لقد زوّد الله تعالى جميع المخلوقات، والإنسان بخاصة، بالنزوع إلى المحبة. يكتسب الإنسان، في هذا العالم الذي يشكل معبراً للإمتحان الإلهي، من السوية المعنوية بمقدار ما يوجّه محبته للحق والخير. إن المصدر الحقيقي والنهائي للمحبة.
حيث تبلغ الروح الراحة والطمأنينة، هو الله -جل جلاله- الذي يتكرم على الإنسان من روحه. لذلك فإن جميع أنواع المحبة الفانية التي لا تنتهي إلى الحق، ولا تصل إليه، وتتوه في عناوين خاطئة، وتهدر في الشوارع المسدودة، تشكل للروح إرهاقاً وإثقالاً بلا جدوى.
يا للمثال المعبّر الذي يوضح به مولانا جلال الدين الرومي غفلة العبد هذه، حين يقول:
«لا غرابة في هروب الحمل من الذئب. فالذئب هو عدو الحمل وصياده. ما يدعو إلى الإستغراب حقاً إنما هو وقوع الحمل في هوى الذئب!»
من هذا المنظور، يتوجب امتلاك مزاج قلبي من شأنه عدم نسيان الله تعالى – المنبع الحقيقي للمحبة – وجعل كل محبة فانية عتبة نحو المحبة الإلهية. إن هذا من مقتضيات خلق الإنسان.
والطريق المستقيم والمباشر الذي يؤدي إلى المحبة الإلهية، يمر عبر محبة حبيب الله سيدنا محمد -صلي الله عليه وسلم- وطاعته التي هي شكل تجلي هذه المحبة. وفقاً للقاعدة القائلة:
«إن المحب يحب كل ما يخص المحبوب»
يجب الإخلاص لسيدنا محمد -صلي الله عليه وسلم- وإطاعته في كل شيء. فهذان الإخلاص والطاعة يشكلان العمود الفقري لمحبة الحق.
محبة المؤمن لفخر الكائنات -صلي الله عليه وسلم- تنعكس راحةً في العبادات، ورقّةً في التصرفات البشرية، ورفعةً في الأخلاق، ولطفاً في القلوب، ونوراً على الوجوه، وروحانيةً على اللسان، وعمقاً في الأنظار. فالنبع الأكثر فيضاً الذي يمكن الحصول على كل ألوان الجمال هذه منه، إنما هو سيدنا محمد -صلي الله عليه وسلم-.
الحق أن القلوب تستطيع أن تنال درس المحبة الإلهي، بكل معنى الكلمة، فقط حين تدور حول نور الوجود هذا كمثل فراشةٍ تشتعل في الحب. يعطينا مولانا جلال الدين بضعة أمثلة على تجليات المحبة في الكائنات، مما يساعدنا على قياس درجة محبتنا لرسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
«كم من فراشةٍ قفزت في الأتون في سبيل الحب. تضطرب أجنحتها في النار، تحترق ولسان حالها يقول: «كن مثلي!»
«كانت الشمعة تحترق وتبكي. لقد أعطت نفسها للنار والعذاب. عيناها تدمعان لكنها تنشر حولها النور. وكانت الشمعة نفسها تقول: «ما النفع من نثرك الذهب والفضة بغية أن تربح؟ إن كنتَ ترغب بربح معنوي، عليك بالاحتراق والذوبان مثلي!»..»
سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، الذي علينا أن نحبه محبة بهذا العمق، عاش طوال عمره وهو ينادي مشفقاً: «أمتي، يا أمتي..». كانت محبته لأمته ورأفته بها، تفوق بما لا يقاس محبة أم حنون لأطفالها الصغار وحدبها عليهم. لقد انشغل واهتم كثيراً بمصير أمته إلى الحد الذي دفعه للقول:
“…ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد…” (الترمذي، القيامة، 34\2472)
وقال لصحبه أيضاً:
“ألا! إني لكم بمكان صدق حياتي، فإذا مت لا أزال أنادي في قبري: “يا رب أمتي أمتي” حتى ينفخ في الصور النفخة الأولى، ثم لا تزال لي دعوة مجابة حتى ينفخ في الصور النفخة الثانية..” (علي المتقي، كنز العمال، جـ14، ص 414/39114)
إن الوفاء لمحبته لأمته، هو أول دينٍ في عنق كل مؤمن. بمقتضى الحديث الشريف القائل:
“المرء مع من أحب” (البخاري، الأدب، 96)
علينا أن نحبه أكثر من أرواحنا، ونتبع سنّته، ونتمثل أخلاقه. لأن هذا هو المعيار والتجلي الأكثر دقة لمحبتنا له.
فيما يأتي اثنتين من الوصايا الحكيمة لسيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، التي من شأنها أن تشكل لنا رأس مال للسعادة والخلاص الأبديين:
“أمرني ربي بتسعٍ… وأعفو عمن ظلمني…”[1] وأوصيكم بالمثل
المغفرة هي العفو عند المقدرة بديلاً من العقاب والثأر من الظالم. وهي واحدة من أجمل تجليات المحبة نحو المخلوق في سبيل رضى الخالق.
أي أنها تمثل النضج الذي يتيح للمؤمن أن يتجرد من نفسه في مواجهة المذنب، ويطلب له مغفرة الله ورحمته. طبعاً لا يبلغ هذا النضج إلا أولئك المؤمنون الكاملون الذين بلغوا الشعور بالعدم أمام الإرادة الإلهية، وتخلقوا بالأخلاق الإلهية. وبالمغفرة الدائمة يصبحون ممن يستحقون مغفرة الله تعالى.
قال عمر -رضي الله عنه-: “من لا يَرحم لا يُرحم، ولا يُغفرُ من لا يَغفر، ولا يُعفَ عمن لم يَعفُ..” (البخاري، الأدب المفرد، ص 415، 371)
التغلب على الغضب والقدرة على العفو، مما يصعب على نفس الإنسان. لكن شرف الحصول على نتيجة هو بحجم صعوبة الوصول إليه. لذلك فإنها فضيلة كبيرة أن يتمكن المرء من التصرف بهذه الحكمة من أجل الله تعالى.
عن يحيى بن يوسف، أخبرنا أبو بكر هو ابن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رجلاً قال للنبي -صلي الله عليه وسلم-: أوصني، قال:
“لا تغضب” فردد مراراً، قال: «لا تغضب» (البخاري، الأدب، 76)
وقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، يدعو المؤمنين للتغلب على الغضب:
“لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا” (الترمذي، البر، 63\2007)
على ضوء هذه الحقيقة قال حكماؤنا:
«إن مقابلة الخير بالخير هي مما يستطيعه أي شخص؛ أما مقابلة الشر بالخير فهو من شأن الشهم وحده».
الواقع أن هذه الأخلاق هي طريقة في التربية المعنوية. فإذا كان الشخص الذي نعامله بالخير عدواً، فسوف يكسر هذا الخير ما في قلبه من عداء وحقد، ويفتح في قلبه ميولاً ودية؛ وإذا كان شخصاً محايداً ظهرت في قلبه الرغبة في التوادد والتقارب؛ فإذا كان صديقاً ازدادت محبته. تقول الآية الكريمة:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت، 34)
يفسر ابن عباس -رضي الله عنه- هذه الآية كما يأتي: المقصود بعبارة «بالتي هي أحسن» في هذه الآية: الصبر عند الغضب والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوه عصمهم الله، وخضع لهم عدوهم: «كأنه ولي حميم». (البخاري، التفسير 41\1)
لقد شهد التاريخ النتائج المباركة لفضيلة العفو والمغفرة، في إبعاد الناس عن الظلم والجور والشر، وفي توجيههم نحو الحق والخير. وتسببت هذه الفضيلة في انتباه كثير من الغافلين.
وفي يوم فتح مكة، أعلن رسول الله-صلي الله عليه وسلم-، العفو والأمان على العموم، فقال لأهل مكة الذين اجتمعوا في الكعبة:
“يا أهل قريش. ما تظنون أني فاعل بكم؟”
فقال القرشيون: «نَقُولُ خَيْرًا وَنَظُنّ خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، وَقَدْ قَدَرْت..» فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“فإني أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: ﴿...لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف، 92). اذهبوا فأنتم الطلقاء“[2].
لقد أوقع الله تعالى المشركين من أهل قريش بين يدي رسوله وأخضعهم له، فعفا عنهم وأطلقهم. أمام كرم الأخلاق هذا، كم من قلوب متحجرة لانت، وكم من قلوب مظلمة أضيئت بنور الهدى.
وَأَمّا هَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ جُرْمُهُ أَنّهُ عَسّ بِابْنَةِ النّبِيّ -صلي الله عليه وسلم- زَيْنَبَ وَضَرَبَ ظَهْرَهَا بِالرّمْحِ- وَكَانَتْ حُبْلَى- حَتّى سَقَطَتْ، فَأَهْدَرَ النّبِيّ -صلي الله عليه وسلم- دَمَهُ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم- جَالِسٌ بِالْمَدِينَةِ فِي أَصْحَابِهِ إذْ طَلَعَ هَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَكَانَ لَسِنًا، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ! سُبّ مَنْ سَبّك، إنّي قَدْ جِئْت مُقِرّا بِالْإِسْلَامِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم-َ، فَخَرَجَتْ سَلْمَى مَوْلَاةُ النّبِيّ -صلي الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: لَا أَنْعَمَ اللهُ بِك عَيْنًا! أَنْتَ الّذِي فَعَلْت وَفَعَلْت. فقال: إنّ الإسلام محا ذلك. ونهى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عن سَبّهِ وَالتّعْرِيضِ لَهُ [3].
فقد أمر الله تعالى:
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف، 199)
كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، يعفو عما ارتكب بحقه جرما بلا تردد، أما إذا تعلق الأمر بعموم الناس، فلم يكن يهدأ له بال قبل أن يتخذ الحق والعدل مجراهما. فالعفو يتعلق بما يرتكب ضد الشخص نفسه. أما إذا كان الأمر يتعلق بالمجتمع، يتوجب في هذه الحال حماية حقوق المجتمع. لأنه إذا تم العفو عن ذنب بحق المجتمع، سيشجع هذا مزيداً من الظلم وينفتح الباب أمام مظالم أكبر.
كانت فضيلة العفو لوجه الله، الشعار الأكبر لسيدنا محمد-صلي الله عليه وسلم-، الذي أرسل رحمةً للعالمين. فقد عفا الرسول -صلي الله عليه وسلم- عن كثير ممن أساؤوا أِليه وظلموه، في مرحلة التبليغ، ودعا ربه من أجل هدايتهم. حين قصد الرسول -صلي الله عليه وسلم- مدينة الطائف ليبلغ أهلها الإسلام، رجمه هؤلاء الجهلة من عبدة الأوثان بالحجارة إلى أن غطته الدماء. حينها جاءه جبريل، عليه السلام، وقال له إنه ينتظر أوامره ليهلك هؤلاء القوم. فقال له رسول الرحمة، عليه الصلاة والسلام:
“لا.. أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً” (البخاري، بدء الخلق 7؛ مسلم، الجهاد 111)
إنها من بركات هذا العفو أن أهل الطائف تشرفوا، بعد حين، باعتناق الإسلام.
لقد تعرضت أمنا عائشة -رضي الله عنها-، وهي مثال العفة، لأكبر مظالم الدنيا وأثقلها، حين افترى عليها البعض افتراءً قبيحاً. وكان بين أولئك المفترين رجل فقير يدعى مسطح، كان أبو بكر-رضي الله عنه-، يقدم له مساعدات. استاء أبو بكر منه كثيراً، فالمفترى عليها هي ابنته نور عينه، وزوجة رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، وأم المؤمنين. أمام هذا الجحود الرهيب، أقسم أبو بكر على أنه لن يقدم له بعد اليوم أي مساعدة. وإذ انقطعت مساعدات أبي بكر، باتت عائلة مسطح في حال يرثى لها. عندئذ أنزل الله تعالى آيته الكريمة التي أمر فيها بوجوب أن يعفو الفضلاء حتى عمن أساء إليهم، قال تعالى:
﴿…ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم﴾ (النور، 22)
فقال أبو بكر-رضي الله عنه-: «وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي»
فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا. (مسلم، التوبة، 56)
الخلاصة أن صاحب العفو الحقيقي هو الله تعالى. ويستمتع المؤمنون بالعفو بمقدار ما في قلوبهم من محبة الله -عز وجل-. إن الذين يريدون تذوق متعة التقرب من الله تعالى، هم أولئك الذين يوزعون طيب العفو من الورود اللطيفة في حدائق قلوبهم. إن قدرة المؤمن على العفو عمن أساء إلى شخصه وظلمه، لوجه الله، هي النصر الحقيقي لروحه.
ويقول رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في وصية أخرى من وصاياه:
“أمرني ربي بتسعٍ…وآمر بالعُرف وقيل بالمعروف”[4] وأوصيكم بالمثل.
إن الأمر بالمعروف – وهو تجلي الرأفة والرحمة بالمخلوقات لوجه الخالق – والنهي عن المنكر، هما الخدمة الأكبر التي يمكن تقديمها للإنسان. ذلك أن أكبر حاجات الإنسان هي سلامة الإيمان. لذلك فإن دعوة الناس إلى الهدى هي واجب مقدس من الممكن وصفه بـالمهمة النبوية. قال الله تعالى في الآية الكريمة:
﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأعراف، 6)
لقد كرس رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، عمره لواجب التبليغ، وكرر في خطبة الوداع ثلاث مرات: «هل بلّغت؟» وحصل على الجواب من أمته بالإيجاب. إن هذا الواجب المقدس هي مسؤوليتنا أيضاً، نحن أمته.
وقد جاء في القرآن الكريم:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (فصلت، 33)
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران، 104)
وجاء في الحديث الشريف: “والله لأن يُهدى بك رجل واحد خيرٌ لك من حُمُرِ النعم” (البخاري، أصحاب النبي، 9؛ الجهاد،101)
ما أكبر سعادة القلوب المؤمنة التي تحظى بكل هذه المدائح والبشائر. وجاء في الحديث الشريف أيضاً:
“من دعا إلى هدىً، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ” (مسلم، العلم، 16)
إن مكافأة الجهود المخلصة من أجل تبليغ رسالة الحق والخير، تتضاعف مثل كرة الثلج. إذن تنبيه وهداية المحرومين من نعمة الإيمان، أو المؤمنين الذين يعيشون إيمانهم بمعايير سطحية وفظة بسبب غفلتهم وجهالتهم، هو أكبر خير نعمله من أجلهم، كما أنه ينالنا بفعله أجر عظيم، وهو أيضاً وفاء منا لما ندين به لنعمة الإيمان.
من ناحية أخرى، إن درجة سعينا في التبليغ هي بمثابة المقياس لسوية إيماننا كما جاء جاء في الحديث الشريف:
“من رأى منكم منكراً فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان” (مسلم، الإيمان 78)
لقد وردت تنبيهات شديدة بحق من يهملون واجب التبليغ. قال رسول الله-صلي الله عليه وسلم-:
“والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم” (الترمذي، الفتن 9)
بيد أنه يجب الانتباه إلى أصول التبليغ وآدابه، وإلا فمن المحتمل أن يتم اقتلاع العين بنية تكحيلها، أي إنتاج الضرر بدلاً من النفع. فمن أجل تبليغ الحق والحض على الخير، ينبغي أولاً معرفة الحق والخير بصورة صحيحة. فتبليغ الجاهل لا يمكن أن يبرأ من الأخطاء، لا في الأسلوب ولا في المحتوى. الشرط الأول، والحال هذه، لسواء السبيل هو رأس المال العلمي والروحي. فكما أنه لا يمكن تقديم الماء بكأس فارغة، كذلك لا نتوقع خيراً من تبليغ من حرم من العلم والعرفان.
أضف أنه من الخطأ أن يتنطح للتبليغ من كان قلبه مملوءاً بالأنانية وضروب الضعف المماثلة. إن أمثال هؤلاء يزيدون من الأضرار إذ يتنطحون للدعوة إلى الخير. يتطلب التبليغ، إذا أردنا له أن يكون مقبولاً، قلباً حساساً مترعاً ومليئاً بحكمة القرآن ووجهاً بشوشاً يعكس الوجه السمح للإسلام. كذلك يتطلب ممن يقوم بالتبليغ أن يصبح مثالاً حياً للحق والخير والفضيلة والإستقامة، وأن يحيا حياة تقتدى ويتحدث بلسان صميم يبث الرحمة حوله.
ينبغي أن يتم التبليغ بالكرم والإحسان وبتمثيل رقة شخصية الإسلام وظرفها. فالإنسان يغلبه الإحسان وتفتنه الشخصية السامية التي يراها.
من ناحية أخرى، على من يقوم بواجب التبليغ، ألا يحرم مخاطبه من الدعوة، مهما بلغت ذنوبه. عليه ألا ينبذ أحداً، ويفكر كم من الشجر والزهر تنشق عنه الصخور والأسوار، وألا ينسى رحابة رحمة الله التي لا يحدها حد.
لم يغلق رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، باب الدعوة حتى في وجه هبار بن أسود الذي أوقع ابنته زينب -رضي الله عنها-، من فوق الجمل وتسبب في موتها، ولا في وجه عكرمة ابن أبي جهل الذي عادى المسلمين كل أنواع العداء إلى حين فتح مكة، ولا في وجه وحشي الذي قتل عمه حمزة، ولا في وجه هند زوجة أبي سفيان التي عضت على كبدعَمِّه حمزة بحقد. يجب ألا يحرم أحد من التبليغ، حتى لو بلغ به الكفر مثل فرعون. لقد أمر الله تعالى نبيه موسى -عليه السلام-، بالذهاب إلى فرعون الذي ادعى الألوهية، وتبليغه بلسان معتدل. علينا أيضاً أن نتوجه إلى الآثمين الذين انسحقوا تحت عبء ذنوبهم وظنوا أنهم فقدوا كل أمل بالخلاص، فنلقنهم عظمة رحمة الله ورأفته. قال الله -عز وجل-:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ» (الزمر، 53-54).
كما ترون، ينبغي دعوة المجرمين الذين يختنقون في مستنقع آثامهم، إلى دار الأمل والرحمة في الإسلام، بكلام عذب وحكيم وبأسلوب الرحمة.
الخلاصة أن واجب المؤمن، فيما يَخُصُّ التبليغ، هو مواصلة الجهد، من غير يأس أو استرخاء أو كلل أو ملل، والتوكل على الله. ينبغي أيضاً أن نبتعد عن الأنانية والاكتفاء بالخلاص الشخصي مخافة التعب من بذل الجهد في سبيل بيان جمال الإسلام والحق والخير.
أراد الله تعالى أن يبين لنا الكثير من الحكم والحقائق بواسطة الكائنات الكثيرة التي خلقها. إن القدرة على قراءة عالم الأسرار والحكم هذا، هي فن اختص به القلب. الكائنات مدرسةٌ ممتازة بالنسبة لمن كان قلبه مهيئاً لتلقي الدروس والعبر. كان أصدقاء الحق من أمثال مولانا جلال الدين الرومي والشاعر المتصوف يونس أمرة، التلاميذ البارزين لمدرسة الكائنات هذه. لقد حصّلوا من هذا العالم الحكم والأسرار، ونثروا عطر الروح على القلوب الظمأى للمعرفة. لقد فتح لهم ربنا عالم الكائنات كالكتاب المفتوح.
كم من العبر والحكم يكشف الله تعالى في كل كائن أمام العين التي ترى والقلب الذي يحس. ومن طريقها يلفت انتباهنا بصورة خاصة إلى حكمة الغيرية. لنضرب مثلاً بالنحلة التي لا يتجاوز عمرها خمسة وأربعين يوماً. فهي تصنع العسل لتلبية حاجتها الخاصة، لكنها تنتج منه كمية تكفي لغذاء مئة نحلة. وهكذا نرى أن الغاية الحقيقية من حياتها هي خدمة الآخرين.
لنفكر أيضاً كيف أن ثمرة شجرة الخوخ هي، في الوقت نفسه، بذرتها والغاية منها تناسلها. لكن بذرة واحدة كافية لبزوغ شجرة خوخ، ومع ذلك فهي تنتج من الثمار الكثير لكي يستفيد الآخرون من هذه النعمة. هذه أمثلة على ما يكشفه الله تعالى في المخلوقات من الغيرية.
يعطينا الله تعالى في شجرة الدلب مثالاً آخر على الحياة الدنيا. هذه الشجرة الكبيرة والمهيبة، تسقط أوراقها مع حلول الشتاء، فتهتف بلسان حالها أن الموت حق، هتافاً بلا صوت أو كلام. وبأوراقها التي تخضر في الربيع، كأنما تعطينا مثلاً على الانبعاث بعد الموت. وبرغم كل هيبتها، ليست لشجرة الدلب ثمار.
بل إنها لا تصلح للاستخدام خشباً. يمكنها فقط أن تصبح حطباً للنار. أي أن منفعتها هي في الحدود الدنيا. وكأن لسان حال هذه الشجرة يقول لنا: «فلتدركوا بأنكم فانين، ولا تكونوا بلا ثمرة مثلي».
على المزايا التي نملكها أن تكون منافعها في الحدود القصوى، كما هي حال شجرة الزيتون مثلاً. هذه الشجرة ذات الجذع الرفيع، تبدأ بإعطاء ثمارها بمضي عام على زراعتها، وتواصل هذه الخدمة طيلة عمرها. ويقول لسان حال وردة لنا: «أنا، بلوني وعطري، في حال ابتسام دائم لأنني أتحمل الأشواك. فاقتدوا بي وكونوا مثلي».
إن ثراءً في منأى عن الكرم والغيرية، وصحةً أو مقاماً أو علماً لم يفِ صاحبها بدينه من الحمد والإمتنان، صحيح أنها جميعاً وسائل هيبة، لكنها من نوع «هيبة شجرة دلب عجفاء». المهم بالنسبة للمؤمنين هو أن يكونوا كالأشجار المثمرة، وأن يكونوا في سعي لا يكل من أجل زيادة الثمار.
على المرء أن يحاسب نفسه في إطار هذا التفكير وهذا الإحساس: «إلى أي درجة أفكر بنفسي، وإلى أي درجة أفكر بمن حولي من المحتاجين؟ كم أقدم من التضحيات؟ ما الذي تعنيه لي نحلة أو وردة أو شجرة خوخ أو شجرة زيتون؟»
بما أن الإنسان له من الكرامة أكثر مما للنحلة أو الشجرة، عليه، إذن، أن يسعى ليكون نافعاً للآخرين بأكثر من حاجاته أضعافاً مضاعفة. أي أن ما يليق بالإنسان الذي يحتل أعلى المراتب شرفاً بين الكائنات، هو أن يخدم نفسه مرة، وغيره ألف مرة. تقول الآية الكريمة:
﴿…وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة، 219)
جعلنا الله وإيّاكم جميعاً من عباده الذين يعرفون قدر كل النعم وقيمتها، ويمضون أعمارهم بالصورة الأكثر عطاءً، في أعمال تبتغي رضى الله تعالى وألحقنا الله تعالى بزمرة المؤمنين الصالحين الذين يستفيد الناس من أيديهم وألسنتهم وحالاتهم وأخلاقهم. لتتفق نياتنا وأفكارنا ومشاعرنا وأعمالنا مع رضى الله تعالى. آمين…
[1] انظر: الجزري، جامع الأصول، 11، ص 786، 7139.
[2] انظر: ابن هشام، جـ 4، 32؛ الواقدي، جـ 2، 835؛ ابن سعد،
جـ2، 142-143.
[3] الواقدي، المغازي، جـ2، ص 857-858.
[4] انظر: الجزري، جامع الأصول، 11، ص 786، 7139.