مقالات من كتبه

أمثلة على التفكر من القرآن الكريم

التفكر في علم الله تعالى

إن الحق -جل جلاله- في كثير من آيات القرآن الكريم يدعو الناس إلى التفكر في عالم الله تعالى اللامحدود، يقول -جل جلاله- في هذه الآيات الكريمة:

﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (الأنعام، 59)

«أي أن كل مؤمن عندما يقرأ هذه الآيات الكريمة يجب عليه أن يقف عندها قليلاً ويتدبر فيها. ذلك إن كل مؤمن يوقن أن الله تعالى عنده مفاتح الغيب أي خزائن الغيب، أي أنه تعالى عالِمٌ بالكليات والجزئيات مستأثر بعلمه، وما نعلمه نحن لا يمكن أبداً أن يصل إلى علمه؛ فالله تعالى يعلم ما في البَرْ من نبات ودواب وأحجار وأمدار وغير ذلك، وما في البحر من حيوان وجواهر وغير ذلك، كما أن علمه تعالى محيط بنا وبما أعد لمصالحنا ويعلم عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال، والورقة التي تسقط يعلم متى تسقط، وأين تسقط وكم تدور في الهواء. و يعلمها كيف انقلبت ظهراً لبطن إلى أن وقعت على الأرض. ويعلم ما لم يكن هل يكون أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون؟ وما لا يكون إن كان كيف يكون؟ أي أنه -جل جلاله- هو العليم بكل شيء وكل علم بني آدم لا يساوي ذرة في علم الله. فالله وحده هو من عنده مفاتح الغيب تلك ولا يطلع عليها غيره سبحانه تعالى»([1])

أما الأستاذ سيد قطب فقد تحدث عن علم الله تعالى مفسراً نفس تلك الآية الكريمة فقال: «إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول، وعالم الغيب وعالم الشهود، وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح، ووراء حدود هذا الكون المشهود.. وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد. وهو يرتاد -أو يحاول أن يرتاد- أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل؛ البعيدة الآماد والآفاق والأغوار.. مفاتحها كلها عند الله؛ لا يعلمها إلا هو.. ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر، المكشوفة كلها لعلم الله. ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، لا يحصيها عد، وعين الله على كل ورقة تسقط. هنا وهنا وهناك. ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله. ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط.
إنها جولة تُديرُ الرؤوس، وتذهل العقول. جولة في آماد من الزمان، وآفاق من المكان، وأغوار من المنظور والمحجوب، والمعلوم والمجهول.. جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف، يَعْيَى بتصور آمادها الخيال.. وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات. ألا إنه الإعجاز!» (سيد قطب، الظلال، جـ2، 1111-1113، الأنعام، 59)

وهكذا فإن الإنسان كلما تفكر بهذا الشكل في القرآن الكريم والكون فإنه يدرك كل نبذة كل إشارة إلى علم الحق -جل جلاله- وقدرته مهما صغرت. أما البعيدين عن التفكر فهم يتخبطون في حياة شهوانية دنيئة محرومين من الأسرار والحكم الإلهية.

يقول سعدي الشيرازي: «كل ورقة خضراء في نظر أصحاب العقول ديوان لمعرفة الله تعالى. أما الغافلون فالأشجار كلها عندهم لا تساوي ورقة واحدة»

يقول الحق -جل جلاله- في آية أخرى:

﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ﴾ (سبأ، 2)

والإنسان عندما يقرأ هذه الآية المعروضة في كلمات قليلة، فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء، والحركات، والأحجام، والأشكال، والصور، والمعاني، والهيئات، لا يصمد لها الخيال!

ولو أن أهل الأرض جميعاً وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة ، مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين!

فكم من شيء في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض؟ وكم من شيء في هذا اللحظة يخرج منها؟ وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء؟ وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها؟

كم من شيء يلج في الأرض؟ كم من حبة تختبىء أو تخبأ في جنبات هذه الأرض؟ كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية؟ كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز، ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة؟ وكم وكم مما يلج في الأرض وعين الله عليها ساهرة لا تنام؟ وكم يخرج منها؟ كم من نبتة تنبثق؟

يقول الله -جل جلاله-:

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ (الشعراء، 7)

﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ (عبس، 42-23؛ أنظر ايضاً: ق، 7-11)

وكم من نبع يفور؟ وكم من بركان يتفجر؟ وكم من غاز يتصاعد؟ وكم من مستور ينكشف؟ وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور؟ وكم وكم مما يرى ومما لا يرى، ومما يعلمه البشر ومما يجهلونه وهو كثير؟ وكم مما ينزل من السماء؟ كم من نقطة مطر؟ وكم من شهاب ثاقب؟ وكم من شعاع محرق؟ وكم من شعاع منير؟

وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور؟ وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد؟ وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر؟ . . وكم وكم مما لا يحصيه إلا الله .

وكم مما يعرج فيها؟ كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان؟ وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستترة ومستورة لم يسمعها إلا الله في علاه؟.

وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة؟ وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله؟ وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله؟.

ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر، ومن ذرة غاز صاعدة من جسم؟ وكم وكم مما لا يعلمه سواه ؟!

كم في لحظة واحدة؟ وأين يذهب علم البشر وإحصاؤه لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء؟ وعلم الله الشامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان . . وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وما له من حركات وسكنات تحت عين الله، وهو مع هذا يستر ويغفر . . وهو الرحيم الغفور. (سيد قطب، الظلال، جـ 5، 2891–2892)

سورة الواقعة

إن كل سورة وكل آية في القرآن الكريم يجب أن تُفَكِر فيها ونتدبرها بعمق شديد. ولكننا هنا على سبيل المثال سنقف فقط عند بعض الآيات التي وردت في سورة الواقعة والنحل والروم.

إن الله تعالى يبدأ سورة الواقعة بتذكيرنا بعظمة يوم القيامة ورهبته. ويخبرنا سبحانه أنه في ذلك اليوم يعز أقواماً ويذل آخرين. ويبين الله تعالى أن الناس بعد الحساب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

ثم يصور الحق -جل جلاله- مقدار الجمال والكرم الذي لا مثيل له والذي سيناله عباد الله المقربون والصالحون الذين أعطوا صحائف أعمالهم بيمينهم.

ويصور الحق -جل جلاله- عاقبة وتعاسة من أخذوا كتابهم بشمالهم ومقدار العذاب الذي ينتظرهم. ويحذر الله تعالى عباده من الذنوب بهذه اللوحة التي تقشعر منها الجلود والأبدان.

وبعد ذلك ينبه عباده بدعوتهم إلى التفكر حتى لا يسقطوا في تلك الحال المؤلمة الحزينة فيقول:

﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ، أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ﴾ (الواقعة، 57–59)

فما أعظم الصنعة الإلهية التي خلقت هذا الإنسان من ماء مهين وجعلته مزيناً بطل هذه النظم والأنظمة التي تعمل بشكل دقيق متوازن ومتداخل إلى أقصى درجة.

الموت والبعث

يقول المولى -جل جلاله-:

﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (الواقعة، 60–61)

حقيقة الموت وما أعظمها من حقيقة. لا أحد يستطيع أن يفر من الموت. ولو أراد الحق -جل جلاله- لأهلك المنكرين، وخلق مجتمعاً أكثر طيبة وإيماناً. يقول الحق -جل جلاله-:

﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ (الواقعة، 62)

إن الله تعالى الذي أبدع الخلق الأول، وجعله في أفضل شكل وأكمله؛ قادر سبحانه وتعالى على أن يعيد الإنسان مرة أخرى. وعلى هذا فيجب التفكر في هذا الأمر والإستعداد للآخرة والبعث بعد الموت.

البذور والنباتات

يقول الحق -جل جلاله-:

﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُون، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ (الواقعة، 63–67)

فيجب أن ننظر باعتبار إلى الزروع والأشجار والنباتات التي في البيئة حولنا، وأن نشهد بتعجب ودهشة وحيرة صنعة الخالق -جل جلاله- ونعمه. تلك النعم التي لو لم يمنحها الله ويهبها للإنسان لذهبت كل جهود الإنسان وسعيه أدراج الرياح، ولما استطاع الإنسان أن يزرع حتى عشبة واحدة. ويجب أن نفكر أن هذه الخضرة كلها التي حولنا لو تحولت إلى صحراء جرداء في لحظة فكيف ستظلم حياتنا وتصبح كالحة في غمضة عين.

الماء العذب

يقول الحق -جل جلاله-:

﴿أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُون، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ﴾ (الواقعة، 68–70)

إن الماء العذب الذي ينزل من السماء هو كرم كبير وعطاء من الله -جل جلاله-. فلو نزل هذا الماء أجاجاً من السماء فمن يستطيع أن يُحَلِّيه ويجعله عذباً، أو لو حدث جفاف فمن لديه القدرة أن ينشئ السحاب الثقال وينزل المطر من السماءِ؟!

النَّارُ

تقول الآيات الكريمة:

﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي تُورُونَ، أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ﴾ (الواقعة، 71–73)

في الحقيقة يجب التفكر فيمن خلق النار التي لها فوائد كثيرة جدّاً للإنسان في الحياة، وفيمن خلق الأشجار التي نحرقها ونستخدمها في أغراضنا المختلفة؟

فلننظر إلى قدرة الله تعالى الذي يخرج النار من الشجر الأخضر. ويحب أن نفكر في ماهية تلك النار كيف تشتعل وكيف تحرق ؟!

والسائرون في الصحراء يلجؤن إلى النّار عندما تظلم الليالي ويشتد بردها. فالنار هي وسيلة لا غنى عنها للمسافرين في التدفئة والإنارة وطهي الطعام. والبشر جميعهم محتاجون لهذه النار فالحياة بلا نار هي حياة صعبة للغاية إن لم تكن مستحيلة.

وعلى هذا فإن النار هي معجزة في حد ذاتها وهي حاجة ضرورية مثل الماء والهواء والتربة. لذا فقد قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:

“المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار” (أبو داود، البيوع، 60 / 3477)

ومن ناحية أخرى فإننا عندما ننظر إلى نار الدنيا فيجب علينا أن نتذكر جهنم. فيا لها من عبرة شديدة الروعة أن نفكر فيما في باطن الأرض تحتنا من صُهَارَة وحِمم سائلة.أنه محيط ناري هائل. أما فوقنا فالشمس كرة هائلة من اللهب ونحن نعيش حياتنا في هدوء وسلامة بين هذين النارين فمهما شكرنا الله تعالى على لطفه ورحمته بنا فإن شكرنا قليل عاجز!

فعلى الإنسان في مواجهة هذه النعم كلها أن يسبح الله تعالى كثيراً يقول تعالى:

﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ﴾ (الواقعة، 74)

فلساننا يجب أن يسبح بالذكر، وتلاوة القرآن، وتبليغ كلام الله. وقلبنا يحب أن يسبح بالشكر والإنغماس في هذا الشعور. والأعضاء يجب أن تسبح بإقامة الصلاة، والصيام، وإقامة الفرائض والنوافل.

النجوم

يقول تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ (الواقعة، 75–76)

فالعظمة الإلهية اللامحدودة توجه تفكيرنا في الحق -جل جلاله- إلى آفاق لا محدودة فالسماء هي تقريباً بحر بلا شطآن. وفي هذه الآيات يُلفت النظر إلى أوقات السحر وتهجد الليالي الذي يبدأ بعد أن تختفي النجوم.

مرة أخرى فإن الوحي الذي نزل على رسول الله -صلي الله عليه وسلم- هو أمر آخر من الأمور التي أقسم بها في هذه الآيات الكريمة. وهذا الوحي أما أن يكون آية أو عدة آيات أو سور كاملة. وكل وحي منها يسمى «نجماً ومنجَّماً».

القرآن الكريم

يقول الحق -جل جلاله-:

﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة، 77–79)

يحب أن نظهر التعظيم والعظمة للقرآن الكريم إلى أقصى حد. فيحذر عليه أن يلمس الغلاف الخارجي الذي يحفظ «المصحف الشريف» بغير وضوء. والشخص الغير متوضأ لا يستطيع أن يلمس المصحف أيضاً بكم ثيايه حتى يتوضأ.

قال مالك ولا يحمل أحد المصحف بعلاقته ولا على وسادة إلا وهو طاهر ولو جاز ذلك لحمل في خبيئته ولم يكره ذلك لأن يكون في يدي الذي يحمله شيء يدنس به المصحف ولكن إنما كره ذلك لمن يحمله وهو غير طاهر إكراما للقرآن وتعظيما له.

والواقع أن التصرف بسلوك يخالف حرمة القرآن وتعظيمه يعد غفلة كبيرة. لأن الحق -جل جلاله- يقول:

﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ، أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ، وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ (الواقعة، 80–82)

فإنزال القرآن الكريم هو واحدة من أكبر النعم التي أنعم الله تعالى بها علينا. وشكر هذه النعمة تكون بإدراك جمالياته والعيش بمقتضى أحكامه.

الموت

يقول الحق -جل جلاله-: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ﴾ (الواقعة، 83–84)

أي أن أجل الإنسان إذا حان وجاء وعد الحق لم يعد في مستطاع أحد أن يعيد الروح أو أن يفعل شيئاً.

وتكمل الآيات فتقول: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ، فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (الواقعة، 85–87)

وهكذا تكون قدرة الله تعالى، وهكذا يكون عجز الإنسان. فالإنسانية كلها ستسلم وتحني رقبتها مضطرة مجبرة للتقرير الإلهي. وحتى المتكبرين والطغاة الذين يعارضون أمر الله ويعاندون في حياتهم لن يرفعوا أصواتهم معترضين في تلك اللحظة. والإنسان الذي يرفع حجب الغفلة اللامحدودة التي كانت على إدراكه سيفهم في تلك اللحظة فقط بكل جوارحه أن الله تعالى وحده هو صاحب السلطان والجبروت الحقيقي في الكون.

الميت في واحدة من ثلاثة أحوال:

(1) إما أن يكون من المقربين الذين تقول عنهم الآية الكريمة:

﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيم﴾ (الواقعة، 88-89)

(2) أو يكون من أصحاب اليمين فتقول عنهم الآية :

﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ، فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ﴾ (الواقعة،90-91)

(3)   أو يكون من المكذبين الضالين والكفار والمسلمين العصاة والمذنبين الذين تخبرنا عنهم الآية فتقول: ﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ، فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ (الواقعة، 91-94)

ويختم الحق -جل جلاله- تلك السورة فيقول: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ﴾ (الواقعة،95– 96)

سورة النمل

وفي هذه السورة يوضح الحق -جل جلاله- صاحب الحكمة والعليم بكل شيء أنه هو الذي أنزل القرآن الكريم. وتحدثنا السورة عن عظيم قدرة الله تعالى وعلو قدره وشأنه، وعن المعجزات التي أنعم الله بها على رسوله -صلي الله عليه وسلم-، وأنه سبحانه صاحب علو فوق مستوى أيّ تصور أو تخيل. وأن إرسال الرسول -صلي الله عليه وسلم- كان بُشرى ووسيلة لترقي وتطور عظيم القدر للإنسانية.

ومن أجل إيضاح هذه الأمور أشارت السورة إلى قصص أنبياء الله تعالى موسى وداود وسليمان وصالح ولوط عليهم السلام.

وهذه القصص هي أدلة نقلية توضح قدرة الحق -جل جلاله- وكماله. وعندما لم يصدق المشركون هؤلاء الرسل فإن الحق -جل جلاله- أحضر لهم أدلة نقلية أكثر وضوحاً وأكثر عموميةً. ومن ذلك قوله تعالى:

﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ (النمل، 60)

وعندما قرأ رسول الله -صلي الله عليه وسلم- هذه الآية الكريمة كان يقول في عقب هذه الآية:

بل الله خير وأبقى وأحَكَمُ وأَكرمُ وأَجَلُّ وأَعظمُ ممّا يُشركون” (البيهقي، الشعب، جـ 2، 372)

وتستمر الآيات الكريمة في الدعوة إلى التفكر في المخلوقات التي هي علامات وأمارات على القدرة الإلهية فتقول:

﴿أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ، أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ، أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّن يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (النمل، 61–64)

سورة الروم

إن الحق -جل جلاله- يدعو عباده في هذه السورة مرة أخرى للتفكر فيقول:

﴿أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ، أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (الروم، 8 – 9)

وبعد عدة آيات يعرض الله الأدلة المتتالية المتوالية على وحدانية الحق -جل جلاله-، وقدرته وعظمته اللامحدودة فيقول: ﴿يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ، وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ (الروم، 19–26)

من يعرضون عن آيات الله تعالى ولا يفكرون فيها

بينما يصف الحق -جل جلاله- عباده الخواص فيقول:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُماًّ وَعُمْيَاناً﴾ (الفرقان، 73)

وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بآيات رَبّهِمْ بالوعظ أو القراءة ، لم يقيموا عليها غير واعين لها ولا متبصرين بما فيها كمن لاَ يسمع ولا يبصر ، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية.

ويقول جل شأنه: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (الأنفال، 2)

فإنه يشير في آية أخرى إلى الخسران المبين الذي سيناله من لم ينل حظاً ونصيباً من فيض القرآن الكريم وروحانيته، ولم يستطع أن يفهم أسراره ورموزه، ولم يستطع أن يقف على تأويله، ولم يستمع إلى أوامره ونصائحه فيقول عز من قائل :

﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف، 146)

فالأشخاص المتكبرون الذين يشعرون بوجودهم، ويتفاخرون على البشر الآخرين، ويتعالون عليهم لا يمكنهم أن يتفكروا في معاني الآيات الكريمة، ولا يستطيعون أن يأخذوا العبرة منها. لأن الحق -جل جلاله- لم يعط لقلوب الظالمين الإمكانيات التي تؤهلهم لفهم حكم القرآن والاطلاع على تجلياته العظيمة. وقد تركهم المولى -جل جلاله- محرومين من هذا الكرم الإلهي الكبير؛ لأن القرآن الكريم الذي هو خزينة الأسرار والحكم الإلهية لا يناسبه أن يوجد في مستنقعات القسوة تلك أي في قلوب الظالمين. فهو فقط يكون نوراً ينفذ إلى قلوب العباد والمتقين وينير لهم الطريق ويوضحه.

أما حال الغافلين المؤلم الذين ليس لهم نصيب من التقوى فإنهم لا يستطيعون التفكر في القرآن بحق؛ لأنهم قد ابتلوا بغلظة الشهوة وفظاعتها. ولو فكر هؤلاء بعدل وإنصاف في القرآن الكريم لما ظلوا بلهاء عابسين مدهشوين مذهولين أمام التعاليم الإلهية. بل على العكس من ذلك فإن سيقبلون الحق، ويتخلقون بكل خلق جميل، ويأخذون نصيبهم من الأسرار والحكم الإلهية، وفي النهاية ينفتح أمام نفوسهم طريق السعادة والراحة الأبدية.

وكما يفهم مما سبق فإنه لا يتصور أن يكون المؤمن بعيداً عن التفكر، وأن يضيع رأس مال عمره وهو التفكر؛ لأن الحق -جل جلاله- في معرض تنبيهه لمن لا يعرف قيمة العمر ويضيعه في غير محله يقول:

﴿وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ العصر﴾ (العصر، 1 – 3)

ولهذا السبب يجب أن تكون نظرة المؤمن صاحب التقوى اعتباراً، وصمته فكراً،و يجب التعمق خاصة في القرآن الكريم، والتفكر في الحقائق الإلهية التي في آياته الكريمة، ويجب السعي بجد للوصول إلى معرفة الله تعالى.

ومرة أخرى فإن المؤمن يجب أن يتلقّي القرآن الكريم كخطاب جاء من الحق -جل جلاله- إلى عباده، ويجب التَّدَبُّر بالقرآن الكريم الذي هو منبع السعادة الأبدية بشعور وعشق إيماني.

[1]     انظر: أبو حيان، تفسير البحر المحيط، تفسيرسورة الأنعام آية 59