(644-656م)
سيدنا عثمان -رضي الله عنه- ثالث الخلفاء الأربع العظام، كان من الصحابة المقربين الحائزين على شرف المصاهرة والخدمة بالنفس والمال لرسول الله -صلي الله عليه وسلم-. لقد قدّم خدمات جليلة وعظيمة سواء في زمن سيدنا الرسول-صلي الله عليه وسلم-، أو في زمن خلافة أبي بكر وعمر-رضي الله عنهما-، أو في زمن خلافته هو.
ذو النورين
عثمان -رضي الله عنه- الذي تشرف بالإقتران بابنة سيدنا محمد-صلي الله عليه وسلم-، غرق في حزن عميق حين ماتت رقية -رضي الله عنها-. فسأله رسول الله عن سبب حزنه الكبير فأجاب قائلاً:
« يا رسول الله وهل أصاب أحداً ما أصابني؟ ، ماتت ابنة رسول الله -صلي الله عليه وسلم- التي كانت عندي فانقطعت صلة النسب بيني وبينك»
على الرغم من دعوات أقاربه وإصرارهم عليه كي يتزوج مرة أخرى، كان سيدنا عثمان -رضي الله عنه- يقول:
«كيف لي أن أجد حماً بعد رسول الله!؟ بعد زواجي من ابنته، أقترن بمن!؟»
كان يشعر بعذاب عميق بفصل عرى القرابة مع العائلة المباركة،عائلة رسول الله -صلي الله عليه وسلم-.
وقف رسول الله -صلي الله عليه وسلم- على حال سيدنا عثمان كان سعيداً بارتباطه ومحبته النادرة. فنكحه ابنته الصغرى(أم كلثوم) وبعد مدة من وفاةِ والدتنا أم كلثوم، قال الرسول الكريم:
“زوجوا عثمان لو كان لي ثالثة لزوجته وما زوجته الاّ بالوحي من الله“[1] تعبيراً عن محبته الخاصة لسيدنا عثمان -رضي الله عنه-. فقد كان سيدنا عثمان -رضي الله عنه-، عالماً وحكيماً وكريماً وذا قلب مرهف وطبع رقيق وذا حياء وتواضع من أهل القلب ممن يحبه الناس. قال عنه رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“فإنه من أشبه أصحابي بي خُلقاً” (الهيثمي، جـ9، 18)
لم يُلاحظ بين الصحابة من يتقن القول الجميل أكثر من سيدنا عثمان -رضي الله عنه- على الرغم أنه كان قليل الحديث والكلام .
رمز الحياء
من ناحية إحساسه العظيم بالحياء كان شخصاً مثالياً، حتى الملائكة كانت تستحي منه[2].
قَالَتْ عَائِشَة -رضي الله عنها-َ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم- مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ، أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم-َ، وَسَوَّى ثِيَابَهُ – قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ – فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ،
فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ:
“أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ” (مسلم، فضائل الصحابة، 63)
كان سيدنا عثمان -رضي الله عنه- رمز الأدب والحياء، يدعو ويرشد الناس في هذا الخصوص قائلاً: «غض العين عمّا هو محرّم، أجمل ستر للشهوات»
ويُروى عَن أَنَس بْن مَالِك -رضي الله عنه-ُ قَالَ: دخلت عَلَى عُثْمَان -رضي الله عنه- وكنت رأيت فِي الطريق امْرَأَة تأملت محاسنها فَقَالَ عُثْمَان -رضي الله عنه-: يدخل عَلَى أحدكم وآثار الزنا ظاهرة عَلَى عينه فَقُلْتُ: أَوَحْي بَعْد رَسُول اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم- فَقَالَ:
«لا ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة»[3]
ما أجمل ما يعبر الحديث الشريف التالي عن قيمة الأخلاق الحميدة في المرتبة الإلهية لهذا الصحابي الجليل:
قَالَ علي -رضي الله عنه-: وَضَّأْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: مَنْ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْحِسَابِ يوم القيامة؟ فقال: “أنا أقف بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي تَعَالَى مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَخْرُجُ وَقَدْ غَفَرَ لِي” قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: “أَبُو بَكْرٍ يَقِفُ كَمَا وَقَفْتُ مَرَّتَيْنِ وَيَخْرُجُ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ” قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: “عُمَرُ يَقِفُ كَمَا يَقِفُ أَبُو بَكْرٍ مَرَّتَيْنِ وَيَخْرُجُ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ” قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: “ثُمَّ أَنْتَ يَا عَلِيٌّ” قُلْتُ: فَأَيْنَ عُثْمَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “عُثْمَانُ رَجُلٌ ذُو حَيَاءٍ سَأَلْتُ رَبِّي -عز وجل-َ أَنْ لا يُوقِفَهُ لِلْحِسَابِ فَشَفَّعَنِي فِيهِ” تَجْوِيزُ التَّوْضِيَةِ وَبَيَانُ أَنَّ مَنْ هُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً يَكُونُ وُقُوفُهُ لِلْحِسَابِ أَخَفَّ وَفِي السِّيَاقِ مَا يُشْعِرُ بِتَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ -رضي الله عنهما-” (محمد الرافعي القزويني، التدوين في أخبار قزوين، 1\114)
المكان الذي لا يُرحب فيه برسول الله، لا أكون فيه!
ومن هذا المنطلق لم يبخل سيدنا عثمان-رضي الله عنه- بأية تضحية وكان رهن إشارته ومحباً له أكثر من روحه. في صلح الحديبية كان سفير رسول الله إلى مكة، ليخبر المشركين بنيتهم في العمرة وثمّ العودة، أما المشركون فقد أذنوا له بالطواف حول الكعبة وحده، فكان الرد العظيم التالي من سيدنا عثمان -رضي الله عنه-، برهاناً جديداً على مدى إخلاصه لرسول الله -صلي الله عليه وسلم-: «ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله-صلي الله عليه وسلم-» (أحمد، جـ4، 324-325)
عندما انتشرت الشائعات بين المسلمين في الحديبية بمقتل سيدنا عثمان -رضي الله عنه-، حصل رسول الله -صلي الله عليه وسلم- على بيعة من صحابته في قتال المشركين إن لزم الأمر، ثم وضع يده فوق الأخرى، وقال معبراً عن مدى اعتماده وحبه لسيدنا عثمان:
“هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ – فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ – هَذِهِ لِعُثْمَانَ” (البخاري، أصحاب النبي، 7)
وفي هذه الأثناء أرسل المشركون وفداً لعقد اتفاق، ومن بعده عاد سيدنا عثمان -رضي الله عنه- سالماً.
شمس السخاء
سيدنا عثمان -رضي الله عنه-، رمز الإخلاص السامي، كان أيضاً شخصية في ذروة السخاء. بحيث أنه كان يقول: «سلطان الغنى هو الشكر، أما الشكر فهو الإنفاق بسخاء» فيجسد المثل في ذاته.
لأجل ذلك حرّر المئات من العبيد في سبيل الله، ودفع آخرين ليحذو حذوه.[4]
تبرّع سيدنا عثمان -رضي الله عنه- في غزوة تبوك بثلاثمائة ناقة مع كامل تجهيزاتها لجيش المسلمين. بالإضافة لألف دينار.
قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عنه بإطراء مبشراً:
“مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ“[5] (لإنفاقه بسخاء)
وفي هجرة سيدنا عثمان -رضي الله عنه- إلى المدينة، رأى المسلمين في عوز إلى الماء. كل آبار المدينة كانت مالحة، عدا بئر رومة ذي المياه الحلوة، العائد ملكيته لرجل يهودي. وكان هذا اليهودي يعيش على بيع ماء بئره، قال النبي -صلي الله عليه وسلم-:
“من يشتري بئر رومة، فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين”
فأراد سيدنا عثمان -رضي الله عنه- شراء هذا البئر فوراً، لكن اليهودي رفض البيع، وبعد مدة وافق اليهودي على بيع نصف حصته كي يستخدمه المسلمون، وبعدها اشترى كامل البئر ووقفه وتخلص أهل المدينة من شحِّ المياه.
وبحسب الرواية ما يدل على فضيلة سيدنا عثمان -رضي الله عنه- العظيمة، أنه كان يصطفّ بين حشود المسلمين منتظراً نصيبه من ماء البئر الذي اشتراه ثم وقفه. وتقول الرواية أيضاً: نزلت الآية الكريمة بتلك التضحيات التي لا مثيل لها:
﴿يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك.ِ راضيةً مرضية. فادخلي في عبادي وادخلي جنتي﴾ (الفجر، 27- 30)
مع انتشار الإسلام كثر توافد الناس إلى المدينة، وضاق المسجد النبوي بهم فقاموا بنصب الخيام حوله. فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“مَنْ وَسَّعَ مَسْجِدَنَا هَذَا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ”
فقال سيدنا عثمان -رضي الله عنه-: «يا رسول الله! فداك مالي وملكي، أتكفَّل بتوسيع المسجد» وعلى أثره نزلت الآية الكريمة:
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ (التوبة، 18) (ابو نعيم، فضائل الخلفاء الراشدين، ص 09)
*
حين أراد سيدنا علي -رضي الله عنه-، أن يتزوج من سيدتنا فاطمة، أرسل درعه إلى السوق لبيعه من أجل تغطية مصاريف الزواج، وعندما رأى سيدنا عثمان -رضي الله عنه- الدرع في السوق تعرّف عليه، وعلى الفور نادى البائع فسأله: «كم يطلب صاحب الدرع ثمناً له؟»
وعندما علم أن ثمنه أربعمائة درهم، اشتراه ودفع ثمنه، ومن ثم أرفق الدرع بأربعمائة درهم أخرى وأرسلها إلى سيدنا علي-رضي الله عنه-، قائلاً: «هذا الدرع لا يليق إلا بك، وهذه الأربعمائة درهم ارصدها لمتطلبات الزواج، واعف عنّا»[6]
هذه الحادثة المعبرة تعكس سمو الأخلاق عند شمس السخاء، في زمن خلافة أبي بكر -رضي الله عنه- مرّ الناس بقحط ٍ في المدينة، وقتها وصلت قوافل سيدنا عثمان -رضي الله عنه- المؤلفة من مائة ناقة محملة بالقمح قادمة من الشام، هرع الناس لشراء القمح، وعرضوا عليه مقابل كل درهم من القمح سبعة دراهم، لكن سيدنا عثمان قال لهم:
«كلا! هناك من يدفع أكثر سأبيع له»
انصرف الصحابة الكرام بأسىً إلى الخليفة أبي بكر-رضي الله عنه- شاكين أمرهم له، قال سيدنا أبو بكر-رضي الله عنه- وقد انتبه إلى المزحة:
«لا تُسيؤُا الظن بعثمان! …. إنه صهر رسول الله-صلي الله عليه وسلم-، وصاحبه في جنة المقام، يبدو أنكم أسأتم فهمه»
بعد ذلك اتجهوا معاً إلى سيدنا عثمان -رضي الله عنه-.
قال له سيدنا أبو بكر:
«يا عثمان! قد حزن الصحابة الكرام على قولك»
قال سيدنا عثمان -رضي الله عنه-:
«أجل يا خليفة رسول الله! إنهم دفعوا سبعة دراهم لقاء درهم واحد من القمح، بينما هناك من يدفع سبعمائة درهم لقاء درهم واحد، ونحن أعطيناه له»
بعدها وزّع حمولة المائة ناقة على فقراء المدينة في سبيل الله، وأُضحي الجمال المائة قرباناً. قَبَّلَ أبو بكر جبين سيدنا عثمان وقال فرحاً: «أحسست منذ البداية أن الصحابة لم يفهموا مغزى كلامك»[7]
عاشق القرآن
ومما لاشكّ فيه بأن أساس سمو الأخلاق عند سيدنا عثمان-رضي الله عنه- يكمن في فوزه بما ناله من سنة رسول الله -صلي الله عليه وسلم- والقرآن الذي أُنزل عليه، حقيقة أن سيدنا عثمان كان عاشقاً للقرآن.
«أحببت من الدنيا ثلاثاً: إطعام الجائعين، وكساء العراة، وقراءة القرآن»
لقد جُمع القرآن في عهد أبي بكر-رضي الله عنه-، أما في عهد خلافة عثمان -رضي الله عنه- فقد شكّل هيئة من الصحابة المؤهلين لتنظيم القرآن حسب ترتيب السور ونسخه بدقة تامة. وأرسل هذه النسخ إلى المراكز الهامة (في الدولة الإسلامية) في السنة الثلاثين للهجرة. وبذلك قطع دابر الاختلافات التي يمكن أن تظهر حول نصوص القرآن.
سيدنا عثمان -رضي الله عنه-، جعل من تقبيل المصحف في الصباح عادةً له، وقال في ذلك:
«ما أحب أن يأتي علي يوم ولا ليلة إلا أنظر في كتاب الله، يعني القراءة في المصحف» (علي المتقي، الكنز، جـ2، 316، 4110 )
من كثرة تلاوة القرآن: «أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ القُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ يُوتِرُ بِهَا» (الترمذي، القراءات، 11، 6492)
كان كثير من الصحابة يقرؤون في المصحف ويستحبون أن لا يخرج يوم إلا وقد نظروا فيه، وخرق عثمان مصحفين من كثرة درسه فيهما ( الكتاني، التراتيب الإدارية، 2، 791)
الزهد والتواضع
هكذا كانت التعاليم الحياتية الاستثنائية للصحابة المباركين والتي جعلت منهم نجوماً في الفضاءات المعنوية. وبالرغم من إمكاناتهم الكبيرة كانوا يعيشون حياة متواضعة وراضية تيمناً برسول الله-صلي الله عليه وسلم-.
كان سيدنا عثمان -رضي الله عنه-، يرتدي رداءً نظيفاً بسيطاً مصنوعاً من قماشٍ خشن ورخيص وينام في المسجد على التراب عند الظهيرة وعند الاستيقاظ كانت آثار الحصاة على جسده.
يكتفي بالخل وزيت الزيتون في بيته بينما يطعم الناس ألذّ الأطعمة وأثمنها ويتجنب إزعاج خدمه وقت راحتهم جالباً ماء الوضوء بنفسه، وهو الذي أمضى نهاره بالصيام وليلته بالصلاة.
وجاء في رواية لأبي الفرات تعبر عن حساسية سيدنا عثمان وخصوصيته وحرصه على حقوق العباد،كان لعثمان عبد فقال له:
«إني كنت عركت أذنك فاقتص مني»
فأخذ الخادم بأذنه ثم قال له عثمان: اشدد، يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة» (محب الدين الطبري، الرياض النضرة في مناقب العشرة، جـ3، ص 54)
الشهيد المظلوم
توسعت الفتوحات الميمونة في عهد خلافة سيدنا عثمان -رضي الله عنه-، نصير الحق والتواضع، حيث تم فَتْحُ كل من قبرص وطرابلس وطبرستان وأرمينيا، ونظمت الرحلات إلى اسطنبول ورودُس وجزر مالطا وانتعشت التجارة البحرية، ودُمّرَ الأسطول البيزنطي في البحر المتوسط، وبنتيجة هذه التطورات فاضت خزينة الدولة واغتنى الناس. مع ازدياد الرفاه ظهرت نوايا التملك والطمع في نفوس بعض المنافقين من أمثال عبد الله بن سبأ اليهودي الأصل الذين أشعلوا نار الفتنة في شتى أنحاء العالم الإسلامي.
وحُوصر سيدنا عثمان -رضي الله عنه- من قبل العصاة القادمين من مختلف البلدان، في داره الكائنة بالمدينة لدرجة أنه حُرمَ من شرب مياه البئر الذي اشتراه من ماله الخاص وقدمه للمؤمنين لينتفعوا بها.
قال أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- موضحاً حالة اليأس الذي يعيشه من عصيان تابعيه، والظروف الصعبة التي يمرُّ بها مشيراً بفراسته إلى الفتن التي ستقع من بعده: «مثلي كمثل أبٍ لولدٍ عاق أمضى حياته بعدم طاعة أبيه، وحين مات حمل عبء همه أيضاً»
قال سيدنا عثمان -رضي الله عنه- للصحابة الذين عرضوا عليه استعمال القوة تجاه العصاة لإخماد نار الفتنة رافضاً سفك الدماء:
«أختار الموت (مظلوماً) من غير سفك دماء، على الموت مع سفك الدماء»
على أية حال لم يستطع إيصال نصيحة للعصاة السفهاء برغم تكرار محاولاته. واستشهد مظلوماً وهو قابع في بيته صائماً يتعبّد بتلاوة القرآن على يد العصاة وهو في الثمانين من عمره، وتلوَّنت الآية الكريمة من المصحف الذي كان يَقْرؤُهُ بقطرات من دمه الزكي: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (البقرة، 137)
قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“وَالله ليشفعن عُثْمَان فِي سبعين ألفا من أمتِي من أهل الْكَبَائِر مِمَّن قد استوجبوا النَّار حَتَّى يدخلهم الله الْجنَّة” (الديلمي، الفردوس، 4/360)
أخيراً نلقي نظرة على الأقوال الحكيمة والعميقة لسيدنا عثمان، الصحابي الجليل على أمل الأخذ من مناخ قلبه الحسي المملوء بنور المعرفة والحكمة والعلم:
حِكم من سيدنا عثمان -رضي الله عنه-
-«أعقل الناس من يحاسب نفسه ويديرها جيداً، ويعمل لآخرته، ويستفيد من نور الله من أجل ظلام القبر»
-«فليخشَ العبد من الحشر كفيفاً بعدما كان مبصراً! من يفهم الحكمة تكفيه دلالة المعنى، الأصمُّ معنوياً لن يسمع الحق أبداً»
-«علامات المتقين (الصالحين) خمس:
1- من يساند العاملين في سبيل الدين.
2- من يحفظ لسانه ويصلح نفسه.
3- من يميّز أضرار ومخاطر النفس عند انشغاله بالملذات الدنيوية (التي تنسيه محبة الله) واعتبار كل نصيب من الدين غنيمة مهما قَلْ.
4- العيش برضا، والخشية من الحرام .
5- من يشعر بهلاكه وحده وخلاص الجميع»
أن المؤمن في ستة أنواع من الخوف
أحدها من قبل الله تعالى أن يأخذ منه الإيمان
قال الله تعالى:
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (آل عمران، 8)
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران، 102)
والثاني من قبل الحفظة أن يكتبوا عليه ما يفتضح به يوم القيامة قال الله تعالى:
﴿يومئذٍ تحدِّث أخبارها. بأن ربك أوحى لها﴾ (الزلزلة، 4-5)
والثالث من قبل الشيطان أن يبطل عمله.
قال الله تعالى:
﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (الحجر، 39-40)
والرابع من قبل ملك الموت أن يأخذه في غـفـلـة بغـتة.
قال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر، 99)
وجاء في الحديث الشريف:
“يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ” (مسلم، الجنة، 83/2878)
لأجل ذلك عاش سيدنا عثمان مع القرآن، واستشهد وهو يقرأ القرآن وانتقل إلى رحمته تعالى
والخامس من قبل الدنيا أن يغتر بها وتـشغله عن الآخرة.
قال الله تعالى:
﴿… وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (آل عمران، 185)
والسادس من قبل الأهل والعيال أن يشتغل بهم فيشغلونه عن ذكر الله تعالي.(ابن حجر العسقلاني، المنبهات، ص. 25)
قال الله تعالى:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (الأنفال، 28)
في آخِر خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عُثْمَانُ فِي جَمَاعَةٍ قالَ: إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَعْطَاكُمُ الدُّنْيَا لِتَطْلُبُوا بِهَا الْآخِرَةَ، وَلَمْ يُعْطِكُمُوهَا لِتَرْكَنُوا إِلَيْهَا، إِنَّ الدُّنْيَا تَفْنَى، وَالْآخِرَةَ تَبْقَى، لَا تَبْطَرَنَّكُمُ الْفَانِيَةُ، وَلَا تُشْغِلَنَّكُمْ عَنِ الْبَاقِيَةِ، آثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وَإِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ -عز وجل-، اتَّقُوا اللَّهَ، وَالْزَمُوا جَمَاعَتَكُمْ، وَلَا تَصِيرُوا أَحْزَابًا، (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران، 301) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ” (ابن أبي الدنيا، الزهد، ص 103)
-«أحسنوا العمل، قبل أن يحلّ الأجل»
اللهمّ اجعل هذه الكلمات الحكيمة من نصيبنا وأن نعمل بمقتضاها وأن ننال شفاعة الصحابي الجليل. واجعلنا من أصحابه وجيرانه في الآخرة، وزيّن قلوبنا بمحبته. آمين ..
[1] السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 351.
[2] انظر: أحمد، جـ1، 71؛ جـ6، 155
[3] انظر: القشيري، رسالة، بيروت 1990، ص 238.
[4] انظر: عثمان ذو النورين، محمود سامي رمضان أوغلو، ص 163.
[5] انظر: الترمذي، المناقب، 18/3700؛ أحمد، جـ5، 63.
[6] انظر: عثمان ذو النورين، محمود سامي رمضان أوغلو، ص 139.
[7] انظر: عثمان ذو النورين، محمود سامي رمضان أوغلو، ص 140.