مقدمة
الحمد لله الذي شرفنا بنعمة الإسلام والإيمان، ورفعنا إلى مستوى خطابه المتمثل بالقرآن الكريم، وجعلنا من أمة نبي الهداية والإرشاد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الذي كان بدوره التفسير الحي والفعلي للقرآن العظيم.
والصلاة والسلام على قدوتنا ومقياس استقامتنا في الدنيا، وشفيعنا في الآخرة فخر الكائنات سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آل بيته وأصحابه الطيبين الطاهرين!..
إن الشخصيات الرفيعة الذين يُتخذون مثلاً وقدوة بعد النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام هم العلماء والعارفون من أولياء الله عز وجل، وذلك لأنهم يُعدون بمثابة ورثة النبي عليه الصلاة والسلام بعلمهم، وعرفانهم، وأخلاقهم المثالية.
وإن أهل الله هم المؤمنون من العلماء والعارفين والصادقين المتحملين لمسؤولية الأمة:
– الذين مزجوا ظاهر الدين وباطنه ضمن مبادئه وقواعده واصطبغوا بهذا المزيج
– والذين قطعوا المراحل والدرجات القلبية على طريق الزهد والتقوى ووصلوا إلى كمال السلوك والعمل
– والذين وسعوا مداركهم ليحيطوا بآفاق العالمين الدنيا والآخرة، ونالوا لذة الإيمان وعمق الأحاسيس والمشاعر
– والذين وجهوا كل جهودهم لتخليص الإنسانية من الخصال الخبيثة والسيئة ومن الرغبات والشهوات النفسية، وإيصالهم إلى مرتبة الأخلاق الحميدة والكمال الروحي.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [1]
يقول الشيخ الخواجة عبيد الله أحرار في تفسير هذه الآية:
(إن أمر “كونوا مع الصادقين” الذي ورد في الآية الكريمة يعبر عن الاستمرار في ملازمة الصادقين. وإن ذكر المعية مطلقةً يدل على وجهيها: الحقيقي “الفعلي” والحكمي، فالوجه الحقيقي للمعية هو حضور مجالس الصادقين المادي بحضور القلب، وأما الوجه الحكمي للمعية فهو تخيل أحوالهم واتخاذها مثلاً وقدوة لنا حتى في غيابهم، واستحضار نصائحهم ومواعظهم المشتملة على الحكم والعبر).[2]
إذاً، فهذا يعني بأن الخطوة الأولى في طريق التحول إلى إنسان صادق هي صحبة الصادقين، أي مد أواصر الألفة والمحبة معهم. فالتحول إلى إنسان صادق هو نتيجة طبيعية لهذه الحالة من الملازمة والمعية المصبوغة بالمحبة.
وإننا بدورنا نحاول جهد استطاعتنا بهذا العمل المتواضع والبسيط أن نكون بصحبة ومعية عبد من عباد الله تعالى الصالحين والصادقين، ألا وهو الإمام الرباني أحمد السرهندي ولو بصورة غيابية وحكمية.
يقول الله عز وجل في سورة مريم:
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [3]
فالله سبحانه وتعالى يكرم العباد الذين أحبهم بسر من المحبة شبيه بالمغناطيس حيث يجذب إليه كل قلب فيه حظ من جوهر هذا السر.
وفي الواقع فإن كل إنسان يدخل إلى هذه الدنيا الشبيهة بخان أو فندق على طريق المسافرين فيمكث فيها مدة من الزمن ثم يمضي، وبعد فترة تُمحى آثاره ويُنسى حتى اسمه. إلا أن الله عز وجل يستثني من هذه الحالة أحباءه وأهله، حيث يبقي ذكرهم قائماً بين الناس.
فأولياء الله أولئك لا يصبحون جزءاً من الماضي ويُلقون في غياهب النسيان حتى بعد أن تبلى أجسادهم الفانية. إذ ما أكثر أهل الحق الذين تستمر خدماتهم وآثار أعمالهم بيننا في هذه الدنيا وهم في عالم البرزخ، وترشدنا وتنير دروبنا. وإنهم سوف يستمرون أحياء في القلوب حتى بعد وفاتنا أيضاً. فأعمارهم الإرشادية تجتاز الأزمان والعصور والبلدان بنسبة قربهم إلى الحق U.
وإذا ما أردنا إمعان النظر في هذا الأمر ومدى واقعيته وإثباته فإن عدد زوار أضرحة ومقامات كبار الأولياء يُعد دليلاً كافياً في هذا الخصوص.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الحادثة التي نوردها فيما يلي تُعد خير دليل ومثالاً على المحبة التي يبثها الله تعالى في القلوب تجاه الأولياء الصالحين الذين أحبهم:
يروى أن الخليفة العباسي هارون الرشيد كان بين الحين والآخر يقيم في مدينة الرقة التي كانت من ضمن دولته المترامية الأطراف. فقدم مرة عبد الله بن مبارك الذي يُعد أحد كبار أولياء الله الصالحين الرقة وبها هارون الرشيد فلما شارف على دخولها احتفل الناس به وخرجوا لملاقاته وازدحموا حوله حتى خلت المدينة إلا من الخليفة وبعض رجاله وأهل بيته. فأشرفت إحدى جواري هارون الرشيد من قصر هناك فقالت:
– ما للناس؟
فقيل لها:
– قدم رجل من علماء خراسان يقال له عبد الله بن المبارك فانجفل الناس إليه.
فقالت الجارية:
– هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد! لأنه في ملك هارون لا يجتمع حتى العمال إن لم يضطرهم العسس إلى ذلك!
وبالفعل فإن هذا هو الملك الحقيقي… وذلك لأن الملك والسلطان المادي سوف يزول وينتهي حتماً يوماً ما. إلا أن سلطنة وملك القلب يدوم ويستمر في القلوب بالزخم والوهج ذاته حتى بعد الموت. فالبشرية تشعر بالحاجة الدائمة إلى ملوك وسلاطين القلب أولئك، وتفتش عنهم في كل مكان، وتسير على أثرهم النير المضيء.
فهناك شعور عجيب واستثنائي بالتعلق والارتباط بأصحاب وأهل الحق على الرغم من مضي قرون طويلة على وفاتهم من أمثال بهاء الدين النقشبندي، وعبد القادر الجيلاني، ويونس إمره، ومولانا جلال الدين الرومي، وعزيز محمود هدائي وغيرهم الكثير. والله سبحانه وتعالى قد أبقى على ذكر العلماء الكبار الذي قدموا خدمات جليلة للإسلام بين الناس، مثل كبار المحدثين، والمفسرين، وأئمة المذاهب الفقهية، وأهل التصوف.
ولا شك أن أحد الملوك والسلاطين الروحانيين الذين تربعوا على عرش قلوب المؤمنين واستمروا أحياءً فيها بعد وفاتهم هو الإمام الرباني. فنتيجة للحياة النموذجية التي قضاها ذاك الشيخ الجليل المولود في بلدة سيرهند التابعة للهند قبل ما يقارب الأربعة قرون ونيف بالكفاح والدفاع عن عقيدة التوحيد فقد حُبب بتقدير من العلي القدير إلى قلوب جميع المسلمين، وتجاوزت محبته خلال مدة قصيرة حدود الهند لتنتشر إلى كافة أنحاء الدنيا حتى يومنا هذا.
إن الكثير من طرق التصوف وعلى رأسها الطريقة النقشبندية تعتمد على إرشادات الإمام الرباني وتنهل من معين روحانيته. فذاك المرشد العظيم يُعد مرجعاً ومقياساً حقيقياً وفعلياً للأمة المحمدية حتى بعد انقضاء عمره الفاني المادي. إنه حتى وهو في عالم البرزخ مستمر منذ الفترة الزمنية التي عاش فيها وإلى الوقت الحاضر والمستقبل كمشعل هداية واستقامة في خدمة التبليغ والإرشاد.
لقد جاء في الحديث النبوي الشريف:
“المرء مع من أحب“.[4]
فإذا ما شعرنا بالمحبة تجاه الأولياء الصالحين الذين هم أحباء الحق سبحانه وتعالى، ورغبنا بالحشر معهم يوم القيامة فلا بد أن نجهد قدر استطاعتنا لنيل نصيب من إيمانهم، وأخلاقهم الحسنة، واستقامتهم. وذلك لأن من علامات المحبة الصادقة والحقيقية هي التحلي بحال المحبوب.
وبناء على ذلك ينبغي علينا أن نقارن أحوالنا بحال أهل الحق على الدوام ونتخذهم مقياساً حقيقياً لنا، وأن ننهل الأحاسيس من معين وينبوع قلوبهم.
أيها القراء الأعزاء!
لقد رغبنا في هذا الكتيب الذي يشكل جزءاً لكتاباتنا المنشورة تحت عنوان رئيسي “حكم من أولياء الله” في مجموعة آلتن أولوك، أن نقوم بجولة تفكيرية وتأملية في الحكم الكامنة داخل عوالم قلوب أهل الحق.
وينبغي أن لا ننسى بأننا اليوم أبناء، وطلبة، وأصحاب لأهل الله الذين ارتحلوا من هذا العالم الفاني إلى العالم الأبدي والذين وجهوا العالم بمواعظهم وإرشاداتهم من أمثال بهاء الدين نقشبندي، وعبد القادر الجيلاني، ومولانا جلال الدين الرومي، ويونس إمره، وهدائي، والإمام الرباني السرهندي. وما نرجوه ونسأله من الحق سبحانه وتعالى أن يجعل لنا على وجه الأرض عندما نكون في القبر بانتظار يوم القيامة بعد انتقالنا من هذه الحياة الفانية، أن يجعل لنا أصحاباً وأحباباً يذكروننا بالخير بما يبعث السرور والسعادة في أرواحنا. إنها لسعادة عظيمة أن يفلح المرء بترك صدى وأثر طيب اليوم للأجيال التي سوف تأتي من بعدنا…
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا في هذه الدنيا للسير على نهج أحبائه، وللقيام بالأعمال الصالحة التي تنال رضاه؛ وأن يحشرنا جميعاً في الآخرة مع عباده الذين أحبهم ورضي عنهم. آمين!.. [5]
عثمان نوري طوبّاش
[1] التوبة: 119.
[2] انظر الرشحات: ص 453.
[3] مريم: 96.
[4] البخاري: الأدب، 96.
[5] أوجه الشكر إلى السيد محمد عاكف كوناي الذي بذل جهوداً كبيرة في إعداد هذا الكتيب، وأسأل المولى عز وجل أن يجعل هذه الجهود صدقة جارية في صحيفة أعماله.