الذي أُمِرَت الملائكة بالسجود له
حضرة سيدنا آدم عليه السلام
لقد خلق الله هذا الكون بتجلي أسمائه الحسنى وصفاته العُليا، وكانت إرادته بخلق الكون في الأزل حيث كان ولم يكن شيء معه وقد أحب الله أن يُعرف من خلال هذا الخلق.
إن أكثر المواضيع التي ظهرت فيها تجليات ما استطعنا وما لم نستطع أن نعلمه من صفات الله تعالى هي ثلاثة:
أ- الكون.
ب- القرآن الكريم.
ج- الإنسان.
فالكون مظهر فعلي للأسماء الإلهية. وأما القرآن الكريم فهو مظهر كلامي للأسماء الإلهية، وبعبارة أخرى فإن القرآن الكريم هو عالم مغَلَّفٌ في صورة كلام.
وأما الإنسان فنستطيع أن نشبهه بلبِّ الكون وبذرته، لأنه الكائن الوحيد الذي كان له الحظ في الأخذ من جميع صفات الله تقريباً، بقلة أو بكثرة، وهذا سبب نعته بأشرف المخلوقات، ولكن لأنه تجلّى فيه صفات الجلال كـ “المضل“[1] و”المتكبر“[2]، وصفات الجمال كـ ” الهادي” و “الرحمن” و “الرحيم” وغيرها فإنه مَيّال إلى الخير وإلى الشر بالفطرة، وفي ذلك قال الله تعالى:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَ. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس، 7-10)
ومن هنا فإن على الإنسان أن يحاول الوصول إلى درجة الكمال، وذلك يكون عن طريق اتباع إرشاد الأنبياء والأولياء، ذلك الإرشاد الذي يدعونا إلى تزكية نفوسنا وتصفية قلوبنا، والتخلص من الطباع والصفات السُّفلية الموجودة بداخلنا، والعمل على تنمية الصفات الروحانية.
ولأن الملائكة ليست لديها قدرة أو استعداد للشَّر فإن الإنسان يمكنه أن يتخطى درجتهم بوصوله إلى الله . ولذلك فإن درجة الإنسان تكون بين مقامين؛ فقد تكون في مقامٍ عالٍ أعلى من مقام الملائكة، وقد تكون في الدرك الأسفل أدنى من مقام الحيوان، فبين هذين المقامين تكون درجته، وذلك حسب اتباعه لوحي الله تعالى. إن الإنسان الذي يستطيع اجتياز حاجز النفس يقدم لنا نموذجاً فنياً رائعاً وعملاً عظيماً، فهو فاتحة كتاب هذا الكون وخلاصته وسر خلقه، لأنه بالرغم من كونه عبارة عن دم ولحم في الظاهر إلا أنه يكمن داخل هذا الظاهر كائن معنوي يحوي الكثير من أسرار وأنوار وحقائق التجليات الإلهية.
يوضح لنا هذه الحقيقة سيدنا علي رضي الله عنه في هذين البيتين:
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتزعم أنـــــك جرم صغير وفيك انطوى العالَمُ الأكبر
ربط بعض العلماء بين الأعضاء والأحداث الموجودة في جسم الإنسان وبين الكائنات والحوادث المبثوثة في الكون؛ فشبَّهوا العظام بالجبال، والشعر بالنباتات، والأوردة والشرايين بالأنهار، والتَّنَفُّس بالرياح، والتكلُّم بالرعد. أي إنه يوجد في هذا الإنسان الذي هو شكل مصَغَّر عن الكون أثر ورائحة هذا الكون الكبير.
المهم أن نحاول قراءة الآيات السبحانية المبثوثة في جميع أنحاء الكون وأن نفهمها على وجهتها الحقيقية. فإن الآية الأولى التي أوحى بها الله تعالى إلى نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم هي قوله تعالى: “اقرأ”، ومعنى القراءة هنا لا يقتصر على الشيء المكتوب فقط، بل يدل أيضاً على إنعام النظر بالعين، والتذكر والتفكر بالعقل. ومن هذا المنطلق قد تعني الآية الكريمة المعنى التالي:
(أيها الرسول، اقرأ الكلام الإلهي، تذكر وتفكر في الحقائق المكنونة في نفسك وفي الكون، وحاول إدراك حقائق الأشياء).
وبناء على هذا المعنى وضع شارحوا “المثنوي” التفسير التالي:
(ابتُدئ القرآن الكريم بـ “اقرأ” وأما المثنوي فبـ “بِشْنَوْ” يعني: “استمع”، كلمة “بِشْنَوْ” هي تفسير كلمة “اقرأ”، بمعنى: “استمع إلى الكلام الإلهي، استمع إلى الأسرار، استمع إلى الحقائق المكنوزة في داخلك).
إن ظهور الإنسان في هذا العالم قد بدأ بآدم ، فهو الإنسان الأول والنبي الأول والمرشد الكامل الأول، وإن نسل البشرية جمعاء المتسلسل منذ بدايتها إلى يوم القيامة كان محتوىً ومدموجاً بعضها فوق بعض في شخصه، وذلك عندما خلقه الله، ويشير الله تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً﴾ (النساء، 1)
ويخبرنا أيضاً أنه كرم الإنسان وشرَّفه على جميع خلقه بقوله :
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء، 70)
إن هذا المخلوق الرائع – أي الإنسان- يمثل قمة الإبداع الإلهي في هذا العالم المُزَيّن بنقوش القدرة الإلهية. وفي هذا الموضوع يقول سليمان شلبي في “المولد”: “خَلَقَ الحقُّ آدمَ وزَيَّنَ به العالمَ” وكأنهما توأمان، وبعبارة أخرى فقد ألقي على عاتق الإنسان أكبر وظيفة، ألا وهي فهم أسرار الكون وإدراك حقائق الأشياء، وذلك لأنه نموذج مصغر عن الكون.
وكما تحوي حبة القمح بداخلها جميع الخصائص الموجودة في جنسها من القمح فإن بذرة كل نوع من أي جنس تحوي بداخلها خصائص وطباع جنسها. والإنسان كذلك هو كائن متميز يحتوي على حقائق جميع الأشياء الموجودة في هذا الكون. ومن هذا الوجه فكأن الإنسان بذرة أو جوهر انطوى بداخله العالم.
حيث يقول في شأن هذه الحقيقة الشيخ غالب:
انظر إلى نفسك بتمعُّن، فأنت زبدة العالَم، وأنت آدم الذي هو بؤبؤ الكون.
هناك الكثير من المقاصد الإلهية في خلق الإنسان؛ فمنها أن الله سبحانه أراد أن يظهر لنا دليلاً جلياً على جماله وإبداع خلقه، فالمراد الإلهي في خلق الإنسان مهم جداً لدرجة أن الله سبحانه من أجل تحقيق مقصده خَلَقَ الكون بما فيه مما يمكن إدراكه وما لا يمكن وسخره للإنسان لكي يستفيد منه.
إن الإنسان مكلَّف بعمارة الأرض، وبأعمال هي عبارة عن حصائد قلبه، لأنه خُلِق ليكون خليفة الله على الأرض. ووظيفة الخلافة هذه التي تعني العيش كوكيل للّه تعالى هي بناءً على احتوائه القابلية التي تمكنه من تحقيق تلك الوظيفة الكامنة في فطرته. واللَّه سبحانه قد وضع للإنسان برنامجاً لا بد منه لكي ينمي هذا الإستعداد كما تنمو البذرة في المنبت، ألا وهو الأوامر والنواهي الموجودة في القرآن الكريم.
وقد بين الله تعالى في الحديث القدسي الدرجات المعنوية للذين يسيرون في هذا الطريق، فقال تعالى:
“من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه” (البخاري، الرقائق، 38)
وفي الآية الكريمة:
﴿اَلْحَمْدُ ِللّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة، 1)
فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق عوالم كثيرة، وقد جاء بشأن عدد هذه العوالم في روايات مختلفة أنها بين 18000 و 360000 عالَم. وقد تعتبر هذه الروايات كناية عن الكثرة بسبب أن عقل الإنسان لا يستطيع أن يدرك عدد هذه العوالم. وهذه العوالم كلها ممكن أن نصنفها ضمن شكلين رئيسين:
1- عالم الخلق.
2- عالم الأمر.
وقد حصل الإنسان على حصة في خلقه من هذين العالمين.
وبين الله تعالى خلقه لعالمي الخلق والأمر بقوله:
﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَاْلأَمْرُ تَبَارَكَ الله ُرَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف، 54)
وقد قدم المفسر ألمالي لي حمدي يازِر شرحاً يتعلق بهذه الآية فقال: (إن التقدير والتكوين من الأزل إلى الأبد له سبحانه، وإن القبول ووضع التشريع له أيضاً.
ومن هنا فإن المخلوقات الموجودة حجماً ومقدارا ملكه، والأوامر التي تجري عليها والتي ليس لها مقدار ولا حجم له أيضاً، أي إن الخلق له والأمر له. فالجسم والمادة والشكل بإيجادها وتكوينها، والروح والقوة التي تديرها هي من تأثيره وقوته. ولا يمكن لغيره أن يصدر منه إيجاد عدم أو إيجاد ممكنات. فالإيجاد له، وجعل الشيء واجبا يرجع له، والمعجزة له، والقانون له، وكل ما سواه خاضع لحُكمه، هذا ما يؤخذ من قوله تعالى:
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَاْلأَمْرُ﴾. أما هو فخالق كل شيء، وصاحب التصرف المطلق، ولا يوجد كائن غير مستند لإيجاده، ولا يمكن أن يصدر أمر على خلاف أمره وإيجاده).
إن العالم المتشكل من الأكوان المخلوقة والمحدودة بالزمان والمكان يقال له عالم الخلق، كما يقال له عالم المُلك والشهادة، والأشياء التي نحسها بحواسنا الخمسة الظاهرية هي من هذا العالم.
أما العالم الغيبي المعنوي والروحي فيقال له عالم الأمر.
وبعبارة أخرى عالم الأمر هو العالم الكائن بأمر الله تعالى بكلمة “كن”، والغير متعلق بموضوع المادة والزمان، ويقال له عالم الملكوت وعالم الغيب أيضاً، والعقل والنفس والروح والقلب والسر وغيرها من اللطائف تعود لهذا العالم. وقد بين الله تعالى في القرآن الكريم أن الروح من عالم الأمر فقال:
﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ (الإسراء، 85)
والآية الكريمة التي تشير إلى نوعي الخلق في هذين العالمين هي قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس، 82)
الأسباب والحِكَم الأساسية من خلقنا:
1- المقصد الأساس من خلق الإنسان هي عبوديته ومعرفته للّه تعالى. قال تعالى:
﴿وَماَخَلَقْتُ الْجِنَّ[3] وَاْلاِنْسَ اِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات، 56)
إن العبودية التي هي الغاية المذكورة من خلق الإنسان في هذه الآية الكريمة هي مرتبة شريفة لدرجة أننا نرى موقعها الجليل في كلمة الشهادة، وبناءً عليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان عبداً أولاً ثم أصبح رسولاً، وهذا يدلنا على أن العبودية تكون أولاً، أما الرسالة فهي لا تخرج عن حدود العبودية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهاً لمن بالغ في تعظيمه زيادة على حده، وللدلالة على أهمية مرتبة العبودية:
“لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً” (الهيثمي، 9\21)
وقال الله تعالى في آية أخرى:
﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلا دُعَاؤُكُمْ…﴾(الفرقان، 77)
أي لولا عبوديتكم بالدعاء والتضرع لما كان لكم قيمة عند الله تعالى ولا يُبالي ولا يَعْبأُ بكم. ومن معاني العبودية “معرفة الله”، ولذا فإن الإمام الماتُريدي رحمه الله وضع شرطين للإيمان، وهما:
أ- معرفة الله
إن خلق الإنسان متعلق بغاية تحقيق العبودية، ومعرفة الإنسان للّه . ولهذا قال الله تعالى في الآية الكريمة السابقة التي تبين سبب خلقنا: (لِيَعْبُدُونِ)
وقد فسر بعض المفسرين هذه الكلمة بكلمة: “ليعرفون” أي ليصلوا إلى معرفة الله في القلب، والتي تؤدي إلى معرفته حقيقة. (تفسير ابن كثير، 4، 255)
إن السبب الرئيسي لخلق الإنسان هو وجود الله تعالى، وإرادته إن يُعرَف، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي:
“كنت كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الخلقَ لأُعرَف“[4]
ب- المحبة
يقول الله تعالى في الآية الكريمة:
﴿…وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً ِللّهِ…﴾ (البقرة، 165)
ولهذا فإن حب الله تعالى أكثر من أي شيء آخر حباً شديداً هو من أهم الأسباب والحِكَم لخلقنا، لأن الله تعالى أحَبَّنا، وأنعم علينا بنعمه التي لا تحصى، ولذلك فقد طلب من عباده أن يحبوا ذاته الإلهية، وأن لا يطغى حبهم لأي شيء آخر على حبهم له تعالى، فإن تصرفوا بخلاف ما طلب منهم فإنه يُعلِمهم أن عاقبتهم ستكون وخيمة، وأنه ينتظرهم عذاب أليم، وقد بيَّن الله تعالى في الآية الكريمة، فقال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ…﴾ (المائدة، 54)
وفي آية أخرى كأن الله سبحانه وتعالى يخبرنا بأن السبب الأول لهلاك بعض الأفراد والأقوام هو قطع المحبة، فيقول:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة، 24)
وقد جاء في الحديث الشريف أن حلاوة الإيمان لا يذوقها إلا من يحمل هذه الخصائص الثلاثة:
– أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
– أن يحب في الله ويبغض في الله
– وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقَى في النار. (انظر: البخاري، الإيمان 9، 14، مسلم، الإيمان 67)
ولكن شرط محبة الله هي المحبة المفرطة لرسول الله صلى الله عليه وسلم النابعة من القلب، والتي ينتج عنها اتِّباعه والاقتداء به، وذلك يعني الفناء فيه، يقول الله تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (آل عمران، 31)
وقد جاء في الحديث الشريف أيضاً أن محبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هي شرط للإيمان الحقيقي، قال صلى الله عليه وسلم:
“واللَّه لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أمه ووالده وولده والناس إجمعين” (البخاري، الإيمان، 8)
2- إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لكي يُظهر العظمة والإبداع في خلقه، فالإنسان من روائع الخلق وبدائع الوجود، ولذا فقد قال الله تعالى:
﴿وَفِي اْلأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات، 20-21)
وفي آية أخرى أيضاً بعد أن بين الله تعالى لنا مراحل خلق الإنسان يلفت نظرنا إلى عظمته، فيقول :
﴿فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [5] (المؤمنون، 14)
وهناك وجه آخر لعظمة خلق الإنسان، ألا وهو كونه أشرف المخلوقات واتخاذ الله سبحانه له خليفة في الأرض، يقول الله تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اْلأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة،30)
وقد وضع المفسر ألمالي لي حمدي يَزِر لقوله تعالى جَاعِلٌ فِي اْلأَرْضِ خَلِيفَةً التفسير التالي: (سأهبه نصيباً من إرادتي ومن قدرتي ومن بعض صفاتي، وهو باسمي وبوكالتي سيكون صاحب التصرف في العديد من المخلوقات، ونيابة عني سيطبق أحكامي، ولن يكون أصلاً في هذا الخصوص، فهو لن يطبق الأحكام باسمه الشخصي أصالة، ولكنه سيكون نائبي ووكيلي، وسيكون مأمورا بتنفيذ إراداتي وأوامري وبتطبيق قوانيني بإرادته هو، ثم سيكون من يأتي بعده خلفاً له، فتكون وظيفتهم نفس وظيفته، وعندها يظهر سر قوله تعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ…﴾ (الأنعام، 165) (الماللي محمد حمدي يازير، حق ديني قرآن ديلي، أستانبول، 1935، 1، 299-300)
حقاً لقد خُلق الإنسان بأوصاف واستعدادات يغبطه عليها الملائكة لقربها من الحق تعالى. ونرى هذه الحقيقة في قوله تعالى:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا اْلإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين، 4)
3- إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لكي يُظهر تجلي الأسماء الإلهية في مستوى أعلى.
ويشير إلى هذا المعنى الحديث الشريف:
“تَخَلَّقوا بخُلُق الله” (المناوي، التعاريف، ص 564)، لأن أكبر نسبة تَجلٍّ للأخلاق الإلهية نجدها في الإنسان من بين كل المخلوقات. ولأن الملائكة ليس لها نصيب من تجلي بعض الأسماء كالمضلِ والمتكبرِ فإن نفسها لا تشكل مانعاً ولا ترتكب ذنباً. ولهذا فإن الإستعداد الذي يُمَكِّن صاحبه من تخطي النفس والوصول إلى الله سبحانه وخلافته قد امتن الله به فقط على الإنسان وحده.
ولهذا فإن أشرف المخلوقات سيدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد نفذ في معراجه إلى حيث لم يستطع أن ينفذ أكبر الملائكة سيدُنا جبريلُ من الحدود، أي إلى سدرة المنتهى.
والخلاصة أن الإنسان يجب أن يعيش حياته مدركا أنه عبد للّه أرسله إلى هذه الدنيا، وأن يكون همه دائما شكر النعم اللا متناهية التي أنعمها الله عليه.
خلق سيدنا آدم عليه السلام
إنَّ خالقَ ومالكَ هذا الكون هو الله ، وقد أراد خلق الإنسان وشَرَّفه على سائر المخلوقات لكي يعرفه، ولكي يطيعه ويعبده، ويعمر الأرض. وقد أبلغ الله سبحانه ملائكته الذين كان قد خلقهم من قبلُ واصطفاهم لعبادته هذه الإرادة الإلهية، فقال الله تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اْلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة، 30)
وقد كانت ردة فعل الملائكة تجاه هذا الأمر أنهم جميعاً قالوا:
﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة، 32)
فالخلافة كالوكالة، وهي تقابل الأصالة، أي النيابة عن الغير، وهي تقريباً تعني تمثيل الغير بأخذ مكانه. والخليفة هنا بمعنى الوكيل الذي يمثل إرادة الله تعالى في الأرض والذي يمتثل لأوامره ونواهيه، ومن هنا فإن الإنسان سيكون واسطة ووسيلة لإتمام نور الله تعالى.[6]
والوكالة في نفس الوقت تعني تكريم وتشريف الأصل للفرع، وجَعْلُ الله أنبياءه خلفاء على هذه الأرض يعتبر من هذا القبيل. وفي الحقيقة إن هناك إشارة لذلك في الروح المنفوخة في الإنسان، أي يوجد وصف لهذا التوجيه فيها، وإلا لم تكن هذه الخلافة لتأتي بمعنى الوكالة عن الألوهية بأي شكل من الأشكال.
في هذه الآية الكريمة عندما أجرى الله نوعاً من المشاورة مع الملائكة وأخبرهم أنه سيخلق خليفة له كأنهم بدؤوا يظهرون أنهم أليق بمقام الخلافة هذا، وبرهنوا على ذلك أنهم يسبحون الله وينزهونه، ولكن الله رد عليهم قائلاً: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ مُعْلمهم بذلك أن خاصية التسبيح والتنزيه التي يتصفون بها ليست كافية لأن تخولهم خلافته، وأن الخلافة يمكن أن تستأهل بنفخ سره، أي روحه، فيمن يخلفه، وتعليمه الأسماء.
وهكذا فقد كانت الخلافة لائقة بالإنسان، وذلك لكونه من بدائع المحدثات أي من روائع إبداع الخلق الإلهي ظاهراً وباطناً، فهو المخلُوقُ الرائع الذي اجتمع فيه تجلي كل أسماء الله تقريبا.
حكم السؤال الذي سألته الملائكة للّه سبحانه وتعالى:
1- أرادت الملائكة أن تعرف الحكمة من خلق الإنسان، وإلا فلم يكن الغرض من سؤالهم الإعتراض أو حسد سيدنا آدم عليه السلام، لأنه حسب ما أخبرتنا النصوص فإن الملائكة لا تتصف بمعصية الله أو الإعتراض عليه سبحانه، ولا بالأخلاق السيئة كالحسد والحقد.
2- هناك احتمال أن تكون الملائكة استطاعت أن تعرف من اللوح المحفوظ أن الإنسان سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، فمن الممكن أن تكون قد سألت لهذا السبب، حيث إن بعض علماء الكلام ذهبوا إلى أن الملائكة تستطيع أن تقرأ ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ. (انظر: الرازي، التفسير، 31/114)
3- قد تكون الملائكة سألت هذا السؤال لأن الله سبحانه قد أطلعهم على هذا الحال (حال الإنسان) من قبل.
4- طبقاً لرأي آخر فإن الملائكة سألت هذا السؤال لأنها كانت على علم بالفساد والخراب الذي سوف يحدثه الجِنُّ.
يروى أن المولى عندما أراد أن يخلق آدم عليه السلام بعث الله جبرئيل إِلَى الأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا، فَقَالَتِ الأَرْضُ: إِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تُنْقِصَ مِنِّي شيئا وتشينى[7]، فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ، وَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا، فَبَعَثَ مِيكَائِيلَ فَعَاذَتْ مِنْهُ فاعاذها فرجع، فقال كما قال جبرئيل، فبعث إسرافيل فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَأَعَاذَهَا فَرَجَعَ، فَقَالَ كَمَا قَالَ جبرئيل، فَبَعَثَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ، وَلَمْ أُنَفِّذْ أَمْرَهُ، فاخذ مِنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَخَلَطَ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ حَمْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ، فَصَعِدَ بِهِ فَبَلَّ التُّرَابَ حَتَّى عَادَ طِينًا لازِبًا- وَاللازِبُ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ- ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى تَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: «مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» ، قَالَ: مُنْتِنٌ[8].
وبسبب القرار الذي اتخذه عزرائيل في هذا الموقف وكلَّ الله تعالى إليه وظيفة قبض الأرواح. ولأن الإنسان خُلق من تراب فإنه يحمل خصائصه، فالتراب ييبس أحيانا، ويُصلى من الحر، ويتلهف شوقاً إلى الماء. يتحمل قسوة موسم الشتاء، ولكنه سرعان ما ينتعش ببركة أمطار الربيع، وعندها يعرض لنا مختلف أشكال القدرة الإلهية المتمثلة بالجمال والألوان والروائح والتناغم.
والإنسان يشابه التراب أيضاً في قدَر آخر، وذلك أن الشهوات الدنيوية تعصف بالإنسان كما يعصف الإعصار الموجود في الصحراء بالرمال، ثم يهدأ. فإن النفس إنْ تسلَّطَتْ على الإنسان تجعل حياته تعسة، ولكنه بتخطيه حاجز النفس يصل إلى الكمال. وكما أن التراب يجد الحياة في أمطار الربيع فإنه ينال معها الفيض وتجليات الرحمة ويؤثر ما ناله إلى غيره. وهكذا فإن الإنسان ينفق النعم التي اكتسبها من أجل رضاء الله مثله في ذلك مثل التراب المُنبِت في فصل الربيع وبركته وجماله.
وبسبب أن جسد الإنسان الفاني مخلوق من التراب فإنه يتغذى عليه وفي النهاية يفنى فيه، أي يعود لأصله. إن جميع العناصر الموجودة في التراب موجودة في جسم الإنسان، سواء بقلة أو بكثرة، وأيضا فإن جسم الإنسان هو مظهر آخر من مظاهر التراب، حيث جاء في رواية أن آدم سمي “آدم” لأنه خلق من تراب[9]. والآية الكريمة التي تخبرنا أن آدم عليه السلام خلق من تراب هي قوله تعالى:
﴿…خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران، 59)
وكما أن التراب له ألوان مختلفة كالأحمر والأسود والأبيض وغيرها فإن للإنسان المخلوق منه كذلك ألواناً مختلفةً أيضاً. ومن ناحية أخرى فكما أن بعض أجزاء التراب صلب وبعضها لَيّن فإن الناس من حيث الإستعداد والقابلية متنوعون كذلك. وهذا ما يخبرنا به الله سبحانه في قوله:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (فاطر، 27-28)
وفي هذا الشأن يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
“إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ: جَاءَ مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ، وَالْأَبْيَضُ، وَالْأَسْوَدُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ، وَالْحَزْنُ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ «زَادَ فِي حَدِيثِ يَحْيَى» وَبَيْنَ ذَلِكَ“. (أبو داود، السنة، 16)
وحسب ما روي فإن الله عَجَنَ التراب الذي خُلق منه آدم عليه السلام بيده أربعين يوماً (الطبري، التفسير، 3، 306) وإن كَيفيّةَ كل يوم من هذه الأيام هو مجهول بالنسبة لدينا.
وحسب ما أطلعتنا عليه المصادر فإن الطين الذي خُلق منه آدم عليه السلام تُرِك أربعين سنةً، وأحمي على قالبه النار، وأمطر عليه أمطار الحزن تسعاً وثلاثين سنةً، وأمطار السرور سنة واحدةً، ولهذا فإن الحزن عند ابن آدم أكثر من السرور. وقد قال أصحاب الحكمة:
ها هي الدنيا إذا أضحكتْ يوما أبكتْ أياماً
المطر المذكور هنا ليس مادياً، وإنما هو تجليات معنوية، سمي مطراً مجازاً.
الحزن دائماً يعقبه سرور، فالمكافآت الكبرى تأتي دائماً بعد الصبر والمعاناة، وذلك كمعجزة المعراج، فإن الله أنعم على نبينا بها بعد جولته الشاقة والمؤلمة إلى الطائف، والمرحلة المدنية السعيدة جاءت بعد المرحلة المكية الصعبة. فقد قال الله تعالى:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الانشراح، 5-6)[10]
عندما نزلت سورة الانشراح سُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى قرن العسر بيسرين، فخرج إلى أصحابه مسروراً فرحاً وهو يضحك وقال: “لن يغلب عسرٌ يسرين” ثم تلا:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الحاكم، 2، 575)
يقول الشاعر لمن واجه ظرفاً صعباً من مشقات هذه الحياة مرشداً إياه إلى طريق الخلاص:
اِذَا ضَاقَ بِـــــكَ اْلاَمْرُ تَفَكَّرْ فِى «أَلَمْ نَشْرَحْ»
فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ اِذَا فَكَّرْتَهُ تَفْرَحْ
لا شك أن الدنيا دار ابتلاء مليء بالمحن المختلفة، وذلك ما أخبرنا الله به في قوله تعالى:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ اْلأَمْوَالِ وَاْلأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. اَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا ِللّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة، 155- 157)
حتى الجمادات والنباتات فإنه عندها نضوج بعد مرورها بمرحلة عمومية من مراحل الصبر، فمجيء الربيع يكون بعد تحمل التراب العذاب في موسم الشتاء، والإنسان أيضاً ينضج بالصبر وتحمل المشقة، ويصبح إنساناً كاملاً. يبين الله تعالى لنا في القرآن الكريم مراحل خلق آدم عليه السلام من تراب كما يلي:
- مرحلة التراب
﴿…خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران، 59)
ولأن الإنسان خُلق من تراب فإنه يحتوي على خصائصه المختلفة في بنيته، فكما أن من التراب الطيني، ومنه الرملي، ومنه الناعم ومنه الخشن، فكذلك الناس يعرضون لنا في طبيعتهم هذا الإختلاف. وكذلك فإن التراب يُداس، ويمكن أن يُعمل عليه أي شيء بشكل مريح، ولا يصدر من التراب أي تذمر تجاه هذه الأمور، وهكذا فإن الصفات الموجودة في الإنسان كالصبر والتواضع تأتي من هنا. وبالمقابل فإن بعض الأوصاف كالسكون والعطل والكسل الموجود في التراب نراه في الإنسان أيضاً.
- مرحلة الطين
﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍٍ﴾ (السجدة، 7)
في مرحلة الطين يأتي دور الماء. قبل كل شيء فإن الماء منظِّف، فيمثل النظافة، ومن هذا المنظور فإن الماء يمثل العفة والشرف وطهارة الحواس المادية والمعنوية عند الإنسان.
- مرحلة الطين اللازب (الملتصق بعضه ببعض)
﴿…إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ﴾ (الصافات، 11)
اللصوق يمثل عدم الإنقطاع وحس الولاء والتعلق عند الإنسان، وأيضاً فإن العناد والإصرار في الدفاع عن فكر معين عند الإنسان ناتج عن هذه المرحلة.
- مرحلة الصلصال (الطين المجفف بالهواء)
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا اْلإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ (الحجر، 26)
في مرحلة الصلصال من حمإ مسنون المذكورة يدخل عنصر الهواء، والهواء يُدخِل لطين الإنسان قابليته للحركة، فعدم الإستقرار والتقلب وعدم الوفاء بالعهد والتهدم ومثل ذلك من الأوصاف الموجودة في طبيعة الإنسان ناتجة عن هذه المرحلة.
- مرحلة الحمأ المسنون (الطين المُشَكَّل)
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ (الحجر، 28)
تشير مرحلة الحمأ المسنون إلى خاصية قابلية الإنسان للتشكل والتربية والتزكية، ويمكن لهذه الخاصية أن تُستعمل في الخير أو الشر، والمهم أنها تمكنه من تقويم نفسه.
- مرحلة “صلصال كالفخار”
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِِ﴾ (الرحمن، 14)
يدخل في هذه المرحلة عنصر النار. وتنشأ من هذه النار بعض أوصاف الإنسان، كالكبر والغرور والحسد ومخالفة أوامر الله والخيانة.
تلخص لنا الآيات 12-14 من سورة المؤمنون أحداث خلق الإنسان منذ حضرة آدم عليه السلام إلى من بعده ممن جاء من صلبه من النّاس، يقول الحق تعالى:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا اْلإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً[11] فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ (المؤمنون، 12- 14)
لم يستطع علم الطب أن يصل إلى هذه الحقائق إلا في عصرنا هذا، ولكن الله سبحانه أخبرنا بمراحل خلق الإنسان في القرآن الكريم على نحو موافق للحقائق العلمية قبل ألف وأربعمئة سنة ونيّف.
يذكر الله تعالى في الآيات الكريمة السابقة مراحل خلق الإنسان المليئة بالعبر والملفتة للنظر. إن الطين الذي يشكل المرحلة الأولى من مراحل خلق الإنسان، أي مرحلة التراب المستعمل في خلق آدم عليه السلام ، هو من حيث المظهر مادة ليس لها جمال ولا قيمة، وأما ما بعدها من المراحل
فهي تقدم لنا مادّة غير جذّابة، بل مُقرفة، تعرض لنا مناظر من ماء مهين لا قيمة له، وتخثر دم جامد دَبِق (العلقة)، ومضغة. وبعد ذلك تتدخل التجليات الإلهية، فتظهر قدرة الله تعالى في بديع تشكيل الإنسان وروعة وظرافة مظهره. ويعقُبُ ذلك زوال القوة المودَعة في هذه المادة، وخروج الروح منها، فتنعكس الرحلة سيرها، ويُكمِلُ ذلك الجسد رحلته بعد اكتمال مراحل نضوجه، ويعود مرة أخرى إلى المكان الذي أتى منه، ألا وهو التراب، فيتعَفَّن ويتحلّل فيه. وبعد ذلك يأتي دور بذرة الجسد الوحيدة التي لا تَفنى ولا تتعفَّن، والتي تُسَمّى “عُجبُ الذَّنَب”، والتي تكون في هذا البدن المتعفِّن كأنها قطرة زِئبق، فتُنبِتُ الجسد مرة أخرى وتدب فيه الحياة بشكل سريع، وتخرجه من مرقده.
وقد دعا الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى التفكُّر في سير رحلته هذه في آيات كثيرة، ومنها قوله تعالى:
﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ﴾ (يس، 68)
وقوله تعالى:
﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ (الروم، 54)
وقوله أيضاً:
﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ (طه، 55)
مما سبق تخبرنا هذه الحقائق أنَّ بدن الإنسان نتيجة للمراحل التي يمر بها في الدنيا، ووفقاً لطبيعته وظروفه الذاتية فإنه محكوم عليه بالفناء، وأن الشيء الأصيل والدائم الأبدي هو سلطان الروح التي يكون معها طريق السعادة أو الشقاوة، الطريق إلى الجنة أو إلى النار.
نفخ الروح (نفث الروح)
بعد أن خلق جسد الإنسان من قبضة تراب، نفخ فيه سرا من روحه منعماً عليه بأعظم المراتب بين المخلوقات. غير أن الحياة الموجودة في الإنسان المخلوق كجسد كانت قد بدأت بنفخ الروح. ومن هذا المنطلق فإن نفخ الروح يعد قبل كل شئ تقدير من الله تعالى لعبده، ومنحه الحياة. ويبين الله تعالى هذه الحقيقة في الآية الكريمة:
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ…﴾ (الحجر، 29)
إن نفخ الله تعالى من روحه في آدم عليه السلام إنما هو تعبير مجازى. وكذلك في منح الله تعالى العبدَ بعضاً من صفاته وفقاً لقدرات العبد واستعداداته. وبهذا النفخ يعرف الإنسان ربه ببركة وقدرة هذه الأمانة التي تلقاها منه، ويكون عبداً له. ويكون الإنسان على بصيرة من الأسرار والعظمة الإلهية على قدر طاقته وقدرته. أما مركز هذه الإحاطة فهو القلب. والقلب هنا ليس ككيان فيزيقي، إنما بوصفه مكاناً للتجلي ومركزاً للإحساس. إن امتلاك النفس السلطانية يجعل الإنسان بثلاث مهام أساسية ويكون مزوداً بالقدرة على الإيفاء بتلك المهام وهي:
معرفة نفسه، أي معرفة ذاته وحقيقتها.
معرفة خالقه، أي معرفة ربه (معرفة الله)
إدراك فقره وحاجته إلى خالقه، الوصول إلى العدم
ولقد ورد في الأثر أن:
(من عرف نفسه فقد عرف ربه)
إن أول موجود خُلق إنما هو النور المحمدي، مثلما أن روحه الشريفة هي الأولى في خلق الأرواح. أما الأرواح الأخرى فهي من قبيل مكنون الجوهر وذلك من أجل معرفة قدر وقيمة روحه الشريفة.
ولهذا السبب يقال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: “أبو الأرواح”.
ويروي أبو هريرة أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين:
“مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ ”
فأجاب عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:
“وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالجَسَدِ” (الترمذى، المناقب، 1، 3609)
وعلى هذا يكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الأول في النبوة أيضاً. وإن الحكمة الكامنة في كونه الأول من حيث خلق الجسد، الروح، والنبوة سنتناولها لاحقا في موضوع أمر الله للملائكة بالسجود لسيدنا آدم عليه السلام . ويمكننا أن ندرس الروح في قسمين:
الروح السلطانية:
وهي من عالم الأمر. وتكون منفصلة عن الجسد. وكونها معه إنما يكون لسيطرتها عليه وتحكمها فيه. ولا يؤثر فيها كون الجسد يفنى ويتعفن. غير أن الرغبات الجسدية بهذه الصورة تتخلص من السيطرة التي هي عليها.
الروح الحيوانية:
وهي من عالم الخلق. وتنتشر في كل أنحاء البدن. تكون سيطرتها الأساسية على الدم. مركزها هو المخ. وهي تشكل نقطة البداية بالنسبة للأفعال والحركات. ولو لم تكن هناك الروح الحيوانية لما أصبح هناك تأثيرا في الجسد.[12]
الأطوار الخمسة للروح:
طور العدم: كان الله تعالى موجودا وحده في الأزل، ولم يكن يوجد هناك أي موجود آخر سواه. وخلال تلك الفترة كانت الأرواح في عدم تام. وهكذا تخبرنا الآية الكريمة:
﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ (الإنسان، 1)
طور وجود عالم الأرواح (مرحلة ألست):
خلق الله تعالى الأرواحَ قبل خلق الأجساد لحِكَم كثيرة جداً. وهكذا يتناول الحديث الشريف هذه الحقيقة:
“خُلقت الأرواحُ قبل الأجساد بألفي عام” (الديلمى، المسند، جـ2، ص 187- 188)
طور إرسال الأرواح إلى الأجساد:
إن الأرواح التي خلقت قبل الأجساد بأزمنة بعيدة، و التي أُخذ منها العهد والميثاق فيما يتعلق بالإقرار بربوبية الله ، كان قد شُرع في نقلها وإرسالها إلى الأجساد واحدة فواحدة بما يتواءم مع خطة القدر التي كانت قد أُعدت في الأزل. وهكذا تتحدث الآية الكريمة عن نفخ الروح في آدم عليه السلام بوصفه أول إنسان:
﴿…وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ (الحجر، 29)
طور الانفصال عن الأبدان:
تنفصل الأرواح التي استوفت أجلها الذي كان قد قُسِم لها في هذه الحياة الفانية، تنفصل واحدة فواحدة عن أبدان التي لبثت فيها فترة مؤقتةً. وهذا المصير المحتوم الذي لا يمكن لأي أحد أن ينجو منه يقال له: الموت. وهكذا تخبرنا الآية الكريمة:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ…﴾ (آل عمران، 185)
طور العودة إلى الأبدان مرة أخرى:
الموت في العقيدة الإسلامية ليس فناءً وزوالاً، إنما هو أشبه تمام الشبه بميلاد الطفل الموجود في رحم الأم حينما ينقطع ارتباطه به. فحينما تتخلص الروح من هذا العالم الفاني يكون ميلادها في صباح حياة أبدية.
وهناك سيحاسب الإنسان عن الحياة التي عاشها في الدنيا، وكنتيجة لهذا، فإما سيصل الإنسان إلى سعادة لا حد لها، أو يتعرض لعذاب أبدى (أعاذنا الله ).
وهاتان آيتان اثنتان من بين مئات الآيات المتعلقة بهذا الموضوع:
﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ (يس، 79)
وعندما يتحدث المولى في الآية السابعة من سورة التكوير عن علامات يوم القيامة الشديدة والرادعة يخبرنا الله تعالى برده الأرواح للجسد من جديد:
﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ (التكوير، 7)
ليس ممكناً بأي حال من الأحوال معرفة ماهية الروح التي تُنفخ من قبل الله تعالى في الإنسان بوصفها سراً. ذلك لأنها تنتمي إلى عالم الغيبيات وتعبر عن ماهية لن يستطيع أن يعيها إدراك البشر. وبناء على هذا يخبرنا المولى في الآية الكريمة بشأن ماهية الروح:
﴿و َيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الإسراء، 85)
الروح من الأمور التي لا يعلمها إلا ربنا .
الروح هي الجوهر الذي يكون أساس “الأمر”.
الروح عبارة عن فعل من قبيل أمر ربنا .
و يمكن إيضاح كلمة “أمر” الواردة في الآية بكلمات مثل (الأمر، السلطة، السيادة، الإمارة) بوصفها متعلقة أيضاً بكلمة إمارة التي هي من نفس أصلها. وفي هذه الحالة يكون معنى الروح صفة وحالة الأمر. وهذا أيضاً يعتبر تجلى لصفات الله في العبد.
وهذا يعنى أيضاً أن الإمارة (الحكم والإدارة) تكون إحدى الصفات التي تتجلى في العبد. وبناء على هذا فإن كون الإنسان خليفة الله، فهذا يتصل بتجلي السلطة (الإدارة) التي توجد هنا.
والإمارة خاصة بالإنسان. فالبرغم من أن الأسد يكون أقوى من الإنسان من الناحية الجسمانية، إلا أنه يظل ضعيفا في مقابل نضج الإنسان وتكامله العقلي، فمثلا إذا عاش الأسد ألف عام فلن يستطيع أن يصنع لنفسه آلة أو منزلاً.
علاوة على ذلك أيضاً فلا يوجد تجلياً بالمعنى الكامل عند الملائكة. إن هذا النمط من التجلي يكون متوائماً مع الإنسان فقط. والإنسان يكون بين “أحسن تقويم” و“بل هم أضل: درجة أدنى من الحيوانات”.
فمثلاً نجد صفات “الرحمن” و“الرحيم” التي تتجلى في محيط قلب الإنسان، مجتمعة في نفسه جنباً إلى جنب مع صفات “مُضِل” و“كبرياء”.أي أن الإنسان يعد جامع الأضداد. فهو يجمع في داخله جميع الصفات الإيجابية والسلبية. وكونه جامع الأضداد إنما هو أمر يختص به الإنسان دون غيره من المخلوقات.
في نهاية الآية الكريمة السابق ذكرها يتم التعبير بشكل قاطع عن أن الإنسان أُعطى علم قليل فيما يتعلق بماهية الروح بوجه خاص.
وعلى هذا يجب على الإنسان ألا ينشغل بفك أسرار الروح متجاوزاً في ذلك حده، وعليه أيضاً ألا يغتر بعلمه، وفي مقابل ذلك عليه أن يولى أهمية أكبر للعبودية متفكراً بشكل أعمق في طبيعة مسؤولياته. بعد أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام علَّمه أسماء الأشياء كلها من أجل تحقيق القوامة له على سائر المخلوقات. وتروى الآية الكريمة التالي ذلك في قوله :
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة، 31)
وعندئذٍ سبّحت الملائكة بحمد الله تعالى منزهين إياه عن كل صفات النقص، وفي هذا يقول الله تعالى:
﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (البقرة، 33)
إن المقصود بالأسماء التي عُلمت لآدم طبقاً لأحد التفسيرات- كان أسماء جميع الأشياء الموجودة على وجه الأرض، وماهيتها، وخصائصها.
نحن لا نستطيع أن نعلم بقدر ما ينبغي مظاهر القدرة الإلهية، جميع الأسرار الإلهية بما فيها من حِكم، أي غايات الأسماء الحسنى ودلالتها. ومن ثم فإمكانية معرفة الله تعالى يمكن أن تتم فقط من خلال حياة قلبية. وهكذا تتضح حقيقة الأشياء وأسرارها من خلال الحدث القلبي. وهذا يتعلق فقط بالإحاطة بأسماء الله الحسنى والتعرف إليه. ويعرف الله سبحانه وتعالى نفسه لعباده من خلال الأسماء الحسنى فيقول سبحانه وتعالى:
﴿وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَىٰ…﴾ (الأعراف، 180)
ذلك لأن العبد يحقق من خلال الاسم صلته بالإلوهية. و توضح هذه الحقيقة أن اسم الله تعالى يُعد مكوناً لا يمكن التخلي أو الانقطاع عنه. ومن هذا المنطلق فإن أفعال الخير والشر التي يقوم بها العبد تجاه الله لا تتجه إلى حقيقة الإلوهية وإنما تتجه إلى اسمه. وهكذا تظل حقيقته جل وعلا منزهة دوماً.
وفي حقيقة الأمر، فإذا لم تكن هناك أسماء قد اختص بها الله تعالى نفسه، لواجه العبد حينها متاعب في تنظيم صلاته باللّه. ذلك لأن الإنسان متعود على رؤية الموجودات في أسمائها، ومتعود أيضاً على التعبير بالاسم. فالاسم بالنسبة للإنسان هو تجلى الكون. ولذلك فحينما خلق الله تعالى آدم عليه السلام علَّمه الأسماء كلها، ولقد عبر سبحانه بهذا عن أفضلية سيدنا آدم عليه السلام بالنسبة للملائكة. ذلك لأن معرفة أحد أسماء الوجود يعنى التعرف على وجوده الحقيقي في أحد المعاني. وبناء على هذا فإننا إذا لم نعرف الله تعالى بأسمائه الجليلة فماذا نستطيع أن نعلم بشأنه سبحانه وتعالى؟
ومعنى هذا أن الإنسان محتاج دوماً إلى الأسماء التي تبين سمات ربه جل وعلا. كل عبد يريد أن يدعو ربه باسم يلاءم حاله، وذلك من خلال المواقف المختلفة التي يعيشها. ولولا هذه الأسماء لبقيت صلة الإنسان باللّه تعالى منقوصة جداً، بل لعلها أيضاً ستكون مستحيلة.
ويمكن القول بأن هذه الأسماء تعد بمثابة الأقوال التي تزيل بَكْم الإنسان حيال الذات و الإلوهية، أي أنها تعد أيضاً المفاتيح التي تفتح مغاليق النفس البشرية وتخلصها من مآزقها. فحتى مجرد ذكر أسماء الله تعالى فقط يكون له بالغ الأثر في زيادة إيمان العبد، وجعله يشعر بالحضرة الإلهية، وزيادة عشقه ومحبته للّه، وجعله خاشعاً للّه .
وفي الترغيب في التواجد في معية الله ، وهجر الدنيا والتخلي عن متعها ولذاتها الزائلة، وجعله يتجه إلى كل ما هو خالد أبدى، والشعور برغبة عارمة في العودة إلى الحق جل وعلا والوصل به. إن الأدعية والأذكار التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها، إنما هي مليئة بأسماء الله الحسنى، ومثل هذا يوجد فوائدها أيضاً.
إن أي مؤمن يواجه ظروفاً شديدة الصعوبة يكون حينئذ في أمس الحاجة إلى رحمة الله. وحينما يريد عون ربه فإنه سرعان ما يبحث عن عبارة لكي يلخص بها حاله ويعبر عنه: فيتعلق بأسماء: «الرحمن والرحيم».
وحين يشعر بانقطاع صلة القلب وذلك عندما يُسحَق تحت وطأة ذنوبه الثقيلة، فإنه حينئذ يبادر بالبحث عن وسيلة تقربه من الله: فيلوذ بأسماء: «الغفار والستار».
وعندما يمعن النظر في العظمة أو في القدرة الإلهية التي تتجلى في الكون أو في نفسه، فإنه يبحث عن تعبير يعبر من خلاله عن عاطفته وانطباعه، الأمر الذي لا يمكن التعبير عنه من خلال الكتب: فيهدئ نفسه الهائجة قائلاً: «الله أكبر». وجملة القول أن العبد في مختلف أحوال نفسه يستطيع أن يتغلب على الكثير من حاجاته واختلاجاته التي يشعر بها، ويفتح أبواب نفسه المنغلقة وذلك بواسطة صفات الله تعالى المتنوعة.
ومن أجل هذا، فلقد عرَّف الله تعالى نفسه بأسلوب يتمكن الإنسان من فهمه، وبشكل يتفق مع الواقع. أي أن الله تعالى حينما يُعرِّف نفسه من خلال صفات: العليم، الحكيم، القدير الغفور، وغيرها، وكذلك في معرفة الإنسان للّه هكذا، فإنه في حقيقة الأمر يوجد سبب خاص يتعلق بالإنسان. ذلك لأنه يوجد بداخل الإنسان –ولو بدرجة محدودة جداً- جزء من هذه الصفات. وهذه أيضاً تُعد موهبة إلهية مُلطَّفة من أجل هداية وإيمان البشر.
وفي أحد معاني الآية الكريمة التي أخبرنا الله تعالى فيها أنه علم آدم عليه السلام الأسماءَ، يقول تعالى فيما معناه:
«سأعلم الإنسان أسماء الأشياء، وأسرارها، وحكمها الدقيقة ومظاهر جمالها، والإعجاز الإلهي…»
وهنا يمكن الإشارة إلى أن شرف الإنسان وفضيلته سيتمكن من تحقيقهما بفضل العلم النافع الذي سيحصله. ولهذا ينبغي على الإنسان أن يبذل قصارى جهده في القيام بالأعمال الصالحة، وفي تحويل علمه إلى فهم ومعرفة، ذلك لأن الهدف إنما هو التقوى. يقول الله تعالى في الآية الكريمة:
﴿…إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ…﴾ (الحجرات، 13)
و العقل هو مخلوق من مخلوقات الله . و يمكن للعقل أن يثبت وجود الله بالحجة. ذلك لأنه يصل من خلال الأثر إلى المُؤثِّر، ومن الإبداع إلى المبدع. أما حكمته فيمكن أن تُحل فقط في ضوء الوحي. إلا أن قدرة وصلاحية العقل ومضمون الوحي تكون محدودة من حيث الفهم والإدراك. فحيثما ينتهي العقل ويتوقف، فإن القلب يواصل تقدمه بفضل نشاطه وفعاليته.
لكن حتى هذا لا يعد كافيا من أجل الوصول إلى الحقيقة المطلقة. لأن ذات الله مطلقة. وليس من الممكن الوصول إليها بواسطة العقل المقيد (أي أنه ليس مطلقاً) إلى الذات المطلقة وإدراكها بشكل تام على ما يقتضيه الأمر. فيقول الله تعالى:
﴿…وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ…﴾ (البقرة، 255)
وبالرغم من ذلك ينبغي على الإنسان ألا يُحجم عن طريق المعرفة، وأن يبذل كل جهده في البحث عن مختلف الوسائل للوصول إلى ربه. وإن أفضل النماذج لمن يبذلون هذا الجهد إنما هم الأنبياء. وعلى هذا، كان إبراهيم قد قال:
﴿وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ (الصافات، 99)
ويشار في الخبر أيضاً إلى عدم إمكانية معرفة الله تعالى كما ينبغي، ومع ذلك يشار إلى أهمية هذه المعرفة قائلاً:
“سبحانك ما عرفناك حق معرفتك…” (المناوى، فيض القدير،11،ص250).
لقد تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم على ثلاثة وجوه:
أولاً: علم محفوظ بينه وبين الله تعالى. و هذا العلم لم يصرح به للناس، لكونه فوق مستوى إدراك البشر. لكن يمكن إدراكه واستيعابه بنور النبوة. ومن هذا القبيل تلك المعاني التي تحملها الأحرف المقطعة. وبناء على هذا لم ينقل سيدنا رسول الله إلى أصحابة كل معرفة أُخبر بها على نحو خاص، فيما عدا الوحي لكونه مأمور بتبليغه. ويشير حديث سيدنا رسول الله لهذه الحقيقة بقوله:
“لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا” (البخارى، الكسوف 2، مسلم، الصلاة، 112)
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في نفس الموضوع:
“لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل” (العجلوني، كشف الخفاء، رقم: 2159)
ثانيا: علم الشريعة الذي يتعلق بالعامة. وكل البشرية مكلفة بالإيمان بهذا العلم والعمل به. وتعبر هذه الآية الكريمة عن هذا النوع من العلم: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ…﴾ (المائدة، 67)
ثالثاً: قسم يُتاح لأهل الاختصاص. ولقد نهى الله تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم للأشخاص ممن هم ليسوا أهل اختصاص. فذات مرة أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما قائلاً:
“يا ابن عباس! لا تحدث حديثاً لا تحتمله عقولهم فيكون فتنة عليهم” (الديلمى، المسند، 5، 359/ 8434)
ولهذا يقول سيدنا علي رضي الله عنه:
«حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله» (البخاري، العلم، 49)
وطبقاً لإحدى الروايات التي وردت عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصحابة الكرام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين:
«يا رسول الله ما نسمع منك نحدث به كله؟؟
فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً:
“نعم إلا أن تحدث قوما حديثا لا تضبطه عقولهم فيكون على بعضهم فتنة، فكان ابن عباس يكن أشياء يفشيها إلى قوم“.
وبعد هذا التحذير كان ابن عباس رضي الله عنهما يوضح بعض الأشياء بالتلميح(بطريق غير مباشر) وذلك إذا قام بشرح مسألة إلى العامة من الناس. (علي المتقى، كنز العمال، 5، 307/ 29537)
وهكذا يقول أبو هريرة رضي الله عنه في هذا الشأن:
«حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْنِ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ» (البخاري، العلم، ص82)
هذا العلم الذي كتمه خيار الصحابة عمن هم ليسوا أهلا له كان عبارة عن حقائق سيتمكن من إدراكها أناس مستثنون، مزودون بمقدرة فائقة فيما يتعلق بالفهم والإدراك.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نقل حقائق كهذه إلى بعض الأشخاص ذوى الفهم الفائق من أصحابه الكرام أمثال سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا علي رضي الله عنهما. إن كل شخص يكون مسئولا عن هذا بقدر استعداده ومهارته. وينبغي على العبد تنمية هذا الاستعداد من أجل نجاته وبلوغه السلامة، والوصول إلى مشاعر الزهد والتقوى والإحسان، وبتعبير آخر ينبغي عليه أن يسعى إلى معايشة التصوف في أبهى صوره وأجملها. وهذا أيضا يمكن تحقيقه فقط من خلال تزكية النفس وتصفية القلب.
وبادئ ذي بدء، فإن سلامة الفرد تكون ممكنة بإتباع التكاليف الشرعية. أما كونها تتفق مع مبادئ التصوف، فذلك يضمن تحقيق هذه السلامة بسمو عالٍ وعلى نحو خاص.
ولما كانت التكاليف الشرعية تخاطب كل الناس، لذا فهي تُطبَّق في حدها الأدنى بما تقتضيه الرحمة الإلهية، وتؤخذ قدرة أكثر أفراد العامة عجزاً كمقياس لذلك. أما فيما يتعلق بالترقي والسير قدما في طريق التصوف فتظل مقدمة هذا الطريق مفتوحة وفقا للاستعداد، وتعرف رخصة إلى أهلة حتى الفناء في الله تعالى والبقاء باللّه.
فمثلاً بالرغم من أن زكاة المال تكون اثنين ونصف بالمائة، فإن الله تعالى لم يضع حداً للإنفاق. فلقد حث الله المؤمن على إعطاء أخيه المحتاج ولو حتى نصيبه الذي يكون هو نفسه في حاجة إليه مُؤْثرا إياه على نفسه. وهذا النصاب الشرعي للزكاة يكون طبقاً للحد الأدنى فيما يتعلق بالقلب.وكلما زادت محبة القلب زاد معها حد الإنفاق.
ومن هذا المنطلق فإن علم التصوف بوصفه حقيقة إنما هو «علم لدنى»، والذي يمكن الوصول إليه على حسب قدرة الفرد واستعداده نتيجة الرياضة الروحية. والدليل على ذلك تحدث القرآن الكريم بشأن هذا العلم في عددٍ من الآيات الكريمة. يلطف الله كثيراً باللذين يتقونه على ما ينبغي من تلقاء أنفسهم، وكذلك بقلوب العباد اللذين تخضع إرادتهم البشرية ورغباتهم لإرادة الله تعالى، كما يلطف كثيراً أيضاً بهؤلاء اللذين لا يستطيعون أن يزنوا الأمور ويقدروها. وبناء على هذا، يخبرنا ربنا جلَّ وعلا في القرآن الكريم أنه سبحانه قد تفضل على عبادة المتقين بحكمة وعلم على نحو خاص:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (الأنفال، 29)
﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحديد، 28)
إن أشخاصاً مثل الإمام الغزالي وعبد القادر الجيلانى كانوا قد وصلوا من قبل إلى قمة العلم الظاهري، لكنهم تمكنوا بعد ذلك من الوصول إلى بعض التفاصيل الغيبية، وذلك بفضل المشاعر الرقيقة المتجهة إلى الله، التلطف والرأفة، وكذلك بفضل قوة المشاعر القلبية وعمق التفكير القلبي، فصاروا عشاقاً للّه .
لقد منح الله تعالى بعضَ صفوة الخلق بعضَ الأسرار التي لم ينعم بها على العامة، وذلك بقدر قوة مشاعرهم القلبية. ولو لم يكن الأمر هكذا لما ظهرت تلك الشخصيات المعروفة.
سجود الملائكة لآدم
بعد أن خلق الله آدم عليه السلام ونفخ فيه من روحه، وعلمه الأسماء كان قد أمر الملائكة بالسجود له.
وفي هذا الشأن يقول الله تعالى في الآية الكريمة:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّى خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. قَالَ لَمْ أَكُن لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ (الحجر، 28-33)
ولقد تم الحديث عن هذه الواقعة في القرآن الكريم وأُفرد لها مكان في سبع سور باعتبار أن كل واحدة منها تختلف عن الأخرى من حيث السياق والسباق. وهذا أيضا يوضح أهمية الموضوع. وهنا توجد توجيهات بالغة الأهمية:
لم يأخذ إبليس أوامر الله بعين الاعتبار، وتحرك في اتجاه رغباته و أهواءه. كان قد قدم مقايسة المنطقية وقياسه العقلي على أوامر الله .ولهذا فإن العبد أيضاً إذا قدم عقله ومنطقه ورأيه على أمر الله تعالى فإنه سيصبح حينئذٍ عرضة للخطأ نفسه الذي وقع فيه إبليس. حيث ورد ذلك التحذير الإلهي بهذا الشأن في الآية الكريمة:
﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللهَ﴾ (الحجرات، 1)
ويخاطب الله تعالى إبليس و يسأله عن سبب امتناعه عن السجود بقوله:
﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بيدي…﴾ (ص، 75)
إن كلمة «بيدي» التي ذُكرت في هذه الآية إنما تعبر عن قدرة الله تعالى، وفي الوقت نفسه فإن هذا التعبير يظهر تلك الأهمية التي أولاها الله تعالى للإنسان.
وهكذا يعبر «محي الدين بن العربي» عن هذا المعنى بتعبير آخر إشارى فيقول: «اليدان هما تجليات الله الجلالية و الجمالية. حيث إن بُنية جسد الإنسان وجانب الخلق الجسدي يعتبر تجلى جلال، أما الجانب الروحاني المعنوي فيعد تجلى جمال. وفي الإنسان يكون الجمع بين الاسمين، أما عند إبليس فيتوافر له تجلى الجلال فقط، ويظل محروما من تجلى الجمال»
ولقد ورد في الحديث الشريف:
“خلق الله آدمَ على صورته…” (مسلم، البر،115)
إن الحقيقة التي تم التعبير عنها في الحديث الشريف ليست صورة جسدية، إنما هي صورة باطنية ومعنوية. فهي ليست جانب الجسد والكينونة وإنما جانب السر والروح.
لو لم يكن يوجد في آدم عليه السلام مظهر هذه التجليات الإلهية بكاملها، ولو لم يكن فيه صفات سامية تختلف عن بقية المخلوقات، لكان مستحيلاً أن يصبح خليفة، ولما استطاع الإيفاء بمهمته. لكن قيامه بإنجاز تكليفه بوصفه خليفة في الكون إنما هي كيفية تعود إلى إنسان كامل امتلك النضج مرورا بمراحل تزكية النفس، تهذيب الأخلاق وتصفية النفس.
وإذا تمكن الإنسان من الوصول إلى الطليعة في الحياة. ستكتمل تجليات اسم «الهادي» مثل: الهداية، الاستقامة، الإيمان، الإقرار، القبول، التودد (الصحبة والمحبة)، فإنه حينئذٍ يرتقى إلى درجة تفوق حتى الملائكة. وعلى العكس من ذلك، فإذا غلبت عليه تجليات الاسم الشريف «المُضل» مثل: الإضلال، الحيلة، الكفر، الإنكار، الحسد، والتسلط فإنه يتهاوى حينئذ إلى درجة أدنى من الحيوانات.
وبناء على هذا يقول الله تعالى في الآية الكريمة:
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف، 179)
إن عدم سجود الشيطان لآدم كان إشارة دالة على الخيلاء والكبر الكامن في شخصيته. لأنه كان في وقت من الأوقات يملك علما بدرجة جعلته كبيراً للملائكة. ولهذا السبب تبوأ مكانة بارزة.
ويتبين من هذه النقطة مدى خطورة العلم والجاه، كإثارة مشاعر الأنانية عند الإنسان. ومع هذا توجد إشارة أيضاً إلى أن العلم وحد غير كافٍ لطاعة الله . حيث كان الشيطان من طائفة الجن مخلوق من نار ملتهبة بلا دخان. أجرى الشيطان مقارنة وفقاً لعقله المحدود مدعياً أن النار الملتهبة بلا دخان التي خلق منها إنما هي أعظم قدراً من الطين المبلل الذي خُلق منه آدم عليه السلام ، ذلك لأنه كان يتصور في داخله أن ذلك يعد شرفاً وقيمة له. لأنه كان يعتبر أن من المذلة أن يسجد لآدم الذي هو أقل منه قدراً -طبقا لرأيه!- المخلوق من طين على اعتبار أصل الكينونة، معتبراً نفسه أعظم شرفاً حيث نشأ من أصل أعظم قيمة على اعتبار الجوهر الأصلي. ومثل هذا الموقف يشير إلى عدم كفاية العقل للوصول إلى الحقيقة.
وطبقا لما يُفهم من هنا فإنه يجب ألا تجرى مقارنة حيال أمر الله . فالقياسات التي تجرى مخالفة للأصل تكون باطلة وفاسدة، ولا يُعتد بها.وهكذا وقع الشيطان في هذه السقطة.
إلى جانب ذلك، فحتى إدعاء الشيطان بأن منزلة النار أعلى من التراب يبقى تصوراً نسبياً. لأنه توجد خصائص كثيرة جداً في التراب تجعله أعلى منزلة من النار.
لكن المهم في ذلك ليس المقارنة وإنما الإمتثال لأمر الله تعالى. والذنب الأساسي الذي ارتكبه الشيطان إنما هو محاولة إضافة أمر بخلاف أمر الله.
وبناء على هذا قال إبليس بحماقة وتهور:
﴿…قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ (الاعراف، 76)
نظر الشيطان إلى الطين الذي خُلق منه سيدنا آدم عليه السلام في حين أنه لم ير عظمته. شاهد الطين المرتبط بهذه الدنيا، لكنه عمى عن المعنويات المتعلقة بالعالم الآخر.
والجانب الذي لم يستطع الشيطان إدراكه هو أن الإنسان «خليفة الله» بعين الواقع، وهكذا لم يستطع إدراكه أن يتجاوز مجرد مادة آدم عليه السلام . كان قد استمد إدراكه من نفسه وليس من الله .
ولهذا السبب تحير وتحرك تحت تأثير عاطفته وانفعاله. إن إبليس الذي لم ينفذ أمراً آذى شعوره ولم يوافق رغبته، والذي لم يجتز اختباراً كهذا لم يستطع إدراك الحكمة الإلهية في ذلك. كان قد غرق وسط دوامات النفس وعصى الله بصورة قبيحة.
كان إبليس قد انقاد لنفسه المتفلتة وامتنع عن السجود لسيدنا آدم عليه السلام بسبب خوفه من فقدان كبريائه. لكنه بهذا التصرف أوقع نفسه في حالة أسوء من الخوف، حيث طُرد من هذا المقام العظيم الذي تفضل الله به عليه. أصبح مُحقراً وانقلب في هاوية سوء الحظ مطروداً من جانب الملائكة بعد أن كان في وقت من الأوقات يحتل مكانة كبيرة بينهم. وبناء على هذا يقول الله بشأن عصيان إبليس:
﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ﴾ (الحجر، 34-35)
أيضاً قول الله تعالى لإبليس:
﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾[13] (الأعراف،13)
وهكذا فقد الشيطان مكانه بين الملائكة حينما ادعى التكبر والتعالي على سيدنا آدم عليه السلام . وحينما قلق بشأن حياته قال متوسلاً إلى الله:
﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (الحجر، 36)[14]
فتحقق له هذا المطلب بفضل الحكمة الإلهية:
﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ.[15] إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ (الحجر، 37-38)
يوجد لكل شخص في داخله نصيب من تكريم الإنسان، نظراً لأن جميع البشر الذين سيولدون إلى يوم القيامة من صلب آدم عليه السلام ، ولكوننا متصلين جميعاً منذ البداية.
وهناك حقيقة أيضاً تتمثل في أن الناس جميعاً -متمثلين في شخص سيدنا آدم عليه السلام– مخاطبون بمعاداة الشيطان. هناك حاجة إلى اختبار العبد حتى تخرج جميع الرغبات التي تملكها النفس وتحتفظ بها. ومن أجل هذا كان من الضروري وجود محرض مثل الشيطان.
إن واقعة الإقتراب من الشجرة المحرمة التي كانت سبباً في طرد البشر من الجنة ومجيئهم إلى الدنيا، كانت ضرورية من أجل إخراج الشيطان للرغبات الجسدية الكامنة في الإنسان حتى يوم القيامة.
وبناء على هذا فإن إبليس أيضاً يشكل عائقاً يحول دون الارتقاء الروحي للإنسان، وذلك بتحريضه له دوماً وإيقاظه المستمر لرغبات الجسد الجسدية. ولهذا السبب فالبشر جميعاً مضطرون إلى أن يكونوا دائماً في حالة تيقظ وانتباه.
وهكذا فبسبب كل هذه الحِكم كان الله تعالى قد أمهل الشيطان إلى يوم القيامة. وفي المقابل أيضا أبقى الله باب التوبة والعفو مفتوحاً أمام البشر إلى أن يأتي الموت. لكن العبد بهذه الوسيلة كان قد عانى امتحان عسير في الآخرة. وهكذا يُسرد في سورة الإسراء بأسلوب بالغ الدقة طلب الشيطان الإذن من الله بذلك:
﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً. قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً. وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ (الإسراء، 62-64)
وفي هذه الآيات الكريمة تم تناول العديد من النقاط التي تحدثت عن تأثير الشيطان في الإنسان، وأنه مُسلط عليه بصورة كبيرة. ووفقا لهذا:
الشيطان يستطيع فقط أن يوسوس لهؤلاء الأشخاص الذين يقعون تحت سيطرته وتحكمه.
يضلل الشيطانُ الإنسان بكل أنواع اللّهو التي تحقق سهولة انحرافه لكونه ميال إليه بالفطرة، وبالمعازف والأغنيات التي تخاطب الجسد.
ولقد جاء في تفسير كلمة (صوت) التي وردت في الآية: كل أنواع الأصوات التي تؤدى بالإنسان إلى عصيان الله.
يضلل الشيطان الناسَ عن طريق كثرة الأموال والأولاد في الدنيا.
شعر الشيطان بالأمان في داخله بعد أن أجاب له الله تعالى طلبه وأذن له، فقال الشيطان بسوء أدب مسنداً سبب عصيانه للمولى:
﴿قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لَـأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَـأَتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين﴾ (الأعراف، 16-17)
﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الحجر، 39)
أي سأزين لهم ذنوبهم بأن أظهر لهم الشر في صورة شئ جميل.
وهكذا يروي المتصوف الكبير يحي بن معاذ (872/258) مدى الهمة التي أظهرها الشيطان من أجل خداع الإنسان وإقناعه:
(الشيطان متفرغ غير مشغول، أما نحن فمشغولون، فلدينا أعمالنا ومشاكلنا. هو يرانا، أما نحن فلا نراه. نحن ننسى، أما هو فلا ينسى مهمته أبداً. علاوة على أن النفس التي هي عدونا الأكبر تسعى أيضاً لصالح الشيطان). وفي القرآن الكريم، بقول الله تعالى:
﴿…وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ…﴾ (البقرة، 208)
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ (فاطر، 6)
﴿وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ (المؤمنون، 97- 98)
﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ (الأعراف، 200-201)
ويلزم الإستقواء بشي آخر من أجل الوقاية من أي شئ يُتَخوَّف منه.وهذا يلزم الدخول في كنف الله تعالى والتشبث به. يأمرنا الله تعالى في سورة الناس باللجوء إليه وحده وذلك من أجل الوقاية من هذا الإفساد الذي يقوم به الشيطان ذاكراً المولى صفاته: رب، ملك، إله، لأن الله سبحانه وتعالى وحده القدير المتفرد بالملك الذي يستطيع حماية الناس ووقايتهم من شر الشيطان الذي يصرف كل جهوده، ويجرب كل أنواع الطرق من أجل إضلال الناس وخداعهم.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوصي بالتسمية من أجل الوقاية من الشيطان فيقول:
“إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطانُ:(لجنوده) لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال الشيطان أدركتم المبيت والعَشاء” (مسلم، الأشربة، 103)
وفي الآية الكريمة يكون التمسك بالإخلاص بمثابة طريق آخر للوقاية من الشيطان، يقول الله تعالى:
﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (الحجر، 40)
﴿إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ (الحجر،42)
الإخلاص: هو عدم السماح بالرياء في العبادة وسائر الأعمال، والابتعاد عن المباهاة في العبادة والطاعة، وإبقاء القلب بمنأى عن الأشياء التي تعكر صفوه. وينبغي أن تكون العبودية للّه وحده، والتحرك وفقاً له، والتفكير في إرضاء الله وحده. ولهذا السبب فإن الإخلاص يكون بمثابة الدرع الذي يمنع الشرور التي يسعى الشيطان إلى تزينها للناس، كما أنه يعيق محاولاته لإفساد الناس وإضلالهم ولكي يتم الوصول لتلك الحالة فإنه يلزم وصول العبد لمستوى الإخلاص، واجتهاده لنيل نصيب من معرفة الله.
كما أن ذكر الله قلباً ولساناً يعد أيضاً أحد أكثر العوامل تأثيراً في الوقاية من شر الشيطان. أما ترك الذكر فيكون ذلك سبب في عدم مفارقة الشيطان لنا أبداً. فجميع الذنوب تُرتَكب إذا ما نسى الله . فلا يمكن لأي إنسان أن يرتكب إثماً وهو يقول «باسم الله»، ولا يستطيع أن يظلم قائلاً «الله» ولا أن يجرح قلباً، ولا أن يغمس فيه شوكة. وهكذا يبين الله تعالى هذه الحقيقة بقوله:
﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (الزخرف، 36)
وثمة وسيلة مهمة أخرى للوقاية من الشيطان تتمثل في طاعة الله والرسول، و الامتثال لأوامر الإسلام بكل صدق وإخلاص،وأن نجتهد بكل طاقتنا من أجل إعلاء كلمة الله .
يقول ربنا جلّ وعلا:
﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد، 7)
ومن جهة أخرى توضح الآية الكريمة التالية أن جهنم هي مصير اللذين يتبعون الشيطان تاركين أوامر الله :
﴿لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (ص، 85)
﴿…لَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَـأَمْلَـأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (لأعراف، 18)
وفي هذه الحالة فإن مهمتنا مثلما أخبرنا الله تعالى هي معرفة أن الشيطان عدوٌ لنا، ولا ننس أبداً أنه يلجأ إلى كل الحيل لكي نُقذف في جهنم.
وفقاً للرواية، فإن الملائكة حينما رفعوا رؤوسهم من السجود لآدم شاهدوا امتناع الجن أي الشيطان -الذي كان مشهوراً بكثرة عبادته والمعروف باسم عزازييل– عن السجود، وتحوله إلى صورة قبيحة.ولهذا خروا جميعا ساجدين مرة أخرى من أجل الشكر على نعمة إطاعة أمر الله .
وتحول عزازيل الذي لُقب بـ (الشيطان) بعد أن امتنع عن السجود لآدم إلى ممثل للشر. إنه ليس مَلكاً لأنه كان قد خُلق من النار. كان واحداً من الجن وسط الملائكة الموجودة في الجنة، ولهذا السبب كان يرى أن خلقته هي الأفضل، ولم يكن يستوعب حمل سيدنا آدم عليه السلام روحاً من الله، ولا أفضليته ككونه خليفة للّه.
كان قد غفل عن أمر الله ، وتعرض لمحاسبة جسدية. وهكذا يعبر الله تعالى عن العجز والجهل والغفلة الموجودة عنده:
﴿مآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾ (الكهف،51)
وفي آية كريمة أخرى يحذر الله تعالى عباده موقظاً إياهم من الغفلة بألا يتخذوا الشيطان وأعوانه أولياء بالابتعاد عن هدف الخلق. يقول تعالى: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ (الكهف،50)
إن أمر الله تعالى للملائكة بقوله (اسجدوا لآدم!) ليس معناه التعبد لآدم أي عبادته، ولكن من أجل إخبارهم أن آدم عليه السلام له أفضلية عليهم بصفاته الكاملة وقدراته التي يمتلكها. لأن الله تعالى كان قد نفخ فيه من روحه، وجهله صاحب امتياز عليهم.
وهناك سبب آخر أيضاً، وهو أن هذا الأمر كان معناه «نفذوا أمر الله!»، لأن هذه السجدة على الرغم من كونها لآدم ، إلا أنها كانت في حقيقة الأمر طاعة لذات الله وعبادة له، مثلما أن التوجه نحو الكعبة والسجود هناك لا يكون عبادة للكعبة. فالكعبة ما هي إلا رمز وإشارة للّه ، والتي تنظم عبادة الخلق، والمكان الذي تتجلى فيه الرحمة.
خلق السيدة حواء
يبين الله تعالى في الآيات التالية خلق السيدة حواء من سيدنا آدم عليه السلام:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء…﴾ (النساء، 1).
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا…﴾ (الأعراف، 189)
لم يكن هناك وجود لأي موجود في الأزل -كما بينا من قبل– سوى الله تعالى وحده. و لم تبدأ الموجودات في التزايد إلا بعد أن أراد الله لها ذلك، فجاء إلى الوجود هذا العالم.
وكان سبب ذلك هو أن الله تعالى يحب أن يعرفه خلقه. لهذا السبب كان الدافع وراء كل خلق خلقه الله تعالى هو المحبة؛ فكانت محبة الله تعالى هي الدافع وراء خلق الحق لرسول الله صلى الله عليه وسلم. و يشير الحديث القدسي إلى هذه الحقيقة على النحو التالي[16]:
و هذه الكيفية هي التي تهمنا عند الحديث عن آدم عليه السلام . بيد أن الهدف من المحبة و الاشتياق الكامل كان بالميل إلى العودة إلى ربه أي إخلاص العبودية للّه . لذا كان لابد أن تكون بداية الاستعداد لذلك من القلب.
لقد جعل الله تعالى الوحدة أمر خاص به هو فقط، و لأجل ذلك جعل كل المخلوقات زوجين؛ فكل مخلوق له ما يقابله من نفس جنسه و ألقي في كل واحد منهما الرغبة في الطرف الآخر، فصار كل منهما ينجذب تجاه الآخر. و بذلك نجد أن هذا الكون و ما به من ذرات و خلايا و حيوانات و نباتات و إنسان و مادة و حتى العناصر السرية الدقيقة مثل الإلكترونات و البروتونات داخل الذرة، كل هذه الأشياء تتبع وفق طبيعتها قانون خاص عجيب أي، قانون خلق الأشياء في شكل أزواج.
و تحدثنا الآية الكريمة عن ذلك في قوله :
﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الذاريات، 49)
وهذا الأمر ضروري في القوت نفسه تتحقق الطمأنينة في أن الوجود سيعود إلى أصله أي يعود إلى ربّه. أي العودة من عالم الكثرة الذي هو الدنيا إلى عالم الوحدة الذي جاء منه، و هو ميل أو جنوح طبيعي و جبري في الوقت ذاته. و يمثل الميل بين الأجناس بعضها تجاه الآخر، يمثل جسر نحو الوحدة. و قد جعل الله تعالى هذا الميل في الوقت نفسه، وسيلةً لاستمرار النسل.
من ناحية أخري، فالإنسان الذي خلقه الله تعالى هو في غربةٍ لبُعده عن خالقه. و الغربة لا تجلب سوى الوحدة و العجز و بالتالي الحزن و الملل و هي تُوَلِّد الحاجة لدي الإنسان لمن يًسرِّي عنه ويواسيه. لهذا السبب قيل أن ((الوحدة هي أمر خاص باللّه تعالى وحده)).
و ما عدا المولى في حاجة إلى التسلية و المواساة. و هذا ما حدث مع سيدنا آدم عليه السلام حيث جعلته تلك الأحاسيس الفطرية يشعر بضرورة خلق رفيقةٌ له من نفس جنسه على الرغم مما تزخر به الجنة من جميع صنوف الجمال. و بذلك تحققت الكيفية التي بها تكوَّن جسر يضمن أن تنتقل المحبة إلى المولى في النهاية.
لقد أراد الله تعالى لحكم كثيرة يعلمها، أن يخلق زوجةً لسيدنا آدم عليه السلام يجد معها الطمأنينة و السكينة. فخلق بناءً على ذلك السيدة حواء من العظمة السفلى في القفص الصدري من الناحية اليسري، فكانت مثل النبتة أو الشتلة.
روي عن بن عباس و بن مسعود رضي الله عنهما قولهما أن آدم عليه السلام بعدما أُخرج إبليس من الجنة، و سكنها هو، كان يتجول هناك وحيداً بلا رفيق. و على الرغم مما كان فيه من نعم، إلا أنه كان يرغب في وجود رفيقة له. و في يوم من الأيام أبصر لدى استيقاظه من نومه، سيدةً إلى جواره و قد خُلقت من عظمة في الجهة اليسري من القفص الصدري. فتحدث معها قائلاً:
‘‘من أنتِ؟’’فردت عليه قائلةً: “أنا امرأة
فلما أراد أن يعرف منها عن السبب الذي من أجله خلقها الله ، ردت عليه و قالت:
“لقد خلقني الله تعالى كي تصل معي إلى الطمأنينة و السكينة’’
و قد أُطلق اسم “حواء’’ الذي يعنى الحية أو صاحبة الحياة نظراً لأنها خُلقت من مخلوق خُلِق من آدم عليه السلام و هو أيضاً مخلوق حي. (الطبري، التاريخ، 1، 103– 104)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري:
“اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ” (البخاري، الأنبياء، 1، 3331)
لقد خلق الله تعالى المرأة بطبيعتها أكثر ثراءً في العاطفة والأحاسيس من الرجل. و تعرض الآيات الكريمة المراحل الأولى لخلق الجنين موضحةً أن الجزء الذي يأتي من الذكر يكون مصدره مكان مجاور للصلب «عظمة الخصر ((أما ما يأتي من المرأة فيكون مصدره الترائب (و هي جزء موجود بالقرب من القلب و هي عظام الصدر حيث يوجد مركز حسي عصبي). ))[17] و في ذلك إشارة إلى أن المرأة غنية بعالم من الأحاسيس.
و هذا الثراء في الحس و المشاعر مؤهل للقيام بالوظيفة التي كلفه بها الله ؛ من المحافظة على النسل و تنشئته. لهذا السبب ينبغي حسن معاملتهن. فلا يهتم الأب بأبنائه كما تهتم الأم؛ و لا يغير لهم ملابسهم الداخلة إذا تلوثت ولا يترك نومه لأجل هذا. و في الوقت الذي لا تتورع فيه الأم عن أن تفتدي ابنها بنفسها إذا جرفه السيل، نجد أن الأب لا يمكنه فعل ذلك. الأم تعيش أفراح و أطراح أولادها على الدوام. فهي تحمله في بطنها تسعة أشهر و تحمله في حضنها عامين، أما باقي العمر فهو محمول في قلبها. فإن لم يأكل أو يشرب حزنت و توترت لذلك. و إن هو بكي بكيت لبكائه. لهذا السبب لا يمكن الوفاء بحق الأم.
خاطب الله تعالى بعد ذلك سيدنا آدم عليه السلام و أمنا حواء قائلاً:
﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأعراف، 19)
من هنا بدأت مغامرة حياة و اختبار الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات.
الحياة في الجنة
أحل الله تعالى لآدم و حواء بعد خلقهما أن يعيشا في الجنة و ينعما بما فيها من صنوف النعم عدا شجرة واحدة حرم عليهما أن يأكلا من ثمرها. و أخبرهما كما هو واضح من الآية الكريمة أن إبليس هو العدو اللدود لهما:
﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ (طه،117)
فعاشا في الجنة حياة رغد و رفاهية. و تحدثتا الآيتان الكريمتان عن ذلك في قوله :
﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾ (طه، 118– 119)
عاش سيدنا آدم عليه السلام و السيدة حواء في الجنة على هذا المنوال، إلا أن الشيطان وسوس لهما و جعلهما يأكلان من الشجرة التي حرمها عليهما الله تعالى مستغلاً في ذلك ضعف أحاسيسهم و حرصهم على الخلود.
النزول من الجنة إلى الأرض
لقد كانت مسألة اختبار الله تعالى لعباده، إرادةً إلهيةً وضعها الله تعالى موضع التطبيق مع خلق آدم عليه السلام .
فبقدر ما لدينا من معلومات أن الملائكة أيضاً تعرضت للإختبار عندما أُمرت في بادئ الأمر كي تسجد لآدم. و نجحت الملائكة جميعا في الإختبار. لأن الملائكة لا تملك نفس الميل و الهوى النفسي الموجود عند البشر. أما الشيطان فعصى أمر ربه. لأنه كان ينتمي لطائفة من الجن تملك نفساً مثل البشر.
لقد عمد المولى بعد أن اختبر الملائكة ثم اختبر الشيطان بواسطة سيدنا آدم عليه السلام ، عمد إلى اختبار سيدنا آدم عليه السلام و زوجته السيدة حواء بواسطة الشيطان كذلك. لقد انتهز الشيطان هذه الفرصة ولم يضيعها. و كان الله تعالى قد حرّم على آدم عليه السلام و حواء الاقتراب من احدي الأشجار.
لقد بدأ أول جهاد للإنسان مع النفس التي تحاول دائماً أن تثني الإنسان عن الانصياع لأمر ربه، بدأ مع وسوسة الشيطان لآدم في الجنة. و تتناقل بعض الروايات أن اقتراب آدم عليه السلام إلى الشجرة التي حرمها عليه الله ، كان بتأثير من السيدة حواء.
النساء مخلوقات لطيفة رقيقة خلقها الله تعالى و وضع في قلب الرجال حساسية و جاذبية نحوهن. لهذا السبب من السهل أن يقع الكثيرون تحت تأثيرهن. من هنا حاول الشيطان أن يخدع سيدنا آدم عليه السلام و ذريته من بعده مستغلاً هذه الخصوصية، وكثيراً ما كان يحالفه التوفيق في ذلك.
و لعل أبرز مثال على ذلك هو استخدام المرأة في جميع جوانب الحياة الاجتماعية و السياسية و الإقتصادية و التجارية كوسيلة للدعاية والإعلان. و كما كانت المرأة مصدراً للسكينة و الرفاه، فهي في الوقت ذاته وسيلة عظيمةٌ للاختبار. بيد أن سعادة الإنسان في الدنيا و الآخرة مرتبطةٌ بالمرأة كذلك.
فعن ثوبان رضي الله عنه قال: لما نزلت:
﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة، 34)
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فقال بعض الصحابة:
أُنْزلت في الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير لاتخذناه، فقال رسول الله:
“أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ” (الترمذي، التفسير، 9/9، 3094)
و جاء في حديث شريف آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
“ما استفاد المؤمن، بعد تقوى الله، خيراً له من زوجة صالحة. إن أَمَرها أطاعته. وإن نظر إليها سرَّتْهُ. وإن أقسم عليها أبرَّتْه. وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله” (بن ماجة، النكاح، 5/1857)
“إنما الدنيا متاع. وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة” (مسلم، الرضا، 64؛ النسائي، النكاح، 15؛ بن ماجة، النكاح، 5).
فَسَّرَ عَلِيُّ رضي الله عنه قَوْلَهُ تَعَالَى:
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ (البقرة: 201) بِالْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ،
﴿وَفِي اْلآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ (البقرة: 201) بِالْحُورِ الْعِينِ،
﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (البقرة: 201) بِالْمَرْأَةِ السَّلِيطَةِ. (علي القاري، المرقاة، 5، 265)
حاول الشيطان –عليه اللعنة– أن يُضل سيدنا آدم عليه السلام و السيدة حواء بشتي الطرق و الحيل. يقول الله :
﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى﴾ (طه، 120)
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ[18] وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (الأعراف،20– 22)
لقد كانت مسألة الاقتراب من الشجرة التي حرمها الله تعالى هي السبب الذي من أجله وقف آدم و حواء في مواجهة مع النفس الأمَّارة بالسوء. لأن قيمة النتيجة التي يصل إليها المرء تتوقف على حجم ما يقاسي من متاعب للوصول إليها. فإن اتبع المرء هوى النفس فحينئذٍ تكون الفاجعة، أما إن هذّبها و عوّدها الطاعة كان ذلك مصدر الفلاح. لهذا السبب قيل أن “نفسك مطيتك! عاملها برفق و لطف’’
وخلاصة القول الله تعالى بوصفة المتصرف الوحيد في شئون خلقه، قد أعطي للإنسان بإرادته الكلية، إرادةً جزئية منقوصةً و أنه قدّر نتيجة ذلك سواء بالفوز أو بالخسران بناءاً على استخدام هذه الإرادة. و نظّم وفقاً لذلك شروط تحقق الأسباب.
لهذا السبب فنحن مكلفون بأن نستخدم كما أُمرنا إرادتنا الجزئية التي منحنا إياها المولى و أن نخاف من قهره و ترجوا رحمته.
هجر سيدنا آدم عليه السلام و زوجته حواء الشيطان و قد شعرا بندمٍ عظيمٍ بعدما انطلت عليهما الحيلة التي نسجها إبليس رغبة منه في الانتقام. فضل آدم عليه السلام أن يتبع طريق الملائكة، و توجه إلى الله تائباً بكلمات تلقتها الملائكة من ربهم. فتضرعا إلى الله تعالى قائلين:
﴿…رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الأعراف، 23)
فقبل الله تعالى توبتهما، و لكن قضت إرادة الله تعالى المبنية على كثير من الحكم الإلهية، ان يُنزل آدم عليه السلام إلى الأرض. يقول الله :
﴿قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [19]وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ (الأعراف، 24 – 25)
و بيّن الله تعالى إلى سيدنا آدم عليه السلام و حواء اللذان أنعما عليهما و قبل توبتهما و لنسليهما من بعد، طريق الخلاص و النجاة في قوله :
﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ (الأعراف، 26)
و يُشار هنا في الآية الكريمة إلى أن الملابس الظاهرة لا تكفي لستر عيوب الإنسان و نواقصه، فالملبس الحقيقي هو «لباس التقوى «الذي يحمي الإنسان من الأفكار و المشاعر السلبية في القلب، و تضمن أن يدرك العبد مسئوليته تجاه ربه. فالتميز على الآخرين كما تشير الآية التالية لا يكون إلا بما وقر في القلب من تقوى:
﴿… إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ…﴾ (الحجرات، 13)
و يحذر الله تعالى عباده في الآية 27 من سورة الأعراف بقوله :
﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف، 23)
لقد خلق الله تعالى أبا البشر آدم عليه السلام وأودعه الجنة وجعله أكرم المخلوقات. و لكنه ما لبث أن أُخرج من الجنة حيث موطنه الأصلي بسبب اقترابه من الشجرة التي نهاه الله عنها، فكانت النتيجة أنه أُرسل إلى الأرض حيث عالم الاختبار. و ينضوي هذا الأمر على بعض الحكم التي يمكن عدّها كما يلي:
لقد أُريد لذرية الإنسان ستأتي كلها عن آدم عليه السلام و أمنا حواء أن تستمر حياتها على الأرض.
أُريد لآدم و أمنا حواء أن يسعيا لعمل الصالحات في الدنيا التي هي مكان اختبار على أمل نيل نعم الجنة التي خُلقوا فيها و عرفوا قيمة ما فيها من نعم.
أراد الله تعالى أن يفرق بين الذين لا يستحقون دخول الجنة من ذرية آدم عليه السلام و من ثم سيدخلون جهنم و بين الصالحين.
أراد الله تعالى أن يجعل له خليفةً في الأرض يطبق فيها أحكام الله و يُعمِّرها.
عقل الإنسان هو سر من أسرار القدر لا يستطيع أحد أن يدرك ماهيته.
نقاط الضعف في نفس الإنسان
لقد نثر الله تعالى بذور الفجور و التقوى على فطرة الإنسان و أعطي لكلا النوعين إمكانية الارتقاء و التدني. و للحالة الروحانية للإنسان من هذه الناحية وجهان؛ أحدهما مثبت و الآخر منفي. و قد تعرض القرآن الكريم بشكل أكبر لنقاط الضعف في نفسية الإنسان رغبة منه في حماية الإنسان من السقوط في مهالك النفس و حتى يُقومه و يضعه على طريق الخير و التقوى.
الإنسان ظلوم جهولاً
يقول الله :
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (الأحزاب، 72)
و المقصود بالأمانة في الآية السابقة هي مسئولية الإنسان تجاه ربه أي كونه مكلف بتنفيذ أوامر الله تعالى الخاصة بالدين. و سيفي الإنسان بهذه الأمانة ‘‘العقل’’بواسطة ملكة ‘‘الإرادة’’و هي المقدرة على استخدام ذلك العقل. و هذه الأمانة التي فوّض الله تعالى الإنسان دون غيره بأدائها، هي التي تفرِّق بينه و بين سائر المخلوقات الأخرى. و تعرض الإنسان للاختبار في الحياة الدنيا، هو السبب وراء تفويضه لحمل هذه الأمانة.
و يشير عرض الأمانة كما ورد في الآية السابقة على الأرض والسماء و الجبال، ثم رفضهم جميعاً لهذا العرض، يشير إلي أنه حتى الموجودات التي نعرفها على أنها مجرد جمادات، كانت على درجة من الوعي و الشعور جعلتها ثقل التكليف بحمل الأمانة. يقول الله:
﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر،21)
نفهم من الآية السابقة كذلك أنه حتى الجبال وهي من الجمادات قد تبدي رد فعل تجاه أوامر الله .
و يخبرنا الله تعالى أن الإنسان لم يخشى المسئولية وحمل الأمانة لأنه كان ظلوماً جهولاً.
و الظلم ضده العدل. و تستخدم كلمة العدل في الوقت نفسه بمعنى العمل الصالح، لأجل ذلك ينبغي بذل الجهد و أن نعمل صالحاً بكثرةٍ حتى لا نسقط في الظلم. و يتحدث الحق في سورة العصر عن ضرورة أن يعمل الإنسان الصالحات حتى لا يكون من الخاسرين.
أما الجهل فضده ‘‘العلم’’. و العلم نوعان أحدهما ظاهري و الآخر باطني. و فيما يلي حديث للإمام الغزالي –قدس سره– يتحدث فيه عن العلم الحقيقي الذي يرتبط بجمع هذين النوعين معاً:
((العلماء الحقيقيون، أي ورثة الأنبياء، هم الذين يجمعون بين العلوم الظاهرية و العلوم الباطنية!)).
و يقول الله تعالى في آية أخري:
﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر، 9)
و قد ورد في تفسير الزمخشري لهذه الآية الكريمة قوله:
((وأراد بالذين يعلمون: العاملين من علماء الديانة، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم، ثم لا يقتنون ويفتنون، ثم يفتنون بالدنيا، فهم عند الله جهلة، حيث جعل القانتين هم العلماء) (الكشاف، 3، ص156).
فإذا نحن اقتضينا بالآية الكريمة لصرنا من أصحاب الأعمال الصالحة و تمكنا من تحويل علمنا الظاهري و الباطني إلى العرفان، و بذلك نكون قد تخلصنا من صفة “ ظلوم “ و صفة “جهول’’. أي أنه يلزم وجود رأس مال قوامه العلم إلى جانب رأس مال قوماه القلب حتى نتعافي من هذه الأمراض المعنوية.
و تبين الله تعالى تعالى في الآية الكريمة الواردة في السابق كذلك أن عيش الإنسان في غفلة عن الأسرار و العظمة الإلهية، لن ينتج عنه سوي التعاسة و النكبة.
يتحدث شارح المثنوي “طاهر المولوي’’ عن عِظم تلك المسئولية التي حملها الإنسان قائلاً:
صفر اليدين لا يسير حيث يكون المسير
يا ربي، لقد أتيت بذنب ولم آتي خاوي الوفاض
فها هو الحمل الذي لا تقوي الجبال على حمله
قد أتيت بضعفه أحمله على ظهري بصعوبة بالغة
يرى الصوفيون أن أهم صفة تميز الإنسان هي الجهل. و أن كلمة جهول “كثير الجهل’’ الواردة في الآية الكريمة دليل على ذلك. فالعلم المطلق لا يخص إلا الله تعالى وحده. من أجل هذا يقول الله :
﴿… وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الإسراء ، 85)
و في المقابل تؤكد الآية الكريمة التالية عظمة علم الله تعالى الذي لا تحده حدود:
﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (لقمان، 27)
كما يبين الحديث الشريف التالي كذلك تلك الحقيقة أيضاً من خلال قصة الخضر وموسى التي وردت في سورة الكهف:
“…فَرَكِبَا السَّفِينَةَ، قَالَ: وَوَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ فِي البَحْرِ فَقَالَ الخَضِرُ لِمُوسَى: مَا عِلْمُكَ وَعِلْمِي وَعِلْمُ الخَلاَئِقِ فِي عِلْمِ اللهِ إِلَّا مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هَذَا العُصْفُورُ مِنْقَارَهُ…” (البخاري، التفسير، 18/4)
نستنتج من ذلك:
ما علم الناس إلى جانب علم أولياء الله في علم الله تعالى إلا قطرة من بحر؛
و ما علم أولياء الله ، و علم الأنبياء في علم الله تعالى إلا قطرة من بحر؛
و ما علم الأنبياء، و علم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قطرة من بحر
و ما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجانب علم الله تعالى إلا مثل قطرة بالنسبة إلى بحر.
و لكن وعلى الرغم من هذا، فإذا عمل الإنسان بهذا العلم القليل، فبإمكانه أن يصل إلى التقوى و من ثم يصبح بلطف الله تعالى و إحسانه عبداً من العارفين. أي انه يبدأ في تلقي حصةً من المعرفة أي يصبح بإمكانه أن يعرف الله تعالى حق المعرفة.
يقول الله :
﴿… وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة، 282)
و قد ذكر المفسر القرطبي في تفسيره لهذه الآية على النحو التالي:
((وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِأَنَّ مَنِ اتَّقَاهُ عَلَّمَهُ، أَيْ يَجْعَلُ فِي قَلْبِهِ نُورًا يَفْهَمُ بِهِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ، وَقَدْ يَجْعَلُ اللهُ فِي قَلْبِهِ ابْتِدَاءً فُرْقَانًا، أَيْ فَيْصَلًا يَفْصِلُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً”. والله أعلم (القرطبي، 3، 406)
و يؤيد الحديث الشريف هذا المعنى أيضا:
“مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ وَرَّثَهُ اللهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ” (أبو نعيم، حلية الأولياء، 10، 15).
خُلق الإنسان عَجُولاً
يبين الله تعالى هذه الخصوصية في نفسية الإنسان على النحو التالي:
﴿خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ (الأنبياء، 37)
﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾ (الإسراء، 11)
يريد الإنسان الشر قدر رغبته في الخير و يدعوه بما يفعل. و السبب في ذلك هو أن الإنسان على عجلة من أمره. فيطلب تحقق الشيء قبل أوانه نظراً لأن تحقق الشيء في وقته يحتاج صبر و تحمل. و يخرج هذا التصرف في كثير من الأحيان بنتيجة غير مرغوبة. و قد قيل: ((من استعجل شيئاً قبل وقته، عوقب بالحرمان.)) و المقصود من هذا أن أي شخص يرغب في تحقيق شيء ما قبل موعده المحدد لذلك فإنه يُعاقب بالحرمان من ذلك الشيء.
ومن أوصاف الإنسان العجول، أن له شهية الحصول على الأشياء بشكل سهل لا تعب فيه. لأنه يريد أن يعيش سعادة الآخرة في الحياة الدنيا. و لهذا السبب يترك عدد كبير من الناس الآخرة، و يميل إلى الدنيا.
ولأنه لا يولى مكافأة الآخرة الأهمية المرجوة، نجده و بالقدر نفسه لا يفكر في عذابها الأليم. و هو بسبب تسرعه لا يضع في حسبانه عاقبة ذلك، لأنه لا يفرق بين الخير و الشر. و تبين الآيتان الكريمتان انخداع الإنسان على هذا النحو:
﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ (القيامة،20 – 21)
و الحقيقة هي أن الإنسان يمكنه بمنتهي السهولة أن يدعو بالشر على مخاطبيه في وقت غضبه أو عندما تمر به أزمة أو عندما تواجهه مصاعب في حياته. بيد أنه من الواجب عليه بديلاً عن ذلك أن يعمل جاهداً للتخلص من هذه الأوضاع العصيبة الصعبة بالصبر و الصلابة.
و لكن الإنسان و قد خُلق عجولاً، يظل يائساً متشائماً، ليس هذا فحسب، بل و قد يصل به الأمر و يدعو من تأثره و يدعوا على نفسه بالشر فيقول: (رب اقبض روحي، و خلصني مما أنا فيه!) والحقيقة هي أن تصرفه هذا خاطئ تماما.
يقول أنس رضي الله عنه:
((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
“هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟”
قال: نعم. كنت أقول: اللّهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة، فعجله لي في الدنيا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
“سبحان الله! لا تطيقه – أو لا تستطيعه – أفلا قلت: اللّهم! آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار”
قال، فدعا الله له. فشفاه)) (مسلم، الذكر، 23/2688؛ الترمذي، الدعوة، 71/3487)
و يقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:
“لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله. وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً“. (البخاري، المرضي، 19؛ الدعوات، 30؛ مسلم، الذكر، 10،13).
لهذا السبب لا ينبغي للمؤمنين أن يدعوا بالشر، و أن يدعوا بديلاً عن ذلك بالخير متسلحين بالصبر و الحذر. و توصي الآية الكريمة الإنسان بضرورة أن يتضرع العبد ربه قائلاً:
﴿… رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (البقرة، 201)
الإنسان ولع بما ينفعه
تقرر الآية الكريمة وصفاً آخر للإنسان على النحو التالي:
﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ (الروم، 36)
لم يمنع الله تعالى بلطفه و رحمته الإنسان أن يسعد، بل و على العكس أُمِرَ بذلك (انظر: يونس، 58). و لكن السعادة المقصودة هنا هي السعادة مع معرفة واهب النعمة و شكره و حمده عليها. و لكن السعادة التي نتحدث عنها هنا هي حال الأشخاص الذين يخضعون لأهوائهم ويؤمنون بالنعمة فقط دون أن يضعوا في حسبانهم واهب هذه النعمة. و يعبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله :
﴿… لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ (القصص، 76)
و هذا الصنف حتى لو عبدوا الله فإن عبادتهم تلك تكون بغرض منفعة دنيويه. و لأنهم يؤمنون بشكل محض في بالنعمة وحدها، فإنهم سرعان ما يقعون في اليأس إذا ألم بهم سوء جرّاء ما فعلوه. و هو يقنطون من رحمة الله تماماً. لأن تسليمهم و خضوعهم ليس للّه و لكن لأشياء زائلة فانية. وتصور الآية الكريمة الآتية بشكل جميل حب هؤلاء لمنفعتهم الخاصة، على النحو التالي:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ (الحج، 11)
ويلجأ بعض الناس إلى عبادة الله تعالى من زاويتهم الخاصة، لأنهم لا يستطيعون التخلص من أهواءهم النفسية؛ ليس هذا فحسب بل و يأخذون بمظاهر التدين، و لا يكون تدينهم هذا نابعاً من القلب و من الداخل، بل يكون تديناً قائماً على الغفلة و هدفه قضاء مقصدٍ معين. و الذكر عند هؤلاء لا يتعدى اللسان، فلا يصل إلى القلب و لا يستقر فيه. و إذا جاء هذا الصنف من الناس خيراً فرحوا، و إن أصابتهم الضراء عبس و انقلب على وجهه.
إن الإنسان لربه لكنود
يقول الله تعالى في محكم التنزيل:
﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ (العاديات، 6 – 7)
و تحكي الآيات التالية بشكل مباشر عن تلك الخصوصية عن الإنسان الغافل، و تعبر كيف أن أحوالهم النفسية عُرضة للتغير وفق الظروف التي هم فيها:
﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً. أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً.أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً﴾ (الإسراء، 67 – 69)
و تتحدث هاتان الآيتان عن ذلك أيضاً، في قوله :
﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ.وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ (الفجر، 15– 16)
يمتحن الله تعالى عبده كل لحظة حتى يكافئه على قدر صبره. و في أثناء ذلك يمتعض الإنسان الذي ابتلاه الله تعالى بضيق في الرزق أو بالمحن و يقول دون تفكير منه و بأنه سيؤجر على ذلك في الآخرة و سييسر الله تعالى له حسابه نظير ذلك، يقول ((رَبِّي أَهَانَنِ)).
ويصل بذلك إلى حالة لا يستطيع معها أن يدرك نعم الله تعالى عليه. و يغيب عنه ضرورة أن يؤدي المرء شكر الرزق حتى و إن كان قليلاً، و لا يستطيع إدراك أن الذي لا يعرف قيمة القليل، لا يمكنه أن يعرف قيمة الكثير كذلك. و لا يستقيم في ذهنه أن الله تعالى يختبره بهذه الأشياء. و الحال أن الله تعالى يقول:
﴿… وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ (الأنبياء، 35).
و إن لم يتخلى الإنسان عن ذلك فسوف تجره تلك الأحاسيس و الأفكار السلبية إلى الكفر، ليس هذا فحسب بل و سيتحول إلى عدو للّه . لأن ذلك الإنسان لم يوجه نظره إلى الفضيلة، بقدر ولهه بأمور الدنيا ما جاء منها و ما ذهب. يقول المولى :
﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ (النحل، 4)
الإنسان حريص و بخيل
و إذا لم تُهذّب هذه الصفات المذمومة التي كان لها نصيب كبير في إخراج الإنسان من الجنة، فستتحول إلى واحدةٍ من أكبر المُهلكات في الحياة الدنيا و الحياة الآخرة. و الله تعالى لا يريد لمثل هذه الصفات أن تكون في المؤمن. لذلك يحذر المولى عباده في هذا الخصوص كما في الآيات التالية:
﴿كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً﴾ (الفجر، 17– 20)
﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا ً﴾ (المعارج، 19– 21)
﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ (العاديات ، 8)
و يرجع السبب في التعبير بكلمة ‘‘الخير’’ في الآية الكريمة بديلاً عن التعبير بكلمة المال، لأن ميل الإنسان الفطري نحوه، جعل كثير من بني البشر يظنون أنها الخير المطلق لأن به تتحقق منافعهم الدنيوية. أي أن الإنسان يده مغلولة إلى عنقه، بخيل، لأنه أحب المال و الثروة و ظن أن فيهما الخير المطلق. فهو يحرص على المال و لا يريد أن يتصدق أو ينفق في أوجه الخير أو في شيء لصالح المنفعة العامة. و في الوقت الذي يحرص على المال و يسعي لكسبه و هو في كامل قوته، نجده يجحد حق الله و يزعم عندما يأتي الوقت الذي سيؤدي فيه شكر المال، يزعم أنه ضعيف لا يقدر على شيء. و تعرض سورة القلم قصة أصحاب الجنة الذين لم يؤدوا شكر النعم التي أنعم الله تعالى عليهم بل و جحدوها، فأصابتهم النكبة و لاقوا عاقبة حزينة.[20]
و يحدثنا المولى في الآيات الكريمة عن عاقبة الذين يحملون هذه الصفات البغيضة على النحو التالي:
﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ. الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾ (الهُمزة ، 1– 4)
﴿قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً﴾ (الإسراء،100)
الإنسان حسود غيور
الغيرة و الحسد هي من أقبح الصفات المذمومة في فطرة الإنسان و أكثرها هلاكاً. يقول الله :
﴿… وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ…﴾ (النساء، 128)
﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهِ مِن فَضْلِهِ…﴾ (النساء، 54)
و قد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحسد و بين لنا ضرره؛ فيقول:
“إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ- أَوْ قَالَ: الْعُشْبَ-” (أبو داود، الأدب، 44)
و يرشدنا المولى في الآية الكريمة التالية إلى ضرورة للإنفاق و الإيثار حتى نتخلص من تلك الصفة القبيحة:
﴿… وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر، 9)
خُلق الإنسانُ ضعيفاً
خلق الله تعالى الإنسان ضعيفاً عاجزاً، يحتاج عون الآخرين مدةً طويلةً، على الرغم من أنه تعالى قد خلق المخلوقات الأخرى في قوة تستطيع بها أن تعيش بمفردها و تتكيف مع ظروف الحياة بعد مدة قصيرة من مولدها. و تحدثنا الآية الكريمة عن ذلك في قوله :
﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً …﴾ (الروم، 54)
لا ينبغي للإنسان أن ينخدع بقوته في فترة الشباب و يعصي الله . لأن فترة القوة لا بد و أن يتبعها فترة ضعف أخري. و لن يجدي الندم في مرحلة الشيخوخة نفعاً في إعادة الفرصة التي ضاعت من اليد، و لن يستطيع أن يوقف حسرة الروح و اضطرابها. و توضح الآية الكريمة العاقبة الحزينة لهذا الإنسان، على النحو التالي:
﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ (يس، 68)
الإنسان ببنيته الفسيولوجية يحمل العديد من نقاط الضعف، و لعل نقطة ضعفه من الناحية النفسية هي الأكبر. و تشير الآية الكريمة إلى هذين النوعين في قوله :
﴿… وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً﴾ (النساء، 28)
ويبين لنا الحق تعالى في شخص سيدنا آدم عليه السلام الضعف البشري من ناحية الإرادة و الذاكرة و العزم، على النحو التالي:
﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ (طه، 115)
و قيل أن كلمة “إنسان’’ قد اُشتقَّت من جذرين مختلفين. الأول، هو “النسيان’’. فقد نسي آدم عليه السلام كما أوضحت الآية الكريمة العهد الذي قطعه على نفسه مع الله . أما الجذر الثاني، فهو “المؤانسة’’ أي أن الإنسان يألف و يتعود بسرعة على المكان الذي يوجد فيه، فيألفه و يتلون في الغالب بلونه.
ولا يوجد ثمة سبب على الإطلاق تجعل الإنسان الذي تحدثت الآية الكريمة عن ضعفه و عجزة، لا يوجد سبب يدعوه للتكبر و الإختيال. يُضاف إلى هذا أن الله تعالى لما خلق الإنسان لم يخلقه من عرق جبهة جميلة و بهية الطلعة، و إنما كان خلقة من ماء مهين قُذِف به. لهذا السبب لا يليق بمخلوق كهذا إلا أن يدرك عجزة و دونيته في مقابل قدرة الخالق اللامحدودة. و قد وجه المولى تحذيراً في القرآن الكريم للإنسان في قوله :
﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا﴾ (الإسراء، 37)
يميل الإنسان بالفطرة إلى العبودية. و ميله هذا سيجعله عبداً لواحدٍ من ثلاث إما لهوى النفس أو لمتاع الدنيا أو أن يكون عبداً ربه. وحتى يصير الإنسان عبداً لربه، فلا بد له من تخطي عقبة النفس. و هذا يقتضي أن يظل العبد صادقاً لعهد ألست بربكم؟ حين اعترف بربوبية الله و رد مخاطباً الله عز وجّل “نعم، أنت ربنا!’’.
لقد كان كل شيء واضح للعيان في الوقت الذي عاهدت الروح ربها. فكانت ترى الملائكة و تشاهد بكل سهولة و يسر العظمة الإلهية. و لكن عندما نُفخت هذه الروح التي عاهدت ربها، عندما نُفِخَت في بطن الأم في اليوم 120 وفق ما جاء في الحديث الشريف، دخلت تحت تأثير الحواس الخمسة. و تواجهت مع عقبة النفس. فتغطت متلفِّعةً بالسقم بعد النضارة و البهاء. و لكن كان هناك من يبين لها طريق الخلاص و النجاة من تلك السقم. و يكون الإنسان بذلك قد تخطي عقبة النفس بالاستعداد المعنوي الذي وهبه الله إياه و بتزكية الحواس الخمس في الاستقامة التي عرضها له. و لا تدخل الحواس الخمس إلى طريق الاستقامة إلا بتصفية القلب و تزكية النفس. و حينها ستتضاءل السقم، و تزداد الرهافة و الصفاء و يتحول القلب إلى مُستقبِل للحقائق.
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي…﴾ (الحِجر، 29)
و الروح المقصودة في الآية الكريمة هي الروح السلطانية القادمة من “عالم الأمر’’. و هي التي دخلت إلى الجسد الفاني.
ويضرب مولانا جلال الدين الرومي المثال التالي بخصوص ضياع الروح السلطانية داخل الجسد و تحكمها فيه، و يقول:
“الروح التي في الجسد خفية غير ظاهرة تماماً مثل الزبد الذي في اللبن الرائب.’’
“يلزم رج اللبن الرائب بشده، حتي يظهر الزبد’’
“و الروح السلطانية مثل ذلك تماماً، فلا بد من المجاهدة و الرياضة الروحية و الصبر على الحرمان من مجموعة من الأشياء، حتى تتمكن من السيطرة على البدن أي الجسد”
ولا بد للقلب أن يتخلص من السقم أي من ملذات الدنيا السفلية، و أن يمتلئ بالمشاعر و الأحاسيس الإلهية و الصفاء. و إلّا لن يتمكن الإنسان من الوصول إلى معرفة الله . و كم هو جميل ما كتبه المرحوم نجيب فاضل عن الحقيقة القلبية في شكل تضرع:
الذنب عندي، و الصفاء عندك
رب اغفر!
السقيم يرجو العفو من اللطيف…
رب اغفر!
لباس من لحم و عظم
رب اغفر!
يقول الله تعالى في الآيات الكريمة:
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ (الأعلى، 14 – 15)
﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا. وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا.وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا. وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا. وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس،1– 10)
و الغاية من الدين هي خلق و تربية إنسان جميل، ظريف، حساس، يخلص العبودية للّه . ولا يتحقق هذا الكمال إلا عند أولئك الذين بإمكانهم الوصول إلى المراتب العلوية بالتفكر والتخصص. و يصور الله تعالى في الآيات التالية أصحاب الإيمان الكامل على هذا النحو:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهِ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (الأنفال، 2)
﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (الحج، 35)
فإذا امتلأ القلب بمحبة الله ، فسيكون الهدف العام و النهائي لأي عمل يعمله الإنسان هو اكتساب مرضاة الله . فيبدأ الإنسان و يسلك الطريق القويم ليعرف الحكمة من خلقة هو، ومعرفة حقيقة القرآن و الكون. أما العباد ذوي القلوب الغافلة، التي لم تكتسب هذا العمق و الرقة، فلا يحبهم الله تعالى على الإطلاق. يقول الحق :
﴿…فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (الزمر، 22)
تبين الآية الكريمة أن الإنسان الذي ابتعد عن ذكر الله ، هو من عجز عن المحافظة على خاصية الإنسانية و شرفها عنده، أي أنه عجز عن إدراك خصوصية أن يكون في “أحسن تقويم’’.
تحاول النفس أن تجمع عندها كل الملذات الدنيوية. بيد أن “زكية النفس’’ تجعل من الممكن الإلقاء بكل هذا في خارج القلب. و يصبح الشخص الذي لم ينل هذه التربية المعنوية، أسيراً لهوي نفسه. يقول الله :
﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾ (الفرقان، 43)
(أي أنك لن تستطيع أن تخلصه مما وقع فيه).
إن استخدام الآية الكريمة التعبير “مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ’’ الذي هو تعبير ثقيل من أجل أولئك الذين اتبعوا أهوائهم و ابتعدوا عما جاء به الوحي، لهو أمر يسترعي منا الانتباه.
و تعبر كلمة “هوى’’ في القرآن الكريم عن مضاد للكمة العلم و العلم هنا هو العلم الذي يأتي من لدن الله . يقول الله :
﴿… وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ البقرة الآية (البقرة، 145)
يذكر القرآن الكريم إتباع “الهوى’’ بوصفة السبب المهم و الرئيس للضلالة. و مما شك فيه أن الذين يتبعون الهوى أي أهواء النفس فيما يخص الدين، من المحقق أنهم سيحيدون عن الطريق القويم و يبتعدون عن طريق الله .
ويحتاج الإنسان إلى طرق التربية المعنوية و الروحية مثل المناجاة و الرياضة النفسية و الذكر حتى يتمكن من أن يصل إلى تزكية النفس بشكل اللائق لذلك. و كما أن القلب هو مركز جوهر الإيمان، فهو أيضاً مركز جوهر الذكر. و تبدأ العبودية الحقيقية عندما يصل الذكر من اللسان إلى القلب؛ و يكون الإنسان بذلك قد دخل إلى الطريق الذي سيتخطى فيه عقبة النفس. و الاستمرار في الذكر يجعل متحكماً في حقيقة الذكر و كل أحواله. و حينها سيمحى كل شيء من القلب و لا يبقي سوي الله . و يظل العبد مع ربه. فينال إحساس الإحسان. و يستمر في عبادته كما لو كان يري الله…
العفو عن سيدنا آدم و أمنا حواء
أُخرج آدم عليه السلام و أمنا حواء بعد مخالفتهما لأمر الله تعالى بإغواء من الشيطان، من الجنة و أُرسلا إلى الأرض. نزلت الملائكة بسيدنا آدم عليه السلام إلى جزيرة سيلان جنوب الهند، أما السيدة حواء فنزلوا بها إلى حيث المكان الذي توجد فيه مدينة جدة على ساحل البحر الأحمر. لهذا السبب ظل كل منهما بعيد عن الآخر مدة طويلةً. انقطع آدم عليه السلام و أمنا حواء للتوبة إلى الله تعالى والاستغفار. و لكنهم لم ينالوا عفو الله . و في النهاية دعيا ربهما و قالا:
﴿…رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الأعراف،23)
يروى كذلك أنهما توسلا بنبينا صلى الله عليه وسلم. أي أنهما لجئوا إلى روحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفي الله تعالى عنهما ببركة رسولنا. و قد ورد في الحديث الشريف ذكر ذلك على النحو التالي:
“لما اقترف آدم عليه السلام الخطيئة، قال يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله تعالى يا آدم، وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه[21]؟ قال لأنك يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من رُوحك رفعتُ رأسي فرأيتُ على قوائم العرش مكتوبًا لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، فعلِمتُ أنك لم تُضِفْ إلى اسمك إلا أحبَّ الخلق إليك، فقال الله تعالى صدقت يا آدمُ، إنهُ لأحبُّ الخلق إليَّ، وإذْ سألتني بحقه فقد غفرتُ لك، ولولا محمد ما خلقتُك’’ (الحاكم، المستدرك، 2، 672).
تذكر آدم عليه السلام شرف و مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى و عندما طلب أن يعفو الله عنه حُرمةً لوجه الرسول، استجاب الله تعالى لدعائه و كلّف مَلَكَاً يرشده الطريق إلى مكة.
و ببركة هذا الدعاء أيضاً وكّل الله تعالى مَلَكَاً آخر سار بأمنا حواء إلى آدم و في يوم التاسع من ذي الحجة اجتمعا معاً في عرفات وقت العصر، فتوجها من بين دموع عينيهما إلى ربهما مستغفرين مرة أخري.
لم يكن مصدر الحب و الوله الذي جمع بين سيدنا آدم عليه السلام و السيدة حواء أنها من جنس آخر بل كان مصدره أن السيدة حواء خُلقت من آدم .
و كما استجاب الحق بإحسانه و كرمه الذي لا تحده حدود لدعائهما، فإنه يستجيب بالكيفية نفسها و يعفو و يسامح حتى يوم القيامة من يأتي من عباده كل عام إلى عرفات في نفس الوقت و يسأل الله العفو و المغفرة. و هذه هي الحكمة من توجه الحجيج إلى عرفات و استغفارهم الله تعالى هناك.
أول جريمة على سطح الأرض
اتخذ آدم عليه السلام و السيدة حواء بعد لقاءهما، مدينة مكة الحالية وطناً لهما بأمر من الله . لهذا السبب أُطلق على مكة اسم“أُم القرى’’ أي مركز المناطق السكنية. و هناك بدأ عدد الناس في التزايد.
و يرجع السبب وراء الزيادة السريعة في العدد، إلا أن السيدة حواء كانت تضع في البطن الواحدة أكثر من طفل. و كان وليدو البطن الواحدة أخوة يحرم على أحدهما أن يتزوج بالآخر. و لكن يحل للذكر أن يتزوج بمن تولد من بطن أخرى و كذلك الأنثى.
أراد قابيل أن يتزوج من أخته التي ولدت معه في نفس الوقت من بطن واحدة. أما هابيل فأخطر أخاه بأن ما ينوي فعله مخالفاً للشريعة و أنه لا بد و أن يتزوج من أخوات له لم يولدن معه في نفس الوقت. لم يلتفت قابيل لهذه التحذيرات، و ادعى أنه بفعله هذا يكون قد سلك سلوكاً سليماً. و بناءً على هذا عرض هابيل على أخيه أن يقدم كل منهما قرباناً إلى الله تعالى حتى يتضح لكليهما من كان على حق.
و كانت القرابين في حينذاك تُقدم من جنس مال الشخص ووفق وظيفته. وكانت توضع جميعاً فوق قمة جبل من الجبال، ويذهب الناس إلى هناك بعد مدة، فمن يجد قربانه و كان الله تعالى يتقبل القربان بأن ينزل من الماء ناراً تحرقه عن آخره.
كان لهابيل قطيع من الخرفان، فأختار من بينها أسمنها و أجملها هيئة. أما قابيل فكان يشتغل بالزراعة. فقام بانتقاء حزمةً قمح رديئة كي يقدمها قرباناً للّه .
و بعد مدة ذهب هابيل و قابيل معاً كي يتفحصا القرابين التي قدموها. فوجدا أن الله تعالى قد تقبَّل الكبش الذي قدمه هابيل قرباناً؛ أما قابيل فوجد حزمة القمح الرديئة التي قدمها مستقرة كما هي. (بن سعد، 1، 36) فغضب قابيل لذلك أشد ما يكون الغضب.
و تصور الآية الكريمة الآتية كيف استبد به الغضب حتى قتل آخاه:
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهِ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ [22]. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. فَبَعَثَ اللهِ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ (المائدة، 27–31)
يُعرض في هذه القصة لمُقارنة بين العقل الذي أُضيء بنور الوحي و العقل الذي لم يستطع أن يتخلص من سلطة النفس فحُرم ذلك و تعرض القصة كذلك لمثال حي لنتيجة هذه المقارنة. و للعقل قيمة يعطيها له الوحي. و العقل الحكيم هو يقف في خدمة الوحي و يقبله مرشداً له. أما العقل الذي حُرم ممن يرشده الطريق، فلا يمكنه أن يحمي الإنسان من آفات النفس. فالعقل كالسكين الحاد الذي يمكن استخدامه في كل الأغراض. قيمكن لأي أحد إذا أراد أن يقطع به الخبز، و يمكن لآخر أن يرتكب به جريمة. وبالطريقة نفسها أن عقل قابيل الذي عارض الوحي، هو نفسه الذي ألقى به إلى الضلالة و قضى على آخرته.
و العقل عند الأشخاص الذين حُرموا التقوى و الإخلاص هو الذي يزيد من ظلم ذلك الشخص لهم و للآخرين. و يمكنه أن يودي بصاحبه إلى قتل أخيه كما حدث في قصة قابيل. أما هابيل فاستخدم نعمة العقل على النحو الذي يقتضيه الوحي و توجه بالنصح لقابيل، و كان عبداً مخلصاً لذا تحرك بخوف من الله .
دائماً ما ينظر الذين أُبتليوا بداء الغيرة و الحسد إلى النعم التي في أيدي الآخرين بدلاً من أن ينظروا إلى النعم التي وهبهم الله إياها. و إذا ما تمكنت الغيرة و الحسد و هي من صفات النفس المذمومة، من شخص، فإنه تحثه على فعل كل أنواع الموبقات. حتى أن هذا الشخص قد لا يتورع عن قتل آخيه. و لا يمكن لمثل هؤلاء الأشخاص أن يرضوا بما قدّر الله لهم.
ونتيجة لذلك سيتملكهم الندم و عذاب وجداني عظيم لأنه سيعيشون من الأرزال في الدنيا. أما في الآخرة فلهم عذابُ أليم. و يمكن للإنسان أن يبرأ من هذا المرض؛ بإعادة تربية و تهذيب النفس و التخلص من النفس الأمارة بالسوء و إدراك النفس المطمئنة، و أن يرضي الإنسان بما قسم الله له على وجه الخصوص.
و في شخصية قابيل و هابيل نوع من التكتل يذكرنا بما بين الملاك و الشيطان من تباين و تضاد. ففي الوقت الذي يبحث فيه قابيل في مقابله عن نواقصه هو مثله في ذلك مثل الشيطان، نجد أن هابيل قد تصرف دون أن يشعر بتوتر مثله في هذا مثل المَلاك لا يخشي أن يفقد اعتباره و لا يهاب التهديد بالقتل، و لا يخاف إلا من الله فقط. أي أن أحدهما ظل يصر على خطئه تماماً مثل الشيطان، أما الآخر فكان وجهته نحو الله .
و يبين القرآن الكريم عظم جريمة قتل النفس ظلماً ة طغياناً في الأرض و يؤكد كذلك على عظم أجر من يُنجي إنساناً من القتل:
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً …﴾ (المائدة، 32)
و يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف التالي عن حادثة سفك دم الأخ و هي أول حادثة في تاريخ الإنسانية كلها بقوله:
“لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ” (البخاري، الأنبياء، 1؛ مسلم، القيامه، 27).
و يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:
“مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ” (مسلم، الزكاة، 69؛ النسائي، الزكاة، 64)
يبين هذا الحديث الشريف أنه إذا دل أحد على خير، فله حصة من ذلك الخير الذي سيستمر من بعده؛ و إذا تسبب أحد في وقوع شر فله نصيب كذلك من ذلك الشر الذي سيستمر من بعده.
و للأمام الغزالي في كتابه “الإحياء’’ كلمة جميلة في هذا الخصوص:
وَطُوبَى لِمَنْ مَاتَ وَمَاتَتْ مَعَهُ ذُنُوبُهُ
وَالْوَيْلُ الطَّوِيلُ لِمَنْ يَمُوتُ وَتَبْقَى ذُنُوبُهُ مِائَتَى سَنَةٍ
و ورد في الحديث الشريف أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم قد قال:
“ستكون فتنةٌ القاعد فيها خيرٌ من القائم والقائم خيرٌ من الماشي والماشي خيرٌ من الساعي قال أفرأيت إن دخل على بيتي وبسط يده إلي ليقتلني قال كن كابن آدم” (الترمذي، الفتن، 29، 2194)
أمرنا الدين الإسلامي أن نحافظ و ندافع عن خمسة أشياء. هي: الروح و العقل و الدين و النسل و المال. و يجب على الإنسان أن يجاهد و يفعل كل ما هو ضروري للدفاع ضد أي تعرض لهذه الأشياء. و لكن ينبغي عليه و هو في دفاعه هذا أن يتبع الطريق التي بينتها الشريعة.
و عندما يتعرض لموقف سيكون فيه إما ظالماً أو مظلوماً، فعليه أن يتبع وصية رسول الله و يختار أن يكون مظلوماً لا ظالماً.
رزق الله تعالى سيدنا آدم عليه السلام و السيدة حواء بسيدنا شيت[23] بعد مقتل قابيل. و كلمة شيت تعنى في اللغة “هبة الله’’.
أنزل الله تعالى على سيدنا شيت هو أحد الأنبياء الذين لم يرد ذكرهم في القرآن، 50 صحيفة. و قد نادى سيدنا آدم عليه السلام على سيدنا شيت –عليهما السلام– و هو يحتضر، و علمه ساعات الليل والنهار، والعبادات الواجبة في تلك الساعات و أخبره أن طوفاناً سيحدث على الأرض.
توفي سيدنا آدم يوم الجمعة، و جاءته الملائكة فغسَّلته وكفّنته ثم قاموا بدفنه من بعد ذلك. و يروى أنه عاش على الأرض ألف عام أو 930 عام.
العبر المُستقاة من قصة آدم
1- يجب أن نكون منتبهين يقظين إلى أبعد الحدود لحيل الشيطان، فهو عدو الإنسان اللدود والمحرض الدائم له على السوء.
2- يجب أن نولي الاهتمام بتزكية النفس و تصفية القلب حتى نتخلص من الصفات المذمومة مثل الكِبر و الحسد و الحرص و العجلة و هي صفات تسوق بصاحبها إلى الخسران الأبدي.
3- يجب على الإنسان أن يقتدي بسيدنا آدم في أن يُسرع بالاستغفار لدي ارتكابه الإثم.
4- يجب علينا أن نتوجه إلى الله بالاستغفار حتى إن لم نكن قد ارتكبنا إثماً معترفين بعجزنا عن تأدية شكر نعمائه علينا.
5- يمكننا أن نستقي من حادثة اقتراب سيدنا آدم و أمنا حواء من الشجرة التي حرمها الله، أنه يمكن لروحانيات العباد التي تلاشت بعد ارتكابهم الذنوب، يمكنها أن تعود مرةً أخري إذا هم لزموا الاستغفار.
6- يجب علينا أن نتوسل في دعائنا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل سيدنا آدم ، و ألا نكف الصلاة عليه في وقت ضيقنا و راحتنا.
7- يجب علينا نبذل جهدنا حتى ندرك سر “أحسن تقويم’’ و نجعل الروح السلطانية غالبةً على حياتنا النفسية.
8- يجب ألا يغيب عن أذهاننا أنه إذا دل أحد على خير، فله حصة من ذلك الخير الذي سيستمر من بعده؛ و إذا تسبب أحد في وقوع شر فله نصيب كذلك من ذلك الشر الذي سيستمر من بعده. و بذلك يكون هابيل قد سنَّ سُنة في الخير، أما قابيل فسنَّ سُنةً في الشر.
9- خلق الله تعالى الإنسان مُكرماً و فضله على جميع مخلوقاته.
من كل ذلك يمكن الخلوص ببعض المعلومات عن سيدنا آدم :
أول من عاش في الجنة و الحياة الدنيا.
أول من تغطّى.
أول من نسي.
أول من ارتكب الإثم.
أول من تاب.
أول الأنبياء (أنزل الله عليه 10 صحف).
أول من كافح لإعلاء كلمة التوحيد.
أول من شعر بفاجعة فقدان الولد.
أول من ألقي السلام.
أول من عمل بالأرض (فلح الأرض).
و خلاصة القول أنه كان أول إنسان.!…
[1] المضل: يخذله ولا يلطُف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف
[2]2 المكتبِّر: هو الذي يُظهِر جلالته وعظمته في كل شيء وأمر.
[3] لقد خُلِق الإنسان من التراب الذي هو جوهره الأصلي، وبالمقابل فإن الجوهر الذي خُلِق منه الجن هو النار البراقة التي لا دخان فيها (مارج من نار)، وبالتالي فإن الجن ليس له كثافة، لكن عنده قابلية للتشَكُّل في مختلف أنواع المخلوقات ذات الكثافة. وبالرغم من أن لديه القدرة على الحركة بسرعة الضوء إلا أنه ليس مخلوق متكامل مثل الإنسان في الكثير من المجالات؛ فهو من حيث المنزلة أقل من الإنسان. إن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قد أُعطي مَيِّزة خاصة به، ألا وهي أنه بُعِثَ رسولاً لكل من الإنس والجن، ولهذا لُقِّب بـ “رسول الثقلين”، وفي صعيد آخر فإن “مفتي الثقلين” هو لقب كان يُطلق على الإمام الغزالي وأبو السعود أفندي وأمثالهما ممن كانوا يُفتون كلاً من الإنس والجن، وأما “مرشد الثقلين” فلقب يطلق على المرشدين الكاملين الذين يتخصصون في تربية الإنس والجن في سلوكهم إلى الله .
[4] انظر: ابو السعود، ارشاد العقل السليم، جـ 2، ص 130 (آل عمران،191)؛ الآلوسي، روح المعاني (الفاتحة، 3)؛ العجلوني، كشف الخفاء، جـ 2، 132.
[5] في اللغة العربية يمكن أن يُضاف إلى معنى كلمة (خالق) معناً آخر وهو (إيجاد شئ ما). ولهذا عحينما يُقال ” أحسن الخالقين” فهذا لا يعنى أن هناك خالقاً آخر غير الله. فمثلاً عندما يُقال: ” علىُ أحسن طالب” فإن هذا ليس شرطاً لوجود طلاب آخرون متفوقون في الفصل، ويمك أن يُستخدم هذا التعبير حتى لو أن علياً كان هو الطالب الوحيد في الفصل، وفي هذه الحالة يكون المعنى أن ” علياً طالباً متفوقاً جداً
[6] لهذا فإن الله تعالى اتخذ بعض الناس كوسيلة لاستمرار دينه إلى يوم
القيامة، مثل: الإمام أبو حنيفة، والإمام البخاري، والإمام أحمد بن حنبل،
وأئمة المذاهب الأخرى، وأهل التصوف الكبار
[7] يظهر أن الجمادات المعهودة لنا وغير المعهودة لها شعور تدرك به ثقل التكليف الملقى عليها، حيث إن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما كان في إحدى المرات مع أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم كانوا يصعدون جبل أُحد، فبدأ الجبل يرتجف بهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اثبت أُحد، فإنما عليك نبي وصِدِّيق وشهيدان” (الترمذي، المناقب، 18\ 3703) إن كل فرد من الجمادات والنباتات والحيوانات يسبح بحمد ربه بلسانه الخاص، وهذا ما يبينه قوله تعالى في الآية الكريمة:
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ (الإسراء، 44)
ومن أفضل الأمثلة التي تؤيد ما قلناه: أنين جذع النخلة للبني صلى الله عليه وسلم (البخاري، المناقب، 25)، وتفريق البحر الأحمر بين سيدنا موسى وفرعون (البقرة، 50).
ومثال آخر: البحث العلمي الذي قام به العالم الياباني Masar Emoto على بلورات الماء المتجمد، حيث وجد أن منها المستوي ومنها المتناسق ومنها سداسي الشكل، وهذه البلورات لم تمسها يد الإنسان، بل هي موجودة في مصادر المياه الطبيعية، فأدرك أنها ذات أشكال من الجمال والتناسق بحيث تسحر أعين الناس. فأخذ من ماء هذه البلورات ثم فرَّغه في وعائين منفصلين وأجرى عليها تجربة، ورأى أن بلورات ماء الكوب الأول والذي نفث فيه كلمات حب وشفقة ودعاء وامتنان قد حُفظت بالجمال الطبيعي، وأما بلورات الماء الذي نفث فيه كلمات نابية ولفظ “الشيطان” فرأى أنها تصدّعت وفسدت أشكالها وفقدت كل ميزات جمالها. وفي نفس التجربة وجد أن أثر الموسيقى الجميلة والمريحة على هذا الماء يختلف عن أثر الموسيقى المزعجة والإيقاع غير المتناغم عليه.
ولتأكيد هذه الحقيقة التي وصل إليها Masar Emoto فقد أجريت تجربة أخرى مشابهة لها على أرز مسلوق وضع في جرار منفصلة، فوضعت في جرة بطاقة مكتوب عليها “شكرا”، ووضع في الأخرى بطاقة مكتوب عليها “غبي”، وخلال مدة شهر ظلت هذه العبارات تُلفظ، فاكتشفوا أن الأرز الموجود في الجرة الأولى بقي محافظا على بياضه ونضارته، وأما الأرز الموجود في الجرة الأخرى فوجدوا أنه اسودّ وفاح برائحة نتنة.
[8] الطبري، التاريخ، 1، 90
[9] انظر: ابن سعد، الطبقات، 1، 26
[10] تكررت في هذه الآية كلمتي “العسر” و “اليسر”، ولكن كلمة “العسر” جاءت مُعَرّفة بأل، وجاءت كلمة “يُسر” منكّرة، وحسب قواعد اللغة العربية فإن تكرار الكلمة المعرّفة يُفيد نفس المعنى، ولكن تكرار الكلمة المنكرة يفيد شيئا آخر، ولهذا السبب فإنه بالرغم من ورود كلمة “العسر” في السورة الكريمة مرتين فأنهما تفيدان عسراً واحداً، وأما اليسر فأنه موجود مرتين كما ورد. (انظر: البخاري، التفسير، 94)
[11] التعبير بالمضغة: أي لحمة ممضوغة، في هذه الآية الكريمة هو معجزة قرآنية اكتُشِفت في عصرنا الحديث، إن المضغة التي تشكل المرحلة الثالثة من خلق الإنسان، ويكون الإنسان في فيها كأنه لحم ممضوغ تظهر عليه آثار الأسنان.
[12]– انظر: اسماعيل حقي البروسوي، تمام الفيض، (تحقيق على ناملى)، رسالة ماجستير غير منشورة، استانبول، 1994، ص 47.
[13] – بالإضافة إلى ذلك، انظر: (سورة ص 77-78)
[14] – بالإضافة إلى ذلك، انظر: سورة الأعراف، 14.
[15] – بالإضافة إلى ذلك، انظر: سورة الأعراف، 15.
[16] – للإطلاع على الحديث الشريف يرجى الرجوع إلى الصفحة رقم 142 – 143.
[17]– انظر: سورة الطارق، 6 – 7.
[18]– التستر: هي كيفية تخص الإنسان وحده من بين سائر المخلوقات الأخرى. فالإنسان يجد نفسه مجبراً لأن يستر نفسه حتى يمكنه أن يحمي صفة الإنسانية والوقار و الحياء و الجدية التي أنعم بها الله عز وجّل عليه. و يفقد الإنسان تلك الصفات بفقدانه صفة التستر. و يسقط حينها إلى مستوى ما دونه من المخلوقات الأخرى. و ضياع الحياء من بين الناس احدى علامات قيام الساعة المعروفة. فقد جاء في الحديث الشريف:
“الحياء من الإيمان” (البخاري، الإيمان، 3). و على الرغم أنه لم يكن ثمة أناس آخرون في الجنة سوى سيدنا آدم و زوجته حواء، إلاّ أن كل منهما كان يخجل من الآخر و من المخلوقات الأخرى. فحاولا جهديهما أن يسترا عورتيهما بأوراق الأشجار المتاحة. و هذا يشير إلى أن الغطاء المادي و ما يرتبط به من غطاء معنوي آخر متمثل في الأدب و الحياء، هو واحد من أفضل ما يميز بني آدم.
[19]– العداوة: هي العداوة التي ستظهر و تستمر حتى يوم القيامة و ستكون بين الشيطان و الجن و الإنس من ناحية و بين الإنس و بعضهم البعض.
[20]– انظر: القلم، 16 – 33.
[21]– أراد الله تعالى الذي لم يكن هنا موجود غيره في الأزل، أراد يُعرف على مستوى إدراك الإنس و الجن فخلق كل ما سوى ذلك من مخلوقات. و كان «النور المحمدي «هو أول ما خلق الله تعالى. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ؟ قَالَ: «وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالجَسَدِ» (الترمذي، المناقب، 1). وهذا يعنى أن النور المحمدي –عليه الصلاة و السلام– هو جوهرة الأنبياء جميعهم، و هو مقابل كونه أول من خلق الله، سيكون خاتم الأنبياء و المرسلين. و نحن لا نقصد التعبير ‘‘النور المحمدي ’’بمعناها الحرفي بل ‘‘الذات محمد’’المبعوث بصفاته البشرية.
[22]– ينضوي هذا الموضوع مسالتين: الأولى هي كيف يتحمل القاتل إثم المقتول و الآية الكريمة تقول (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الإسراء،15)؟ ويمكن توضيح هذه النقطة على أكثر من شكل: فقد ورد في الحديث الشريف “المستبان ما قالا. فعلى البادئ، ما لم يعتد المظلوم“. (مسلم، البر، 69) أي أنه طالما لم يتعد المظلوم حده، فإن البادئ يُحَمَّل بمثل ذنب صاحبه لأنه ارتكاب الإثم نفسه من ناحية و لأنه كان السبب في ارتكاب صاحبة الإثم من ناحية أخري. فالمقصود هنا من قول (إِثْمِي)أي لو مددت يدي إليك، فسأحمل نفس الإثم. و بهذا الحال يتخطي أحدهما الحد، أما الآخر فيكون قد ارتكب الإثم كله. و إذا لم يبد الآخر رد فعل، يكون قد نجى من هذا الإثم. و يكون القاتل قد ارتكب جريمتين و حمل إثمين؛ الأولى لأنه قتل المظلوم، و الأخرى لأنه استحق العقاب و ألقى بنفسه إلى النار. و بذلك تكون (إِثْمِي) هي (إثم قتلي)؛ و تكون (َإِثْمِكَ) الآثام التي ارتكبتها من قبل.
أما الشكل أو الجانب الآخر، فكما أنه من غير الجائز أن يطلب الإنسان لنفسه أن يعصي الله، فلا يجوز أن يطلب لغيره أيضا أن يعصي الله. و ما دام الأمر كذلك فكيف يجوز لتقي مثله أن يطلب لأخيه أن يرتكب إثمين؟ لهذا جوابين: الأول، أن القصد الرئيس من هذه الكلمة لم يكن تمنى الطرف الآخر الوقوع في الإثم؛ بل كان يطلب ألا يقع هو أو أخيه في الإثم. و يكون المعنى بذلك، أنا لا أريد أن أقع في الإثم، فإن كنت مصراً، أنا لا أطلب من الله أن يجزيك بما تصر عليه. و لكنى أرجح الشكل الأول. (المللي، 3، 1654)
[23]– وجدنا في مصادرنا أن هذا الاسم قد ذُكر على الشكل شيث كذلك. بيد أننا رجحنا أن نذكره هنا على الشكل شيت حتى يكون سهل التلفظ بالنسبة للغة التركية و لأنه أشتُهِر بين الأتراك بهذا الشكل.