إن للأوراد والأذكار التي يناجي بها المؤمنُ ربَّه في الأسحارِ أهميةً بالغةً، فهي تُحيي القلبَ حين تجعله في معية ربه وهو يذكره، فكما قال أولياء الله تعالى: (لا وارد لمن لا وِردَ له)، أي أن المرء الذي لا نصيب له من الذكر يداوم عليه كل حين لا ينال حظا من الفيوضات الإلهية.
وبدايةً نقول إن أهم وِرْدٍ ينبغي أن تنبثق عنه كلُّ أورادنا وأذكارنا الأخرى إنما هو استقامتنا على طاعةِ الله تعالى وطاعةِ رسوله الكريم -صلي الله عليه وسلم-، فهو الأسوة الحسنة لنا في اعتقاده وعبادته.
ولقد أفصح الحق سبحانه عن نفسه لكل مخلوقاته حيِّها وجمادها، وأمرهم جميعا بعبادته وذكره، فترى المخلوقاتِ جميعها تذكر الله تعالى، كلٌ بما يتوافق مع خِلقَته التي خلقه الله عليها، وفي هذا يقول محيي الدين بن عربي قدس سره:
(إن جميع المخلوقات تذكر الله تعالى بطريقتها الخاصة، ولكن تتفاوت مراتب المخلوقات في ذلك، فالجمادات هي أبعد المخلوقات عن الغفلة لأنها تستغني عن احتياجات البشر للمأكل والمشرب والملبس، ثم تأتي النباتات والتي تبدأ عندها الاحتياجات، فالنبات يصنع الغذاء الذي يحتاجه – حتى تنمو به الأزهار والأوراق والثمار – مما يستخرجه من الماء والتراب وفق نظام إلهي محدد، ثم تأتي بعد ذلك الحيوانات وهي أكثر تعقيدا في وظائفها الحياتية من النبات فلذلك تراها أكثر احتياجا من النبات، ومع كثرة الاحتياجات تكثر الأهواء، وأما الإنسان الذي يحتل قمة هذا السُّلم فلا نهاية لاحتياجاته ورغباته، مما يجعل أهواءه وأنانيته وحرصه على دنياه تسوقه إلى الغفلة عن الله تعالى)
إن القدرة على إدراك أسرار الكون الفسيح، واستشعار الحكمة الخفية التي تكمن وراءها ترتبط بحالة الإنسان الروحية ارتباطا وثيقا، فالمؤمن الذي ينظرُ إلى الكون من حوله بعيني قلبِه تفيض نفسُه بإحساسٍ آخرَ مختلفٍ.
وقد أعلن القرآنُ الكريم أنه ما من شيء صَغُرَ أو كَبُرَ في السموات والأرض إلا ويذكر الله تعالى ويسبح بحمده، وتخبرنا الآيات أنه ما من شيء في السموات والأرض إلا ويسجد لله تعالى، فالسماوات والأرضين، والجبال والشجر والدواب، والشمس والقمر والنجوم، حتى ظلالُنا عن اليمين والشمائل كل ذلك يسجد لله تعالى:
﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ (الرعد، 15)
﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ (النحل، 48).
فتشترك في هذا المنظر الجميل السجدات مع الظلال في حالة مزدوجة، فأحدهما سجدة المخلوق والأخرى سجدة ظله، فهما سجدتان في آن واحد، وكلُّ ذرة في الكون تسجد لله تعالى طوعا أو كرها، عبادةً لله تعالى وقياما بواجبها أمامه.
وهنا لا تملك إلا أن ترثي لأولئك الغافلين الذين اتخذوا لهم آلهة يعبدونهم من دون الله تعالى، فكيف يستقيم ذلك وكُلُّ ما في الوجود – حتى تلك الآلهة المزعومة – يتوجه إلى الله تعالى – الذي ينكره هؤلاء الغافلون – بالعبادة، ويسيرون في الكون وفق النظام الذي سنه الله تعالى لهم، ولكن هؤلاء الغافلين يخدعون أنفسهم ليبوءوا في الآخرة بالخسران المبين.
وهكذا تمضي الآيات وهي تعرِض لنا مسرحا من الظلال والأشياء والأحياء والملائكة، كلٌ منهم يؤدي ما كُلِّفَ به في خشوع ووَجْدٍ، أما التهربُ من العبادة، والغفلةُ عن الله تعالى فهي من شأن الإنسان فحسب، ولذلك ترى الآياتِ تهزأ بهؤلاء الغافلين حين تجبههم بصور المخلوقات الأخرى وهي تملأ الكون تسبيحا وعبادة.
وحين نتأمل الأشياء من حولنا نرى صورا متنوعة للسجود، فمن ميل السماء الممتدة في الأفق نحو الأرض، إلى الجبال الشاهقة واستطالتها، ومن الظلال المتناثرة يمنةً ويسرةً إلى الأشجار والنباتات والزهور وهي تنسج من هذه الظلال تحفة بديعة مؤثرة، إلى المطر الذي ينهمر كدموعِ باكيةٍ تنتحبُ، ثم يعقبُها الرعدُ كأنَّه صرخةُ عاشقٍ تنبعثُ من صدرِ السماء.
وهكذا تصير أحوالُ المخلوقاتِ التي تملأ السماء والأرض رسائلَ إرشاديةً مؤثرة توجهها العنايةُ الإلهية لكل عقلٍ واعٍ، فكلُّ مخلوقٍ منها مظهرٌ لقدرة الله تعالى، من أنينِ قلبٍ بحجم رأسِ المخيط في أصغر الحشرات حتى زمجرة أضخمِ الحيوانات وأعظمها رهبة.
ومن نغمةِ البلابل التي تنبعث بها أفئدةٌ بحجمِ قطرةِ ماءٍ إلى أصوات الحمائم واللقالق وغيرِها من الطيور التي تسبح اللهَ -عز وجل- تسابيحَ تؤثر في القلوب الواعية، يقول الله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ…﴾ (الحج، 18).
وهكذا نرى أنَّ المخلوقاتِ جميعَها حتى الجمادات لا تتوقف عن تسبيح الله تعالى، ولكنا في المقابل نرى بعض الناس قد غفل عن ذكر الله تعالى حتى استوجب بهذه الغفلة سخط الله وعذابه.
فالمخلوقات جميعُها صغيرُها وكبيرُها تعرف خالقَها، حتى الطيورُ تعبد الله تعالى وتتضرع إليه، وكذلك الجبالُ والوديانُ لا تنفكُّ تسبحِّ الله تعالى وتذكره، ولكن – للأسف – في الوقت الذي تتصرف فيه الكائناتُ على هذا النحو نجدُ الإنسانَ سادراً في غيِّه وخسرانه، غافلا عن طبيعة الكون كله من حوله، فيحرم نفسه – بعبثه وإعراضه – من ذكر الله تعالى، ولا يستخلص العبرة من كل هذه الصور المبثوثة حوله، فتراه يسير على نحوٍ لا يتوافق والمكانةَ التي شرفه اللهُ تعالى بها.
ومما لا شك فيه أن حضورَ العبد مع ربه وذكرَه له هو الطريق إلى الأنس الإلهي، فأنى قلَّب المؤمنون أبصارَهم في هذا الكون فسيبصرون نور الله تعالى، وحيثما أرهفوا أسماعهم فسيسمعون تسبيح الله يملأ أرجاء الكون.
وبقدر ما نذكر الله تعالى في هذه الحياة الدنيا ننعم بوصاله في الحياة الآخرة، لأن ذكرَ الله تعالى هو الطريقُ للحياةِ بطُهر ونقاء، والموتِ على أكمل درجات الإيمان، فكما يقول الله تعالى:
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد، 28)
أما الذي ينسى ربَّه ويضيعُ في متاهات الغَفلة فإنه يُفني عمره وهو ساهٍ لاهٍ لا يوقظه من غفلته هذه إلا الموت، ولكن بعد فوات الأوان حين يخسر كل شيء وينتهي وقت العمل، يقول الله تعالى:
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (الحشر، 19)
وذِكرُ الله لا يكون بتكرار الكلمات على اللسان فحسب، فلا بد للذكر – حتى يؤثِّرَ في باطن الإنسان وظاهره – من أن يكون شعورا وحضورا في القلب، إذ هو مركز التوجيه لكل جوارح الإنسان، والذكر حين يكون على هذه الهيئة من الحضور والوعي يكون وفاءً بما قطعه الإنسانُ على نفسه أمام ربِّه في “يوم ألست” حين قال الله لعباده: ألست بربكم ؟، فأجابوه: بلى.
وعن واقد مولى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عنه أنه قال:
(مَنْ أَطَاعَ اللهَ -عز وجل- فَقَدْ ذَكَرَهُ، وَإِنْ قَلَّتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ، وَمَنْ عَصَى اللهَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامَهُ وَتِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ)[1].
ولما كانت الغفلة عن ذكر الله تعالى من أعظم المُهلِكَات فقد حذَّر المولى -عز وجل- عبادَه منها مرارا، فلا يتخلص العبدُ من قسوة الغفلة ولا ينال ما يرجوه من رضا الله تعالى إلا بالمداومة على ذكره سبحانه، وهذه المداومة لا توّقت بمدة أو فصل، بل هي شعورٌ واعٍ يحمله العبدُ بين جوانحه حتى آخرِ نَفَس في حياته، فاليقظة الروحية لا تتحقق إلا بهذا الحضور الدائم مع الله تعالى.
ومن هنا كان يجب علينا أن نبذُل قصارى جهدنا حتى نرتقي بأرواحنا مرتقىً لا تطاله تلك الملذات الدنيوية والشهوات الفانية، لنَنعَم بأفياء المحبة الربانية الخالدة دون منغِّص أو مشوِّش، فالـمُحِبُّ يحمل ذِكرَ حبيبه معه في قلبه أنى كان وعلى أي حال كان لا يشغله عنه شاغل أبدا.
يقول النبي -صلي الله عليه وسلم- إخبارا لنا عن ربنا جل في علاه:
(يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ….)[2].
وتحدث النبيُّ -صلي الله عليه وسلم- إلى أصحابه ذات يوم، فقال:
(ألَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ)؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: (ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى)[3].
والجماعة حين تذكر الله تعالى تنال ما يناله الفرد وحده من فضل وأكثر، ففي الحديث أنَّ معاوية -رضي الله عنه- خرج على حلقة في المسجد، مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ، قَالَ آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلي الله عليه وسلم- أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلي الله عليه وسلم- خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «مَا أَجْلَسَكُمْ؟» قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا، قَالَ: «آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟» قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي، أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ»)[4].
فقد كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يحثُّ أصحابه على ذكر الله تعالى، ويدلهم على ما يوافق حالَ كلِّ واحدٍ منهم، وليس أدلَّ على ذلك من الحديث الذي دار بين النبي -صلي الله عليه وسلم- وأم هانئ -رضي الله عنها-: فعَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: أَتَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ فَإِنِّي قَدْ كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ وَبَدُنْتُ، فَقَالَ:
(كَبِّرِي اللَّهَ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَاحْمَدِي اللَّهَ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَسَبِّحِي اللَّهَ مِائَةَ مَرَّةٍ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ فَرَسٍ مُلْجَمٍ مُسْرَجٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَخَيْرٌ مِنْ مِائَةِ بَدَنَةٍ، وَخَيْرٌ مِنْ مِائَةِ رَقَبَةٍ)[5]
فكما تحتاج أجسامنا للغذاء المادي حتى تحيا، فكذلك أرواحنا تحتاج الغذاء المعنوي حتى ترقى، وحياتها تكون بمعرفة ربها وعبادته، وكما إنه من الضروري أن ينتشر الغذاء في كل ذرة من أجسامنا حتى تحتفظ بحيويتها فكذلك من الضروري أن ينتشر ذكرُ الله تعالى في كل جوانب حياتنا حتى تجعل المؤمن في حالٍ دائمة من التنبه واليقظة، فالمداومة على الذكر هي الطريق التي تحفظ الإيمان عند الموت، وتكرمنا باللطائف التي تبلغنا الصفاء وتعرفنا لذة المعرفة الإلهية.
إنَّ الذكرَ بوجدان طاهرٍ وصافٍ عن كل شائبة أمرٌ مهم غاية الأهمية، ولهذا السر كان يبدأ أهل الله أورادهم وأذكارهم بالتوبة والاستغفار.
أولا: التوبة والاستغفار:
التوبة هي الرجوع إلى الحق والإنابة إليه، فالعبد حين يغفل عن الحق يسلك الطريق الخطأ ويحوْل بوجهه وقلبه عن ربه، وحين يدرك ذلك ويؤوب إلى ربه يَفِيْضُ قلبُه بدموعٍ فاترة وأنَّةٍ متأوهة وندمٍ شديد، فهذا التحرق والندم هو التوبة، أما التضرع الذي يضج به القلب – بعد التوبة – رجاءَ العفو والصفح فهو ما نسميه الاستغفار.
وهذه الحال كانت حالَ الأولياء جميعاً وفي مقدمتهم الأنبياءُ عليهم السلام، وكذلك الصالحون والصديقون، فكلهم كان ديدنَهم الالتجاءُ إلى الله والتضرعُ إليه في السَّراء والضراء، وفي الرخاء والشدة، وفي الفرح والحزن، ولا يُتَصَوَّرُ بحالٍ أن يكون شخصٌ ما في هذا الكون الفسيح في غنىً عن الدعاء والاستغفار، لأنهما يحملان – إضافة إلى معانيهما الأصيلة – معانيَ الندم والتضرع، لذا فقد كانا الوسيلةَ الأهمَّ للتقرب إلى الله تعالى.
ولما كان شكرُنا لله -عز وجل- على نِعَمِه الجزيلةِ التي تفضَّل بها علينا وقيامنا بحقها أمراً يفوق طاقتنا – حتى لو لم تَشُلَّ الذنوب جوارحَنا –، فقد كان الاستغفار – بما يحمله من شعور بالعجز والتقصير – من ضروريات العبودية، وعندما ننظر إلى ما حولنا بعيونِ قلوبنا فإننا نرى جميع المخلوقات تعترف بعجزها أولا قبل أن تتوجه إلى الله تعالى بالشكر على نعمه، ومن هنا كان الاستغفار هو الخطوةَ الأولى التي يحتاج ابن آدام – الذي لا ينفك عن المعاصي – أن يخطوها في طريقه وهو يتقرب إلى الله تعالى، يقول ابن عمر -رضي الله عنهما-:
(كَانَ تُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم- فِي المَجْلِسِ الوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُورُ)[6].
فالاستغفار هو الوسيلة الأهم في السعيِ إلى الله تعالى، والتطهرِ من الشهوات والأدناس، والارتقاءِ بالقلب إلى مرتقى عليٍّ، والتوبةُ المقبولة كذلك ترفع الحجب وتزيل العوائق بين العبد وربه، وتُدني العبدَ من ربه ليَنْعَم بمحبته، يقول المولى سبحانه وتعالى:
﴿…إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة، 222)
فإذا كان الفجرُ يَعقُبُ الليلَ فيمحو ظلامَه، فإن الاستغفار هو تلك الرحمةُ التي تزيل من النفس ظلمات الذنوب حتى تصل بالعبد إلى فجر المغفرة.
وعند ارتكابنا الإثم – الذي هو من مقتضى بشريتنا – علينا أن نتوجه مسرعين إلى الله تعالى فنتوب إليه ونستغفره، فقد مدح سبحانه عباده المتقين فقال فيهم:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران، 135)
﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الذاريات، 17-18).
وفي ذلك يقول النبيُّ -صلي الله عليه وسلم-:
(إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ» ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾)[7].
ويبين النبيُّ -صلي الله عليه وسلم- في حديثٍ آخرَ طرفا من فضائل الاستغفار، فيقول:
(مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[8].
ومن ناحيةٍ أخرى فالتوبةُ والاستغفارُ هما وسيلةُ المؤمن للنَّجاة من عذابات الدنيا والآخرة، يقول النبيُّ -صلي الله عليه وسلم-:
(أنزلَ اللهُ عليَّ أمانينِ لأمَّتي ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الأنفال، 33) ، فإذا مضيتُ تركتُ فيهم الاستغفارَ إلى يومِ القيامة)[9].
وإن أوقات السَّحَر بما تحمله من روحانيات هي بمثابة النبع الذي تفيض منه فيوضات الكرم والإحسان من الحق سبحانه على عباده، وفي ذلك يقول النبيُّ -صلي الله عليه وسلم-: (يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)[10].
وحتى نصل بالتوبة إلى مرتبة التوبة النصوح، ويقبلها اللهُ تعالى منا فعلينا أن نراعي الأمور الآتية:
فلابد أن يكون الاعتراف بالعجز أوَّل ما يستقر في قلب التائب، فإن بقي في باطن أحدنا ذرةٌ من الأنانية فستحُوْلُ بيننا وبين الرحمة الإلهية التي نرجوها من التوبة، فالاستغفار ليس إحصاءَ كلماتٍ نرددها باللسان، بل هو تضرعٌ يصاحبه شعور عميق بالعجز، راجين نحن العبادَ الضعفاءَ من الله العظيم القادر أن يـُمطر علينا من فضله ويجود من كرمه ويقبلنا ويتوب علينا.
ثم إن التوبة تقتضي الصدق والإخلاص شأنها في هذا شأن سائر الأعمال الصالحة الأخرى، ولذلك كان بعض الصالحين مرهفي الإحساس يتوب من التوبة، فيلتجئ إلى الله تائبا من التوبة التي خالطها غَرَضٌ لغير الله -عز وجل-، راجيا أن يمن عليه بالتوبة النصوح التي ذكرها القرآن الكريم، مستعصما به من النفس والشيطان الَّذَينِ إن عجزا عن فتنة القلب تظاهرا بأنهما في جانب الحق، وطفقا يوحيان بالأمور الحسنة والطيبة كأنهما المرشد المخلص، فيوقعا العبد في ورطة ويذهبا بتوبته.
وتقتضي التوبة كذلك الندمَ الصادق والعزمَ الأكيد على ألا يعود المرءُ مرةً أخرى إلى الإثم الذي ارتكبه، ويرجو الله أن يتجاوز عنه، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿…فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم باللهِ الْغَرُورُ﴾ (لقمان، 33)
ولأهمية التوبة والاستغفار على النَّحوِ الذي بينَّاه آنفاً كانت كل الطرق الصوفية تستهلُّ تضرعها وقت السحر بالاستغفار للارتقاء بالروح إلى أسمى مرتبة.
و من أبلغ أوراد الاستغفار (أستغفر الله العظيم).
– التوبة العظيمة.
أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظيمَ الكَرِيمَ الذي لا إلهَ إلا هوَ، الحَيَّ القَيُّومَ وأتوبُ إليه، ونسألُه التَّوبَةَ والمَغْفِرَةَ والهِدَايةَ لنا، إنِّهُ هوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، توبةَ عبدٍ ظَالِمٍ لنَفْسِهِ، لا يَمْلِكُ لنفْسِه موتاً ولا حياةً ولا نُشُورَا.
– سيد الاستغفار
و العبد من جانبٍ يستشعر ذنوبه وهو يستغفر اللهَ العظيم ويرجو عفوه، و هو ينكر ذاته، ومن جانب آخر يوثق عبوديته لله تعالى ويجدد عهده له بكلماتِ سيدِ الاستغفار التي علمنا إياها الرسول الأكرم -صلي الله عليه وسلم- في الحديث الشريف:
(سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ)[11].
فالعبد حين يطلب العفو بـــ (التوبة العظيمة) أو بـــ (سيد الاستغفار) – مدركا ما ارتكبه من جُرمٍ – يكون مقرا بعبوديته لربه، أو بتعبير آخر يكون قد جدد العهد الذي أخذه على نفسه في “يوم ألست بربكم”.
ثانيا: كلمة التوحيد.
لا إلهَ إلا اللهُ المَلِكُ الحَقُّ المُبِينُ، محمدٌ رسولُ اللهِ الصَّادِقُ الوَعدِ الأمِينُ.
كلمةُ التوحيد إعلانٌ بأنه لا يستحق العبادةَ في هذا الكون شيء سوى الله أبدا، وهي أيضا شعورٌ بالفناء في الله تعالى وأنه هو وحده الباقي بينما سيفنى كل ما عداه.
روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال مخاطبا أصحابه: (جددوا إيمانكم)، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: (أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)[12].
و كلمة التوحيد لا تقتصر على اللفظِ وحده مجرداً عن الوجدان، فهي لابد أن تستقرَّ في أعماق القلب شعوراً، وفي فضاءات العقل يقيناً، بعيدا عن كل انحراف أو هوى، ومن هنا كان علينا أن نحفظَ قلوبنا وعقائدنا من أهواءِ النَّفسِ وتقلُّباتها.
وكلمة التوحيد كذلك لا يقتصر العبدُ على تردادها في الأسحارِ، بل عليه أن يعيشها واقعا في النهارِ، فكلما استقرت كلمة التوحيد في أعماقنا كنا أبعدَ عن المعاصي وأقربَ للهِ تعالى.
وكلمة التوحيد كذلك تزيدنا قرباً من رسولِ الله -صلي الله عليه وسلم- حتى نوفيَه حقَّه بالاقتداءِ به والتأسي بحاله، فلابد للمريدِ حين يرددُ كلمةَ التَّوحيدِ أن يتمثلَ هذه المعانيَ الساميةَ كلَّها.
فالحقُّ سبحانه وتعالى يريدنا أن نحيا بكلمة التوحيد حتى نزداد له حبا وتعظيما، فلا نعظم غيرَه ولا نعبدَ سواه، ولا نسمح لأيِّ شيءٍ أن يتحول إلى وثن في قلوبنا، فالله تعالى يريد لقلوبنا أن تتطهَّر عن كل وثنٍ حتى تكون له وحده، لا ترجو ولا ترهب ولا تتعلق إلا به سبحانه.
وإذا ما عشنا كلمةَ التوحيدِ على النَّحوِ الذي ذكرناه فإن صفاتِ اللهِ تعالى تتجلى علينا، فيصيرِ لنا من أسماءِ الله تعالى وصفاتِه نصيباً، فحين يتجلى اللهُ علينا مثلاً باسمه “الرحمن” ترى قلوبنا تفيض بالرحمة لكلِّ خَلْقِ الله تعالى بلا استثناء، وحين يتجلى الله علينا بصفة “العفو” فإنك ترى النفس تعفو وتصفح عن كل أذى أو تقصير في حقها، ولا يبقى فيها مكان لحقدٍ أو انتقامٍ من المؤمنين، وإذا تجلى اللهُ علينا باسمه “الودود” فستنبعثُ أعماقُنا بمحبة صادقة لكل شخص أو شيء ما خلا أعداء الله تعالى، فلا يخالفُ أحدٌ في أنَّ عداوةَ هؤلاءِ قربةٌ للهِ تعالى.
وخلاصةُ القولِ أنَّه لو أظلَّتنا روحانياتُ التوحيدِ التي تبدأ معنا في الأسحار لتَصْحَبَنَا في نهارنا وليلنا، فستتحول أنفاسنُا الأخيرةُ حين نفارق هذه الدنيا – بفضل الله تعالى – إلى سعادةٍ لا يعدلها سعادة.
ثالثا: الصلوات الشريفة:
اللهمَّ صَلِّ على سيدِنا محمَّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه وبارِك وسَلِّم.
يشيرُ المولى سبحانَه وتعالى في قوله:
﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ (النساء، 80) ، إلى مكانةِ حبيبه المصطفى -صلي الله عليه وسلم- لديه، فاللهُ -عز وجل- يأمرُ المؤمنين بطاعةِ النبي طاعةً كاملة ًكما يأمرُهم بطاعتِه هو سبحانه.
فإدراكاتنا البشريةُ الكليلةُ لا تَقوَى على معرفةِ قَدْرِ النبي -صلي الله عليه وسلم- وشرفِه حقَّ المعرفة، فكما أننا نعجز عن أن نجمع البحرَ في كأس، فكذلك نعجز عن أن ندركَ ونوضِّحَ قدرَ النبي المصطفى -صلي الله عليه وسلم- مهما جمعنا في وصفِه من صفاتِ التعظيم والإجلال.
وتعرِض الآيةُ الكريمةُ الآتيةُ لهذه الحقيقةِ على النَّحوِ الآتي:
﴿إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ (الأحزاب، 56).
فالآية الكريمة تُوجِبُ – بأمرٍ حثيثٍ من الله تعالى – على المؤمنين جميعاً أن يصلوا ويسلموا على النبي -صلي الله عليه وسلم-، وأن يشرفوا بالانضمام لله تعالى وملائكته وهم يصلون على النبي، وذلك تعليما لهم أدبَ التعامل مع النبي -صلي الله عليه وسلم- وطريقةِ تعظيمِه وتوقيره.
ومن مقتضيات الإيمان كذلك أن يحاول المؤمن جاهدا تمثُّلَ حالِ النبي المصطفى ومتابعته
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (آل عمران، 31).
فمما لا شك فيه أنَّ المؤمنَ لا ينالُ حَظَّاً من شرف اتِّباعِ النبي المصطفى -صلي الله عليه وسلم- مالم ينزعِ من نفسه كلَّ تعلقاتِها بصورٍ نفسيةٍ أخرى، فالنَّبيُّ -صلي الله عليه وسلم- هو الأسوةُ الحسنةُ للبشريةِ جمعاء من أدناها لأعلاها، والمؤمن واجدٌ في شخصية النبي -صلي الله عليه وسلم- جواباً على كل سؤال وقدوة في كل حال، وما عليه إلا أن يُقبِل على شخصية النبي بتأدبٍ ليغرِفَ من معينها ويتعرف على عظمتها.
وكذلك تأتي (محمد رسول الله) بعد (لا إله إلا الله) لتشكل كلمةُ التوحيد مع الصلوات الشريفة أساسَ المحبة وذروةَ القُرْبِ من اللهِ تعالى، فالمؤمنُ لا ينال سعادةَ الدارينِ ولا يظفَرُ بخيرهما إلا بهذه المحبة القدسيةِ.
وتكتسبُ الصلواتُ الشريفةُ أهميةً عظيمةً، فبها تَنْقِشُ يدُ القدرةِ الإلهيةِ على القلبِ فيوضاتِها وتجلياتِها، وبها تقوى رابطةُ المؤمنِ مع النبي -صلي الله عليه وسلم- فيصحبُه في كلِّ زمانٍ ومكانٍ حلَّ فيه – وخاصةً أوقاتُ السَّحَرِ المباركِ – حتى ينالَ من بركاتِه وروحانياتِه.
و ليس أدلَّ على أهمية الصلاةِ على النبي -صلي الله عليه وسلم- من أنَّ اللهَّ -عز وجل- أمرنَا بالصلاةِ على نبيه حتى في صلواتنا المفروضة مع أنها ينبغي أن تكون خالصةً لله وحدَه، لذلك نقرأُ في التحياتِ في قعود الصلاة (السلامُ عليكَ أيها النبي ورحمةُ الله تعالى وبركاتُه)، فسلامُنا على رسولِ الله -صلي الله عليه وسلم- أثناءَ الصلاةِ لا يُبطِلُ الصلاةَ، أما إذا سلمنا على أيِّ شخصٍ آخرَ أثناءَ الصلاةِ فتَبْطُلُ صلاتنا وتجبُ إعادتُها.
وقد جمع أولياءُ الله تعالى الذين عاشوا حياتهم متمثلين حقيقةَ النبي -صلي الله عليه وسلم-، وحصروا فضائلَ التقربِ إلى رسولِ الله -صلي الله عليه وسلم- ورتبوها وَفْقَ النِّقَاطِ الآتية:
- أنَّ طاعةَ العبد لله تعالى ولرسوله -صلي الله عليه وسلم- هي المرادُ بصلاته على النبي، وهي – بهذا المعنى – تقابل صلاة الحق -عز وجل- وصلاة ملائكته على النبي -صلي الله عليه وسلم- وتوافقها، وأما من حيث المعنى فصلاة الله على النبي ليست كصلاة الملائكة ولا كصلاة العبد، وإنما المرادُ بصلاة الله تعالى على النبي تعظيمُه وتشريفه، والمرادُ بصلاة الملائكة الدعاءُ له بالرحمة والمغفرة، وأما صلاةُ العبد فهي دعاءٌ للنبي -صلي الله عليه وسلم- وترَحُّمٌ.
- الصلاةُ على النبي -صلي الله عليه وسلم- وسيلةٌ لمحوِ الذنوب والتطهرِ من الخطايا، فقد ورد في الحديث الشريف:
(مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ)[13].
وفي حديث آخر أنه جاء النبيُّ ذاتَ يومٍ والبِشرُ يُرَى في وجهه، فقال:
(إِنَّهُ جَاءَنِي جِبْرِيلُ -صلي الله عليه وسلم-، فَقَالَ: أَمَا يُرْضِيكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلَّا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَلَا يُسَلِّمَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا)[14].
- الصلاة على النبي -صلي الله عليه وسلم- تجعلُ صاحبها في معية النبي يوم القيامة، قال النبي -صلي الله عليه وسلم-:
(أولى الناسِ بي يومَ القيامةِ أكثرُهم عليَّ صلاةً)[15].
- يردُّ نبينُا -صلي الله عليه وسلم- السلامَ على مَن يصلي ويسلمُ عليه، وقد ساق لنا النبي هذه البشرى في الحديث الشريف، فقال:
(مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ)[16].
وإذا تأملنا ما يحمله سلامُ أحد العظماء على أحدنا من سرورٍ له، لما صَعُبَ علينا أن نتصوَّر ما يحملُه إلينا وإلى الأمةِ كلِّها سلامُ رسولِ الله -صلي الله عليه وسلم- من سعادةٍ وراحةٍ عظيمةٍ.
- إن لله ملائكةً تبلغ النبي -صلي الله عليه وسلم- أسماءَ من يصلي عليه وذلك زيادة في تشريفهم، وفي ذلك يقول النبي -صلي الله عليه وسلم-:
(إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ)،[17]
وفي حديث آخر:
(…. وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)[18].
- كلما ازداد المؤمنُ صلاةً على النبي -صلي الله عليه وسلم- ازدادَ تشبُّها به وقرباً منه، وابتعد أكثر فأكثرَ عن العادات الذميمة، لأنه فضَّل محبةَ الله ورسوله على سائر المحابِّ الأخرى.
- على المؤمن أن يعلم أنه كلما ازداد حبا للنبي -صلي الله عليه وسلم- وشغفا به ازدادت محبةُ النبي له.
- إننا إذ نصلي على النبي الكريم إنما نسدد بعضا مما للنبي -صلي الله عليه وسلم- من فضلٍ في أعناقنا، ففضل الله تعالى ونعمه علينا كثيرة لا تحصى إذ جعلنا من أمة محمد -صلي الله عليه وسلم-.
- صلاتنا على النبي -صلي الله عليه وسلم- وسيلةٌ نستمطرُ بها رحمة الله تعالى علينا، وفي ذلك يقولُ النبي -صلي الله عليه وسلم-:
(مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا)[19].
- الصلاةُ على النبي -صلي الله عليه وسلم- وسيلةٌ يذكِّرُنا اللهُ بسببها – كرماً منه – شيئاً نسيناه.
- الصلاة على النبي -صلي الله عليه وسلم- وسيلة نستشفع بها لقبول دعائنا: (سَمِعَ النَّبِيُّ -صلي الله عليه وسلم- رَجُلاً يَدْعُو فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ -صلي الله عليه وسلم-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلي الله عليه وسلم-: عَجِلَ هَذَا، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ -صلي الله عليه وسلم-، ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ)[20].
وفي حديث آخر أنَّ رسولَ الله -صلي الله عليه وسلم- قال:
(كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ عَنِ السَّمَاءِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ -صلي الله عليه وسلم-)[21].
- الصلاة على النبي -صلي الله عليه وسلم- تقي المسلمَ من وعيدِ اللهِ وسَخَطِهِ، فقد جاءَ في الحديث:
(رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَانْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ)[22].
وفي حديث آخر:
(البخيلُ مَنْ ذُكِرتُ عندَه فلم يُصَلِّ عليَّ)[23]
وفي حديث آخر:
(مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ، خَطِئَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ)[24].
- يكفي اللهُ تعالى المداومين على الصلاة جميعَ همومهم ويرفعُ عنهم كرباتهم، فقد جاء عن سيدنا أُبيُّ بن كعبٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ فَقَالَ: «مَا شِئْتَ». قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ، قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ، قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ: «إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ)[25].
وهكذا نرى أن الصلاة على النبي -صلي الله عليه وسلم- تربِطُ المؤمنَ بعلاقةٍ روحيةٍ خاصة مع النبي، وتهبه من أنواره وفيوضاته، ولكنَّ ذلك يتوقف على مدى محبة العبدِ للنبي وإخلاصِه في صلاته عليه.
وحتى نفوز بأعظم الأجر والثواب من الصلاة على النبي -صلي الله عليه وسلم- فعلينا أن نُسلم قِيَادَنَا لفخر الكائنات ونخضع لعظمته، ونبذل قصارى الجهد حتى نكون أمةً تليق به.
[1] المعجم الكبير للطبراني، 413.
[2] صحيح البخاري ، كتاب التوحيد، 7405 .
[3] سنن الترمذي ، كتاب الدعوات، 3377 .
[4] صحيح مسلم ، كتاب الذكر، 2701.
[5] سنن ابن ماجه، كتاب الأدب، 3810 .
[6] سنن الترمذي ، كتاب الدعوات ، 3434 .
[7] سنن الترمذي، أبواب تفسير القرآن، 3334 .
[8] سنن أبي داود، باب الوتر، 1518 .
[9] سنن الترمذي، أبواب تفسير القرآن، 3082 .
[10] صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، 758 .
11 صحيح البخاري، كتاب الدعوات، 6306، و تتمة الحديث (… وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ).
[12] المستدرك على الصحيحين، كتاب التوبة، 7657؛ مسند الإمام أحمد، 8710.
[13] سنن النسائي، باب فضل الصلاة على النبي، 1295.
[14] سنن النسائي ، باب فضل الصلاة على النبي ، 1297 .
[15] سنن الترمذي، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي، 484.
[16] سنن أبي داود، كتاب المناسك، 2041 .
[17] سنن النسائي، باب السلام على النبي، 1282 .
[18] سنن أبي داود، كتاب المناسك، 2042.
[19] صحيح مسلم، كتاب الصلاة، 408.
[20] سنن الترمذي، أبواب الدعوات، 3477.
[21] شعب الإيمان للبيهقي، باب تعظيم النبي و توقيره، 1474.
[22] مسند الإمام أحمد، 7541 .
[23] سنن الترمذي، أبواب الدعوات، 3546.
[24] سنن ابن ماجه، باب الصلاة على النبي، 908.
[25] سنن الترمذي، أبواب صفة القيامة، 2457.