لقد أرسل الله تعالى الرسولَ – صلي الله عليه وسلم – رحمةً للعالمين.
هو رحمةٌ. كل كائن خُلقَ من أجل احترامه، واكتسب قيمةً عند الخالق بقدر محبته له.
هو رحمةٌ. أغدق رحمته وحنانه على البشر أجمعين بل على الكائنات جميعها.
هو رحمةٌ. وُهبَ من قبل رب العالمين، لجميع العقول والقلوب، ينبوعاً للعلم والعرفان والحكمة، كمثل ماء الحياة الأبدية، ومصدراً للخير والبركة بلا حدود.
هو رحمةٌ. جلب معه دليل الهداية الأبدية، القرآن الكريم.
هو رحمةٌ. هو حبيب الله الرحمن الرحيم الذي وهبه المعراج.
هو رحمةٌ. لولاه لتحولت الأرض صحارى موحشة.
هو رحمةٌ. بنوره كان بدء الخليقة. كل الأنبياء الذين ظهروا على وجه الأرض، حملوا فيض نوره وبركاته.
هو رحمةٌ. ليس كل جمال غير تجل من تجلياته وانعكاس من صورته. لا تتفتح زهرة في العالم إلا من نوره. لولاه لما وجد شيء.
هو زهرة إلهية من نور خالص، لا تذبل، بل تزداد نضارةً مع كل يوم.
هو رحمةٌ. يحكي الله – عز وجل – عن قدره وقيمته ويصلي عليه.
إعلان الله تعالى عن قدر رسوله وقيمته بالصلاة عليه، يفوق كل مدح وثناء. فَرَبُّ العالمين يضرب مثلاً بذاته في الصلاة والسلام على رسوله. ويأمر جميع ملائكته بالصلاة على أجمل النبيين وفخر الكائنات. ثم يأمر، بالصورة نفسها، جميع المؤمنين بالصلاة والسلام عليه. ذلك أن رب العالمين قد شرّفنا بلا مقابل بأن جعلنا أمّة هذا الرسول الذي اختاره من بين 124 ألفاً ونيف من الأنبياء والرسل.
بقدر ما يعبر هذا الكرم الإلهي عن امتياز خصَّنا به، فهو يحمّلنا أيضاً دين شكر ووفاء بحجم الشرف الذي أغدقه علينا. أي أن مرتبة أمة سيد الأنبياء والمرسلين هي أجلّ المراتب وأعظمها، كما هي أكثر المسؤوليات ثقلاً. إلى درجة أن الله تعالى عدَّ طاعته من طاعته وعصيان أوامره من عصيان أوامره.
من هنا فإن واجب الإمتنان والوفاء يقضي أن يبدأ عند كل مؤمن بحبه أكثر من أي شيء آخر، بل أكثر من نفسه وروحه. وفي هذا الإطار تشكل صلاتنا وسلامنا عليه من أعماق قلوبنا كلما ذُكر اسمه، ونهلنا من فيض شخصيته واقتدائنا بها، وحياتنا كعاشقين له، ملامح من شخصيتنا كمؤمنين، ودستوراً لحياتنا، وينبوعاً من ينابيع الفيض والروحانية. فنحن محتاجون في الحياة الدنيا لرحمته التي تغمر العالمين، وفي الحياة الآخرة لشفاعته العظيمة.
واجبنا إذن أن نحيا بمعيته في أفعالنا وأقوالنا وكل ما يصدر عنا. فالشخص يكون مع من يحب ويتخذ منه قدوة. إن واحداً من أسرار المحبة التي بسببها كانت العوالم، هو حلول المحب في حال المحبوب. بقدر ما يربطنا العشق والمحبة بالسنّة السَنِيَّة، بقدر ما يعني ذلك أننا نحبه ونحس به في أعماق روحنا بالقدر نفسه. بقدر ما نعرفه ونذكره، بقدر ما يكون وجهتنا ومقصدنا. من هنا يجب أن يكون هدفنا معرفة مزايا شخصيته وعظمتها وفضائلها، وأن نكون تابعين له ونتمثل أخلاقه ونعرفه بالقلب أكثر مما نعرفه بالكلمات.
إنه رسول الله، لم يعلِّمهُ أحد، أنشأه ربه وما أجمل ما أنشأ، فجعل أعظم الأخلاق تتجلى فيه، وأرسله للبشر أجمعين مترجماً لعالم الغيب ومعلِّماً في مدرسة الحق. آيات جماله من الكثرة ما تعجز عن ضمه المجلدات. لا يسعنا هنا أن نذكر من فضائل شخصيته الفريدة إلا بعض النماذج:
رسول الله – صلي الله عليه وسلم – في حرصه لأمته:
رحمته ورأفته بأمته فاقت حنان الأم نحو طفلها. حيث تقول الآية الكريمة:
[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] (التوبة، 128)
إليكم واحداً من أدعيته التي لا تعد ولا تحصى، المملوءة بالرحمة والشفقة، من أجل أمته: في يوم ظهرت رحمة سيدنا محمد – صلي الله عليه وسلم – على أمته في قوله باكياً متضرعاً: “ اللهم أمتي أمتي“.
أمر الله تعالى جبريل أن يذهب إلى محمد – صلي الله عليه وسلم – فيسأله عما يبكيه، «وربك أعلم».
جاء جبريل – عليه السلام -، فقال له رسول الله – صلي الله عليه وسلم – إنه يبكي لخوفه على أمته. (وبعدما عاد جبريل إلى رب العالمين ونقل إليه جواب رسوله الكريم) قال الله تعالى:
“يا جبريل! اذهب إلى محمد فَقُل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك” (مسلم، الإيمان، 346)
*
عَنْ عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ – صلي الله عليه وسلم -: “اقْرَأْ عَلَيَّ“
قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟
قَالَ: “إني أحب أن أسمعه من غيري“
فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى بَلَغْتُ:
[فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا] (النساء، 41)
قَالَ: “أَمْسِكْ” فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (البخاري، تفسير، 4583)
تؤكد لنا هذه الحادثة أيضاً مدى رحمة رسول الله وشفقته على أمته. ففي يوم القيامة سيأمر الله قائلاً:
[اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا] (الإسراء، 14)
وسوف تُعرَض ذنوب الأمة على الملأ. وقد ذكّره الحديث أعلاه بهذا المشهد الأخروي، فلم يحتمل قلبه الرقيق المملوء بالشفقة على أمته، فأدمعت عيناه، صلوات الله عليه وسلامه، دموعاً كحبات اللؤلؤ.
*
وقال الرسول الأكرم – صلي الله عليه وسلم – أيضاً:
“أنزل الله عليَّ أمانين لأمتي، قال تعالى:
[وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] (الأنفال، 33)
فإذا مضيت تركت فيهم الإستغفار” (الترمذي، تفسير 8\3082).
علينا ألا ننسى أنه إذا حمل مؤمن في قلبه محبة سيدنا محمد، – صلي الله عليه وسلم -، بصورة دائمة، فمن المأمول أن يعفيه الله تعالى من نار جهنم، فلا يرمي القلب المملوء بمحبة رسوله في النار.
الروايات التي قمنا بنقلها أعلاه، ليست غير بضعة من أمثلة لا تعد ولا تحصى مما يعبر عن رحمة وشفقة وحنان رسول الله – صلي الله عليه وسلم – نحو أمته. من هذا المنظور، مقابل الشفقة الواسعة لسيدنا الرسول على أمته، علينا أن نقايس في عالمنا الداخلي دائماً، مقدار محبتنا له وقدرتنا على السير على سنته المباركة.
رسول الله – صلي الله عليه وسلم – والتواضع
لم تكن نبوته أبداً من شهوة السلطة. لقد فضّل أن يكون «عبداً رسولاً» على أن يكون «ملكاً نبياً»[1].
كان يهتم شخصياً بضعفاء الأمة وعجزتها، ويسعى لتأمين احتياجاتهم بيديه المباركتين، ويخصص ركناً في مسجده لصحابته الفقراء ممن جاؤوا يلتمسون تعلم دين الله، فيسعى بنفسه لتأمين قوتهم.
كان في التواضع قدوةً ومثالاً. لم يكن همه شخصياً، بل كانت هواجسه منصبة على اهتداء الناس إلى سبيل السعادة في الدنيا والآخرة، إلى درجة كان هذا الهم ينهكه.
قالت عائشة:
بعث إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلاً فأمسك رسول الله – صلي الله عليه وسلم – وقطعت أو أمسكت وقطع
فقال:
“الذي تحدثه أعلى غير مصباح”
فقالت:
(لو كان عندنا مصباح لاتدمنا به إن كان ليأتي على آل محمد – صلي الله عليه وسلم – الشهر ما يختبزون خبزا ولا يطبخون قدرا) (أحمد، 6، 217/25867).
رسول الله – صلي الله عليه وسلم – والكرم
جاء أحدهم إلى سيدنا محمد – صلي الله عليه وسلم – ذات يوم وسأله حاجة، فقال له رسول الله – صلي الله عليه وسلم -:
“ما عندي شيء أعطيك ولكن استقرِضْ حتى يأتينا شيء فنعطيك“.
فقال عمر – رضي الله عنه – : ما كلفك الله هذا، أعطيت ما عندك، فإذا لم يكن عندك فلا تكلف، قال: فَكَرِهَ رسول الله – صلي الله عليه وسلم – قول عمر – رضي الله عنه – حتى عرف في وجهه، فقال الرجل: يا رسول الله بأبي وأمي أنت، فأعط ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، قال: فتبسم النبي – صلي الله عليه وسلم – وقال:
“بهذا أمرت” (الهيثمي، 10/242).
إذا جاء صاحب حاجة إلى رسول الله، – صلي الله عليه وسلم -، كان يطلب أن يُعطيَ شيئاً من بيته، فإذا أخبروه أن لا شيء في البيت غير الماء، طلب من صحابته إعطاء صاحب الحاجة حاجته، وما كان يرتاح قبل تلبية حاجة المحتاج.
يحكي أنس، – رضي الله عنه -، هذا المثال: «أتي النبي – صلي الله عليه وسلم – بمال من البحرين، فقال – عليه السلام -:
“انثروه في المسجد“.
وكان أكثر مال أتي به رسول الله – صلي الله عليه وسلم -، فخرج رسول الله – صلي الله عليه وسلم – إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحداً إلا أعطاه… فما قام رسول الله – صلي الله عليه وسلم – وثم منها درهم» (البخاري، الصلاة، 42)
فقد كان إبهاج المؤمنين باستجابة حاجاتهم، يمنحُ رسولَ الله – صلي الله عليه وسلم – راحةً عصية على الوصف.
قال سيدنا فخر الكائنات، في أحد أحاديثه الشريفة:
“أخبرني جبريل عن الله تعالى أنه أمر فقال:
«إن هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلح له إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه»” (الهيثمي، 8، 20؛ علي المتقي، الكنز 6، 392)
من هذا المنظور، يشكل تمثلنا لأخلاق النبي بهدف إجلال ديننا وحماية إيماننا، وفاءً بديننا وتعبيراً عن امتناننا نحوه. فالوفاء الأعظم والأوجب، من بعد الوفاء لله تعالى، هو الوفاء لفخر الكائنات الأبدي رسول الله – صلي الله عليه وسلم -. هذا الوفاء هو التعبير الأجمل لمشاعر الإمتنان الواجبة نحو نبينا الوفي لأمته الذي كان يطلب لأمته أولاً قائلاً:”أمتي أمتي“، وإضافة إلى ذبائحه، كان يذبح باسم غير القادرين من أمته[2].
هذا الوفاء الذي يبدأ بالتعمق في عشقنا لسيدنا الرسول ومحبتنا له، يبلغ قوامه الحق بنجاحنا في تحويل سنّته السَّنِيَّة إلى ينبوع الفيض والروحانيات في حياتنا.
عبّر سيدنا عليه الصلاة والسلام، عن محبته العميقة للصالحين من أمته الذين تمثلوا هذه المشاعر فباتوا من عشاق النبي، فقال:
“من أشد أمتي لي حباً، ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني، بأهله وماله” (مسلم، الجنة، 12)
*
إن سبب حرمان الإنسان من هذه الحقائق وخسرانه لحياته الفانية، يعود إلى التناقضات العويصة التي يعيشها في عالميه الظاهر والباطن. الواقع أن هذه التناقضات تنبع، عند الإنسان، من تجاور التقوى –أي أرفع الفضائل التي تقرّبه من الله – عز وجل – – والفجور الحيواني الذي يبتعد به عن الغاية من خلقه. تقول الآية الكريمة:
[فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا] (الشمس، 8-9)
لذلك فإن العوالم الداخلية للناس الذين لم ينشأوا في ضوء القرآن والسنة، ولم تبلغ قلوبهم الطمأنينة، تشبه غابةً تعيش فيها الحيوانات من أكثرها ألفة إلى أكثرها توحشاً. كأن في قلب كل واحد منهم شخصية حيوان تتغير وفقاً لكل شخص. منهم الخبيث المحتال كالثعلب، ومنهم الشرس كالضبع، ومنهم الحريص كالنمل، ومنهم السام كالثعبان.ومنهم من يعض وهو يتظاهر بالملاطفة، ومنهم من يمص الدم كالعلقة، ومنهم من يضحك في وجهك ويحفر لك من وراء ظهرك. كل صفة من هذه الصفات موجودةٌ في الحياة.
الإنسان الذي لم يتمكن من تحرير نفسه، بالتربية المعنوية، من أَسْرِ أهوائه، وبالتالي لم يتمكن من بناء شخصية سليمة، سوف يبقى حبيس تلك الطباع السفيهة.
تتحكم في بعضهم شخصية حيوان واحد، وفي بعض آخر شخصيات عدد من الحيوانات. أضف أن داخِلهم ومضمونَهُم تنعكس على وجوههم وتصرفاتهم، فلا تصعب على أهل النظر معرفتهم.
أليس النظام الشيوعي الذي تم بناؤه على دماء عشرين مليون شخص، انعكاساً لبنية قلبية متوحشة؟ أليست الأهرامات التي دفن فيها الكثير من الناس أحياءً لدفن جثة الفرعون، في حقيقتها صرحاً للظلم؟.
ما زال الكثير من المغفلين ينظرون إليها بوصفها أعمالاً فنية رائعة تبهرهم. أما حين نقيّمها بنظر الحق والحقيقة، فهي تظهر لوحةً للوحشية من شأنها أن تثير هلع ودهشة أكثر الطباع دموية.
كل هذا يشير إلى أنه إذا تحكم بمجتمع من المجتمعات أشخاص من طينة الضفادع، تحول المكان إلى مستنقع. وإذا حكم أناس لهم أرواح الثعابين والأفاعي، تسمم الشعب بأسره وبدأ الإرهاب والتخريب. أما إذا حكم أناس لهم طباع الورد وقلوب ملؤها الرحمة، تحولت البلاد إلى أرض للورد وبلغ المجتمع الطمأنينة والسعادة الحقيقيتين.
من الممكن الإشارة إلى أمثلة عديدة من التاريخ على كل من الحالات المذكورة. والمثال الأول على تحويل الزمان والمكان إلى أرض الورد هو سلطان الأنبياء محمد – صلي الله عليه وسلم -. ففي فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز 23 عاماً استغرقتها رسالته، استطاع، بطبعه وشخصيته الأجمل من الورد، أن يحوّل البشر والعصر الذي عاش فيه، إلى أرض ورد وسعادة لا يَذْبُلان ولا يذوبان.
لقد أضاءت شمس الهداية حتى أكثر الأماكن ظلمةً، فاتضح الحق والخير بكل جمالهما، والشر والباطل بكل قبحهما. وظهر المفهوم الأكثر جمالاً وصواباً عن الله والكائنات والنفس البشرية. أدرك الناس أن هذا العالم هو مدرسة للامتحان. مجتمع الجاهلية الأمي أصبح من «الذين يعلمون»[3]. الأفكار تغيّرت، وانفتحت القلوب على آفاق الحكمة التي لا يحدها حد، فشمل التفكير العميق كيف يخلق الإنسان من نقطة ماء، والطير من بيضة صغيرة، والأشجار والثمار من بذرة في منتهى الصغر، وصولاً إلى خلق السماوات والأرض.
ونتيجةً للتربية النبوية، بلغت الدقة والحساسية ذروتهما في الرحمة والشفقة وروح التضحية والعدل. واحتل بؤرة الصداقة الله ورسوله. ارتبطت الحياة برضى الله – عز وجل -. امتلأت جميع القلوب بالسؤال الحماسي: «ماذا يريد منا الله، وكيف يريد رسول الله – صلي الله عليه وسلم – أن يرانا؟». استحالت الليالي نهاراً، والشتاءات ربيعاً. بهذا المعنى أصبح ذلك العصر، في تاريخ البشر عصر السعادة. بالفعل كان رسول الله، – صلي الله عليه وسلم -، رحمةً، غرقت في نوره الكثير من الزوايا المعتمة.
ويقوم في أساس حملات التشويه الشنيعة التي تُنظّمُ من حين لآخر ضد سيدنا الرسول – صلي الله عليه وسلم -، النظرة الحولاء والحاقدة التي ينظر بها إليه من لا يعرفونه حق المعرفة.
يستطيع كل كائن أن يديم حياته في بيئة تلائم طباعه. وليس الإنسان بمنجى من هذه القاعدة. فبقدر ما لا يمكن لنحلة تتغذى وتتنفس على الأزهار وغبارها أن تواصل حياتها بعيداً عن هذه البيئة، كذلك لا يمكن للفأر الذي يتغذى على القاذورات أن يعيش في بستان الورد. وكما تتغذى الأرواح السامية على فيض الحقيقة المحمدية، تلقى الأرواح الفاسقة الخبيثة إشباعها في الخبث.
كان أبو بكر، – رضي الله عنه -، ينظر إلى وجه رسول الله، – صلي الله عليه وسلم -، فيقول منبهراً: «ما أجمله!». حقيقة الأمر أن أبا بكر كان يرى في المرآة عالمه الداخلي. وإذ قال له رسول الله، – صلي الله عليه وسلم -:
“ما نفعني مال قط، ما نفعني مال أبي بكر“
فانهمرت دموع أبي بكر وقال:
«يا رسول الله! هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟» (ابن ماجة، المقدمة 11)
بهذه الكلمات كان أبو بكر، – رضي الله عنه -، قد عبر عن تكريسه لنفسه وماله في سبيل رسول الله، – صلي الله عليه وسلم -، وعن فنائه فيه. فقد تحوّلت مشاعره وروحُه إلى مرآة لرسول الله – صلي الله عليه وسلم -.
في الطرف المقابل، كان أبو جهل – العدو الأول لله ورسوله – يحصل على انطباع نقيض من ذلك الوجه المبارك، فيبقى في منأى عن جماله وعظمته، ويصارع في دوامة شروره وشتائمه. يعود سبب هذا الفارق بين الإنطباعين إلى أن كلاً منهما يرى في مرآة وجه محمد، – صلي الله عليه وسلم -، صورة حقيقته الخاصة ونفسه الخاصة. ما من مرآة تراعي خاطراً فتعكس القبيح جميلاً أو الجميل قبيحاً!
أمام قدرة وعظمة الله – جل جلاله – الذي أخذ الدين تحت حمايته، لا بد أن يلقى أولئك الذين يحاولون الإساءة إلى المسلمين والقرآن الكريم ورسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، عقابهم الإلهي، إن عاجلاً أم آجلاً.
فمن المعروف كم تسيء تلك الأفواه المسمومة والأقلام فاقدة الإحساس، المنطوية على عوالمها الداخلية المظلمة كالأفاعي، وتطل برأسها من حين لآخر، إلى المؤمنين الطاهرين المملوءة قلوبهم بمحبة رسول الله – صلي الله عليه وسلم -.
ينبغي أن نعرف خير معرفة أن إعدام الإحساس بالحق والحقيقة، هبة الله للبشر، هو أمر محال. مهما جرت من مساع لنشر الكفر عن طريق الظلم، لن يحول هذا دون تبرعم الجذور السماوية للدين المزروعة عميقاً في روح الإنسان ووجدانه. لا يمكن الوقوف في وجه حاجة العبد للتقرب من ربه. لا يمكن حظر هذه الحماسة السامية في الخليقة. فالقدرة الإلهية عدّت الحاجة إلى الدين والتقرب من الخالق، سنّةَ الله، أي القانون الأبدي للحق تعالى.
نَوَّرَ الحقُّ عيوننا وقلوبنا بالنور المحمدي وجعل من نصيبنا أجمعين أن نكون قادرين على الوفاء بامتناننا بشرف كوننا أمة النبي الأكرم وأفاض على عصرنا وأمتنا من الندى المملوء بعطر وردة الأنبياء الفريد ووهب قلوبنا البهجة من بيئة عصر السعادة وجعل منا جميعاً عباداً صالحين لذاته الإلهية، وأمةً تليق بحبيبه الأكرم.
آمــــــــــــــين
[1] راجع: الهيثمي: مجمع الزوائد، 9، 192
[2] انظر: أبو داوود، الأضاحي، 3-4\2792؛ ابن سعد 1، 249.
[3] انظر: سورة الزمر، 9