مقالات من كتبه

نتيجة التفكر

التفكر هو مفتاح الحقيقة والنجاة

إن الوصول إلى الحقيقة يكون ممكناً فقط بالتفكر والإستدلال. فالشخص الذي يتصرف مثل الأعمى والأصم تجاه رؤية وسمع الأدلة أي نقوش القدرة وتجليات العظمة كيف يستطيع أن يجد الصواب ويعرفه؟ ولهذا السبب قيل: «إذا كانت المعارف لا توقظ المشاعر والأحاسيس فليست بمعارف ولا بعلوم».

وقد تحدث الحق -عز وجل- في كتابه الكريم عن موقف الكافرين الذين لا يجدون الحقيقة فقال:

﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ (النمل، 80)

والإنسان الذي يعتقد أنه سلم من آفات الوهم والخيال والهوى لو سعى لكي يأخذ نصيبه من النسيج الوجداني لسيدنا محمد -صلي الله عليه وسلم- بعقل تَربَّى بالوحي فإنه سيصل إلى الحق والخير. ولو فكر بما يليق في معجزاته وأخلاقه وسيرته-صلي الله عليه وسلم- لأدرك أنه نبي صادق بحق، ولأدرك أن ما دعا إليه هو الحق الكامل. وتكون نتيجة هذا التفكر أن ينجو ويتخلص – بإذن الله تعالى – من رغباته الشهوانية ومن دهاليز العقل المسدودة. وقد أخبرنا الحق جل ثناؤه عن حال أصحاب الندامة وعن الحسرة والندامة التي لا تفارقهم في النار فقال:

﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ (فاطر،37)

ويمكن القول أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى الحقيقة والفلاح الأبدي بطريقين:

  1. أمّا أن يجد المؤمنين ويسلم نفسه لهم، ويطيع الله تعالى معهم داخل دائرة روحانيتهم وفيضهم.
  2. أو يستعمل إمكانات التفكر والتدبر التي وهبها الله تعالى له على هدي القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأن يحني ويُخضعَ نفسه وقلبه وعقله لهما.

فالإنسان إذا لم يطع أهل الحقيقة، وإذا انحرف عن الطريق الذي يوضحه العقل الذي يفكر بإنصاف وعدل فمن المؤكد أن نهايته ستكون عذاباً مريراً.

التفكر الحقيقي هو إثبات “واجب الوجود” (وجود الله تعالى)

كما أوضحنا فيما سبق فإنه ليس في مقدور الإنسان إدراك ذات الله -عز وجل-؛ لأن طريق العلم البشري يتمثل في الحواس الخمس والعقل والقلب. وقدرة هذه الإمكانات كلها محدودة، ولا يمكن عن طريق واسطة محدودة الإحاطة بوجود مطلق أزلي أبدي. وهذا الإدراك الذي يتم بواسطة محدودة يكون محدوداً.

ولهذا فإن الإنشغال بالأعمال التي تتجاوز الطاقة البشرية كالتفكر في ذات الله تعالى، والسعي إلى حل كنه أسرار القدرة وحكمتها يعد أمرًا محرمّاً في الكتاب والسنة. فإذا كان عدم التفكر في الحقائق الإلهية سبباً لمصيبة معينة، فإن جهل الإنسان بحدوده، وانشغاله بأمور تفوق قدرته وإمكاناته هو مصيبة أكبر تؤدي به إلى خسران كبير.

ولهذا السبب فإن رسول الله قال: “تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللهِ -يَعْنِي عَظَمَتَهُ- وَلَا تتَفَكَّرُوا فِي اللهِ” (البيهقي شعب الإيمان، جـ 1، 136؛ الديلمي، حـ 11، 56)

ويقول الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي:

«كل ما خطر ببالك فالله غير ذلك»؛ لأن إحدى الحقائق التي يعلمها الإسلام لنا هي أنَّ من صفات ذات الله تعالى «مخالفة للحوادث» أي لا تشبه أي شيء مخلوق. ولهذا السبب فإننا عندما نصف إنساناً ببعض الصفات الخاصة بالله تعالى كأن نقول عنه أنه عالم وعادل فهذا لا يعد من قبيل الشرك؛ لأننا نعتقد ونؤمن أن صفة الله -عز وجل- مخالفة للحوادث.

ومع أننا لا نملك الإمكانات التي تحيط وتدرك حقيقة ذات الله -عز وجل-، فإنه من الممكن أن نستدل قلباً وعقلاً على وجوده ووحدانيته من خلال تجليات صفاته في الكائنات والأحداث. وهذا هو الشيء الوحيد الممكن بالنسبة للإنسان المحدود القدرة والإمكانات مثل جميع المخلوقات. وهذا بالقطع يكفي في حق الله تعالى بالنسبة للمؤمن. ولهذا السبب فإن علماء الإسلام كانوا يقولون: «ذروة العلم وأفضله: معرفة الله تعالى».

والإنسان حقيقة هو صاحب إدراك يتجه فقط من الصفة إلى الموصوف، ومن الأثر إلى المؤثر، ومن الصنعة إلى الصانع. والإنسان عندما ينظر إلى نعم الله تعالى التي أنعم الله بها على مخلوقاته كلها يستطيع بهذة الطريقة أن يفهم -على قدر استعداده وإمكانته- عظمة الله تعالى وقدرته ورحمته. أي أن كل شخص يستطيع أن يأخذ من ماء بحر معرفة الله تعالى على قدر حجم قلبه فقط.

يقول مولانا جلال الدين القُونَويّ:

«ذات يوم تثور رغبة فيك تقول: يلزم أن أرى نور الله تعالى في البشر. فهل تدرك أن ذلك يعني أنك تريد أن ترى البحر في قطرةٍ أو الشمس في ذرة!»

فلو أن الإنسان نظر إلى صفات الحق -عز وجل- وأفعاله وآثاره بتدبر وتفكر حقيقي وإدراك سليم فلن يفكر أبداً أن يكون من المنكرين. لأن الإنكار يبدأ في المكان الذي تفسد فيه الأحاسيس القلبية، والفعليات الذهنية والفكرية.

أي أنه ليس من الممكن أن ينجر شخص عدل ذهنه وقلبه على الفطرة إلى الكفر، حتى لو فتح هذا الشخص عيناه في عالم الكفر فإن احتمال أن ينجو من الكفر يكون مرتفعًا للغاية.

مثال ذلك سيدنا إبراهيم -عليه السلام- الذي ولد في بيئة مشركة ونشأ فيها إلا أن فطرته القلبية والعقلية الخالصة السوية جعلته يصل إلى توحيد الله تعالى ويتعرف على وجوده سبحانه كما فصلت ذلك الأمر الآيات الكريمة في القرآن الكريم.

وعلى هذا النحو فإن الإنكار المطلق لا يجوز في حق شخص يفكر بشكل سوي. لأن تسمية شيئٍ ما بـ«الفناء»هو هراء محض ويجب إثبات هذا القول بالأدلة والإثباتات الصحيحة المقنعة.

ومن لا يستطيعون حل كنه الحياة والكون وما بعد الموت لماذا يستدلون ويثبتون رأيهم بكلمة «الفناء» فقط؟! وهذا الوضع يشبه موقف الأشخاص الذين تشعر معدتهم بالجوع لكنهم لا يلاحظون هذا بسبب فساد صحة أجسامهم. وجوعهم في هذه الحال لا يشبه جوعنا، بل هو دليل وإثبات على مرضهم. كما أن الشخص المصاب بالشلل وفقدان الشعور في جهازه العصبي لا يشعر بالمسمار الذي ينغرس في جسده أو السكين الذي يقطع أعضاءه. والأشخاص الذين عميت أرواحهم عن رؤية هذا النور، ولم يلاحظوا تلك الحقائق العليا يكون حالهم مثلما وصفهم الحق -عز وجل- بقوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ…» (البقرة، 18)

لأن الله تعالى قد غرس في فطرة كل إنسان الحاجة للإيمان والبحث عن الحقيقة والقدرة على الوصول إليها. ومن أجل ذلك فإن الانقطاع والشرود عن الإيمان والحقيقة يكون فقط بسبب عمى روحه وانسداد قلبه. ومع أن روح الشخص غير المؤمن تكون إما في حال استعداد لإدراك الله تعالى، أو في حال إدراك له إلا أنه لا يستطيع أن يستفيد من هذا الشعور بسبب عماه وصممه الروحي. وهذه الحال تشبه تمامًا الرؤى التي نراها ولا نتذكرها.

وبعبارة أخرى فإن ميل روح الإنسان إلى الإيمان هو شيء فطري. وهذا الميل يظهر لدينا كحاجة لا يمكن الإستغناء عنها مثل حاجتنا للطعام عندما نشعر بالجوع. فأي طفل يرى والده يؤدي الصلاة لا يسأل أسئلة تدور حول كيفية أداء الصلاة، بل يبادر بأداء الصلاة والتعبير عنها بشكل حركي مشخص، وذلك لأنه لم يستطع أن يدرك عظمة الله تعالى وقدره وقُدْرتَه بشكل مجرد.

ويكون داخله شغف دائم فيريد أن يسأل عن مدى عظمة الله تعالى وقدره؟ وإلى أين نذهب بعد الموت؟ وكيف تكون الجنة والنار؟. وذلك لأن المشاعر الإيمانية في فطرة الإنسان تكون مكنوزة مخزونة. وعندما يعلو هذا الإستعداد المكنوز فوق الشعور يصير الإنسان مؤمناً. أما إذا ما حُبس هذا الشعور تحت الشعور صار الإنسان كافراً، تماماً مثل طائر محبوس في قفص لو تحرر من القفص بعد حياة الحبس الطويلة تلك لما استطاع أن يطير؛ لأن جناحه قد تكلس وتيبس. مثل هذا تماماً حس الإيمان عندما لا يعلو على الشعور فتعمى قابلية الإيمان لدى الإنسان.

وعلى هذا فيجب علينا أن نعرف الله تعالى على قدر استطاعتنا واستعدادنا. فالله الذي أوجدنا من العدم – سبحانه – يجب علينا بشكل حتمي وضروري أن ندرك على نحو صحيح صفاته -عز وجل- وأفعاله، وذلك من أجل أن نصل إلى معرفته حق المعرفة.

فالله تعالى صاحب الحكمة في كل شيء عندما أرسل رسوله -صلي الله عليه وسلم- ليبلغ دينه للمشركين لو كان أول ما نزل من القرآن على رسوله: «اقرأ باسم ربك الذي لا شريك له ولا نظير ولا مثيل» لجلب هذا معه اعتراضاً مؤكداً، ولقلت احتمالات أن تتشرف مدارك المشركين بالإيمان. ولكن الله -عز وجل- قد بدأ بصفة «الخالق» حتى لا يستطيع أحد من المشركين أن يعترض لذا قال تعالى: ﴿اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق، 1)

فهؤلاء المشركون الذين كانوا يعلمون أن الأصنام لا تستطيع أن تخلق شيئًا قد فهموا من تلقاء أنفسهم أن الله هو الإله الحق، وأنه وحده هو المستحق للمدح والثناء.

وفي ذلك يقول البيضاوي في تفسيره:

«وقد عدد سبحانه وتعالى مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهاراً لما أنعم عليه، من أن نقله من أخس المراتب إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته، وأشار أولاً إلى ما يدل على معرفته عقلاً ثم نبه على ما يدل عليها سمعاً» (البيضاوي، التفسير، سورة العلق، 5)

والحاصل أن الحق -عز وجل- قد جعل التفكر فيما خلق وسيلة لدخول المشركين في الإسلام وتشرفهم بالإيمان. وجعل تفكر المؤمنين في هذا الأمر وسيلة لتقوية إيمانهم وزيادة القرب منه -عز وجل-.

كل شيء يتحرك ويتغير

لو فكرنا وتأملنا لوجدنا أن كل شيء في هذا العالم الذي نراه يتغير ويتبدل من صورة لأخرى، فالنطفة تصير علقة، والعلقة تتغير إلى مضغة، والمضغة تتحول إلى عظام ولحم. وهذا النوع من التحولات يكون في كل شيء في النجوم والكواكب والمعادن والنباتات أي في كل شيء.

وداخل الذرة توجد حركة منتظمة. فالألكترونات تدور بسرعة لا يمكن لعقل أن يتخيلها. أما البروتونات والنيترونات فإن سُرْعتها عندما تتزاحم وتنضغط في حيز صغير للغاية فإن سرعتها ترتفع إلى أرقام غير طبيعة مقارنة بالألكترونات. فمثلا تسير بسرعة تتجاور 60 ألف كم تقريبا في الثانية. وهذه السرعة المرتفعة تكون السبب في رؤيتها كأنها «قطرات سائل تغلي وتفور وتثور» بشكل لا يصدقه عقل.

قد عبر الشاعر التركي شِنَاسي عن أن ذرة واحدة تكفي في الإنتقال من الأثر إلى المؤثر فقال:

يا إلهي ما الحاجة للكون لمعرفة وجودك

يكفي ذرة واحدة خلقتها لإثبات وجودك

ولو فكرنا أن مساحة 1مم2 والتي تعادل رأس ابرة تقريباً تتكون من 100 تريليون ذرة لأدركنا أحسن إدراك كيف هو أثر القدرة في حركة الكون.

وهكذا فإن كل هذه الحركات والتغيرات تحتاج إلى مؤثر حقيقي لإحداث هذا الأمر. وهذا المؤثر هو الله تعالى الخالق المتعالي؛ لأن ظهور وحدوث تلك الأحوال الخارقة للعادة -والتي تُصبُ العقل بالدهشة والحيرة- دون مؤثر ما أو فاعل غير عاقل ليس ممكنًا بالقطع.

 كل شيء مخلوق لغاية

إن كل شيء في ذلك العالم يظهر بوضوح أنه مخلوق لحكمة وغاية وفائدة معينة. ومثلما قلنا قبل ذلك:إن ضوء الشمس والقمر يفيد المخلوقات كلها التي على ظهر الأرض ويجلب لها الخير والنماء. ومع دوران الأرض والقمر حول الشمس تظهر الأوقات. فمع دوران الأرض تظهر المواسم والسنون والأيام والليالي. ومع دوران القمر تظهر الشهور.

والهواء الذي نتنفسه دائمًا ينظف ويطهر الدم الذي يذهب إلى الرئتين. والهواء وفير وسهل الحصول عليه إلى أقصى درجة؛ وذلك لأن أجسامنا تحتاج إليه أكثر من أي شيء.

والرياح تحمل السحاب وتسوقه إلى المكان الذي يحتاج الماء. أيضًا فإنها تنظف الهواء وتضبط الحرارة وتلقح النباتات. وعلى نفس الشاكلة فوائد البحار التي لا يحصرها العد.

وكل هذه الأشياء وغيرها الكثير التي لا يمكن أن نحصرها ونعدها هنا من المعلوم أهميتها في حياة الإنسان. لذا فعلى أي إنسان أن ينظر إلى هذه الأشياء والأمور بنظرة اعتبار ويفكر فيها حتى يصل إلى نتيجة مفادها أن جميع المخلوقات كلها قد خُلقت لحكمة كبيرة وغايةٍ عظيمةٍ.

أما العقل الذي يعُد كل هذه الأمور من قبيل الصدفة فقد حاد عن الإنصاف وجاوز الإدراك؛ لأن هذه الأشياء هي آثار صانع صاحب علم وحكمة وقدرة وعظمة؛ ذالكم الله ربُّ العالمين.

آثار مختلفة تظهر من مادة واحدة

إن أصل المخلوقات المختلفة التي نراها في بيئتنا هو أصل واحد. فكلها قد جاءت من نفس المادة. والعناصر المختلفة هي أجزاء لنفس الماهية فمثلاً الأجرام السماوية قد خُلقت من نفس المادة. ولكن لكل منها هُوية وعمر ومقدار ومكانة خاصة. فقسم منها بارد للغاية، والقسم الآخر حار لأقصى درجة. والنباتات والحيوانات كلها جاءت من عناصر مثل الكربون والنيتروجين والأوكسجين والهيدروجين. وحتى الآن لم يجد العلم أية علاقة في الحياة بين هذه المواد وبين صفات مثل السمع والرؤية والقدرة والإرادة.

وهكذا فإنَّ جميعها هي بدائع الصنعة الإلهية. وإن هذا الوجود المكمل واللافت للنظر إلى هذا الحد الذي نراه في الكون هو أثر لصانع صاحب قدرة مطلقة. وليس من الممكن أن يشبه من أوجد هذه البدائع الخارقة للعادة أحد أتى بعده؛ لأنه سبحانه هو «واجب الوجود» أي الذي أوجد الوجود بنفسه، وهو الأزلي والأبديُّ سبحانه -عز وجل-.

والحاصل أنه ليس من الصعوبة أبداً على إنسان يفكر أن يجد ربه وأن يتعرف عليه. حتى الإنسان الكافر في ظل التفكر يمكن أن يدخل في الإيمان. أما المؤمن فيزداد إيمانه في ظل التفكر ويبدأ التقدم في مراتب المعرفة والمحبة.

طريق معرفة الله تعالى

كان علماء الكلام يقولون: «أول ما أُمر به الإنسان التوجه إلى التفكر الموصل لمعرفة الله -عز وجل-». وكانت غاية القرآن الكريم وقصده الأساسي هو تخليص العقول والقلوب من الإنشغال بما سوى الله تعالى، ودفعها إلى معرفته سبحانه وتعالى.

فالله تعالى قد خلق الإنسان من أجل أن يعبده ويتعرف عليه. والإنسان يستطيع أن يصل إلى هذه الغاية عن طريق الذكر والتفكر. فالعبادة هي جوهر حياة الإنسان. أما الذكر فهو واحد من أجمل أشكال عبادة الحق -عز وجل-. والذكر والفكر توأمان لا ينفصلان أبداً.

ومما لا شك فيه أن أهم شيء بالنسبة للإنسان أن ينال السعادة الأبدية والفرح الدائم. وكل مطالب الإنسان الأخرى مقارنة بهذا الأمر تبدو تافهة لا أهمية لها. و(المعرفة) هي أهم الوسائل التي توصل الإنسان إلى السعادة والفوز الأبدي.

فالمعارف العلمية تفسر أي حادثة عن طريق علاقة السبب – النتيجة. أما «المعرفة» فإنها فضلاً عن ذلك التفسير فإنها تتحقق بإدراك تجليات الإرادة في تلك الحادثة. ولهذا السبب فإن المعارف التي تدور حول الله تعالى تسمى «معرفة الله تعالى» أي إدراك وجود الله تعالى وفهمه عن طريق المعرفة.

ولهذا السبب ذكر التفكر في الآيات 84–87 من سورة المؤمنون قبل التقوى؛ لأن الناس يصلون إلى المعرفة بالتفكر والتدبر. ويعرفون أن من واجبات التقوى وضرورياتها اجتناب ما نهى الله عنه، والحذر من مخالفته عز وجل بعد أن عرفوه حق المعرفة؛ لأن أي عمل بدون معرفة الله ليس له أية قيمة، وفي هذا يقول الحق -عز وجل-:

﴿قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ (المؤمنون، 84-87)

والحاصل أن أرقى العلوم وأعلاها هو بلا شك معرفة الله تعالى. لذا كان الجنيد البغدادي – قدس سره – يقول:

«لو أعلم أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه»

وقال الإمام إبن القيم عليه رحمة الله:

«الرب يدعو عباده في القرآن الى معرفته من طريقين: أحدهما: النظر في مفعولاته. وثانيهما: التفكير في آياته وتدبّرها. فالأولى آياته المشهودة، والثانية آياته المسموعة المعقولة» (ابن القيم، الفوائد، ص31)

وما أجمل قول الشاعر:

الكون كله هو كتاب الله الأعظم         كل حرف فيه يدل على الله

 يجب أن يتحول التفكر إلى عمل

يجب تطبيق المعارف التي اكتسبتها بالتفكر والذكر والمراقبة من أجل الوصول إلى الحقيقة. ويمكن القول أن أي إنسان يفكر في الحقائق الإلهية وآيات القرآن الكريم عندما لا يعمل بمقتضى تلك الحقائق والآيات فإنه لا يستطيع أن يحقق التفكر بالمستوى المقبول اللائق؛ لأن العمل هو انعكاس ظاهري للتفكر والتدبر الباطن الداخلي.

وفي هذا الشأن يقول الإمام الغزالي:

«أما ثمرة الفكر فهى العلوم والأحوال والأعمال، ولكن ثمرته الخاصة العلم لا غير. فإذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب، وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح. فالعمل تابع الحال، والحال تابع العلم، والعلم تابع الفكر. فالفكر إذن هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها. فإذن التفكر أفضل من جملة الأعمال؛ لأنه هو الذى ينقل من المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، وهو الذى يحدث حال المشاهدة والتقوى» ( الغزالي، الإحياء، جـ6، ربع التفكر، ص47)

والإنسان في ظل هذا التفكر والتدبر الذي تحول إلى عمل يتخلص من مرض رؤية خوارق الطبيعة، وبدائع الصنع في الكون على من الأمور العادية الطبيعية.

ومع الأسف فإن الإنسان العادي يقف بدهشة وانبهار أمام اللوحات التي أبدعها رسام مقلدًا فيها الطبيعة، ولا يشعر بنفس الشعور عندما يقف أمام نفس اللوحات وخالقها في الكون. ويتلقى كل هذه الخوارق للطبيعة وبدائع الصنعة كأنها أمور عادية طبيعية.

أما أحباب الحق -عز وجل- الذين لهم قلوب نقية صافية فإنهم يشعرون بالدهشة والإعجاب والحيرة أمام الصانع الحقيقي وآثاره في الكون بدلاً من الإعجاب بتلك اللوحات التي أبدعها الرسام ليخلد اسمه. وهم يتذوقون تلك الصنعة الإلهية التي في البدائع اللامحددة التي اتبعتها يد القدرة الإلهية في الطبيعة. فهم ينظرون إلى الزهور والأوراق المختلفة الألوان والأشكال في النباتات التي تخرج من نفس الأرض وتسقى بماء واحد. وينظرون إلى نقوش القدرة وجمالها في تلك الزهور والأوراق. وينظرون إلى ثمار الأشجار المختلفة الألوان والروائح والأشكال والطعوم. وينظرون إلى النقوش البديعة في أصبغة الفراشة التي لا يزيد عمرها عن أسبوع أو اثنين فقط. وينظرون إلى الإبداع والعظمة الخارقة للعادة في خلق الإنسان وهم يصغون السمع للبدائع الإلهية التي لا تنتهي مثل رؤية العين، وإدراك العقل، وإلى ما فيها من لطائف خفية تعبر عنها «بلسان الحال».

والكون كله بالنسبة لهؤلاء هو كتاب مهيَّأٌ معد للقراءة. وهؤلاء يتجاوزون العلوم التي على سطره ليصلوا إلى العلم الذي في صدره. تماماً مثل مولانا جلال الدين الرومي الذي دفن نفسه في الكتب عندما كان مدرساً في المدرسة السلجوقية ولكن عندما أصابته شرارة من فيض أنوار درويش مجذوب اسمه «شمس تبريزي» -كان قلبه مملوءاً بالعشق- فاحترق مولانا. ولم تعد لتلك الكتب التي أفنى عمره فيها أية قيمة لديه. وبدأ يقرأ في أسرار الكون وبدائع الصنعة الإلهية. وبعد فترة استطاع أن يبدع كتاب «المثنوي» الذي كان رسالة نجوى ومناجاة وتضرع توضح الأسرار التي في الإنسان والكون والقرآن.

فَيَا لَسَعادة هؤلاء العباد الخواص الذين عاشوا وَقضوا حياتهم الدنيا بتفكر وتدبر بقلوب رقيقة مملوءة بنور الإيمان وبعقول سليمة تربَّت على هدى الوحي واستطاعوا الوصول إلى معرفة الله -عز وجل-.