مقالات من كتبه

الحق و العدل ـ2

لم يأتِ هذا الكم الهائل من الكائنات التي نعيش معها عن طريق الصدفة، فلم تخلق الرغبات النفسية كي تكون مسرحاً للمنافع، ففي هذا الإطار كان مكاناً لامتحان البشر الذي خلق من أجل غاية سامية. لذلك فخلق الكون والبشر ليس عبثاً، يعني ليس بلا سبب أو بلا غاية وبلا هدف أي عبثاً.

إن ربنا منزهٌ من كل أنواع اللا غائية واللا سببية واللا حكمية والعبثية، فكل شيء فيه حق لأن من أسماء الله الحسنى «الحق»

قال تعالى في الآية الكريمة:

﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ…﴾ (الأنعام، 73)

فكل الكائنات والبشر و الكون إبداع رائع وعظيم! خلقت في توازن وبمقاييس حساسة فوق العادة، وبـِعبَر وحكم لا تحصى. فكل إنسان يمتلك عقلاً سليماً ملزم بالتفكير عميقاً في عظمة التجليات والقدرات الإلهية. إن الله تعالى في الآية الكريمة حــّذر ونبّه إلى هذه الحقيقة قائلاً:

﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ (الرحمن، 7ـ8)

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الدخان،38-39)

﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ (القيامة، 36)

﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾ (المؤمنين، 15)

كما أفادت الآيات الكريمة بصراحة بأننا لم نأت إلى الكون مكان الإمتحان بــلا غاية، ولا أن نترك تائهين، فلقد أمرنا الله -عز وجل- برعاية الحدود الموضوعة على بعض الممنوعات، عند توجيه إرادتنا في اختيار الخير والشر. وبناء عليه من السهل أن يصبح ظالماً من أغواه فساد النفس، ولم يحرص في الحياة على الحدود الإلهية بالقدر المطلوب، وبذلك يخسر الحياة الأبدية.

فرعاية الحدود الإلهية تتناسب في الأصل مع نجاة الناس من العذاب الإلهي. وعلى العكس من يتسبب بعذاب لنفسه يكون قد ظلم نفسه بالذات. فعلينا أن لا ننسى أن:

الظلم نقيض العدالة…                                                        

إن الحق تعالى يلفت الانتباه إلى هذا الوصف للإنسان في الآية الكريمة:

﴿…وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب،72)

الجهل من الأسباب الواضحة في دفع الإنسان إلى الظلم.الجهل الوارد في الآية الكريمة عكس العلم.

العلم الحقيقي، هو الذي يدفع الناس إلى المعرفة القلبية للحق تعالى، يعني معرفة الله -عز وجل-. لذلك فكما أن الجهل يسوق الإنسان إلى الظلم، فالعلم يدفع الإنسان نحو الخير والحق والعدالة.إن الله تعالى هو مركز الحقيقة والحق ِومنبعُهما. كل ما يبلغنا خالق الكائنات من حق وحقيقة، هو الحق والحقيقة. قال تعالى في الآية الكريمة:

﴿ … قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام، 71)

ولذلك فالناس يظلمون أنفسهم بالجور على الحقائق الإلهية السامية بعدم الاكتراث لأوامر ونواهي السعادة الأبدية لله ورسوله. والعمى عن الحقائق الإلهية من أفجع أنواع الظلم. فلكل ظلم عقاب معين. إلا أن الجريمة المرتكبة ضد الحقائق الإلهية فعقابها «العذاب الأبدي». وهذا يظهر بأن كفر الناس وظلمهم وجورهم يؤدي إلى جهنم أبدي.

يُرى في الظاهر بأن الظلم يضر بالآخرين، ولكنه في النتيجة يقود مرتكب الجرم إلى عذاب أليم. يعني أكبر خسارة للظالم هي نفسه. لذلك تتكرر تعابير «ظلموا أنفسهم» في القرآن الكريم.

مولانا جلال الدين الرومي، تقدس سره، يوضح الظلم والحق بتشبيه لافت للنظر: «ما العدالة إلا إرواء أشجار الفاكهة. وما الظلم إلا إرواء الشوك؟»

«من لا يعرف العدالة يشبه معزة ترضّع جرو الذئب»

هذا يعني بأن الظلم الذي ترعرع في كنفه نذير هلاكه، فسيأتي يوم يقطـّعه ويرسله إلى حتفه.فالتاريخ شاهد على الذين أخلوا بالحق من أجل المنافع الفانية، بأنهم حفروا قبورهم فقط.

لذلك من الواجب الشعور بالحق والبقاء على العدالة، مهما كانت أعباؤها ثقيلة ً على النفس.

الخلاصة أن الظلم هو العذاب بغير وجه حق.

خُلق الإنسان غنياً في منزلة شريفة بين المخلوقات، فمن سيدفع فاتورة العذاب في انسياقه إلى مستنقع العصيان والخطيئة ضارباً عرض الحائط قيَمهِ السامية وكرامته الدفينة في جوهره من أجل الأهواء المتقلبة والرغبات النفسية والسعادة الفانية؟

لذلك فالمرء ملزم بأن يكون عادلاً ورحيماً مع نفسه أولاً، وعادلاً مع الآخرين. ورسول الله -صلي الله عليه وسلم- لـَمِثال سْام ٍ في خصوص تحقيق ذلك.

القدوة الحسنة في العدل

وهب ربنا رسولَ الله -صلي الله عليه وسلم- شخصية مثالية لكل البشرية، ووهب الأمة قسطاساً فعلياً متمثلاً بحياة رسول الله -صلي الله عليه وسلم-النزيهة، في كل أمر ونهي.

لذلك فالإسلام ديننا السامي، دين صيرورة الحياة في أفضل شكل، هذا يعني أن الإسلام مبادئ سامية، وليست أفكاراً بشرية دنيوية أوعبارة عن نظريات صرفة لا ترى النور للتطبيق. لأن الحق تعالى قدم للبشرية الأمثلة العملية لكل أحكام الإسلام.

كذلك فرسول الله -صلي الله عليه وسلم- عندما كان يأمر الأمة بشيء ما، كان يطبقها على نفسه ومقربيه أولاً، وعندما ينهاهم عن شيء ما، كان ينهى نفسه ومقربيه أولاً.فكما أنه لم يكن يقبل امتيازا لنفسه أمام العدالة، لم يسمح قط بالتفريق في المعاملة بين وجهاء وأغنياء المجتمع والناس الآخرين. كانت شخصية رسول الله -صلي الله عليه وسلم- المثالية مثالاً لقيم الفضائل العالية لدرجة الإعجاب في كل الخصوص كما هيَ في الحق والعدالة. وهذه بعضٌ منها:

حتى لو كانت فاطمة بنت محمد

في إحدى أيام عصر السعادة، قامت امرأة ذات نسب من بني مخزوم بالسرقة، فصار أهل المرأة يفكرون بالشخص الذي سيرسلونه إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- للتوسط من أجل العفو عنها، وأخيراً قرروا إرسال أسامة بن زيد حيث كان حـِبَّ رسول الله -صلي الله عليه وسلم-.

فتوجه أسامة إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- طالباً العفو، فتغيرت ملامح رسول الله -صلي الله عليه وسلم- المباركة على هذا الطلب، فسأل أسامة حيث كان يحبه كثيراً بنظرات كلها عتب: “أتشفع في حد من حدود الله؟”

فندم أسامة -رضي الله عنه- عندما رأى أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قد حزن كثيراً، واعتذر على الفور قائلاً: «يا رسول الله!ادعُ لي كي يعفى عني» (البخاري، المغازي، 53؛ النسائي، قطع السارق، 6، 8، 72-73) فقام رسول الله -صلي الله عليه وسلم- مخاطباً الناس:

أَيُّهَا النَّاسُ، إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها” (البخاري، الأنبياء، 54/ 3475؛ مسلم، الحدود، 8ــ9/ 1688)

قال الله -عز وجل- في الآية الكريمة:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى ….﴾ (النساء، 135)

وهكذا بيّن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بلسان قطعي وأسلوب واضح جداً معارضته لأي امتياز للأقوياء في المجتمع أمام العدالة ، حتى لو كان هذا الإمتياز لأي فرد من أفراد عائلته.

إعلاء الحق

كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يهدف إلى تحقيق العدالة في الحياة التجارية والإجتماعية باشتراكه في «حلف الفضول» قبل نزول الوحي، فهذه الجماعة كانت تسعى لإحقاق الحق والعدل في الحياة الاجتماعية والتجارية. كانت تساعد الضعفاء والغرباء ممن اغتصبت حقوقهم ولم يستطيعوا المطالبة بها، على استعادة حقوقهم من الأقوياء االقادرين.

تتجلى كل خصوصيات الحق والعدالة في حياة رسول الله -صلي الله عليه وسلم-. ففي أحاديثه الشريفة التالية تظهر هذه الحالة:

… إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ” (ابن ماجة، الصدقات،17)

كيف يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ(ابن ماجة، الفتن، 20)

إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ، وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ جَائِرٌ” (الترمذي، أحكام، 4/1329؛ النسائي، زكاة، 77)

كان آخر كلام رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:

الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ” (أبو داود، الأدب، 123ــ124/5156)

تضليل العدالة نصيب في جهنم

قال سيدنا فخر الكائنات -صلي الله عليه وسلم-:

إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا، بقوله: فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها ( مسلم، الأقضية، 4/2680)

في الحقيقة إن تستر بعض الناس على ظلمهم ومآربهم الدنيوية وإظهار أنفسهم محقين وهم ظالمون، بفضل حدة ذكائهم ولباقة كلامهم. ولكن عليهم أن لا يحسبوا أنهم سينجون.

ففي محكمة القيامة الإلهية سَيُؤْخَذُ حق المظلوم من الظالم ويبسط كل شيء على الأرض على الرغم من اعتقادهم بأنهم نجوا، لتضليلهم للعدالة البشرية الدنيوية. والرذيلة التي سيقع فيها في الآخرة أكبر من رذائل مآربه الدنيوية.

وعلى هذا الإعتبار، يتوجب على القاضي أن يحاسب وجدانه جيداً، قبل أن يصدر حكمه بتبرئة أو تجريم الشخص عند طلب الخصوم.

لا تنحصر أهمية مسائل العدالة في زاوية حياتية معينة، بل في كل جوانبها من التجارة إلى التعليم، ومن البيئة إلى العائلة… وداخل العائلة أيضاً:

العدل بين الأولاد

إن التمييز بين الأولاد بسبب الجنس، عجز للرضاء والقناعة وعدم احترام لتقدير الله تعالى.

وإنها لحقيقة معروفة تعرض البنت للظلم وحرمانها من حقوق كثيرة بسبب الجنس فقط. فاتخاذ مسألة الجنس سبباً للتمييز، ظلم وإجحاف للحقائق الإلهية، لأن الله تعالى بيـّن أن المقياس الأمثل للتفضيل هو «التقوى».

عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا كَانَ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ -صلي الله عليه وسلم-، فَجَاءَ بُنَيٌّ لَهُ، فَأَخَذَهُ فَقَبَّلَهُ وَأَجْلَسَهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ جَاءَتْ بُنَيَّةٌ لَهُ، فَأَخَذَهَا وَأَجْلَسَهَا إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلي الله عليه وسلم-َ: “فَمَا عَدَلْتَ بَيْنَهُمَا[1]

فعبّر بذلك عن وجوب عدم التفريق بين هذا وذاك والتمييز في المعاملةــ بسبب الجنس فقط ـــ بين البنات والبنيين.

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-َ فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمًا، فَقَالَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ» ، قَالَ: لاَ، قَالَ: «فَارْجِعْهُ» (البخاري، الهبة، 12،الشهادات، 9؛ مسلم، الهبات، 9ــ 18)

القدرة على توزيع الحقوق بدقة

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-َ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ يَهُودِ خَيْبَرَ، قَالَ: فَجَمَعُوا لَهُ حَلْيًا مِنْ حَلْيِ نِسَائِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: هَذَا لَكَ، وَخَفِّفْ عَنَّا، وَتَجَاوَزْ فِي الْقَسْمِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ -رضي الله عنه-: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا مَا عَرَضْتُمْ مِنَ الرَّشْوَةِ، فَإِنَّهَا سُحْتٌ، وَإِنَّا لَا نَأْكُلُهَا، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ” (الموطأ، المساقاة، 2)

قال الله -عز وجل- في الآية الكريمة:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى…﴾ (المائدة، 8)

كم هو سامٍ ديننا، حتى تجاه أعدائه يأمر بالعدل بحرص عظيم! يتصرف بالعدل ويرعى الحق دائماً وهو يفكر بأن الظالم سيطلب للحساب، حتى لو ظلم مسلم كافراً. لذلك قال الرسول الكريم:

اتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب” (البخاري، الزكاة، 41-63؛ المغازي 60، التوحيد، 1؛ مسلم، الإيمان، 29-31)

ومن الأمثلة النمطية في التاريخ الإسلامي على الحرص الكبير في تحقيق الحق والعدل مع غير المسلمين هي:

حَدَّثَنَا سَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيزِ، قَالَ: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا عَلَى أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم منَ الخراج وقالوا: قَدْ شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم عَلَى أمركم، فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه منَ الظلم والغشم ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عملكم ونهض اليهود فقالوا. والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها وكذلك فعل أهل المدن الَّتِي صولحت منَ النصارى واليهود، وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم عَلَى المسلمين صرنا إِلَى ما كنا عَلَيْهِ وإلا فإنا عَلَى أمرنا ما بقي للمسلمين عدد، فلما هزم اللَّه الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدوا الخراج، وسار أَبُو عُبَيْدة إِلَى جند قنسرين وأنطاكية ففتحها.[2]

أجبر معظم المفكرين غير المسلمين من أهل الإنصاف عبر التاريخ بسبب هذه المقاييس الحساسة وأمثالها في موضوع العدل والحق بالاعتراف بسمو العدالة الإسلامية.

عندما طُلب من الثوار الفرنسيين إعداد «بيان حقوق الإنسان» في عام 1789. فشُكلت لهذه الغاية هيئة تدرس كافة النظم القانونية في العالم، وعندما رأى عضو الهيئة الفرنسي لافاييت  تفوق الحقوق الإسلامية، لم يتمالك نفسه فقال قاصداً الرسول الكريم:

«أيها العربي الشريف! أنت من وجد العدالة ذاتها!»

العدل أساس قيام الدول، لذلك فهذا القول مشهورٌ:

«بالكفر تتجزأ، وبالظلم لا تقوم!»،وللتعبير عن أن الإدارة قائمة بالعدالة قالوا: «العدل أساس الملك»

حقيقة إن الأمم والدول، تظل قائمة بإدارتها القوية والحاكمة.ولكن هذا الحكم والقوة يقابله نسبة مراعاة مقاييس العدالة والحق.أما القوة المحرومة من العدالة والحق فتولد الظلم. لأجل ذلك قال أبو بكر -رضي الله عنه-: «عدالة لا تعتمد على القوة عاجزة، وقوة لا تعتمد على العدالة، ظالمة»

جميل ما قاله يوسف خاص حاجب في مؤلفه Kutadgu Bilig:

“الظلم نار مضرمة، تحرق من يقترب منها.والعدالة ماء بتدفقه تنبت النعم”

هذا يعني عدم مساندة ماء العدالة للنجدة واستمرار نار الظلم في المجتمع. إن هذا الماء فقدَ جوهر قيمته ونقائه وصفائه. ونظام العدل الذي لا يسمع نداءات المظلومين يشبه المياه الراكدة النتنة.

بعد أن بايع الناس الخليفة أبا بكرٍ -رضي الله عنه- فصعد على المنبر مخاطباً الناس بكل تواضع:

«أيها الناس! فإني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني» (ابن سعد، جـ3، 182ـ183؛ السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 69، 71-72)

ولذلك فأهم وظائف المؤمنين،الوقوف إلى جانب العادلين، وتنبيههم بلا تردد عند الخطأ.

الوقوف في وجه الظلم والتعسف

جاء في الحديث الشريف:

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ” (الترمذي، الفتن، 13/2174)

يقوى الباطل حين يسكت الحق. فالساكت عن الحق شيطان أخرس. والساكت عن الظلم يصبح صنماً. فأتباع فرعون أمثال هامان الذين جعلوه يقول:«أنا ربكم الأعلى» كانوا شياطين في صورة بشر. ولهم باع في ظلم فرعون، فسينالون العقاب نفسه في عاقبتهم يوم القيامة. لذلك التملق للظلم طلباً للمنافع الدنيوية سببُ ذلةٍ وحسرة أبدية. ينصر بقوة الحق من تعلق قلبه بالحق. فيقف في وجه الظالم،ويكون مع المحِق دائماً مستنداً بعزة على الحق.

لذلك قام سيدنا الحسن البصري بتوزيع العدالة وتبليغها بكل ما أوتيَ من قوة، ولم يسكت على ظلم الحجاج الذي كان معروفاً بظلمه. جلالة إمام الزمان رفض أن يكون وسيلة للإجراءات التعسفية للخليفة جعفر بن المنصور، رفض تولي قضاء بغداد على الرغم من ضربه بالسوط في الزنزانة…

فشعار المؤمن الكامل هو التواضع وقول الحق، بصوت الإيمان ولسان الحق. تُغلق الأبواب المؤدية إلى الظلم بوجود قائلي الحق وخادميه. وعلى هذا الاعتبار فليعلم جيداً كل من ساند الظالم وانحرف للظلم لانسياقه للنفس: بأن للظلم والباطل غلبة مؤقتة. ولا نصر أبدي و باقٍ. فالظلم زائل لا محالة. إن الإخلال بقواعد العدالة وتجاهل الحق يعني مخالفة الله -جل جلاله- والعصيان عليه: من المقدر والمحقق ينتظر الظالمون عذاب القدرة الإلية الأليم عاجلاً أم آجلاً. إنَّ تاريخ الظلم والتعسّف، مملوء بتجليات الانتقام الإلهي المرعبة، قال الله تعالى:

﴿… وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ (القصص، 59)

وأخيراً، مهما بدا سطوع بداية الظلم بنظر ممتهني استخدام العنف، نهايتهم ظلام حالك دائماً، وصفحات التاريخ تشهد على ذلك مراراً. ومن جانبٍ آخر العدالة مهما كانت صعبة فنهايتها نور واستقرار. وعلى هذا الاعتبار، المسلم الذي يكون عادلاً تجاه الآخرين في كل مكان وزمان يسعد ويُعزّ في العالمين ويحظى بمحبة الله -عز وجل- والعباد.

لا يمكن أن يحوز أيّ شيء من زاغ عن الحق واستسلم لنفسه، لو أنهم حظوا ببعض المنافع المؤقتة والمغرية، فلا يجلب لهم ذلك سوى الندم والحسرة في النهاية.

ربنا، حافظ على قلوبنا من الانسياق خلف المنافع الفانية! واجعلنا جميعاً من عبادك السعداء والمسرورين للوصول إلى العالم الإلهي بوجدانٍ مطمئن والعيش بموجب الحق والعدالة! آمين …


 

[1]      الطحاوي، شرح معاني الآثار، بيروت 1987، جـ4، ص 89؛

البيهقي، الشعب، جـ7، ص 468؛ الهيثمي، جـ8، ص 156.

[2]      البلاذري، فتوح البلدان، بيروت 1987، ص 187.