إن الله سبحانه وتعالى وهب الكائنات طرازاً اجتماعياً، ونظاماً رائعاً للحياة على غرار خصوصية نظامهم الحياتي. ربنا يريد أن يعيش الإنسان بمتانة قلب كي ُيظهر عظمة التجليات الإلهية وأبهة صيرورة القدرات في الكائنات، لأنه خـُلق على أكمل وجه بجماليات مادية ومعنوية ومتطلباتها.
قال الله -عز وجل- في الآية الكريمة:
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ (الرحمن، 7ـ 8)
فربُنا خلق الإنسان مميزاً عن الكائنات الأخرى، في جبْرية العيش بشكل جماعي، ولهذا السبب كان الإنسان عبر تطوره التاريخي من مرحلة القبيلة إلى تكوين الدولة ميّالاً للعيش بشكل جماعي لا فردي. فوجود الإداريين وتحقيق التوازن شرط بينهم وبين المجتمع، كي تلقى هذه الميول الحياة َفي نظام منسجم.
وبالنظر بعين الحكمة نجد بأن الإداريين والشعب المدار مثل مرآة تعكس بعضها البعض، وعلى هذا الأساس تتشكل المجتمعات من أصغر خلية لها وهي العائلة والجماعة وصولاً إلى الأمة بالمستوى المادي والمعنوي للإداريين، وبالمقابل يتشكل الإداريُّونَ بنصيب ومكتسبات المجتمع المادي والمعنوي.
لذا عدالة وكفاءة القادة تمنح الصلح والسلم للمجتمع، وعلى العكس عدم جدارة القادة و نقص أهليتهم تسبب إفقار المجتمع.
ومن جانب آخر نرى بأن الإداريين حصيلة المجتمع ومنه خرجوا، فالمجتمع الذي ينظم نفسه يحظى بإدارة صالحة، أما المجتمع الذي يتخلى عن المزايا الحسنة غارقاً في النزوات تتسلط عليه إدارة ذات مصالح.
فمن هذا المنطلق يتوجب على المجتمع والإداريين البحث عن التقصير في أنفسهم والعمل على إصلاحه. ولزوم المحافظة على الصلح والسلامة في الحياة الإجتماعية لا الحياة القلبية لتطبيق الأخلاق التصوفية القائل:
“اللوم على النفس، والمسامحة للغير” قال تعالى في الآية الكريمة:
﴿…إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ…﴾ (الرعد، 11)
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال، 53)
الآيات الكريمة تبين بأن نيل المجتمع للتجليات الإلهية في الكرم والرحمة والإحسان مرتبط بأحوالهم الحسنة، وعند تركهم لما يرضي الله من الجماليات تـُرفع الرحمة والنعم عنهم، وتدبُّ الفوضى. فيكون الحال على الوجه الذي بيَّنه الحديث الشريف:
“مَا تَحْتَ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِمَّا فَوْقَهَا” (الطبراني، المعجم الأوسط، جـ5، 433)
ومن هذا المنطلق، فالمجتمع الذي يرغب بإدارة صالحة من أجل العيش بأمان، عليه أن يحرص على أحواله وتصرفاته فيما إذا كانت متوافقة مع رضا الله أم لا. قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في حديث شريف بقصد إيقاظ المجتمع:
“كما تكونون يولى عليكم” (السيوطي، الجامع الصغير، جـ2، 82)
ولعل الحادثة التالية تعبر عن هذه الحقيقة بدلالة عميقة:
عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ صُوحَانَ، قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ-رضي الله عنه- حِينَ ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ، فَقُلْنَا:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ عَلَيْنَا، فَقَالَ:
أَتْرُكُكُمْ كَمَا تَرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَخْلِفْ عَلَيْنَا، فَقَالَ:
“إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِيكُمْ خَيْرًا يُوَلِّ عَلَيْكُمْ خِيَارَكُمْ”
قَالَ عَلِيٌّ:
«فَعَلِمَ اللَّهُ فِينَا خَيْرًا فَوَلَّى عَلَيْنَا أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه-ُ» (الحاكم، جـ3، 156/4698)
وفي حادثة أخرى، أثناء خلافة سيدنا علي -رضي الله عنه- حين ظهرت الخلافات والفتن، سُئل مرة:
«لماذا لم تحصل الخلافات في عهد الخلفاء السابقين، كما حصلت في عهدك» فرد مدينة العلم والمعرفة هذه الذات العظيمة بالقول:
«هم أداروا أناساً مثلي، وأنا أدير أناساً مثلكم».
معبراً بذلك أن تصرفات الإداريين تكون وليدة أقسومة واستحقاقات الناس المُدارين. ومن وجهة نظر الإداريين نجد الموضوع نفسه.
قال سيدنا عمر -رضي الله عنه- في هذا الخصوص:
«الناس على سلوك ملوكهم»
«إن الناس لن يزالوا مستقيمين ما استقامت بهم أئمتهم وهداتهم» (ابن الجوزي، المناقب، ص 223)
في الحقيقة إن عموم الناس يقلدون رؤساءهم ويقتدون بهم، ولعل هذه الأمثلة التاريخية توضح بشكل جيد محاولة المجتمعات التمثل بأحوال الإداريين المعنوية:
كان الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك من هواة الأبنية الفخمة فانصرف الناس في عهده إلى هواية الأبنية الفخمة والحديث عن العمارة في المجالس.
وسليمان بن عبد الملك كان حاكماً يهوى الطعام والشراب، فانصرف الناس إلى إسراف وقتهم في الحديث عن الطعام والشراب.
والخليفة عمر بن عبد العزيز كان متعبداً وزاهداً، فانصرف الناس إلى طرق العبادة والطاعة. فتتناقل الأسئلة التي تـملأ الأفئدة بالروحانية بين الناس»كم آية حفظت من القرآن الكريم؟كم يوماً صمت هذا الشهر؟ كم من المساكين والمرضى واليتامى أحسنت إليهم؟[1]
في الحقيقة فإن أفعال وتصرفات الإداريين تنتقل بالعدوى إلى المجتمع عاجلاً أم آجلاً، فينعم المجتمع بمناخ عام من الخير والجمال فيما إذا كانت الإدارة خيرة، وعلى العكس فأخطاء الإدارة وعدم كفاءتها تؤدي إلى انتشار الفساد في المجتمع.
لذلك قال أجدادنا «نتانة السمكة من رأسها» وبناء عليه يتوجب على كل الإداريين توخي الحرص والحساسية ومحاسبة أنفسهم بمسؤولية رب الأسرة وقادة الجماعات إلى كبار القادة في المجتمع. جلالة الشيخ أدَب عالي في توصيته للغازي عثمان (مؤسس الدولة العثمانية) عبر عن حساسية هذا الموضوع:
«لا تنس أن من وجد مكاناً في الأعلى ليس بأمان مثل الناس في الأسفل»
كان سيدنا عمر -رضي الله عنه- يجمع أفراد عائلته أولاً عندما يصدر قراراً بالأمر أو النهي قائلاً لهم:
كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا نَهَى النَّاسَ عَنْ شَيْءٍ دَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ، أَوْ قَالَ: جَمَعَ، فَقَالَ:
«إِنِّي نَهَيْتُ عَنْ كَذَا وَكَذَا ، وَالنَّاسُ إِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ نَظَرَ الطَّيْرِ إِلَى اللَّحْمِ، فَإِنْ وَقَعْتُمْ وَقَعُوا، وَإِنْ هِبْتُمْ هَابُوا، وَإِنِّي وَاللَّهِ لا أُوتَى بِرَجُلٍ مِنْكُمْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَهَيْتُ عَنْهُ النَّاسَ، إِلا أَضْعَفْتُ لَهُ الْعُقُوبَةَ لِمَكَانِهِ مِنِّي، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَقَدَّمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَأَخَّرْ» (ابن الجوزي، المناقب، 266)
إن ما يلفت النظر في الفترات التي تكون زمام السلطة في يد القائمين بوظائفهم بحساسية ودراية، يرتفع مستوى رفاه المجتمع. والسلطان العثماني سليمان القانوني يعبر عن هذا الحرص بشكل جميل في تعليماته التي أرسلها إلى الغازي بالي بك:
«كن حريصاً على العامة، فصلاح حال المجتمع قائم على صلاح القادة والولاة، فالتابعون يعكسون حال الرؤساء. هناك من يقوم الليل متعبداً والنهار صائماً، ولكن منهم من تعلق بالمال إلى درجة العبادة، فلا تكن ميالاً للأشياء الفانية لأن أكثر ما يحرّض الناس هو حب المال، فأسرف النعم التي بين يديك على عباد الله بسخاء فاتحاً يد الكرم، وابتعد عن الحسد»
كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يقف مع الصحابة في أوقاتهم الصعبة، ويهتم بالذات بمشاكلهم كلها، فأفعاله وتصرفاته أصبحت مثالاً للإداريين يقتدون بها، الفرسان الشجعان أمثال سيدنا علي -رضي الله عنه-، كانوا يقولون في أخطر أوقاتهم: «نحن نحتمي خلف رسول الله».
ونظراً لذلك يجب على القادة أن يعلموا بأنه لا فائدة من خدمات تقدم بالتّحكم عن بُعد، ويجبُ أن تكون التضحيات بالنفس من أولوياتهم دائماً.
فرسول الله -صلي الله عليه وسلم- في كل أسفاره، كان يمشي في المؤخرة كي يصبح عوناً للضعفاء في الخلف، لأجل ذلك فالراعي الرحيم لا يتخلى عن نعجة سقيمة في القطيع بل يحملها ولا يتركها خلفه.
ومن جانب آخر فعلى قادة المجتمع أن يتصرفوا كموظفي الصيرفة على ملك الله، وأن لا يتكبروا بسبب مواقع وظائفهم، وأن لا ينسوا بأنهم سوف يتعرضون للمساءلة يوماً ما في المحكمة الإلهية. تماماً كما كتب الإمام مالك رسالة لأحد خلفاء زمانه مذكراً النصائح التالية:
«…وحج عمر عشرة سنين وبلغني أنه كان ما ينفق في حجة إلا اثني عشر ديناراً. وكان ينزل في ظل الشجرة ويحمل على عنقه الدرة ويدور في الأسواق يسأل عن أحوال من حضره وغاب عنه. وبلغني أنه وقت أصيب حضر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليه، فقال المغرور من غررتموه، لو أن ما على وجه الأرض ذهبا لا افتديت به من أهوال المطلع. فعمر رحمه الله تعالى كان مسدداً موفقاً مع ما قد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ثم مع هذا خائف لما تقلد من أمور المسلمين فكيف من قد علمت…” (القاضي عياض، ترتيب المدارك، جـ. 2، ص. 107).
وفي هذا الخصوص كانت حساسية الإيمان وحالة التواضع عند فاتح الأندلس طارق بن زياد مثالاً رائعاً:
استطاع طارق بن زياد أن يدحر جيوش الأسبان المؤلفة من مائة ألف جندي، بجيش مؤلف من خمسة آلاف جندي. وعندما وضع طارق قدمه على كنوز الملك قال في نفسه:
«يا طارق! كنت البارحة عبداً مكبلاً بالأغلال، فأصبحت قائداً بعد أن حررك الله، واليوم أنت في قصر الملك وفاتحُ الأندلس، فلا تنس أبداً أنك ستكون غداً أمام الله!».
*
يتوجب على الذين استلموا مواقع الإدارة وقيادة المجتمعات،أن يدركوا وظائفهم على أنها لقضاء احتياجات الشعب في نوع من الخدمة. فالأب المرحوم موسى طوبَّاش-قدس سره- عبّر عن وجوب أن يرى قادة المجتمع أنفسهم خَدماً للشعب، والابتعاد عن التكبر والعجرفة بسبب مواقعهم، وخدمة الناس دائماً بعواطف الرأفة والرحمة والعرفان وبالأخص التواضع قائلاً:
«أهل الخدمة، عليهم أن يكونوا على الإدراك التالي: فرصة الخدمة لطف من الله، ولكن هذا اللطف لا يكون من نصيب الجميع. فهناك أناس على الرغم من قابليتهم للخدمة في كل الخصوص، إلا أنهم لا يحظون بنصيبهم لعدم مساعدة الزمان والمكان. فعلى القائمين بالخدمة أن يروها نعمة باحثين عن التواضع وأن يقدموا الشكر والعرفان للذين كانوا وسيلة لهذه الخدمة»
ففي العهود التي كان فيها الإداريون بمثل هذه الحساسية المعنوية، كانت المجتمعات في رفاه وإحياء مادي ومعنوي. لكن أحد فضائل إداريي تلك الأزمنة هي الرضوخ وبكل أدب لإرشادات العلماء والعارفين من الشعب. فقد كانوا يؤلفون حولهم هيئة استشارية جديرة.
من هذا المنظور، يجب على الإداريين أن يستشيروا بمن هم أهلٌ للشورى من أصحاب العلم والمعرفة الذين ينقلون لهم مشاكل الشعب بصورة حقيقية ويبحثون عن حلول لها، وأن لا يسمحوا للانتهازيين بالتحلق حولهم. لذلك فالأخذ بالشورى سنة من السنن الهامة.
فرسول الله -صلي الله عليه وسلم- كان يستشير في كل أموره، ليكون مثالاً لنا على الرغم من نيله التأييد الإلهي.
ومن جانب آخر فعلى المجتمع أن يتصرف بالاحترام والطاعة أمام الإدارة العادلة، لضمان السلم والسلامة. ومع ذلك عليهم مراقبة الإداريين دائماً، وتنبيههم بكل لباقة وأدب للمحافظة على استقامتهم.
عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى جِذْعٍ فِي دَارِهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: مَا الَّذِي أَهَمَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: هَكَذَا بِيَدِهِ وَأَشَارَ بِهَا قَالَ: قُلْتُ: الَّذِي يُهِمُّكَ وَاللَّهِ لَوْ رَأَيْنَا مِنْكَ أَمْرًا نُنْكِرُهُ لَقَوَّمْنَاكَ قَالَ: «اللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَوْ رَأَيْتُمْ مِنِّي أَمْرًا تُنْكِرُونَهُ لَقَوَّمْتُمُوهُ»فَقُلْتُ: اللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَوْ رَأَيْنَا مِنْكَ أَمْرًا نُنْكِرُهُ لَقَوَّمْنَاكَ قَالَ: فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِيكُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ مَنِ الَّذِي إِذَا رَأَى مِنِّي أَمْرًا يُنْكِرُهُ قَوَّمَنِي» (ابن أبي شيبة، المصنف، جـ. 7، ص. 99، رقم: 34488)
وقال سيدنا عمر -رضي الله عنه- أيضاً:
«أحبُ الناس إلىّ من رفع إلىّ عيوبي» (السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 130)
من هذا المنظور، يتوجب على الإداريين أن يصلحوا أنفسهم ويكونوا منفتحين لنقد الناس لهم وتنبيههم لأخطائهم وتقصيرهم وأن يفرحوا لذلك.
وعلى المجتمع من أجل إرضاء الله -عز وجل- أن يقوم بإيقاظهم بأمانة وفي هذا الخصوص عليه تقديم التضحيات وترك المنافع الشخصية جانباً. ففي خصوص المسؤولية فهي لا تقع على عاتق الإداريين فقط، وإنما على عاتق الشعب فرداً فرداً من أجل سعادة وسلامة المجتمع. إن مساندة الإداريين في جورهم وحتى في ظلمهم وعدم تنبيههم من أجل المنافع الدنيوية وإدارة المصالح الشخصية، لضَياع كبير للآخرة. فمن يمشي خلف القيادة السيئة في الدنيا يمشي خلفها في الآخرة إلى النار.
ونظراً لذلك فواجب الحذر مطلوب من الجميع لمعرفة خلف من يسيرون. قال الله تعالى في الآية الكريمة:
﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ (الإسراء، 71)
﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ (هود، 98)
ومن هذا المنطلق فتوجيه إدارييّ المجتمع إلى الحق والخير، واحدة من أهم وظائف المؤمنين. في كتاب أرسله الإمام أبو يوسف للخليفة هارون الرشيد بعنوان كتاب الخراج يورد فيه الوصايا التالية:
«فَأَقِمِ الْحَقَّ فِيمَا وَلاكَ اللَّهُ وَقَلَّدَكَ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ؛ فَإِنَّ أَسْعَدَ الرُّعَاةِ عِنْدَ الله يَوْم الْقِيَامَةِ رَاعٍ سَعِدَتْ بِهِ رَعِيَّتُهُ، وَلا تَزِغْ فَتَزِيغَ رَعِيَّتُكَ، وَإِيَّاكَ الْأَمر بِالْهَوَى وَالأَخْذَ بِالْغَضَبِ.
وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا لِلآخِرَةِ وَالآخَرُ لِلدُّنْيَا، فَاخْتَرْ أَمْرَ الآخِرَةِ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الآخِرَةَ تَبْقَى وَالدُّنْيَا تَفْنَى.»[2]
الخلاصة أن تصرفات الناس وتدابيرهم، مرتبطة بتصرفات القادة وتدابيرهم. وعلى العكس طبعاً فإن تصرفات وتدبير القادة مرتبط عن قرب بسلوك وأحوال الناس. وبالنتيجة كل هذا الكلام يؤدي إلى الباب نفسه، بالتنبيه في تنظيم الأحوال والسلوك.
ففي الأولى الإداريون وفي الثانية المدَارون، وبناء عليه يتوجب على الإداريين والمدارين أن يصلحوا أنفسهم أولاً، عند رغبتهم في تغيير مكتسباتهم المادية والمعنوية نحو الأفضل.
تظهر مهارة من يقوم بمهنة الإصلاح في الأشياء التي يقوم بتصليحها، وتظهر عدم مهارته في الأشياء التي لا يصلحها. ومثل ذلك فعلى الرؤساء أن يروا أنفسهم مَسْؤلين عن الأخطاء التي تحدث حولهم، وأن يركزوا على الأخطاء والعيوب التي تهمهم.
في أيامنا وكأنه لا يوجد أحد لا يشكو من أمره، والكل تقريباً يبحث عن النقائص والعيوب في الآخرين، ولكن على الإداريين والـُمدارين أن يشكوا من عيوبهم أولاً، وبهذا التفكير هناك حقيقة لا شك فيها، فلكي نحصل على إداريين ممتازين ونسيـّر المكتسبات المادية والمعنوية لشعبنا نحو الخير وننال اللطف الإلهي، علينا أن نقوم بإصلاح أنفسنا وإصلاح أكبر عدد ممكن من الناس في المجتمع، وكذلك عندما يشكو الإداريون من المجتمع، فعليهم محاولة إصلاح الذات ومحاسبة النفس.
إن حديث السلطان العثماني مراد الأول شهيد كوسوفو(دولة مسلمة في البلقان) صاحب الهداية لمثالٌ جميل في عرض أخلاق محاسبة النفس والبحث عن العيوب في الذات:
عندما دخل الخان مراد الأول سهول كوسوفو، هبت رياح عاتية مخلفة غباراً ملأت المكان لدرجة انعدام الرؤية، فصلى الخان مراد ركعتين وهو الذي مزج سلطان الدنيا بسلطان الآخرة، فالتجأ إلى ربه وعيونه تدمع قائلاً:
«يا ربّ! إذا كانت العاصفة بسبب خطايا عبدك العاجز مراد، فلا تعاقب الجنود الأبرياء بسببها! يا إلهي! لا تجعلني سبباً لهلاك كل هؤلاء الجنود المسلمين!..»
بعد دعاء الخان مراد هدأت العاصفة، وتكبد العدو خسارة فادحة في الحرب، وشرب الخان مراد شراب الشهادة حين كان يتجول بعد الحرب في ساحة المعركة، بخنجر جندي صربي متظاهر بالجروح.
هنا نأمل أن تتغير مكتسباتكم المعنوية إذا قمتم بالمثابرة على إصلاح الحال ومحاسبة الذات، ويتحقق النيل الموازي في حياة المجتمع.
ولكن هناك أحداث تنافي هذا التفكير العمومي عبر التاريخ البشري. مثلاً لقد أرسل الله جلّ جلاله رُسلاً مبعوثين لتغيير الحال وإصلاح المجتمع،عند تفسخ القيم بصورة عظمية.
لذلك فرسول الله -صلي الله عليه وسلم- مثال واضح على رفع المجتمع الجاهلي إلى ذروة سماء الفضيلة بعد أن أخرجها من مستنقع الجهل والظلم، هذا المجتمع نصف البدائي حيث كانت البنت تدفن حية بلا رحمة، وخلص الناس من عبادة الأوثان.
فإذا كان من غير الممكن تفسير هذا اللطف الإلهي كمكسب أو ربطه بالمستوى المعنوي للمجتمع، ولكن يوجد قانون إلهي آخر يستند عليه ويتجلى من موجبات صفات الله وهو أن الله «لطيف».
ومع هذا فمن غير الممكن أن ننتظر تجليات كهذه، لأن هذه الأبواب أغلقت إلى الأبد ببعث الرسول إلى يوم القيامة، وبهذه الحالة فمهمتنا عبارة عن إصلاح الحال من أجل رفع مكتسباتنا المعنوية.
إن فرص وإمكانيات رفع المكتسبات المعنوية لا متناهية. ولكن علينا في أيامنا هذه إحياء مؤسسات تقوم بتربية الناس للقيام برئاسة الأعمال بكفاءة، حيث قال أحد المفكرين:
«أهم فرق بين الأمة الحاكمة والأمة المحكومة، حفنة من الناس المؤهلين جيداً»
هنا فتوزيع الحق والعدالة وإيقاف الإرهاب، وإرواء العطش المعنوي للمجتمع، يتوقف على هذه الحفنة من الناس.
كل مثاليٍّ يسمو ويتشكل مرتبطاً بشخصية وصفات ممثليه. فأصحاب الشخصية الرفيعة من الناس يجمعون الكتل من حولهم. فللشخصيات الرمزية دور مهم في رفاه المجتمعات. ولهذا فإن المثابرة والعمل الدؤب على تربية هذه الحفنة من الناس من أهم وظائفنا.
إن الشاعر المرحوم نجيب فاضل في تعبيره يحثنا جميعاً في هذه النقطة على المسئولية:
«إن الشجرة التي لا تهتم ببرعمها حطب»
وكذا قال أحد أولياء الحق -عز وجل- معبراً عن المثابرة في هذا الخصوص:
«عليك أن تنجب بنفسك الإنسان الذي تحتاجه»
هذا يعني أنه علينا أن نربي جيلاً محباً للوطن، يخدم الشعب بكل تضحية، صاحب شعور تاريخي وإيمان ديني سليم. وعكس ذلك فالقانون الإلهي وسنته يقضيان باسترداد النعم التي أنعمها الله -جل جلاله-. وصفحات التاريخ مملوءة بمظاهر القانون الإلهي.
وعلى هذا الإعتبار إذا أردنا أن نربي أناساً يحملون الكفاءة في قيادة المجتمع ويضحُّون بأنفسهم من أجل الأمة ويحبون الله ورسوله، علينا أولاً أن ننقش في أعماق أرواحنا محبة الله ورسوله، ونستعرض شخصية مملوءة بالفضائل مؤمنة بمحتويات القرآن والسنة. فعلى المجتمع أن يرى كيف تكون شخصية المسلم الحق.
ربنا أحسن وتفضَّلْ على كل المؤمنين الشعور بالمسئولية، القائمين على وظائف الإدارة من أدنى مستوياتها إلى أعلى مستوياتها! وأصلح حالنا بلطفك أفراداً وجماعات! وأن نحصل على المثابرات الجدية لنيل المكتسبات المادية والمعنوية،,وأن نقدم خدمات جليلة للأمة المحمدية وأمتنا ووطننا في قدرنا المستقبلي، واجعل من نصيبنا تربية جيل مؤمن! آمــين…
[1] انظر: أحمد جودت باشا، قصص الأنبياء وتواريخ الخلفاء، اسطنبول
1976، جـ1، ص 717؛ الطبري، تاريخ الأمم والملوك، القاهرة
1939، جـ5، ص 266-267.
[2] أبو يوسف، كتاب الخراج، مطبعة بولاق، القاهرة 1302، ص 3-4.