الأخلاق من أهم الظواهر البشرية وهي عبارة عن عادات جميلة صادرة منا نحن العباد، مما يرضي الله تعالى. لذلك فصفة جمال الله من التجليات القلبية للمؤمن، والأخلاق الحسنة بموجب الحديث الشريف ” تَخَلّقوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ” (المناوي، التعاريف، ص 564)
الأخلاق تشكل شرف وعزة الإنسان وتعرض هويته الأوضح أمام الأعين. ولهذا السبب فالأخلاق وصف متفوق عائد إلى الإنسان من بين المخلوقات.
الإنسان الناضج يعتبر رمزاً للخليقة، فهو يحمل رقة ولطف تجليات المعجزات الإلهية في عالم الامتحان. والنسل البشري الذي خلق كمثال استثنائي للأعماق التي لا ترى والدقة التي لا يمكن الوصول إليها، ولا يمكن المحافظة على هذه القيم العالية إلا بعيش حياة عبودية ومثمرة بالقيم الأخلاقية.
خلق القلب باستعداد لنيل الشرف السامي ليكون كأداة نظر إلهي، ووضعه كنوع من المحافظة على الأخلاق. والحال هذه إذا لم يستطع الإنسان تزيين مزايا أخلاق عالمه القلبي طوال حياته غارقاً في الرغبات النفسية والجسدية، يكون قد أضاع مرتبته السامية عند الحق تعالى، وخان شرف العبودية والإنسانية. وهذا يعني خسارة آخرته السامية بإسراف مرعب، بعدما نال شرفاً استثنائياً وتكريماً إلهياً، بخلقه على أجمل صورة بين الكائنات.
غاية الأخلاق هي إيصال الشخص إلى حالة «الإنسان الكامل» في طراز إسلامي مثالي بتطهيره من أوصافه الخام وإكسابه الشعور والإدراك تحت مراقبة إلهية دائمة. وقدرة نقش الطبيعة الأصلية في جوهر الإنسان، وثمارها العالية من الرحمة والشفقة والكرم والحياء والأدب واللطف والرقة. ومن وجهة النظر هذه فإن الأخلاق تحتل موقع الجوهر وحتى الروح جزء لا يتجزأ من الإيمان والدين. لذلك قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- الذي بعث رحمة للعالمين، ملخصاً رسالته السامية:
“بعثت لأتمم حُسن الأخلاق” (الموطأ، حسن الخلق، 8)
هذا يعني أنه لا يمكن التفكير بحياة دينية محرومة من جماليات الأخلاق. الإيمان الذي لا يزين بالقيم الأخلاقية يكون معرضاً للخطر دائماً أمام الأعاصير الشيطانية والنفسية مثل ضوء شمعة غير محمية.
وعلى هذا الأساس، واجب علينا المحافظة على ديننا وإيماننا وحمايتهما بالأخلاق الحسنة كدرع معنوي. لذلك قال فخر الكائنات ــ عليه الصلاة والسلام ـ في الحديث الشريف:
“عَنْ جبْريلَ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: “إنَّ هَذَا دينٌ ارْتَضَيْتُهُ لنَفْسي، وَلَنْ يَصْلُحَ لَهُ إِلَّا السَّخَاءُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ، فأكْرِمُوهُ بِهِمَا مَا صَحِبْتُمُوهُ” (الهيثمي، جـ 8، 20/ 12659؛ علي المتقي، الكنز، جـ 6، 392)
إذاً الأخلاق الحسنة تحوز على هكذا أهمية مصيرية في الحياة الدينية. إن القلوب التي نالت نصيبها من حس هذه القيم ستصل إلى نشوة اللذة الحقيقية للإيمان وحلاوتها، أما القلوب الغافلة عن القيم الأخلاقية، فهي ستكون في إسراف حياتي حزين. لذلك فهذا الحديث يعبر عن الأخلاق الحسنة بأسلوب جميل، واعتبارها جسراً معنوياً يوصل الإنسان إلى مناخ الهداية والإيمان:
كان الصحابي حكيم بن حزام من أصحاب الأخلاق الحسنة – وفي نفس الوقت كان من أقرباء أمنا خديجة -رضي الله عنها- – وكريماً جداً وحنوناً، وصاحب خير و حسنات. ففي عهد الجاهلية كان يشتري بنات الوأد من آبائهن، منقذاً حياتهن ويضعهن تحت حمايته.
سأل سيدنا حكيم رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يوماً:
«يا رسول الله، أرأيت أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة، وصلة رحم، فهل فيها من أجر»
فقال عليه الصلاة والسلام:
“أسلمت على ما سلف من خير” (البخاري، الزكاة، 24؛ مسلم، الإيمان، 194ــ 196)
وكما في هذا المثال، فهناك أمثلة كثيرة تبين ارتباط الأخلاق الحسنة بروابط عظيمة مع الإيمان. منها، ادعاء فرعون بالألوهية مغروراً بما ملكه من سلطة وقدرة، فجمع السحرة للمبارزة مع سيدنا موسى -عليه السلام-.
هؤلاء السحرة، كانوا سابقاً يعيشون في غفلة عن الإيمان ولكنهم كانوا أناساً سيبتهجون بحصتهم من الأخلاق الحسنة سر مفتاح الإيمان. تأدب السحرة مع موسى -عليه السلام-، ومنحوه خيار البدء بالغلبة (إمّا أن تلقي عصاك أو نلقي عصينا) فبعث الحق تعالى إلى قلوبهم بذور محبة الإيمان لتأدبهم مع موسى فكان ذلك سبب إيمانهم. ولما رأى السحرة ما جاء به موسى من معجزات من الله -عز وجل- فخروا سجداً، وآمنوا عند ذلك. وليس كأي إيمان، بل إيمان لا يقبل التنازلات قطعاً حتى لو كان مقابل الفداء بالروح.
هنا شاهد فرعون وأتباعه المعجزة التي كانت سبباً لإيمان السحرة. إلا أنهم وقعوا في بؤس متمسكين في عناد أكبر بكفرهم. ونتيجة لذلك قتل فرعون السحرة وقطعهم بسبب ثباتهم على إيمانهم، فكانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء، فنالوا الثناء الإلهي للمرة الثانية،على شكل ذكرى سامية لكل المؤمنين مستقبلاً وإلى يوم القيامة بذكر قصصهم في القرآن الكريم.
إذاً من الواجب التفكير بالأخلاق الحسنة ومكانتها العليا في مرتبة الحق، والثمار السامية للقيم الأخلاقية مثل الرحمة والكرم ورقة القلب واللطف واللباقة. وأن تكون وسيلة تشرف بالأيمان المحرومين من الإيمان، الذي يعتبر من النعم الحياتية الكبرى، ومن يدري مدى نيل أهل الإيمان لمراتب سامية.
ومن جانب آخر الانجراف في إسراف القيم الأخلاقية نتيجة تردي المجتمعات، يهيئ الأساس للوقوع في كوارث كبرى. وهذا خسران كبير للآخرة. إن سلامة وأمن الفرد والمجتمع ممكن بتربية جيل على روح رقيقة ولطيفة ومحب للوطن ومتدين أي صاحب أخلاق حسنة. لذلك قال محمد إقبال:
«المسلم مسؤول عن صيرورة الكون».
ولهذا نهانا الله عن مصاحبة الواقعين في جنون الإسراف إلى حد الشرك. فقال تعالى في الآية الكريمة:
﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ (الشعراء، 151ــ152)
وفي آية كريمة أخرى:
﴿إنَّ الَّذينَ يُحبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ…﴾ (النور ،19)
إن الحرمان من نعم الحياء والأدب التي تكون في مقدمة القيم الأخلاقية، ينبع من النقص والضعف في الإيمان والدين. إن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بقوله: “إن الحياء من الإيمان” (البخاري، الإيمان، 3)
بيّن العلاقة الهامة بين الإيمان والأخلاق الحسنة. ولهذا فإن الذين يريدون انتشار الأفعال اللاأخلاقية مثل الفاحشة في المجتمع، يكونون بذلك مرتكبين جريمة كبرى بحق هذا المجتمع. ولكن الهدف الأساسي لكل الأديان بعد نشر مبادئها التوحيدية على وجه الأرض، هو تأسيس بنية اجتماعية سليمة مجبولة بالأخلاق الحسنة.
إن التاريخ الإنساني شاهدٌ على تجليات عديدة للإنتقام الإلهي بسبب الشهوات والفحش، المليئة بمسارح العبر لأصحاب الإدراك، ويكفي التجول بنظر العبرة لرؤية ذلك على وجه الأرض.
قال الله -عز وجل- في الآية الكريمة:
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِِ﴾ (الحج، 46)
إن من علامات القيامة التي تعني هلاك الدنيا كلها، وقوع المجتمعات في جنون الإسراف متجاوزة حدودها في التفسخ الخُلقي. وهذا يستعرض صفة الإسراف المُهلك للقيم الأخلاقية. الأحاديث الشريفة تنبئ عن قرب القيامة عند تفسخ الأخلاق والتجاوزات، وهذه بعضها: قَالَ رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:
“يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الحَلاَلِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ” (البخاري، البيوع، 7، 2059)
“لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكْذِبُ فِيهِ الصَّادِقُ، وَيَصْدُقُ فِيهِ الْكَاذِبُ، وَيَخُونُ فِيهِ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ الْخَؤُونُ، وَيَشْهَدُ الْمَرْءُ وَلَمْ يُسْتَشْهَدْ، وَيَحْلِفُ وَإِنْ لَمْ يُسْتَحْلَفْ، وَيَكُونُ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ بْنُ لُكَعٍ، لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ” (الطبراني، جـ 23، 314)
“يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَأْمُرُونَ فِيهِ بِمَعْرُوفٍ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ” (الهيثمي، مجمع الزوائد، جـ 7، 280)
وقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يوماً:
“… يأتي على الناس زمان يذوب فيه قلب المؤمن كما يذوب الملح في الماء”
قيل: مم ذاك؟
فقال: “مما يرى من المنكر لا يستطيع يغيره” (علي المتقي، الكنز، جـ 3، 8463/686)
رواية عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- الآتية مثال بارز تبين بأن سبب الهلاك هو الضعف والإسراف الحاصل في القيم الأخلاقية:
أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم- فَقَالَ:
“يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ” (ابن ماجة، الفتن، 22؛ الحاكم، جـ4، 583/8623)
إن الله -عز وجل-، ذكر تنبيهات عديدة في القرآن الكريم لنا نحن العباد كي لا نقع في هذه الأحوال، وبأننا مراقبون دائماً، ولم نُترَك هائمين حيث قال:
﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق، 18).
وبذلك أمرنا بالإبتعاد عن إسراف العمر بالإنشغال في اللغو والإفراط والتفريط والشهوات والمبالغة ورعاية الحدود الإلهية في تصرفاتنا، واليقظة القلبية.
لذلك فهنالك آيات كريمة كثيرة تنصح بالأخلاق الحسنة وتأمر بالاتزان في التصرفات، وهذه اثنتان منها:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون، 3)
﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ (لقمان، 19)
في الحقيقة،إن «الفظاظة» أي الإبتعاد عن بعض جماليات الأخلاق مثل الرقة واللطف، تعتبر من أشكال التصرفات الرئيسة التي تؤدي إلى الإسراف في الأخلاق. وكأنه وداع للخصال الإنسانية وإنكار للفطرة البشرية مثل المركوب الذي ذكر في الآية الكريمة.
إن الأسلوب الذي يليق بالإنسان في الكلام كما بينه القرآن هو «القول اللين»[1]. أمر الله -عز وجل- عندما أرسل موسى -عليه السلام-، أن يكون حسن اللسان حتى مع فرعون. وكذلك أمرنا الله -عز وجل- برعاية مقاييس الرقة عند مخاطبة الناس، قائلاً:
﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾ (الإسراء، 53)
وفي آية كريمة أخرى بيّن الله مقاييس الرقة في شخص رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، حيث قال الله -عز وجل-:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ…﴾ (آل عمران، 159)
ومن جانب آخر، مراعاة الإعتدال شرط في التصرفات الأخلاقية كما هي في كل الأمور. وعلى عكس التقدير ينساق الشخص إلى الإفراط والتفريط، عند المبالغة في بعض التصرفات الأخلاقية المقبولة في قوام الاعتدال، أي الإسراف في الإيفاء.
مثلاً يعتبر إسرافاً للتواضع، المبالغة في «التواضع» الذي يعتبر من تصرفات الأخلاق الحسنة إلى حد التفاخر.
في الحقيقة بعض الناس يتظاهرون بالتواضع بقصد الطمأنينة النفسية كي يقال عنهم «متواضعون». وهذا الحال من الرياء والكذب عبارة عن تفاخر بزيّ التواضع الناجم عن التواضع المتباهى. مثلاً: أنا عاجز، ولكنني أستطيع أن أختم القرآن في ثلاثة أيام فقط. أو أنا فقير لكني بنيت مسجداً، وساعدت عدداً من الفقراء. وكلام كهذا،عبارة عن رياء وغرور يُستعرض تحت ستار التواضع. وخلاف ذلك، يشكل إسرافاً أخلاقياً آخر؛ الوقوع في الذل بإظهار تواضع مبالغ أمام شخص متكبر والانسياق إلى التفريط عند الإنشغال بإظهار التواضع.
ونلاحظ أيضاً خسارة تتولد من الإسراف بالمبالغة في التصرفات الأخلاقية، واللامبالاة وفقد المقاييس الصادقة في العلاقات البشرية والصداقات وخصوصاً في الحياة العائلية. والإنجرار للغرور تحت شعار المحافظة على الوقار. هذا يعني أن الإتزان في التصرفات الأخلاقية وحساب جهة الخير ومقداره شرط لعدم الوقوع في إسراف الأخلاق.
مثلاً، قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بخصوص مخاطبة الخدم والعبيد، مستعرضاً حساسية ورقة واسعة:
“لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي” (مسلم، الألفاظ، 13)
ومقابل ذلك أمر بمخاطبة الذين يجلبون غضب الله على أنفسهم ويهدمون عالمهم القلبي بالفسق والفجور بحسب درجاتهم:
“لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ، فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ” (أبو داود، الأدب، 83/4977؛ أحمد، جـ 5، 346)
هذا يعني، يعتبر وقوعاً في إسراف الأخلاق استعمال مقياس ونفس الأسلوب في كل مكان مثل عدسة غير طبية بمقاييسَ مثل التواضع والمجاملة في المناسبات البشرية. لذا ضرورةٌ أخلاقية التصرف بما يلزم، إظهار الخصومة لمن يستحق والمحبة للجدير بها. إذاً المهم هو القدرة على تقديم شخصية مؤمنة ناضجة بالمحافظة على توازن اعتداله برعاية المقاييس الإلهية في مسائل الأخلاق كما هي الحال في كل المسائل.
كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أسوة حسنة لأمته بشخصيته الرفيعة ذات الرقة وأسلوب معيشته اللطيف ولباقة كبيرة لأخلاق الإسلام في حياته بالذات. لذلك فرسول الله -صلي الله عليه وسلم- عندما يرى شخصاً مذنباً في جماعة لم يكن يعاتبه على عيوبه صراحة، بل كان يومئ له بأن التصرف لا يناسبه، قائلاً:
“مَا لِي أَرَاكُمْ” ناسباً خطأ الرؤية إلى نفسه.
وأيضاً من تجليات هذه النظرية التربوية المملوءة بالرقة: ذات يوم شمّ رسول الله -صلي الله عليه وسلم- رائحة كريهة في المسجد فقال:
“من أكل لحم ناقة فليتوضأ”
وبذلك حمّل هذا التقصير على الجماعة كلها كي لا يهين الشخص المذنب. يعني ذلك أنه أمر كل أصحابه بتجديد الوضوء من أجل ستر عيب لا إرادي صادر من شخص.[2]
لذا فالأخلاق النبوية كانت تلقننا دائماً درساً أن نكون من أصحاب القلب الرقيق والروح الناعمة واللطف والرحمة. ولهذا السبب كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يرد على الناس القادمين من الصحراء إلى الكعبة عندما ينادونه: « يا محمد! يا محمد!»
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم- رَحِيمًا رَقِيقًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ بأسلوب رقيق: “مَا شَأْنُكَ؟” (مسلم، النذر، 8، أبو داود، الإيمان، 3316/21)
ومن وجهة النظر هذه يتوجب مراعاة الأدب والرقة النبوية وبالأخص الأخذ بعين الاعتبار مستوى إدراك المُخاطـَب، حتى في الأعمال الفاضلة مثل تنبيه وإرشاد الناس المخطئين.
ومن جانب آخر، شرط مهم جداً رعاية آداب وأصول الفضائل مثل “الإنفاق” و“الكرم” التي تعتبر من التجليات المهمة للأخلاق الحسنة. وعلى العكس يسبب إسرافا للفضائل، وهدماً لأجر الحسنات، الوقوع في أخطاء قلبية مثل الغرور وجرح الشعور،والمِنَّة والتعالي عند القيام بالحسنات. ولهذا السبب قدم أجدادنا حساسية لا مثيل لها من أجل عدم الوقوع بضعف الأخلاق في الحسنات.
حضّر أجدادنا دوراً للإقامة تحت اسم “تكية المساكين” ومدوا يد الرحمة لمرضى الجذام المنبوذين من المجتمع، وخاطبوا حتى الناس المتخلفين عقلياً بالقول «العجزة المحترمون» لحماية المشاعر الإنسانية.
وأنشؤوا أوقافاً من أجل حماية شرف النساء الوحيدات والمسنات غير القادرات على عرض احتياجاتهن للغير بسبب الوقار والحياء.
فكانوا يقومون بتأمين الصوف الممشط والمغسول والنظيف للنسوة المسنات، فتقوم النسوة بحياكته، ويقومون بتشريف النسوة بمنحهن كسب قوتهن دون الحاجة إلى مد أيديهن إلى أحد. وبعدها يشترون الخيوط والبضائع المصنوعة بأيدي النسوة المسنات بأثمان عالية.
وأحدثوا في الجوامع والأسواق «أحجار الصدقة»[3] بقصد تأمين السرية بين مانح الصدقة والممنوح له وعدم تعرفهم على بعض.
وكانوا يوزعون الطعام للمحتاجين، في ظلام الليل، والأبواب مغلقة لعدم جرح مشاعرهم.
وأقامت السلطانة الأم “بزمي عالم” وقفاً تعوض من خلاله أضرار الخادمات كي لا تتأذى اعتباراتهن التي تتوبخ بسبب الأشياء التي كَسَرْنها أو سبّبن ضرراَ بها والعائدة لسادتهم الغليظين وغير المحترمين، الذين يعملون عندهم.
لذلك فإن الله تعالى، لا يرضى أن يُهان عباده وتتألم أفئدتهم التي تعتبر منظاراً إلهياً. وإنها أمثلة رائعة لنا، ما ظهر من أجدادنا المباركين الذين أدركوا هذا جيداً أثناء عيشهم الأخلاق الإسلامية، من حساسية ولطف ورقة وأدب.
الخلاصة: أمرنا ربنا -عز وجل- أن نعيش حياتنا كلها بشكل يليق بالإعتبارات الإنسانية وبقلب حساس، ضمن دائرة الأخلاق الحسنة. لذلك منح الحق تعالى ميزة الأخلاق للإنسان وحده من بين المخلوقات. وعلى هذه الحال إنه لجنون وإسرافٌ فظيعُ وخسارةٌ مؤلمة بحق الشرف الإنساني، الوقوعُ في حالة الحيرة مثل المخلوقات الأخرى عند تفريطه بمزاياه الإنسانية!
ربنا،حافظ علينا من الإسراف الذي يؤدي إلى العبث بآخرتنا ومن كل أنواع السوء! واجعل لقلوبنا نصيباً من بركات أدعية رسولنا الأكرم -صلي الله عليه وسلم- الصادرة من فمه المحسن:
“اللهم أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي”
“اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي
اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ”[4] آمــين...
[1] انظر: سورة طه، 44.
[2] إن المذهب الظاهري الذي لم يلحظ حكمة اللباقة في تصرف سيدنا الرسول
هذا، واكتفى بظواهر الأحداث فقط، حكم بأن أكل لحم الجمل ينقض الوضوء.
[3] هي عبارة عن صخور مجوفة وعليها غطاء فيضع الغني أو المتصدق ما
شاء في غاية من السرية ثمّ يأتي الفقير ويأخذ حاجته بسرية
[4] ابن حجر، فتح الباري، جـ10، ص 456.