أمام دنيا الإمتحان هذه التي تتطلب منا أن نكون في صحوة جدية، نجد مع الأسف أن معظم الناس هم في غفلة نائمون. ولكن هذه الجهالة والضلالة والغفلة تجرهم إلى عاقبة من الحزن والهجران. وأصبحت الدنيا بالنسبة إليهم مكاناً للخيانة.
إن أسباب الإبتعاد عن الإيمان في هذه الدنيا الفانية التي تنتهي دائماً بالسّوءِ سواءً كانت إيجابية أو سلبية في القبر هي: عدم التفكر، الجهل، الغفلة، الشهوة، الغرق في نعم الدنيا، تقليد الغافلين، الذهنية المادية البحتة، قلة الأخلاق، وبالنتيجة إرضاخ القلب لمآرب النفس.
والتاريخ الإنساني يشهد على آيات العذاب الإلهي الذي لطالما أصاب كل جاحد ابتعد عن طريق الإيمان والأخلاق. إن أقوام نوح وعاد وثمود كانوا أُناساً متكبرين؛ وفرعون الذي جادل الأنبياء وادعى الألوهية وغرق في النهاية في اليم؛ ونمرود الذي غلب من قبل الذبابة؛ وقوم لوط الذين كانوا بمعيشتهم أدنى أخلاقية من الحيوان؛ وأمثالهم على مر التاريخ ممن ظلم وعصى، فإنهم جميعاً قد هجروا هذه الدنيا وتركوها.
يقول الله تعالى:
﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلـكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (التوبة، 70)
إن تاريخ الظلم والعصيان والكفر والتمييز هو تاريخ مليء بأمثلة مدهشة من أنواع الإنتقام الإلهي. فكل من عصى وعارض الطريق الذي أشار إليه الله وأنبياؤُهُ لا بد وأن يلاقي عاجلاً أم آجلاً عذاب القدرة الإلهية الأليم وأن تتجلى أمامه العظمة الإلهية. فهذا هو القانون الإلهي الذي لا بد منه ولا يتغير أبداً.
واللَّه تعالى يرسل أنبياءه إكراماً للإنسانية وشفاءً لها مما يصيب المجتمع من جروح تحدثها الرغبات النفسانية. لكن من يغتر بزيف هذه الدنيا، ومن يبتعد عن النور الذي يفتحه الأنبياء، هم كل من أصبح كالدمار المرعب من سوء الطالع، ممن حول مجتمعه إلى سفينة محطمة، وهم من ناله الخسران معتقداً بالسعادة في سفالته، ومن قلد الحيوان في حياته غير مدرك لأسرار وحكم البعث، وبالتالي، هم من حق عليه الغضب الإلهي وهلك.
يقول القرآن الكريم:
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾ (مريم، 98)
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي اْلأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا اْلأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (الروم، 9)
تدعو الآية الكريمة إلى التفكر وأخذ العبر من النظر إلى آثار الأقوام السابقة مثل عاد وثمود الذين استخرجوا الماء والمعدن، وزرعوا الأرض وحرثوها، وأنشَؤا المدن وعمروها، ومن ثم تحولوا إلى منكرين لله فعاقبهم الله بغضب وسخط من عنده.
*
إن شعور «الجوع» عند الإنسان إنما هو شعور الجسد بحاجته للمواد الحياتية. وكذلك الأمر، إن توجه الناس إلى الله في أوقات الشدة، إنما ينبع من حالة الروح. عندما ألقى نمرودُ إبراهيمَ في النارِ ووجد أنها لا تحرقه قال:
«إنني لا أتنازل عن ألوهيتي، ولكني سأذبح أربعةَ آلاف ثور لربك!». وكذلك الأمر، عندما أدرك فرعون بأنه هالك في اليم قال: «آمنت بما آمنَتْ به بنو إسرائيل!».
وفي هذين المثالين نجد أن كلا القولين لا أهمية له. لأن ساعة الخطر بالنسبة للغافلين، وحلول الموت لأولئك المنكرين، وعودة الكافرين إلى عالمهم الداخلي وأنفسهم في الأوقات الموحشة التي بقوا فيها دون حماية أو مواساة، هو أمر موجود في الفطرة الإنسانية يقتضيه واقعها. كم هو تخبط وانتهاء محزن نهاية من قضى حياته متمرغاً في الكفر والغفلة. وليس قول ملائكة الموت في تلك اللحظة: «أين كنت سابقاً؟» إلا علامات البداية لذلك الطريق الطويل من العذاب الأليم.
إن الموت هو إعلان لانتهاء كافة الملذات في الدنيا، ولكنه في الوقت نفسه انتهاء لكافة أنواع البيع والشراء الفانية.
لهذا، فإن الصالحين والعارفين يقتربون من الحقيقة عبر استنفاذ أنفاسهم في الحياة ذكراً وتسبيحاً. ويفلتون من الحياة الدنيا عبر إنارة أجسادهم بترويضها بشكل مستمر وداشم على الموت. وهم بذلك يسعون إلى أنواع مختلفة من التجلي في الوقت الذي يكون فيه الناس بين نائم أو في أماكن مختلفة أخرى.
وإن كان لا بد من الخوف أو الهرب من الموت، فإنه يجب علينا كلما اقترب الليل أن ترتجف أطرافنا جزعاً وخوفاً. علماً أن غوصنا في أسرار الليل لا يذهب ذلك الخوف. لأن ظهور الصباح ليس إلا جزء من القاعدة الكونية في النظام الإلهي. إذن، يجب علينا أيضاً أن نشاهد بشكل طبيعي ظهور صباح الحقيقة من أحضان الموت. يقول الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيوةُ الدُّنْيَا و َلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ (فاطر، 5)
وللحصول على الدنيا التي لا آخرة فيها، يجب علينا أن لا ننغمس حتى آخر رمق في حياتنا بزينة الدنيا ولذائذها الفانية. وكم هو حزين نهاية من يتعب نفسه بهذه الطريقة! أما الإسلام، فإنه يدعو الناس للنظر إلى الكون بعين الحكمة، ويطالبهم بالحياة ضمن أطر الإستقامة والإحساس. يقول الله تعالى:
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ (المؤمنون، 115-116)
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (العنكبوت، 2-4)
إن دين الإسلام ينظم حياة الإنسان منذ ولادته وصولاً إلى القبر، ويحضره لاكتشاف أسرار دنيا الآخرة والحقيقة الغيبية. وكم هو خسران أن يعيش المرء حياته في غفلة بدون غاية أو هدف دون أن يدرك الصلة بين الولادة والموت، ودون أن يستشعر الحكمة والعبرة من موقعه في هذه الحياة ووظيفته فيها والطريق التي سيسلكها وصولاً إلى القبر!. أليست هذه الحالة هي الضياع في خنادق الموت مخلفين جبالاً من الذكريات المحزنة؟…
عند نفاد القوة البشرية لدى الأنبياء تصلهم النصرة الإلهية ويتحقق عندها انتقام الله القهار على الكافرين. لقد نفد صبر نوح بعد 950 سنة، فكان كما تقول الآية الكريمة:
﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ (القمر، 10)
إن أكثر ما يخاف منه في الدنيا وتعتبر من الحوادث التي تشكل تهديداً إلهياً هي كل ما يعبر عن الغضب الإلهي كالطوفانات، والعواصف، والزلازل والشح وغيوم العذاب المليئة بالبرق، واحتلال الأعداء، والأمراض السارية. إن هذه الأحداث التي تعتبر بأنها من «الكوارث الطبيعية» لا يمكن لها أن تكون عادية المسار وإنما هي مرتبطة بالعديد من الأسباب والحكم. فهذا النوع من الحوادث المؤلمة لا يأتي إلا بسبب معاصي وسيئات الناس. وهو ما يؤدي إلى دخول كوارث النظام الإلهي إلى حيز التنفيذ.
إن الله تعالى –وحاشا لله أن يكون- ليس بظالم. أما هذه الكوارث، فإن هي إلا نتيجة طبيعية يستحقها الإنسان عندما يعلن عصيانه، ويتحدى بأفعاله قدرة الله ونظامه الإلهي، وأسسه المقدسة. فعندها لا بد له من التعرف على ممارسات الإنتقام الإلهي المؤلمة.
إن القرآن الكريم يبين لنا أنَّه ما من ورقة شجرةٍ في هذه الدنيا تسقط على الأرض إلا بإذن الله تعالى. وبعكس ذلك لكان الكون في فوضى فيزيائية. علماً أن ما من حادثة فيزيائية إلا وتضم في أحشائها ألف نوع من الأسرار. وهذه الأسرار لا تتضح إلا للأنبياء وأهل القلوب الصافية.
ويحتوي القرآن الكريم العديد من الآيات الكريمة التي تتحدث عن هلاك الأمم الأولى وأسباب وحكمة هذا الهلاك. إن رب العالمين هو جَلَّ وعلا منزه عن الظلم، ولا يظلم عباده أبداً. إن الظلم هو صفة من صفات البشر وحدهم. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلـكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (يونس، 44)
إن الله تعالى برحمته التي لا حدود لها، وحلمه وصبره، يقبض بقوة على الناس عندما تصل مظالمهم إلى الحد الأقصى ويجعل منهم عبرة للعالمين:
﴿…إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌٌ﴾ (هود، 102)
بل إنه ليقبض عليهم ويهلكهم بطريقة لا يمكن فيها لمن يلقى هذا العذاب أن يصلح حاله أبداً. وتتحدث الآية القرآنية الكريمة عن هذه الحقيقة فتقول:
﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ (الأنبياء، 95)
﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾
(يس، 31)
إن القرآن الكريم عندما يتحدث عن قصص هلاك الأقوام السابقة، فهو يقف أيضاً عند ذكر أسباب ذلك، ويدعو من تبعهم إلى أخذ العبرة من هذه القصص. ويأتي في مقدمة هذه الأسباب الجحود أمام نعم الله تعالى، الفساد عند الحصول على النعم الوافرة عوضاً عن الشكر، والظلم وما شابهها من الخطايا. وفي هذا السياق تقول الآية الكريمة:
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص، 58)
﴿…وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ (القصص، 59)
﴿فَكَأَيِّنْ مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ (الحج، 45)
ويخبر الله تعالى أن كل المصائب التي يتعرض لها الناس دنيوية كانت أم أخروية، إن هي إلا نتيجة لما كسبت أيدي الناس أنفسهم، فيقول جَلَّ وعلا:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم، 41)
وكما نفهم من هذه الآية الكريمة، إن كل ما يظهر في هذه الدنيا، سواء أكان من أمور الطبيعة أو من الأمور الإجتماعية، من فوضى وتبعثر وخراب، إن هو إلا بما كسبت أيدي الناس. فكل هذه الأمور لا تحصل إلا من خلال الفرط في الشرك، وسوء الأخلاق، والظلم، واتباع الأهواء النفسية. فيكون هذا الأمر كما لو أنه دعوة من الله تعالى للعودة إلى الفطرة الدينية والطريق الصحيح والثابت، وفي نفس الوقت عقاباً له في هذه الحياة الدنيا على ما يقومون به من سيئات. وإن لم يتوبوا ويعودوا إلى الصِراط المستقيم، فإن كفاية ودوام هذا العذاب سيأتيهم يوم القيامة، حيث سينالون العذاب الحقيقي الأساسي. وتبين لنا آية قرآنية أخرى هذه المعاني فتقول:
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾(الشورى، 30)
علماً أن الله تعالى يؤخر عقابه لعباده على ما يقترفونه من ذنوب في هذه الدنيا إلى الحياة الآخرة، حيث يقول الله في القرآن الكريم:
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهِ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ…﴾ (النحل، 61)
إن هذه المصائب التي تأتي نتيجة ما يقترفه العباد من سيئات، إن هي في كيفيتها إلا نوع من أنواع الإنذار الإلهي لهم.
إلا أن قانون الله تعالى مع المؤمنين المخلصين هو مختلف قليلاً عن هذا. لأن ما يتعرض له المؤمن من مصيبة أو أزمات، إن هو إلا إظهار لنقص في عبادتهم، أو كفارة لأخطائهم وسيئاتهم. ولهذا، نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
“ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حَزَن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه” (البخاري، كتاب المرضى، 1،3؛ مسلم، البر، 49)
إن ما يصيب العبد الذي يعمل ويسعى لمرضاة الله تعالى من مِحَن، ليس مجرد كفارة لما ارتكبه من سيئات، بل هو أيضاً وسيلة يرفع الله بها مقام هذا العبد عنده. ويخبرنا الله سبحانه وتعالى عن أسباب تكراره لقصص الأقوام السابقة وهلاكم بأنه إيقاظ للناس وتحذير لهم وعبرة إلى يوم القيامة فيقول جَلَّ وعلا:
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا اْلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الأحقاف، 27)
﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر، 15)
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق، 36-37)
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي اْلأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى اْلأَبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾ (الحج، 46)
ولكون القلب هو المكان المركزي التي تلتقي فيه الصفات الأخلاقية والذهنية مع مختلف أنواع الأحاسيس، فإن الآية القرآنية الكريمة تشير إلى القلوب التي هي عادة ما يسبب عنادهم وإصرارهم على الصد عن سماع الحقيقة وابتعادهم عن التصرف بعقلانية.
إن الله تعالى هو صاحب القدرة القاهرة التي حولت نار نَمْرود إلى حديقة للورد أمام إيمان إبراهيم ، وهي التي قلبت سلطنة فرعون أمام عصى موسى ، وهي التي حولت ضفاف الكعبة مقبرة لجيش أبرهة من الفيلة والجند عبر جيش من طير أبابيل الصغيرة، وهي التي قلبت مصير غيرهم من الأقوام الظالمة الكثيرة، وهي أيضاً تلك القدرة الإلهية التي فتحت أفق النصر لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأيدته بجند لا تراها الناس من «ملائكة، وريح، وخوف».
وتحمل الأماكن التي جرى أمر الله فيها آثار تلك الكوارث إلى يوم القيامة. أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في سيره عندما مر بوادي مُحَسِّر بين منى ومزدلفة لهلاك ابرهة في هذا الوادي[1]
ولهذا، فإنه لا يجوز الوقوف في هذا المكان أثناء تأدية مناسك الحج.
كذلك الأمر، وأثناء غزوة تبوك، وعندما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحابته الكرام من المكان الذي هلك فيه قوم ثمود، قال:
“لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ” ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ (البخاري، الأنبياء، 71، 3380)
عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْضَ ثَمُودَ، الحِجْرَ، فَاسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَاعْتَجَنُوا بِهِ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الإِبِلَ العَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ البِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ» (البخاري، الأنبياء، 17)
إن من الواجب علينا عدم التواجد في تلك الاماكن التي تجلى فيها الغضب الإلهي من الأماكن التي حملت بالعصيان والخطايا، ويستمر فيها ولو بشكل معنوي ذلك الغضب الإلهي، أو السير فيها بسرعة وذلك خوفاً من أن نتعرض لتأثير ذلك الغضب.
أما الكعبة وقبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء والمساجد والأماكن التي تواجد فيها الصالحون والصادقون فإنها أماكن تجلت فيها أنوار الفيض والرضى. ولهذا، فإن هذه الأماكن هي أماكن تتساقط فيها أمطار الرحمة المباركة والفوز إلى أفئدتنا وقلوبنا.
ولقد بدأ ذلك منذ عهد آدم، أرسل الأنبياء وأنزلت الكتب بين الفترة والأخرى، هداية للناس مما غرقوا فيه من ظلام الكفر وقلة الأخلاق. وهذا بحد ذاته رحمة كبيرة من الله وإكرام منه لعباده.
وختاماً أتى نبينا المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ومرشداً أبدياً للإنسانية. وعبر هذه المرحلة، سلك النورُ الذي أُنْزل إلى البادية طريقه نحو الأبدية.
*
إن الدين الإسلامي يدعو الإنسانية إلى الجدية، ويذكر الناس بأنهم سيقفون أمام حضرة الله تعالى غداً بقدمون إليه الحساب عن حياتهم التي عاشوها. ولهذا السبب، يجب على المؤمن أن يبتعد عن الأعمال الفارغة، وعن النميمة والأسئلة الغير ضرورية وكل عمل يقلل من كرامته وشرفه الأخلاقي والديني. وأن يقف بعيداً عن الجاهلين فلا يجري نحو المغامرات التي لا داعي لها. وأن يبتعد عن التفاهة والخرافات والشهوانية والتيه. كما لا يجب عليه أن يمشي في أزقة الفلسفات المنحرفة المسدودة النهاية.
إن معيشة الحياة الدنيا التي تمضي بسرعة كما تمضي غيوم الصيف، بعيداً عن التفكر في الحياة الآخرة، هو أمر تافه كمن يعيش نهاره متناسياً حلول الليل. يقول مولانا قدسه الله سره:
«لا تنظر إلى الإفراط في تنمية الجلد! فهو في النهاية قربان سيلقى في التراب. بل أنظر إلى فؤادك تملؤه بينابيع الفوز. فهو الذي سيسمو ويشرف.
أعط جسدك القليل من الدهن والعسل. لأن من يغذي جسده كثيراً ينهزم أمام رغباته النفسية ويذهب في النهاية سيء السمعة والخاتمة.
أعط روحك غذاءً معنوياً. وقدم إليها تفكيراً ناضجاً، وفهماً رقيقاً، وغذاءً روحياً، لتذهب إلى حيث ستذهب قوية شديدة!.»
أسأل المولى لنا جميعاً، أن يحفظنا من الإنجرار نحو العواقب المحزنة، وأن يمن علينا دخول «جنات النعيم»!
آمين!…
[1] أنظر: مسلم، الحج، 147؛ النووي، شرح المسلم، 8، 190؛ علي القاري، مرقاة المفاتيح، 5، 1774-1775