يتبادر إلى الذهن أن الأدب لصيق الصلة بالتصوف، وهذا حق، فالتصوف مجاله عالم القلب والروح والمشاعر، وهي الساحات نفسها التي يعمل فيها الأدب عمله، يصدر عنها، ويخاطبها، ويزدهر بها، ويؤثر فيها، أي إن كلاهما يؤثر في الآخر ويُثريه، وهو ما حدث بالفعل مع الأدب التركي الذي ارتقى قممًا شامخة من الرقي الفني، وترسخت أقدامه في مجالات أعمق من الشعور الإنساني، وامتدت آفاقه وآثاره إلى الكثير من مجالات الفكر.
وقد تفاعل الأدب وتشكل وتطور مع ما تميزت به أساليب الحياة الصوفية، فمثلاً هناك ما يسمى «أدب التكايا»، الذي أنتج صورًا مميزة من الأنواع الأدبية، مثل الشعر الغنائي والشعر التعليمي، وأنواعًا أخرى بسيطة سلسة عكست القيم الصوفية، وعبرت عنها، وصارت قوالب لها توصلها في صورتها الراقية إلى جمهور عريض من المريدين، فكان منها نوع يُدعى «التوحيد» وهو الذي يبين معنى التوحيد، ويتناول ذات الله تعالى وصفاته وأسماءه، ونوع آخر يُدعى «المناجاة» وهو يشمل التوجه إلى الله تعالى ودعاءه ومناجاته وذكره تعالى بلهفة وشوق، ونوع ثالث يُدعى «النعت» وهو مختص بالمدائح النبوية، وذكر صفات النبي -صلي الله عليه وسلم- وأخلاقه، وحبه، والشوق له.
وكان لهذه الأنواع الأدبية دور كبير ومؤثر في دعم القيم الصوفية نشرًا وتقوية وتشجيعًا ومواساة، فهي تنشرها بين العامة والخاصة على نطاق أوسع، وتمس حبات القلوب بأدوات أوقع، وتعالج المشاعر الإنسانية بالعلاج الأنجع، وترتقي بها إلى درجات أرفع، وتجمع الناس على حالة شعورية جماعية من الأخوة والتكاتف والمحبة، وتضرب في ذلك الأمثلة الأروع، كل ذلك في أشكال من البلاغة والأدب المبدع.
وها هو ذا شعر «يونس أمره» ما زال يقدم للناس المواساة والطمأنينة منذ أن قاله مع كارثة الاجتياح المغولي قبل سبعة قرون.
وغيره من الأولياء ذوي الإنتاج الشعري والأدبي أمثال: الشيخ أحمد اليسوي، والولي حاجي بيرام، وأشرف أوغلو الرومي، وعزيز محمود هدائي، قدس الله سرهم جميعًا، فقد نقلوا التصوف ومعانيه وقيمه من الخاصة إلى العامة، وجعلوها متاحة للجميع، يفهمونها ويدركون معانيها، ويتفيؤون ظلالها، ويلجؤون إليها.
ولا نُغفل هنا «أدب الديوان» ببحوره وأوزانه وعَروضه، فقد أثراه شعراء الصوفية بقصائد ودواوين خالدة، ما زالت نبعًا ثرًا يحتذيها الشعراء، ويتغنى بها المنشدون إلى يومنا هذا، إضافة إلى الأعمال الأدبية النثرية الأخرى.
كل نوع من هذه الأنواع الأدبية الصوفية يأخذك إلى عالم مختلف من المشاعر والأحاسيس:
– ففي «التوحيد» تأخذك الروح الجياشة إلى آفاق رحيبة من معاني الأسماء والصفات، وتسمو بك إلى حالة من العشق الإلهي المتماهي في ذاته سبحانه، وتلك هي قصائد التوحيد التي كتبها المتصوفة تحلق بك في فضاء إيماني شاسع وبعيد، تنال فيه فيوضات لم تدركها من قبل.
– وفي قصائد «النعت» تحيا معاني الوله والعشق للرسول النبي -صلي الله عليه وسلم-، والاشتياق إلى رؤيته والتغني بسيرته وسنته، فتبدو هذه القصائد وكأنها لوحاتٌ رائعةٌ نُقِشت على جدران الأفئدة، وها هو الشاعر «فضولي» في إحدى قصائد النعت، وهي «قصيدة الماء» يقول معبرًا عن الاشتياق للحبيب النبي -صلي الله عليه وسلم-:
يقضي الماء عمره كي يصل إلى غبار قدميه جاريًا بلا هدف من صخرة إلى أخرى سعيًا إليه
وهناك مجموعة من الشعراء مثل: مولانا جلال الدين الرومي، وفضولي، ونائيلي، ونابي، ونحيفي، والشيخ غالب، وشعراء عظماء آخرون كتبوا مؤلفات نبعت من قلبٍ يهيم بالنشوة الصوفية.
ومع اقتران الأدب الراقي بالمشاعر الصوفية السامية، ومشاعرها العميقة أنتج لنا التقاء هذين العملاقين محتوىً ضخمًا في ثرائه وعمقه، ينهل منه القاصي والداني، ويشبع رغبات الجميع على اختلاف الأذواق والأمزجة والأفهام والمشاعر.
وقد أوضح نهاد سامي بانارلي المختص في تاريخ الأدب هذه الحقيقة بقوله:
«التصوف هو من أوجد الأدب التركي وطوَّره وارتقى به».
ولعلَّ الشاعر «نديم» المعروف بميوله الدنيوية قد كسب شهرته حين برع في أدب «النعت»، وكذلك الشاعر «توفيق فكرت» العلماني اشتهر في الساحة الأدبية بعد أن كتب أشعاراً في أدب «التوحيد».
وهذه هي نتيجةٌ مباشرة لهذا التطور والرقي الذي ارتقى بالأدب التركي إلى العالمية.
لم لا، وقد جاء الحديث النبوي مؤيدًا للأدب والشعر، داعمًا لتوجه الشعراء والأدباء في توجيه الناس والدفاع عن الدين، وإلهاب حماس المقاتلين والمجاهدين.
فعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يضع لحسان منبرًا في المسجد يقوم عليه قائمًا يفاخر عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- -أو قالت: ينافح عن رسول الله- ويقول رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
«إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما يفاخر، أو ينافح عن رسول الله» (الترمذي، الأدب، 72؛ أبو داوود، الأدب، 87)
إن وقوف جبريل -عليه السلام- مع الشاعر حسان -رضي الله عنه- في هذا الموضع يُبيِّن أن الحق تعالى يُلهم الشاعر الذي يسير في طريق الله تعالى ويؤيده بتأييده.