، اسطنبول 1977.

[17]      الحاكم: 4، 170/ 7256؛ الترمذي: الدعوات، 100/ 3545.

[18]      ابن أبي شيبة: المصنف، 2، 270؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 3، 143.

[19]      قوام السنة: الترغيب والترهيب، 2، 354.

[20]      البقرة: 273.