مقالات من كتبه

التصوف والتربية الروحية

إن الغاية من الدين هي تعريف الإنسان بخالقه وما يجب عليه تجاهه من واجبات، ثم إقامة العلاقات بين البشر على العدل والحق والسلم والسكينة في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية.

ويهدف الدين كذلك إلى تنشئة إنسان مهذب لطيف رقيق الطبع سليم الطوية، أو بتعبير آخر أن يهيئ المؤمن لصحبة الحق ودخول الجنة.

ولذلك جاء التصوف ليصلَ بالمؤمن – من خلال التربية الروحية – إلى الحال التي يريدها الدين ويهدف إليها، ويحققَ ذلك التناغم بين باطننا وظاهرنا وبين قلوبنا وأعمالنا، فيعيش المؤمن في سكينة وسلام.

وقد عبر القرآن الكريم عن التصوف بكلمتي التقوى والتزكية، وورد ذكر التصوف في الحديث الشريف بتعبير التقوى والتزكية والزهد والإحسان، وقيل له فيما بعد “فقه الباطن” أو “علم القلوب”[1].

إن التصوف هو الحالة التي يصير بها باطننا نقيا سليما باعتبار أصله، وبالتصوف يصل الإنسان إلى مستوى يمكنه من معرفة الله تعالى ونيل محبته، وبذلك يصير مؤهلا للوصال الإلهي.

ويبقى من الصعب – في إطار الدلالات المحدودة للكلمات – إيضاح معنى التصوف بدقة، ذلك لأن المعوَّل في إدراك هذا المعنى على الذوق، فيمكن للإنسان أن يتذوقه ويدركه بحسه كلما أخلص له أكثر فأكثر.

لهذا السبب أعطى أولياء الله تعالى تعريفاتٍ مختلفةً للتصوف، فكلٌ نظر إلى التصوف من جهته الخاصة، فحاول أن يصل إلى لبه وجوهره.

ونحن إذا نظرنا إلى هذه التعاريف تكوَّن لدينا فكرٌ عامٌ فيما يتعلق بماهية التصوف:

  • التصوف هو الأخلاقُ الحميدة والآداب الرفيعة.
  • التصوف هو تزكيةُ النفس وتصفيةُ القلب.
  • التصوف هو حربٌ روحية لا هوادةَ فيها، وجهادٌ لتطهير النفس من آفاتها.
  • التصوف هو الإخلاص.
  • التصوف هو الاستقامة.
  • التصوف هو الرضا بالقضاء، والتسليمِ لله تعالى في مراده.
  • التصوف هو مرآةٌ تعكس حياة رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عبر العصور والأجيال حتى قيام الساعة، أو هو ملاحظة أحوال رسول الله واتباعه بحبٍّ حتى يتوافق الباطن والظاهر مع حياة رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، فنصل إلى نمطِ حياةٍ نتبع فيه نبينا المصطفى ونقلده في العبادة والطاعة والخُلق والمعاملة، غايتُنا أن نكون ممن ورد ذكرهم في الحديث الشريف:

(المرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)[2].

  • التصوف هو جمالُ العبادة والمعاملة، الذي ينبثق عن الإيمان الخالص بالله والعشق له.
  • التصوف هو فن الوصول إلى التقوى.
  • التصوف هو الصدق مع الله تعالى وحسن الصلة به.
  • التصوف هو فن توازن النفس في مواجهة الحياة بمدِّها وجزرها.
  • التصوف هو الرضا عن الله تعالى في كل حال.
  • التصوف هو الرضا عن قضاء الله، وتركُ الشكوى والاعتراض على مراده.
  • التصوف هو التخلقُ بالخلق الحميد.
  • التصوف هو تربيةٌ مقدسةٌ مباركةٌ.
  • التصوف هو أن يعامل المؤمن الكامل روحيا جميع خلق الله بالرحمة والشفقة ويتدارك ما لديهم من نقائص.
  • التصوف هو الطريق الذي يصل بالعبد إلى الله تعالى.
  • التصوف أن تُحِسَّ بالقرآن والسنة وَجْدَا في القلب، وأن تعيشهما واقعا في الحياة.

الخلاصة

أن التصوف هو فن التحقق بالمحبة الخالصة لله تعالى.

وفي النهاية فإن التعليم والتربية الحقيقية هو أن يعيش الإنسان جميع هذه الصفات، وأن يتحقق بها حالا ومقالا، وتصير طبعا له وسجية فيه.

وينبغي هنا أن نؤكد على أن أحكام القرآن الكريم وسنة سيدنا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- هما الركنان الأساسيان اللذان يقوم عليهما بناء التصوف، ولهذا كان يُعتبر تطبيق القرآن الكريم والسنة النبوية وتمثُّلهما في كل صفحة من صفحات حياتنا وظهورُهما بجلاء في شخصيتنا، كان يعتبر ذلك الأساس الأهم في هذا الطريق الروحي.

فمن الأهمية بمكان أن تستقر عقائدنا على عقائد أهل السنة والجماعة، وأن ترتكز عباداتنا وأخلاقنا على أسس الشرع الحنيف، وأن تستظل أخلاقنا بأخلاق السلف الصالحين، فنحرص نحن وأهلينا على أن نحيا بالإسلام في كل جانب من جوانب حياتنا، وأن نحاسِب أنفسنا إذا قصرنا أو ابتعدنا عن الله ورسوله الكريم -صلي الله عليه وسلم-.

فمراعاةُ حدود الحلال والحرام، وتجنُّبُ الشبهات، وأداءُ ما علينا من واجباتٍ على النحو الأمثل، والمضيُّ في العمل بعزيمة صادقة، والتقربُ إلى الحق سبحانه بنوافل الطاعات، كل ذلك مهمٌ جدا لنرتقي بأرواحنا ونزكي قلوبنا.

ومن هنا جاءت العناية البالغة بأكل الحلال، فالحرص على الغذاء المادي للجسد لا يقلُّ عن الحرص على الغذاء المعنوي للروح، فكلاهما لا بد أن يكونا من حلال، فالجسد يستمد من الغذاء الحلال الفائدةَ المادية والمعنوية، وأما حين نغذِّيه بالحرام فإن القلب يقسو ويغفل.

فالقلوب الطائعةُ لأمر الله تعالى، الراضيةُ بقضائه، الخاضعةُ لمراده، تصير مجرىً للحكمة والخير والنجاح، وعلى النقيض من ذلك فإنَّ القلوبَ والأبدان التي لا تتقي المحرمات ولا تبالي بالشبهات تتحول مأوىً للرذائل ووكراً للفجور.

ويلفت مولانا عبد القادر الجيلاني – قدس سره – الأنظار إلى أهمية المأكل في تصفية النفس وتطهيرها فيقول:

(اسمع لي يا بني: إن المأكل الحرام يُميت القلبَ، فثمةَ لقمة تنير القلب وأخرى تجعله مظلما، كما أن هناك لقمة تجعلك متعلقا مشغولا بالدنيا، وأخرى تشغلك بالآخرة، وهناك لقمة تجعلك زاهدا في الدارين ولقمة تجعلك مُقبلا على خالق الدنيا والآخرة، فالمأكل الحرام يشغلك بالدنيا ويحبب إليك المعاصي، وأما المأكل الحلال فيقرب قلبك من المولى -عز وجل-).

ويقول في هذا أيضا مولانا جلال الدين الرومي -قدس سره-:

(نزل إلى معدتي ليلةَ أمس بعضُ لُقيمات مشبوهة فقطعَتْ عني الإلهام).

فهذا الكلام يلفتنا إلى أنه ينبغي علينا التنبه إلى الوضع الروحي للطعام الذي نتناوله بقدر اهتمامنا بالحالة المادية له.

وبينما يولي المبدأ الأول عنايته إلى مراعاة الحلال والحرام، فإن المبدأ الثاني للتربية الروحية يولي أهميةً خاصة للأذكار والأوراد من استغفار ودعاء وتسبيح، فهذه الأذكار هي التي تحوّل المراقبة من شعورٍ إلى إدراك في قلوبنا، ولهذه الأوراد أيضا أهمية كبيرة في تطهير النفس وتزكيتها حتى نؤدي عباداتِنا وطاعاتنا الظاهرةَ بإخلاصٍ كبير وخشوعٍ ووَجْد، وحتى تكتسيَ أخلاقُنا ومعاملاتنا ببهاء الرقة والأدب.

ولأهمية هذا المبدأ وفاعليته في التربية الروحية كان واحدا من أهم الوسائل التربوية التي سلكها الأنبياء والأولياء على امتداد التاريخ.

أما المبدأ الثالث فهو الصحبة التي تتوحد من خلالها حالةُ المريد الروحية مع حالة المرشد الكامل الذي يصحبه، فلما كانت الأحوال والأخلاق مُعدِيةً، ولما كان الإنسان لا ينفكُّ عن صحبة الآخرين، كان عليه مصاحبةُ الصالحين حتى يتشبه بهم ويقتبس منهم، ولأهمية هذه الصحبة اتخذها النبي -صلي الله عليه وسلم- أسلوباً لتربية أصحابه.

وقد جعل مولانا بهاء الدين النقشبند الصحبةَ في موقع المركز من التربية الروحية في قوله:

(طريقنا هو طريق الصحبة).

ولا يقصد بالصحبة هنا أن تكون مجلساً للوعظ أو لقراءة ِكتاب فحسب، ولكنَّ الصحبة مجلسٌ روحانيٌ تتنزل فيه الرحمة والسكينة والفيض الإلهي، فهذه المجالس تليّن القلوبَ وترتقي بالنفوس حتى تتذوق نصيبا روحيا في معية الله تعالى، ويحصل كل فرد على تذكرة طيبة تتوافق واحتياجاته، فيكون لهذه الصحبة مذاقا يختلط مع بشاشة الإيمان فلا يمكن وصفه.

ولا يكون لهذه الصحبة أثرها في النفس، ولا تنضج شخصية الفرد – بمخالطة الصالحين وإدراك معاني كلماتهم وتحويلها إلى سلوك حي – إلا بالإخلاص.

أما المبدأ الرابع في السير والسلوك، فهو خدمة عباد الله ومعاملتهم بالشفقة والرحمة، وكذلك يفعل مع جميع خلق الله تعالى، بحيث يشعر المريد بالمسؤولية الإلزامية تجاههم قدر طاقته ووسعه.

ولا تكون هذه الخدمة مقبولة إلا إذا ابتغى بها المريد وجه الله تعالى، فيُقبل على خدمة الخلق بقلبٍ ملؤه الإخلاص والرحمة والإيثار، ومن هنا فإنه ينبغي على المريد بَذْلُ الخدمة دون انتظارِ مقابلٍ أو شكرٍ عليها، بل هو مَن عليه أن يشكر المخدومين أنهم كانوا سبيلا ووسيلة له لينال بسببهم رضا الله تعالى.

وتحتل “الخدمة” في الطريق إلى الله مكانة جِدُّ مهمة، ولذلك تُعتبر واحدة من أهم وسائل التربية الروحية، فبفضل الخدمة صارت بعض الخصال الحميدة – مثل الألفة والإنفاق والإيثار وبذل الذات – جزءا لا ينفصل عن شخصية المريد، وتكون الخدمة كذلك سببا لمعونة الله تعالى للعبد ما كان العبدُ في عون أخيه، فيحفظ نفسه بذلك من الانزلاق والضلال.

هذه بعض الأصول والآداب التي ينبغي مراعاتها في سبيل الرقي الروحي، وسوف نعرض فيما يلي لتفاصيل هذه الأصول وآدابها.

[1]التقوى: يُقصد بها أن يصون الإنسانُ قلبه باتباع أوامر الله تعالى والامتناع عن نواهيه ، وأن يشعر الإنسان بمسؤوليته أمام الله تعالى ، أو بتعبير آخر أن يتبرأ الإنسان من أهواء النفس السفلية لتظهر استعداداته الروحية .

التزكية: يضم مصطلح التزكية في المعجم إلى جانب معاني التنظيف والتطهير معاني أخرى مثل الإكثار من الشيء والارتقاء به ومباركته ، وتعتبر التزكية ذلك الإطار الذي يضم كل أنواع التربية الروحية ، وتكون تزكية النفس من أشياء كثيرة يأتي على رأسها الكفر والجهل والمشاعر السيئة والمعتقدات الخاطئة والأخلاق المذمومة ، أي التطهر من كل ما يخالف الشرع الحنيف من ذميم الاعتقاد والأخلاق والأعمال ، وبعد أن يطهر العبد نفسه من الموبقات فإنه يزينها ويربيها بخصال التقوى كالإيمان والعلم والعرفان والحكمة والصدق والفطرة السليمة والروحانيات السامية .

الزهد: ألا يكون للقلب تعلُّق بغير الله -عز وجل- .

الإحسان: أن يشعر المؤمن أن الله -عز وجل- يراقبه ويراه في كل حركة وسكنة، وقد جاء في الحديث الشريف:

(الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن ، 4777) أي أن الروح في مقام الإحسان تحوّل مراقبة الله تعالى إلى حالة إدراك مستمرة .

[2]      – صحيح البخاري، كتاب الأدب، 6168 .